في ظل مرجعية الشهيد الصدر.. من التغيير إلى الثورة

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

بعد وفاة المرجع الكبير الامام الحكيم (طاب ثراه)، فقد التحرك الإسلامي سنداً قوياً يصعب تعويضه، فالمرجعيات التي أعقبته لم تكن تمتلك نفس قوته الجماهيرية، وقد بدا ذلك واضحاً منذ الأيام الأولى، كما أنها لم تكن بمستوى الإهتمام بالعمل الاجتماعي العام، وكانت تميل إلى المنحى التقليدي، حيث ترى أن دورها ينحصر في حفظ الحوزة ودعمها من الداخل، أما العمل السياسي والإهتمامات الجماهيرية فلم تحظ باهتمامها بالشكل الذي كان سابقاً.

لم تكن وفاة المرجع الديني السيد محسن الحكيم، خسارة للتحرك الإسلامي على المستوى السياسي، باعتباره كان السند القوي له، بل أن خسارة أخرى كان قد حدثت في هذا المجال وهي أن الاتجاه التقليدي أخذ يغلب على أجواء الحوزة العلمية، وينشط في الضغط على الحركة الإسلامية وعلى الامام الشهيد الصدر. وفي الحقيقة أن هذه الضغوطات من قبل التقليديين كانت موجودة على طول الخط، لكن مرجعية الامام الحكيم كانت تغطي عليها، بوصفها مرجعية غير تقليدية. أما حين أصبحت المرجعية تنتمي إلى الاتجاه التقليدي فأن من الطبيعي أن يكون الضغط التقليدي قوياً على الاتجاه الحركي، وسوف نتحدث إن شاء الله عن معاناة الشهيد الصدر (قدس سره) في الباب الرابع من هذا الكتاب.

مع مطلع السبعينات كانت مرجعية السيد الشهيد تمتد في الأوساط الثقافية في العراق نتيجة النشاط الذي كان يقوم به حزب الدعوة الإسلامية وتبنيه ترويج مرجعية السيد الصدر. ورغم أن إمكانات مرجعية السيد الشهيد كانت محدودة إلاّ أن العلاقة التاريخية والاستراتيجية بينه وبين حزب الدعوة الإسلامية كان كفيلاً بتحقيق إنجازات هائلة على الساحة، وهو ما حدث بالفعل، فقد كان العمل التغييري يشكل تياراً مكتسحاً في الأوساط الثقافية والاجتماعية.

وفي الوقت نفسه كانت السلطة البعثية الحاكمة تخطط لتوجيه ضربتها للحركة الإسلامية إستكمالاً لمشروعها الظالم الذي كانت تعد له منذ مجيئها للحكم. فبدأت بملاحقة وإعتقال أبناء الحركة الإسلامية وعرّضتهم إلى تعذيب وحشي إلى حد الاستشهاد، ففي الفترة 1970ـ 1972م شهد معتقل قصر النهاية صوراً مروعة ومشاهد مؤلمة لعناصر قيادية وكوادر اسلامية وهم يعانون من العذاب الجسدي والنفسي.

وفي عام 1972م توسعت حملة الاعتقالات لتشمل العلماء والاساتذة والاطباء والمهندسين وطلاب الجامعات وغيرهم من أعضاء حزب الدعوة الإسلامية الذين تعرضوا لتعذيب وحشي لاسيما في معتقل الشعبة الخامسة لمديرية الأمن العامة ومعتقل أمن الديوانية، وكان الامام الشهيد الصدر ممن طاله الاعتقال في تلك السنوات.

وفي تموز عام 1974م شنت السلطة حملة اعتقالات واسعة جداً بدأت من الحوزة العلمية في النجف الاشرف وطالت رموز وكوادر ابناء الحركة الإسلامية في عموم محافظات العراق، وتحولت مديرية أمن الديوانية إلى مركز تحقيق كبير للدعاة، من قبل المجرم فاضل الزركاني.

كانت محنة كبيرة عندما أصدرت السلطة قراراتها الجائرة باعدام خمسة من قياديي حزب الدعوة الإسلامية في 13/11/1974 وهم:

1ـ الشيخ عارف البصري.

2ـ السيد عز الدين القبانجي.

3ـ السيد عماد الدين الطباطبائي.

4ـ الاستاذ نوري طعمة.

5ـ الاستاذ حسين جلوخان.

وتم تنفيذ حكم الأعدام في 5/12/1974م.

كما صدرت أحكام بالسجن المؤبد وأحكام اخرى على مجموعة كانوا مع الشهداء الخمسة في نفس القضية والفترة، وكنت مع الشهداء وصدر بحقي حكم بالسجن المؤبد.

ونتيجة هذه الاحداث الخطيرة قرر الامام الصدر وحرصاً على المرجعية والحوزة أن يصدر حكمه ولفترة محدودة بحرمة انتماء قسم من طلبة العلوم الدينية المرتبطين بجهاز المرجعية الصالحة بحزب الدعوة الإسلامية، وقد رفع (رضوان الله عليه) هذا الحكم عام 1979م، وقد تحدث سماحة آية الله السيد كاظم الحائري عن هذا الموضوع في مقدمة كتابه (مباحث الاصول) حيث كتب يقول:

(حينما إعتقلت السلطة الكافرة في العراق ثلة من العلماء الأعلام وثلة من المؤمنين الكرام وكان بضمنهم الشهداء الخمسة: الشيخ عارف البصري وصحبه، وكان بضمنهم أيضاً السيد الهاشمي وكنت أنا وقتئذ في إيران، وأفرجت السلطة بعد ذلك عن جماعة منهم السيد الهاشمي وبقي جماعة آخرون في الاحتجاز، أصدر الاستاذ الشهيد رحمه الله كلمته المعروفة التي ذكر فيها فصل الحوزة العلمية كاملة عن العمل الحزبي وكان هذا بتاريخ 10 شعبان 1394هـ، وكتبت بعدئذ رسالة إلى أستاذنا الشهيد أستفسره فيها عما هو المقصود الواقعي عن هذه الكلمة فذكرت له أن المحتملات عندي أربعة:

أولا: أن يكون المقصود بهذه الكلمة لحاظ مصلحة في أصل ذكرها ونشرها كتقية (وعلى حد تعبير علماء الاصول المصلحة في الجعل).

ثانيا: أن يكون المقصود بهذه الكلمة أولئك العلماء والطلاب المرتبطين بمرجعيتكم وان اقتضت المصلحة ابرازها على شكل العموم.

ثالثا: أن يكون المقصود بهذه الكلمة فصل طلاب الحوزة العلمية في العراق عن العمل الحزبي درءً للخطر البعثي عنهم الذي يؤدي إلى إبادتهم.

رابعا: أن يكون المقصود فصل جميع الحوزات العلمية في كل زمان ومكان عن العمل الحزبي الإسلامي (وعلى حد تعبير الاصولين تكون القضية حقيقية وليست خارجية). وعلى الاحتمال الاخير يكون تعليقي على هذه الكلمة: أن هذا الاجراء سيؤدي في طول الخط إلى انحراف الحركة الإسلامية الحزبية عن مسار الإسلام الصحيح نتيجة لإبتعادها في أجوائهم الحزبية عن العلماء الاعلام.

فكتب لي (رضوان الله عليه) في الجواب: إني قصدت المعنى الأول والثاني والثالث دون الرابع)[1].

وحرصاً من الشهيد الصدر على الوضع العام لحزب الدعوة وحتّى لايفهم موقفه هذا على أنه موجه ضده، أبلغ الدعوة بالأسباب التي دعته إلى إتخاذ هذا القرار، وبعث السيد عبد الكريم القزويني إلى الحج ليلتقي بالشيخ محمد مهدي الآصفي ويبلغه أن هذا الرأي ليس ضد الحزب، بل بداعي حفظ البقية الباقية منهم[2].

لقد إعتبر الشهيد الصدر أن هذا الموقف وسيلة دفاعية للتغطية، ولمنع ايجاد مبرر للهجوم على الحوزة العلمية والعلماء المجاهدين الذين يمثلون قوة اساسية في التحرك الإسلامي وسط الأمة.

في تلك الظروف الحساسة كان التقليديون لايزالون يمارسون حربهم على الشهيد الصدر وحركته الإسلامية المباركة، ولم تؤثر فيهم كل تلك المآسي والمعاناة التي يعاني منها المجاهدون والرساليون في كل انحاء العراق،وعندما سمعوا بقرار الشهيد الصدر هذا،راح هؤلاء يصورون الموقف على أنه انتصار المرجعية التقليدية على المرجعية الحركية.

وقد حاول الشهيد الصدر لأكثر من مرة أن يزيل هذه التهم، فقد كان يدرك (رضوان الله عليه) أن عدم إستيعاب موقفه بالشكل الدقيق سوف يؤثر نفسياً وتنظيمياً على المنتمين لحزب الدعوة. وقد أرسل الحزب موفداً اليه لمناقشة نفس الموضوع، فكان مما قاله السيد الشهيد لموفد الحزب:

(أنا معكم ولا يمكن أن أتخلى عنكم في يوم من الأيام.. وأنا أأسف لما يصدر من البعض في حقي). وكان (قدس سره) يشير إلى أولئك الذين إستغلوا رأيه للتشهير به وبحزب الدعوة، أو الذين لم يستوعبوا موقفه من داخل الدعوة.

ومما قاله رحمه الله لموفد الحزب:

(أنا معكم والمرجعية لاتستغني عن الحركة، ولايمكن أن تؤدي رسالتها بدون الحركة، كما أن الحركة هي في حاجة إلى من يسندها ويدافع عنها، ولايمكن للمحامي والمدافع إلاّ أن يكون غير المتهم أو المخاصم.. فاستقلال المرجعية اليوم هو من صالح الحركة الإسلامية، ويجب أن يحصل التنسيق الدقيق بين المرجعية والحركة حتّى نفوّت الفرصة على هؤلاء الظالمين).

ثم تحدث السيد الشهيد عن الأسباب التي دعته إلى إتخاذ موقفه قائلاً:

(أنا فكرت بعد وفاة السيد الحكيم (رضوان الله عليه) بأن المرجعية الموجودة ضعيفة وليست بالمستوى المطلوب، فلو ألقت السلطة القبض على السيد الصدر مثلاً ووجهت اليه تهمة الانتماء أو تأسيس حزب الدعوة الإسلامية، فلا يمكن أن يدافع عن نفسه، والمرجعية كما قلنا غير قادرة على الدفاع عنا أو عن الحركة، فيمكن للحكومة الظالمة بواسطة عملائها أن توجه الدعاية ضدنا باسم الفئوية أو الحزبية، ومن ثم يُجهز على الحركة ويقضى عليها)[3].

لكن الأوضاع في العراق لم تستقر، وكانت السلطة تطارد باستمرار أبناء الحركة الإسلامية وتمارس ضغوطها ورقابتها الصارمة على تحركات السيد الشهيد.ففي عام 1975 أقدمت السلطة على اعتقال أعداد كبيرة من أبناء الحركة الإسلامية، وأودعتهم في عدة سجون كان أهمها معتقل الفضيلية في بغداد.

وفي أعقاب انتفاضة صفر عام 1977 زجت السلطة البعثية الظالمة بآلاف من ابناء الشعب العراقي في السجون وعرّضتهم إلى مختلف صنوف التعذيب ثم أصدرت أحكام الاعدام على مجموعة منهم، وأحكام السجن المؤبد على آخرين.

إن كل تلك الاحداث لم تحرك التقليديين ولم تثر فيهم روح المواكبة والتعايش مع أبناء الحركة الإسلامية ومع قائدها الفذ السيد الصدر (قدس سره)، فقد ظلوا على منهجهم القديم في الابتعاد عن ساحات المواجهة وعن معارضة السلطة الكافرة، بل انهم لم يبدلوا موقفهم السلبي من الامام الصدر رغم كل مايقدمه من جهود وجهاد من أجل الإسلام وأبناء الإسلام.

وفي عام 1979 كانت الأحداث في العراق تسير نحو التصعيد وكأنها على موعد مع الانفجار، فالحركة الإسلامية بلغت مرحلة من القوة بحيث شكلت أحد مظاهر الحياة السياسية في العراق، كما أن الوعي الجماهيري الإسلامي كان قد انتشر بشكل واضح، بحيث كان الجيل الإسلامي يقلّد السيد الشهيد بشكل كمي ملحوظ. وظهرت في تلك الفترة محاولات لإثارة الفتنة في الوسط الإسلامي حول موضوع التقليد والمرجعية، لكن وعي الرساليين أحبط تلك الفتنة المفتعلة.

وعندما انتصرت الثورة الإسلامية المباركة في ايران بقيادة زعيم الامة الامام الخميني (رضوان الله عليه)، بادر الشهيد الصدر إلى إعلان تأييده لهذه الثورة العظيمة وعطل درسه احتفالا بهذه المناسبة. وقد تعرض موقف السيد الصدر المؤيد للثورة إلى انتقادات من قبل البعض، لكنه (رضوان الله عليه) لم يتأثر بهذه الانتقادات وواجهها بالقول: (إن الواجب على هذه المرجعية وعلى النجف كلها أن تتخذ الموقف المناسب والمطلوب تجاه الثورة الإسلامية في ايران… ما هو هدف المرجعيات على طول التاريخ أليس هو اقامة حكم الله عزّوجل على الارض وها هي مرجعية الامام الخميني قد حققت ذلك، فهل من المنطقي أن أقف موقف المتفرج ولا اتخذ الموقف الصحيح والمناسب حتّى لو كلفني ذلك حياتي وكل ما أملك)[4].

هكذا كان يفهم السيد الصدر ثورة الامام الخميني العظيم، وهو انطلاقا من هذا الفهم قدم كل ما بوسعه من أجل دعم وتأييد الثورة الإسلامية المباركة في ايران، كما كان ذلك موقف مدرسته الحركية التي أسسها ورسم لها معالم الفكر والتحرك.. وظل يرعاها ويساندها لأنه يرى فيها أمل الأمة كما قال ذلك (رضوان الله عليه) قبيل إستشهاده.

السيد حسين الشامي

(كتاب : المرجعية الدينية)

[1] آية الله السيد كاظم الحائري، مباحث الأصول، ص100.

[2] محمد الحسيني، الامام الشهيد محمد باقر الصدر، ص239.

[3] مجلة الجهاد، العدد12

[4] الشيخ محمد رضا النعماني، الشهيد الصدر.. سنوات المحنة وأيام الحصار، ص248