توضيح نظريَّة «منطقة الفراغ»

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

تمهيد

تُنسب النظرية المعروفة باسم «نظرية منطقة الفراغ» إلى الشهيد السيد محمد باقر الصدر، بوصفه العالم الذي وضع اللبنة الأولى لأسسها، وقد حاول، من خلال نظريته هذه، عرض مجال مُعيّن من العلاقات المتغيِّرة والمتحوّلة يستطيع وليّ الأمر عبرها وضع القوانين وسنّها وفاقاً للمبادئ والأصول الخاصّة بذلك.

سنسعى، ابتداءً، في هذه المقالة الموجزة، إلى بيان جوهر هذه النظرية ومميِّزاتها وخصائصها وتوضيح ذلك، ثمّ نشير إلى مكانة تلك النظرية في الهيكل العام للفقه.

وفي السُّطور اللاحقة، من هذه المقالة، سنحاول إثبات نظرية «منطقة الفراغ» وبحث مسألة مهمّة، وهي أنّنا حتى لو افترضنا وجود منطقة التحوّل، فإنّه لن يتسنّى لنا الالتزام بهذه النظرية إلاّ إذا كان أسلوب تشريعها منحصراً في تفويضه إلى وليّ الأمر ولا يتيسَّر طريق آخر للتَّشريع مکان التفويض إليه، أو على الأقلّ الشارع اختار ذلك الأسلوب من بين جميع الأساليب الأخرى.

مقدّمة

تُعدُّ «نظرية منطقة الفراغ التشريعي»، بحقّ أحد الإنجازات الرائعة التي خلّفها لنا آية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر، وهي نظرية كما نعلم ترتبط بالمجال الفقهي والحقوقي والاقتصادي. وقد اجتهد الشهيد الصدر، في نظريّته تلك، للوصول إلى مكانة التشريع الإلهيّ ومنزلته في الحياة الاجتماعية وبيان مجال التقنين في الحكومة الإسلامية. هذا، وتطرّق الشهيد الصدر إلى النظرية المذكورة بالتفصيل في كتابه الشهير «إقتصادنا».

وجدير بالذكر أنّ العديد من الفقهاء والعلماء أيضاً قاموا بطرح هذه الرؤية وبحثها؛ فقد أشار آية الله محمد حسين النائيني – في ما يتعلق بالتشريع – إلى الأحكام المنصوصة وغير المنصوصة[1]. وعمد مشرّعو الدستور الخاص بالحرکة الدستورية في إيران إلى فصل المسائل العرفية عن المسائل الشرعية[2]، لكنّ الشهيد آية الله «مدرّس»، وفي معرض تأييده لقانون أصول المحاكمات، رأى أنّ القوانين الوضعية تشتمل على الأمور والشؤون الإدارية[3]. أمّا العلامة الطباطبائي فقد عبّر عن رأيه في ذلك قائلاً: «و أما الأحكام الجزئية المتعلِّقة بالحوادث الجارية والتي تتغيّر سريعاً بتغيّر الزمان … فهي من صلاحيات الحاکم الإسلامي»[4].

يقول الإمام الخميني في توضيحه لهذه المسألة: «إنّ الحكومة هي فرع من الولاية المطلقة للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»[5]، ويرى أنّ الحكومة هي جزء من الأحكام الأولية للإسلام، ما من شأنه أن يمنح صلاحيات واسعة للحاكم الإسلامي[6].

لكنّ ما يُميّز «نظرية منطقة الفراغ التشريعي» عن هذه الرؤى جميعاً هو بيانها وتحديدها لمنطقة مُعيّنة تُمكّن الحاكم الإسلامي والحكومة الإسلامية من سنّ القوانين التي تنسجم مع الأوضاع والظروف وتشريعها وفاقاً للمبادئ والضوابط والأهداف المطلوبة، وتماشياً مع التطوّر والتحوّل المستمرّيْن[7].

لتوضيح هذه الرؤية لا بدّ من الإجابة عن بعض الأسئلة الرئيسية، مثل:

١) ما هو جوهر منطقة الفراغ وطبيعتها؟

٢) ما هو السبيل لاكتشافها وإثباتها وتحديدها؟

٣) ما هو أسلوب التشريع في تلك المنطقة؟

بالإضافة إلى الإجابة عن هذه الأسئلة ، لا بدّ من ملاحظة النظرية المذكورة (أي نظرية منطقة الفراغ) ضمن الإطار الفكري الفقهي والأصوليّ للشهيد الصدر. وبعد ذلك، سنحاول بشكل خاص الإجابة عن السؤالين: الأول والثاني من خلال بيان مميزات نظرية الفراغ التشريعي وطريقة إثباتها وتوضيح ذلك. أمّا الإجابة عن السؤال الثالث فتحتاج إلى بحث آخر منفصل غير هذه المقالة الموجزة.

قبل الدخول إلى البحث، نرى من الضروري الإشارة إلى مسألة مهمة، وهي أنّه لم يتمّ بيان الأبعاد المختلفة لنظرية الفراغ التشريعي وشرحها في ما كتبه وألّفه الشهيد محمد باقر الصدر. فكلّ ما سنعرضه هو تفسير أو مقاربة لکلامه.

أ) طبيعة «منطقة الفراغ»

يمكن تعريف «منطقة الفراغ التشريعي» بأنّها مساحة لم تحدِّدها الشريعة الإسلامية بسبب طبيعتها المتغيّرة وغير الثابتة، تکون الأحكام‌ والموضوعات‌ والعناوين فيها متغيّرة، ولذلك أناط الشارع بولي الأمر وضع القواعد والأسس الخاصة بهذه المنطقة بما يتناسب مع أوضاع الزمان وظروفه ومقتضياته، مع الحفاظ، بطبيعة الحال، على الضوابط والأُطُر الخاصة. ولمّا كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولياً لأمر المسلمين، بالإضافة إلى كونه المبلّغ للشريعة الإسلامية، فقد وضع هو نفسه بعض القواعد الخاصة بتلك المنطقة (أي منطقة الفراغ التشريعي) لوضع التشريعات المناسبة، والتي أصبحت قابلة للتغيير والتبديل من قِبل ولاة الأمر الذين جاؤوا من بعده. أمّا النتيجة المهمة لهذه العملية، فكانت أن عدَّ ولاة الأمر والحكومات الإسلامية المتعاقبة هذه الأحكام متغيّرة وغير ثابتة عند تعاطيهم معها ومع الروايات التي تتحدّث عن تلك الأحكام، وقاموا شخصياً بعملية التشريع مع مراعاة الأصول والضوابط الخاصة بهذا الأمر بالطّبع.

للتعرّف إلى هذه المنطقة وموضعها في الشريعة الإسلامية لا بدّ لنا، في البدء، من عرض خصائصها ومميزاتها لكي نزيل أوّلاً الإشكالات التي قد تصدر بسبب ذلك، وكي نبيِّن ثانياً تمايز نظرية منطقة الفراغ واختلافها عن بقية النظريات.

أوّلاً: تتناول منطقة الفراغ علاقة الإنسان بالطبيعة:

حاول الشهيد محمد باقر الصَّدر الفصل بين نوعيْن من العلاقات التي يمكنها أن تكون موضوع القواعد التشريعية؛ أمّا النوع الأوّل فيرتبط بعلاقات الأشخاص بعضهم ببعض، حيث يعتقد الشهيد الصدر أنّ علاقة الإنسان بأخيه هي علاقة ثابتة بشكلها الطبيعي، وليست قابلة للتطور[8]. ولذلك فإنّها (أي تلك العلاقة) تتطلّب قواعد ثابتة.

وهذه الرؤية – كما هو واضح – تتعارض مع الفلسفة الماركسية التي تؤمن بأنّ العلاقات التشريعية القائمة بين أبناء البشر هي أمر عرضيّ قابل للتغيير والتطور وفاقاً لتطوّر علاقة الإنسان مع الطبيعة[9].

أمّا النوع الثاني من العلاقات فتشمل علاقة الإنسان بالطبيعة، وهذا النوع من العلاقات يکون قابلاً للتغيير والتطوّر؛ بمعنى أنّ من شأن هذه القواعد أن تتغيّر تبعاً للتغيرات التي يحدثها الإنسان في الطبيعة، ووفاقاً لقدرته وميزان سيطرته عليها[10]، لكنّ ثبات العلاقات لا يعني تطبيق أحكامها على الدوام، ذلک لأنّ الأحكام الثابتة يمكن أن يتعطّل تطبيقها بسبب وجود بعض العوامل، من قبيل العناوين الثانوية. کما أنّ مسألة التطوّر في مجال سلطة الإنسان وسيطرته على الطبيعة لا يعني أنّه ليس بالإمکان وضع أيّة قوعد ثابتة في هذه المنطقة.

ثانياً: عدم وضع القواعد التفصيلية ليس ناجماً عن نقص في عمل المشرّع أو إهمال منه

الميزة الثانية لمنطقة الفراغ تتمثّل في أنّ عدم وضع القواعد التفصيلية الثابتة ناجم عن الطبيعة المتغيِّرة والمتطورة لتلك المنطقة. بعبارة أوضح، لا تمتلك الموضوعات والعناوين، بحدّ ذاتها، في هذه المنطقة، خصوصية قبول الأحكام الثابتة، وليس كما يُظنّ بأنّ الشارع قد أهمل تشريع الأحکام في تلک المنطقة. وتعود هذه المسألة إلى الانسجام القائم بين القواعد والضوابط من جهة وبين المقاصد العامّة للشريعة من جهة أخرى؛ بمعنى أنّ الموضوع متغيّر وغير ثابت بحيث لو أُريد تطبيق أيّ حكم ثابت عليه، فإنّه سيؤدّي إلى أن يتعارض مع مقاصد الشريعة وأهدافها وذلک بمجرّد حدوث تغيرات وتحوّلات في الأوضاع والظروف. ويُمكننا الإشارة، في هذا المجال، إلى إحياء الأراضي الموات مثالاً على ذلك، فكما ورد في المصادر الفقهية فإنّ الأراضي الموات تندرج ضمن ملكية الإمام (الحکومة) ولا خلاف في ذلك[11]، بل إنّ الإجماع حاصل عليه، وهناك العديد من الروايات التي دلّت بصراحة على هذا الأمر[12]، حيث نُقِل عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) كذلك الكثير من الروايات في شأن هذه المسألة بالشكل الذي كان ينسجم مع الأوضاع والظروف في تلك المراحل. ومن تلك الروايات: «من‌ أحيا مواتاً‌ فهي له»[13]، و«من‌ أحيا أرضاً مواتاً‌ فهي له»[14]، و«وأيّما قوم أحيوا شيئاً من الأرض أو عمروها فهم أحقّ بها وهي لهم»[15].

ولقد كان لمثل هذا الحكم في صدر الإسلام تسويغ کافٍ، وهو ينطوي على الحکمة وبعد النظر، الأمر الذي أحدث استجابة طيبة بين المسلمين. وهو يعني لو أنّ شخصاً قام بإحياء الأرض الموات بما يمتلكه من إمكانيات محدودة، فإنّه بذلك سيصبح مالكها. بيد أنّه في الوقت الحاضر، وبسبب التطوّر الصناعي الحاصل، فقد توسّعت قدرات البشر في مجال إعمار الأراضي وإحيائها والعناية بها واستغلالها استغلالاً مبرمجاً، وأصبح باستطاعة شخص واحد إعمار مساحات شاسعة من الأرض واستصلاحها وبذلك أضحت مسألة تملّك ذلك الشخص للأرض الموات تتعارض مع المقاصد العامّة للشريعة ولا تنسجم معها. وعلى هذا الأساس، فباستطاعة الحكومة الإسلامية تقييد هذه القاعدة ووضع الحدود المناسبة لها. ومن خلال هذه النظرة نتبيّن بأنّ مسألة تملّك الأرض الموات إنّما وُضعت في منطقة الفراغ لإحياء حكم مُعيّن، إلاّ أنّه أصبح بإمكان الحكومة الإسلامية الاستيلاء على تلك الأرض[16].

ثالثاً: الإباحة هي الحكم العامّ لمنطقة الفراغ

إنّ المبدأ الأساسي، في الأفعال، هو الإباحة لا الحظر أو المنع. لا بل إنّه حتى في حالة وجود احتمال للتكليف في أمر ما، فإنّ الأصل هو البراءة الشرعية لذلك الأمر، ولا واجب يُناط بالشخص في مرحلة العمل. ورغم أنّ الشهيد الصدر – ووفاقاً لمسلك «حقّ الطاعة»[17] – يرى أنّ حاکمية الذات الإلهية المقدسة لا تقتصر على الطاعة في التکاليف المنصوصة، بل تشمل التکاليف المحتملة أيضاً، لكنّه رغم ذلك ينفي التكليف مستنداً إلى بعض الأدلّة الشرعية مثل قوله سبحانه وتعالى ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا[18] ويوافق على حكم البراءة من الناحية العملية. وبناءً على هذا، فإنّ الإباحة تُمثّل القاعدة الأساسية والأصل العملي في الأفعال، ومنها الموضوعات الخاصّة بمنطقة الفراغ. وباستطاعة وليّ الأمر تبديل هذه الإباحة إلى حرمة أو وجوب وفقاً للضوابط والأسس. يقول الشهيد الصدر في ذلك ما يأتي:

«… کل فعل مباح تشريعياً بطبيعته، فأيّ نشاط وعمل لم يرد فيه نص تشريعي يدل على حرمته أو وجوبه .. يسمح لولي الأمر بإعطائه صفة ثانوية بالمنع عنه أو الأمر به»[19].

وهناك مسألة مهمة في هذا المجال، وهي وجود «النصّ التشريعي»؛ إذ ربما نهى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن بعض الأمور أو أمر بها بلحاظ ولايته للأمر، ولم يكن ذلك الأمر أو النهي نصاً تشريعياً بل هو حكم الحاكم القابل للتغيير مع تغيُّر الظروف.

أمّا الأمر الآخر الذي تجب الإشارة إليه فهو أنّه لم يتمّ التطرّق إلى أحكام الاستحباب أو الكراهة في العبارات آنفة الذكر، وتمّ الاکتفاء بذكر ثلاثة أحكام عامة فقط هي الإباحة والوجوب والحرمة. ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى أنّه عند رسم النظام التشريعي المنظِّم للنشاطات الاقتصادية، وبالشكل الذي يكون فيه مرتبطاً بالحكومة، لا وجود سوى لثلاثة أحكام هي الإباحة والوجوب والحرمة، رغم أنّ أحكام الكراهة والاستحباب لها مكانتها الخاصة بسبب الجانب الأخلاقي. وبالنظر إلى هذه المسألة بالذات، يتبيّن لنا أنّه وبقدر تعلّق الأمر بتنظيم الشؤون الاقتصادية ووضع اللوائح التشريعية فإنّه ليس في متناول الحكومة وضع أيّ قانون في حالة واحدة فقط، وهي وجود حكم الوجوب أو الحرمة من الناحية الشرعية، أمّا في الحالات التي لا يوجد فيها أيُّ حكم إلزاميّ فإنّ الحكومة تمتلك الصلاحيات الخاصة بوضع اللوائح والقوانين.

وهنا قد نواجه إشكالية معينة، وهي أنّ الشهيد الصدر لم يتحدّث لدى بيانه منطقة الفراغ سوى عن علاقات الإنسان بالطبيعة مُعتبراً أنّ تلك العلاقة هي علاقة متغيّرة وغير ثابتة، بينما نراه هنا يشير إلى عدم وجود النصّ التشريعي الدالّ على الإلزام أثناء بيانه لحدود تلك المنطقة. وفي ضوء أمثلة هذه المنطقة (أي علاقة الإنسان بالطبيعة وعدم وجود النصّ التشريعي الدالّ على الإلزام)، يُمكن القول: إنَّه من الممکن أن نواجه أحكاماً غير إلزامية في ما يتعلّق بعلاقات الإنسان بالإنسان، أو نواجه حكماً تشريعياً إلزاميّاً في مجال علاقة الإنسان بالطبيعة. وللإجابة عن هذا الإشكال، يمكننا الجمع بين هذين الرأيين بالشكل الآتي: قد تتّصف الأحكام بالتطور في منطقة الفراغ نتيجة تطوّر سيطرة الإنسان على الطبيعة، ولكن أين يمكن إستکشاف مثل هذا الوضع أو الحالة من الناحية الإثباتية؟، فذلك يعود إلى عدم وجود نصّ تشريعي دالّ على الإلزام. إلاّ أنّه من الواضح أنّه ليس باستطاعة هذا الرأي كذلك إزالة الإشكال المذكور بالشكل المطلوب. ويبدو أنّ هذا الجزء من كلام الشهيد الصدر لا ينسجم مع الفقرة السابقة.

رابعاً: عدم تعارض النظرية مع أدلة «الإباحة التشريعية»

وكما مرّ بنا في الفقرة (ثالثاً) فإنّ مجال صلاحية وليّ الأمر، في منطقة الفراغ، هي الإلزام في الأمور حيث لا وجود لأيّ نصّ تشريعيّ دالّ على الإلزام بها. والآن ربّما ادّعى بعضهم عدم وجود أيّ انسجام بين هذا الرأي وبين بعض الآيات والروايات، لأنّه تمّ التأكيد في بعض الروايات والآيات على المباحات، مثل ما ورد في الآية الشريفة (٨٧) من سورة المائدة من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ﴾، وقال عزّ وجلّ في آية شريفة أخرى (الآية «٥٨» من سورة يونس): ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وحَلاَلاً قُلْ اَللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾. وورد هذا المضمون كذلك في بعض الروايات، كالرواية التالية على سبيل المثال:

«قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ الله يحبّ أن يؤخذ برخصه كما يحبّ أن يؤخذ بعزائمه»[20]. وفي رواية أخرى منقولة عن الإمام علي (عليه السلام) أنّه قال: «إِنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْكُمُ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ لَكُمْ حُدُوداً فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَنَهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ لَكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ وَلَمْ يَدَعْهَا نِسْيَاناً فَلاَ تَتَكَلَّفُوهَا»[21].

نعم، قد يقال إنّه بالنظر إلى الأدلة السابقة، فإنّه ليس باستطاعة ولي الأمر تحريم المباحات أو إيجابها إلاّ عند التزاحم، وهذا أيضاً لا علاقة له بتحليل الحرام وتحريم الحلال.

وهذا الإشكال غير صحيح، لأنّ نظرية منطقة الفراغ التشريعي تقول: إنّ قسماً من علاقات الإنسان تتّصف بالتطور؛ حيث عهد الله سبحانه أسلوب تشريعها إلى الحاكم الإسلامي مع بيان الأصول والضوابط. وهذا أيضاً هو نوع من التشريع باعتبار تحديد مقام التشريع.

خامساً: عدم تعارض النظرية مع شمولية الشريعة وخلودها

وُصفت الشريعة الإسلامية، في الكثير من الروايات، بأنّها شريعة خالدة وأبدية. فعلى سبيل المثال، ورد في بعض تلك الروايات أنّ «حلال‌ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حلال‌ إلى‌ يوم ‌القيامة‌ وحرام‌ محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حرام‌ إلى‌ يوم ‌القيامة»[22].

وهناك مسألة لافتة للنظر في الرواية تتمثّل في التركيز على الحلال في الشريعة الإسلامية بحيث تقدّم ذكره على الحرام. وفي مقابلة الاجتهاد بالرأي، رُوي كذلك عن الإمام الصادق (عليه السلام) ما يأتي: «عن أحمد بن محمد، عن أبيه محمد بن خالد البرقي، عن صفوان، عن سعيد الأعرج، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّ من عندنا ممّن يتفقّه يقولون: يرد علينا ما لا نعرفه في كتاب الله ولا في السنة، نقول فيه برأينا، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «كذبوا، ليس شيء إلاّ جاء في الكتاب وجاءت فيه السنة»[23].

ورُوي أيضاً عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه سُئل عمّا يقضي به القاضي فقال: «بالكتاب. قيل: فما لم يكن في الكتاب؟ قال: بالسنة. قيل: فما لم يكن في الكتاب ولا في السنة؟ قال: ليس من شيء هو من دين الله إلاّ وهو في الكتاب والسنة؛ قد أكمل الله الدين، فقال جلّ ذكره: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[24]»[25].

وربما قيل: إنّ نظرية منطقة الفراغ تتنافى مع كلتا المجموعتين من الروايات، وذلك لأنّ وليّ الأمر، وفاقاً لهذه النظرية، يكون هو المشرّع، وبذلك يمكنه تحريم الحلال. إضافة إلى هذا، فإنّ نظرية منطقة الفراغ، أساساً، تتعارض مع شمولية الشريعة.

وهنا نقول: من الواضح أنّه ليس هناك أيّ تعارض بين نظرية منطقة الفراغ وبين مجموعتي الروايات المذكورة، لأنّ هذه النظرية لا تمتلك أحکاما ثابتة في الموضوعات المتحوّلة ذاتياً. هذا وقد أناط الشارع الحكيم إلى ولي الأمر مسألة وضع القواعد الخاصّة بهذه الموضوعات وليس تغيير حكم ثابت ومشرّع من قبل. ولا يتبقّى لدينا سوى المجموعة الثانية من الروايات التي تتحدّث عن شمولية الشريعة؛ وهنا، لا بدّ لنا من أن نقول: لا يوجد هناك أيّ تعارض بين نظرية منطقة الفراغ التشريعي وبين الروايات آنفة الذكر، لأنّ هذه الروايات تنفي الاجتهاد بالرأي والقياس الذي كان مطبّقاً في مرحلة سابقة من تاريخ الفقه وبشكل واسع، فكان بعض الأفراد يقومون بحلّ الشريعة وفقاً لأذواقهم ورغباتهم من دون أيّ وازع أو رادع، ويستنبطون ما يحلو لهم من الأحكام التي تتناسب مع أهوائهم. والحقيقة هي أنّ روايات القسم الثاني تعارض منهجية استنباط الأحکام لدى بعض الأفراد من ذوي الهوى.

هذا من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإنّ تلك الروايات تضع الضوابط والمعايير الصحيحة والدقيقة للاجتهاد في الكتاب والسنة النبوية. والحقّ أنّ نظرية منطقة الفراغ التشريعي لا تدّعي العمل خارج إطار الكتاب والسنة أو التصرّف وفاقاً للاجتهاد بالرأي، بل هي تقول: إنَّ الله سبحانه وتعالى قد منح صلاحيات خاصّة ومعيّنة لأولي الأمر بمقتضى القرآن الكريم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ[26]، وأوجب على الآخرين طاعة أوامرهم واتّباع أحكامهم. وبناءً على هذا، فإنّ المنطقة التي يتسنّى فيها لوليّ الأمر العمل بموجب الصلاحيات الممنوحة له، هي منطقة ذات أبعاد ومجالات كثيرة، ومن تلك الأبعاد ما يتناول الموضوعات المتطورة والمتغيرة؛ وعلى هذا الأساس، فإنّ التشريع في منطقة الفراغ يستند إلى الكتاب وتؤيّده السنة النبوية الشريفة.

سادساً: تباين النظرية مع أسلوب الحلّ في المسائل المستحدثة

الموضوعات المستحدثة والجديدة واستنباط الأحكام والتعاليم الحقوقية والأخلاقية الخاصة بها، هي مسألة مطروحة في مُعظم النُّظم التشريعية. وقد سعى المشرّعون المسلمون، على مرّ التاريخ، إلى استنباط مثل تلك الأحكام للموضوعات المذكورة وإدراجها في المكان المناسب لها في النظام التشريعي. والمسألة المهمة، هنا، هي أنّ استحداث موضوع جديد لا يعني بالضرورة وجوده داخل منطقة الفراغ التشريعي، إذ لربما تکون القواعد والأحكام المتعلقة بهذا النوع من الموضوعات أحكاماً وقواعد ثابتة من دون حصول أيّ تغيّر في الموضوع.

أو قد تكون موضوعات جديدة ومستحدثة في منطقة الفراغ، فإذا كنّا نؤمن بنظرية منطقة الفراغ التشريعي، فإنّ أوّل خطوة لاستنباط الحكم عند مواجهة موضوع مستحدث تتمثّل في تحديد موقع ذلك الحكم؛ بمعنى أنّه لا بدّ من أن نرى ما إذا كان الموضوع يندرج في منطقة الفراغ أو في المنطقة الثابتة، ثمّ تحديد طبيعة الموضوع في ضوء موقعه وضوابطه وأسلوبه وقاعدته وحکمه. بيد أنّ دراسة طريقة استنباط الحکم ومنهجه في هکذا موضوعات يتطلّب لوحده بحثاً تفصيلياً مستقلاً كما هو معلوم، خصوصاً مع ملاحظة تشعّب الموضوعات؛ حيث أنّ بعضها يکون معقّداً للغاية فيما قد يتميّز بعضها الآخر بالسهولة المعهودة، بعضها اعتبارية وبعضها الآخر بحتة.

سابعاً: نظرية منطقة الفراغ التشريعي ترکّز على مرحلة التشريع لا التطبيق

من المعروف، أنّه في معظم الأنظمة التشريعية، تکون مرحلتا تشريع القانون وتطبيقه متمايزتين ومنفصلتين، إحداهما عن الأخرى. فمرحلة تشريع القانون تتعلّق بتحديد القواعد الحقوقية، ونظرة المذاهب والمدارس إلى هذه القواعد تقسم إلى قسميْن. القسم الأول من تلك النظرة يرى أنّ عمل القواعد الحقوقية اعتباري ومهمّة المشرّع تتمثّل في وضع تلک القواعد. أمّا القسم الثاني من تلك النظرة فيتضمّن قيام المشرّع بتشخيص القواعد الموجودة والسائدة في المجتمع وتحديدها، ثمّ يأمر بتطبيقها والعمل بموجبها. ما ينبغي على المشرّع، في هذه المرحلة، هو أن يعمل بشكل يمنع معه بروز أيّ تعارض أو تضادّ في القوانين واللوائح. وبعد هذه المرحلة، فقد يتغير الوضع إلى حالة يعجز فيها الأفراد عن تطبيق القواعد او القاعدتيْن معاً وفي وقت واحد، وهو ما يُصطلح عليه بـ«التزاحم». والحقيقة أنّ النظام الحقوقي في الإسلام يمرّ بمثل تلك الحالات، وهي أن تكون هناك مرحلة للتشريع؛ حيث تُعيَّن القواعد والأحكام للموضوعات مفروضة الوجود، ومرحلة أخرى يقوم فيها الأفراد بتطبيق تلك القواعد والأحكام. وفي أثناء هذه المرحلة بالذات تتّضح معالم «التزاحم». وتتناول نظرية منطقة الفراغ التشريعي أو المنطقة الحرّة مرحلة التشريع من دون أن تربطها بمرحلة التطبيق أو التزاحم أي علاقة. لكن بالطّبع قد تبرز حالة التزاحم بعد وضع القوانين من قِبل وليّ الأمر أو الحكومة، كما هي الحال كذلك عندما يحدث نوع من التزاحم في الأحكام الثابتة. إذاً فلا علاقة لهذه النظرية (نظرية منطقة الفراغ) بتزاحم الأحكام في مرحلة الامتثال إطلاقاً.

ثامناً: عدم ارتباط نظرية «منطقة الفراغ» بالأحكام الثانوية

أمّا المجموعة المهمة الأخرى، من القواعد الشرعية، فتتمثّل في القواعد الثانوية غير المفروضة على الموضوعات نفسها، بل تقتصر موضوعاتها على العناوين الثانوية كالحرج والضرر وما شابههما، ولا شكّ في أهمية تلك القواعد ودورها الرئيسي في تنظيم القواعد وربطها بمقاصد النظام التشريعي. لكنّ وجود مثل تلك اللوائح والقواعد ليس حكراً على النظام التشريعي في الإسلام، بل يمكننا العثور على مثل هذه الأحكام في الأنظمة التشريعية الأخرى أيضاً. وما يعنينا هنا هو أنّ تطبيق القواعد الثانوية المذكورة لا علاقة له أبداً بمنطقة الفراغ التشريعي؛ أي أنّ هذه القواعد تتعلّق بموضوعاتها من دون أيّ شيء آخر. ولو تحقّق وجود موضوع ثانويّ في منطقة ثابتة عندئذ لا بدّ من تطبيق الحكم الثانويّ، وإذا كان الموضوع المذكور مقرّراً في مجال الأحكام ضمن منطقة الفراغ التشريعي، فحينئذ يتمّ تطبيقه كذلك. بعبارة أخرى، فإنّه وفاقاً لنظرية منطقة الفراغ، يقوم المشرّع بوضع القانون للموضوعات نفسها تحت العناوين الأولية وليس مطابقة القواعد الثانوية على تلك الموضوعات في المنطقة المذكورة.

تاسعاً: عدم ارتباط نظرية «منطقة الفراغ» بالقواعد واللوائح الإدارية- التنفيذية

تتناول بعض القواعد أسلوب تطبيق الأحكام الشرعية، لذا، يكون التشريع في هذه المنطقة والمتغيرات التي تفرزها، رهناً بالتجارب الإنسانية، وعندئذ يكون بالإمكان وضع قواعد تناسب التغييرات أو التحولات في الشؤون الإدارية والتطبيقية. ومن بين الشخصيات التي أشارت بوضوح إلى هذه المسألة المرحوم آية الله «مدرّس»، حيث دوّن آراءه الخاصّة في «قانون أصول المحاكمات الجزائية» عام (١٩٤١م) قائلاً:

«كنت حاضراً في لجنة مجلس الشورى الوطني واللجنة الخارجية، وبذلت کل ما في وسعي لأن تكون القواعد الموضوعة مطابقة للشرع في الشؤون الجزائية والخاصّة بمحاكم الجُنَح والمحاكم الجنائية والتي تُعاد وفقاً لقانون النظام الإداري، وأن تكون الحالات المتعلقة بالشؤون الإدارية غير متعارضة أو مخالفة للمعايير الإسلامية»[27].

يتبيّن، من خلال هذا التوضيح، أنّ القواعد الحقوقية تشتمل على مستوييْن اثنيْن: أوّلهما التطبيق، وثانيهما الماهية. أمّا القواعد التطبيقية فتوجد في كلّ من الأحكام الثابتة إضافة إلى أنّها تَرد في القواعد الموضوعة في منطقة الفراغ كذلك. إلاّ أنّ إطلاق التشريع في هذا المجال لا علاقة له بمنطقة الفراغ التشريعي، بل حتى في حال عدم قبولنا لنظرية منطقة الفراغ، لا مفرّ لنا إلاّ بقبول حرية التشريع في هذا المجال التي تمتلك بحدّ ذاتها مبادئ وأصولاً خاصّة بها.

عاشراً: علاقة نظرية «منطقة الفراغ» بمشروعية الحكم الحکومي (السلطاني)

يقع موضوع إصدار الحكم الحکومي ضمن صلاحيّات الدولة أو الحاكم الإسلامي. ويمكن لهذا الحكم أن يكون في مجال تطبيق الأحكام الشرعية أو إدارة البلاد. وبالنظر إلى هذا الموضوع فقد يكون الحكم المذكور متعلقاً بشخص أو حالة معيّنة، أو صادراً بشكل أمر جزئيّ أو أنّه يتناول حالة عامّة. إضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون الحکم الحكوميّ ذا علاقة بوَضع القوانين وسنّها. وفي ضوء الحالات السابقة التي ذکرت، يتّضح لنا أنَّ مشروعية الحکم الحكوميّ لها علاقة بنظرية منطقة الفراغ التشريعي، وأنّ وجود أحدهما لا ينقض الآخر. وبعبارة أدقّ، إنّ الحکم الحكوميّ مرتبط بصلاحيات الحاكم الإسلامي، أمّا منطقة الفراغ المشار إليها فمختصّة بجانب معيّن من دائرة التشريع الخاصة بالحاكم الإسلامي، بالرغم من أنّ صلاحية الحاكم في إصدار الحكم تمتدّ إلى المنطقة الثابتة في ما يتعلّق بالتطبيق أو التزاحم.

ب) إثبات منطقة الفراغ

تناول ما ذكرناه، في هذه المقالة، جوهر منطقة الفراغ التشريعي وطبيعتها ومميزاتها، أمّا الآن فسوف نحاول الإجابة عن السؤال الآتي، وهو: هل يمكننا إثبات منطقة الفراغ في مجال الشريعة الإسلامية؟

الجواب: بما أنّ نظرية منطقة الفراغ تحاول إثبات أنّ هناك جانباً أو جزءاً من علاقات الإنسان يتميز بالتطور والتغير، وأنّه لا وجود لحكم شرعيّ ثابت يتعلّق بهذا الجزء من العلاقات، فإنَّ هذا المقدار من البحث يندرج ضمن بحوث ماوراء الفقه وفلسفة الفقه. أمّا مَن الذي يحمل صفة المشرّع، في هذا المجال، وما هي الضوابط التشريعية، فذلك يشتمل على جوهر ثنائيّ هو فقهي وما وراءه معاً، لأنّ مسألة إثبات ولي الأمر ومقدار صلاحيّاته ودوره في التشريع هي في الواقع مسألة فقهية بحتة، رغم أنّ بعض استدلالاتها تندرج ضمن دائرة علم الکلام. کما أنّ قسماً كبيراً وجزءاً مهماً من ضوابط التشريع يمكن تحرّيها في المسائل الفقهية، هذا على الرغم من أنّ موضوع تعريف الأهداف والترکيز عليها يدخل في حيّز البحوث التي کانت ماوراء الفقه. والآن، وبعد أن اتّضحت لنا الأبعاد العامة لنظرية منطقة الفراغ التشريعي، سنسعى إلى إثبات تلك النظرية وأهمية التشريع من قِبل وليّ الأمر أو الحكومة الإسلامية. لكن لا بدّ لنا أولاً من إثبات ثلاث مسائل مهمة، هي:

١) أنّ علاقة الإنسان بالطبيعة علاقة متغيّرة.

٢) أنّ السبيل الوحيد للتشريع في منطقة الفراغ يتمثّل في إناطة ذلك التشريع بولي الأمر أو الدولة الإسلامية. وبعبارة أخرى، يمكننا القول: إنَّ تشريع قانون ثابت هو أمر مستحيل عقلاً.

٣) إذا لم يكن السبيل الأخير هو السبيل الوحيد، فليس أقلّ من أن نثبت أنّ الشارع الحكيم قد اختار هذا الأسلوب دون غيره.

أمّا القضية الأولى، وهي إثبات وجود تطور في علاقة الإنسان بالطبيعة، فليست أمراً يصعب إثباته، لأنّنا نلاحظ بوضوح أنّ ازدياد قدرة الإنسان واتّساع نطاق سيطرته على الطبيعة يؤثّر في شدّة علاقته بالطبيعة وعمقها، ما يؤدي تالياً إلى إحداث التغييرات فيها. وما نقصده بالتغيير هنا ليس كون الإنسان في الماضي يختلف عن الإنسان المعاصر في ما يتعلّق بمساعيه الرامية إلى إنشاء الصناعات والحصول على التقنية المطلوبة، بل نقصد به تطوّر الأحكام والقواعد التشريعية التي حصلت بسبب اتّساع قدرة الإنسان وإمکاناته. ومعنى ذلك أنّ مجرّد التحوّل أو التغيير ليس كافياً، بل لا بدّ من أن يشمل ذلك التغيير العناوين والأحكام الخاصّة بعلاقة الإنسان بالطبيعة. على سبيل المثال، لم تقتصر قدرة الإنسان، في العصر الحديث، على زيادة سيطرته على محيطه وتسخيره لصالحه وحسب، بل تمكّن كذلك من أن يخطو أبعد من محيطه الذي اعتاد عليه وألِفه؛ حيث امتدّت قدرته وسيطرته إلى استغلال المصادر الموجودة تحت سطح الأرض وفي البحار والمحيطات ثمّ تجاوزها جميعاً ليشمل الفضاء الخارجي وغزو الكواكب والمجرّات. ولم تقف طموحاته عند هذا الحدّ كذلك، بل يحاول الإنسان الحديث استغلال تلك الأماكن لخدمته وتطوير حياته كلّها. ولو تُرك العنان للإنسان لما اكتفى بالتسلط على حقوق أبناء جنسه فقط بل لاستحوذ على حصّة الأجيال القادمة من هذه الطبيعة كذلك وسخّرها لحسابه واستولى عليها جميعاً. ولهذا السبب، يتحدّث الناس والشعوب عمّا اصطُلِحَ عليه بالتراث الإنساني المشترك وحقوق الأجيال وحصصهم من البيئة الحياتية والفضاء والبحار وغير ذلك. وبناءً على هذا، فإذا كان بالإمكان في الماضي الدفاع عن القاعدة القديمة التي تقول: «من‌ أحيا مواتاً‌ فهي له»، فإنّه ليس بمقدور أحد في هذه الأيام عدّ هذه القاعدة قاعدة عادلة ومنصفة. إضافة إلى ذلك، فقد ظهر العديد من الموضوعات المستحدثة والجديدة في المجالات التشريعية والاقتصادية المختلفة التي لم تكن موجودة حتى وقت قريب. وباختصار، لا يمكن لأيّ منّا أن ينکر أنّ التطور يضع آثاره وبصماته على الأحكام والعناوين الحقوقية بشكل واضح.

أمّا الأمر الذي يحظى بالأهمية هنا فهو إثبات أنّ هذا التطوّر أو التحوّل يأخذ أشكالاً يصعب معها وضع قوانين ثابتة، وأنّ السبيل الوحيد هو في إناطة التشريع بالدولة الإسلامية، أو إذا کان سنّ القانون الثابت غير ممکن فعلينا حينئذ أن نبرهن على الأقلّ أنَّ الشارع قد أوكل مسألة التشريع إلى الحاكم. ولعلّ هذين الموضوعيْن يُمثلان أهمّ مسألة في النظرية المذكورة.

وهنا قد يحاول بعضهم القول: إنَّ الشارع الحكيم قد أوجد نظاماً حقوقياً جامعاً وشاملاً، وفي الوقت نفسه أودعَ عنصر المرونة في القوانين نفسها أو في مرحلة التطبيق. وهذا يعني أنَّ الشارع المقدّس قد شرّع القواعد الأولية والثانوية، وهي قواعد تمتلك عناوين عامّة وشاملة بحيث يمكنها أن تشمل حالات وظروفاً مختلفة. وتتلخّص مهمّة الحاكم الإسلامي في تطبيق تلك القواعد على مصاديقها. في حين قد نواجه حالة التزاحم أو تعارض العناوين الثانوية في مرحلة التطبيق، وهنا تبرز أهمية الحاكم الإسلامي وعمله المتمثّل في اتّخاذ القرار المناسب بشأن هذه المسائل. والنتيجة هي أنّ القواعد والقوانين الشرعية ستبقى ثابتة، في حين أنّ التغيير والتحوّل سيعتريان المصاديق والأمثلة دون غيرها.

ولتأييد هذا الرأي، يمكن الوصول إلى استدلاليْن اثنين، هما:

السبيل الأول، ويتمثّل في الاستناد إلى الروايات التي تتناول شمولية القواعد. وقد وضع الشيخ الكليني هذا النوع من الروايات تحت عنوان: «باب‌ الرد إلى ‌الكتاب‌ والسنة‌ وأنه‌ ليس‌ شيء‌ من ‌الحلال‌ والحرام‌ وجميع‌ ما يحتاج‌ الناس‌ إليه‌ إلاّ وقد جاء فيه‌ كتاب‌ وسنة». وفي ما يأتي نشير إلى بعض الروايات الخاصة بهذا الشأن:

١) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن؟، إلاّ وقد أنزله الله فيه»[28].

٢) علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن حسين بن المنذر، عن عمر بن قيس، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: «إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الامة إلاّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله (صلى الله عليه وآله) وجعل لكل شيء حداً، وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حداً»[29].

٣) علي، عن محمد، عن يونس، عن أبان، عن سليمان بن هارون قال: سمعت أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) يقول: «ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلاّ وله حدّ كحدّ الدار، فما كان من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدار فهو من الدار، حتى أرش الخدش فما سواه، والجلدة ونصف الجلدة»[30].

وقد يقول بعضهم جواباً عن ذلك: إنّ هذه الروايات تشير إلى النظام التشريعي بكلّ مقاصده وقواعده وأصول وضوابطه، لأنّه يمكن الاستناد إلى المبادئ والأصول والضوابط في النظام التشريعي بهدف كشف القواعد السلوكية، وليس معنى ذلك وجوب بيان جميع الأحكام في إطار القضايا التشريعية في النظام التشريعي.

تؤيّد بعض الروايات هذا الكلام كذلك، فعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال:«ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله عزّ وجلّ ولكن لا تبلغه عقول الرجال»[31].

والآن، إذا ضممنا هذا الكلام في هذه الرواية إلى الروايات الأخرى التي يقول فيها الإمام (عليه السلام): «إنما علينا أن‌ نلقي‌ إليكم ‌الأصول‌ وعليكم‌ أن‌ تفرعوا»[32]، أو «علينا إلقاء الأصول‌ وعليكم ‌التفريع»[33]، أمكننا الوصول إلى مسألة مهمة تتمثّل في أنّ الرجوع إلى المبادئ والأصول يُعدُّ إحدى الطرق التي يمكن بوساطتها فهم الأحكام الشرعية وإدراكها. وقد أشار الشهيد الصدر إلى ما يشبه هذا الكلام في حديثه عن البُعد الاقتصادي تحت عنوان: «علاقة المذهب الاقتصادي والقانون»، حيث كتب يقول: «إن المذهب الاقتصادي يختلف عن علم الاقتصاد، كذلك يجب أن نعرف الفرق بين المذهب الاقتصادي والقانون المدني أيضاً، فإن المذهب هو: مجموعة من النظريات الأساسية التي تعالج مشاكل الحياة الاقتصادية، والقانون المدني هو: التشريع الذي ينظم تفصيلات العلاقات المالية بين الأفراد وحقوقهم الشخصية والعينية. وعلى هذا الأساس، لا يمكن أن يعدّ المذهب الاقتصادي لمجتمع نفس قانونه المدني»[34].

والخلاصة، فإنّ الروايات المذكورة تنسجم مع كلتا الرّؤيتيْن ولا يمكن الاستناد إليها لتفنيد نظرية منطقة الفراغ.

أمّا السَّبيل الثاني للاستدلال على تفنيد نظرية الشهيد الصدر فهو: إنّ منهجه، في حلّ جميع المسائل، يستند إلى التشريع في منطقة الفراغ بشكل عملي، بينما نستطيع نحن فعل ذلك كذلك عن طريق تطبيق القواعد واستخراج الأحكام اللازمة والمنسجمة مع الظروف الزمانية والمكانية بدلاً من الرجوع إلى المنهج الذي اتبعه الشهيد الصدر.

ومهما يكن من أمر، فإنّه لا مناص من الإقرار بأنّ هذا الإدّعاء مقبول في مقام الثبوت، ولهذا السبب ليس بإمكاننا أن نثبت أنَّ السبيل الوحيد للتشريع في منطقة الفراغ المتغيرة والمتطورة هو إيكال موضوع التشريع إلى ولي الأمر، وتالياً لا يبقى لنا سوى المرحلة الثالثة وهي أنّ الشارع قَبِلَ بأسلوب التشريع من جهة وليّ الأمر والدولة من بين الأساليب والحلول التي تصطدم بمنطقة التطور. وقد استشهد السيد محمد باقر الصدر ببعض النصوص الشرعية من أجل إثبات مدّعاه، وكلّ تلك النصوص تتحدّث عن صلاحية ولي الأمر في التشريع. يُضاف إلى ذلك، فإنّ الشهيد الصدر يعدّ إبداع المذهب الاقتصادي ناقصاً من دون الأخذ بمنطقة الفراغ وخصائصها بعين الاعتبار[35].

هذا، ولا شكّ في أنّ التمسّك بهذين الدليليْن لا يخلو من بعض الإشكالات لأنّ مجرّد العثور على بعض الحالات المتعلقة بتغيّر الأحكام لا يعدّ کافياً لإثبات نظرية عامّة، فضلاً عن أنّ ذلك قد يمنح أصحاب النظريات الأخرى بعض التسويغات واعتبار ذلك من باب تغيير المصداق. أمّا الدليل الثاني فيُمكن الإجابة عليه كذلك بالبيان الذي مرّ بنا من قبل، لأنّ الرأي المعارض قد يتعاطى مع تحوُّلات المنطقة المذكورة وتغييراتها من خلال وضعه للأحكام العامّة والمرنة.

كان ذلك توضيحاً لبيان جوهر منطقة الفراغ التشريعي وطبيعتها وأسلوب إثباتها. والآن، لو افترضنا إمكانية العثور على مثل هذه المنطقة، فإنّ البحث التطبيقيّ والعملي المهم هو أسلوب التشريع وأصول الحاكم وضوابطه وضمان التطبيق المناسب وأُطُر تبيين القواعد وكيفية رسم المجال الزمني والمكاني لتطبيق القواعد، وأمور أخرى من هذا القبيل.

الدكتور محمود حكمت نيا(*)

مجلّة قبسات، العدد الثاني

(*) عضو الهيئة العلمية‌ ومدير قسم‌ الفقه ‌والتشريع‌ في المجمع العلمي العالي للثقافة والفكر الإسلامي.

[1] محمد حسين‌ النائيني: تنبية ‌الأمة‌ وتنزية ‌الملة، مع تعليقات للسيد محمود الطالقاني، شركات‌ (انتشار)، طهران، ١٩٩٩م

[2] محمد علي‌ هدايتي: آيين‌ داوري‌ كيفري (= نظام القضاء الجزائي)، مطبعة جامعة طهران،١٩٥٣م، ص‌ 12

[3] المصدر نفسه، ص‌ 12.

[4] السيد محمد حسين‌ الطباطبايي: تفسير الميزان، ج‌ 4، ص‌ 129

[5] رسالة سماحة الإمام مخاطباً رئيس‌ الجمهورية الإسلامية الإيرانية آنذاك، صحيفة‌ (جمهوري‌ اسلامي)، السبت‌ ٩ يناير/ كانون الثاني سنة‌ ١٩٨٧م،‌ العدد (2501)، السنة التاسعة

[6] المصدر نفسه.

[7] وبعبارة أخرى: فإنّ منطقة الفراغ التشريعي: هي الساحة المرنة من الشريعة التي ترك لولي الأمر إجراء الأحكام وتطبيقها فيها وفقاً للمصلحة، وبحسب مقتضيات الزمان والمكان، وفي ضوء المبادئ العامة والقواعد الكلية للشريعة.

وبعبارة أخرى: فإنّ منطقة الفراغ التشريعي: هي الساحة المرنة من الشريعة التي ترك لولي الأمر إجراء الأحكام وتطبيقها فيها وفقاً للمصلحة، وبحسب مقتضيات الزمان والمكان، وفي ضوء المبادئ العامة والقواعد الكلية للشريعة.

[8] السيد محمد باقر الصدر:  اقتصادنا، مكتب‌ الاعلام‌ الاسلامي، الطبعة‌ الاولى، 1375، ص‌ 686.

[9] المصدر نفسه: «حين نتناول الماركسية على الصعيد الاقتصادي، لا يمكننا أن نفصل بين وجهها المذهبي، المتمثل في الاشتراكية الشيوعية الماركسية، ووجهها العلمي المتمثل في المادية التاريخية، أو المفهوم المادي للتاريخ، الذي زعمت الماركسية أنها حددت فيه القوانين العلمية العامة، المسيطرة على التاريخ البشري واكتشفت في تلك القوانين النظام المحتوم لكل مرحلة تاريخية من حياة الإنسان، وحقائقها الاقتصادية المتطورة على مر الزمن»

[10] المصدر نفسه: «فإن العالم الطبيعي يستطيع أن يقدم أو يؤخر من تأثير قوانين الطبيعة بما يحدث من تغيرات في وضع الطبيعة التي يجربها لأن قوانين الطبيعة التي يجربها لا تتحكم في عمله، فهو يستطيع أن يسيطر على تأثيرها، بما يهيِّئ للتجربة من شروط».

[11] محمد حسن‌ النجفي: جواهر الكلام، ج‌ 38، ص‌ 11 محمد حسن‌ النجفي: جواهر الكلام، ج‌ 38، ص‌ 11

[12] المصدر نفسه

[13] الحرّ العاملي: وسائل‌ الشيعة، ج‌ 17، ص‌ 327

[14] المصدر نفسه

[15] المصدر نفسه

[16] السيد محمد باقر الصدر:  إقتصادنا، ص‌ 688

[17] محمد باقر الصدر: دروس‌ في‌ علم‌ الاصول، الحلقة ‌الثالثة، الجزء الثاني، ص‌ 37

[18] سورة الطلاق، الآية الشريفة (٧)

[19] محمد باقر الصدر: إقتصادنا، ص‌ 689

[20] الحرّ العاملي: وسائل‌ الشيعة، ج‌ 1، ص‌ 107 و ج‌ 16، ص‌ 232

[21] نهج البلاغة، بَابُ المُخْتَارِ مِنْ حِكَمِ أمير المؤمنين عليه السلام وَمَوَاعِظِهِ، الحكمة رقم (١٠٠)

[22] الحرّ العاملي، وسائل‌ الشيعة، ج‌ 21، ص‌ 169

[23] مستدرك ‌الوسائل، ج‌ 17، ص‌ 258

[24] سورة المائدة، الآية الشريفة (٣)

[25] مستدرك الوسائل، ص‌ 252

[26] سورة النساء، الآية الشريفة (٥٩)

[27] محمد علي‌ هدايتي: آيين‌ داوري‌ كيفري (= نظام القضاء الجزائي)، مطبعة جامعة طهران،١٩٥٣م، ص‌ 12

[28] أصول‌ الكافي، ج‌ 1، ص‌ 77

[29] المصدر نفسه

[30] المصدر نفسه

[31] المصدر نفسه، ص (٧٨)

[32] الحرّ العاملي، وسائل ‌الشيعة، ج‌ 18، ص‌ 41

[33] المصدر نفسه

[34] السيد محمد باقر الصدر:  إقتصادنا، ص‌ 365

[35] المصدر نفسه