الإبداع الحركي عند الشهيد الصدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

مارس السيد الشهيد الصدر (رضي الله عنه) في تصديه الإجتماعي ثلاثة أدوار، الدور الحركي، والدور المرجعي، والدور القيادي، حيث ابتدأ الشهيد حركياً ثم مرجعاً ومن ثم قائداً فشهيداً، وليس هناك تعارض أو تنافي بين هذه الأدوار، وأنّما هناك اختلاف في سعة الدور وضيقه على المستوى الإجتماعي، مما يجعل هذه الأدوار أقرب شبهاً بثلاث دوائر متحدة في المركز ولكنّها تختلف في القطر، حيث الدائرة الحركية في القلب تليها سعة الدائرة المرجعية، ثم تليها الدائرة القيادية، ولئن كان هذا صحيحاً على المستوى النظري، فأنّ الواقع الّذي عاشه الشهيد الصدر يكاد يجعل من الدوائر الثلاث المتحدة المركز متساوية في القطر، فعلى المستوى المرجعي، كان السيد الصدر (رحمهم الله) مرجعاً للحركيين بالدرجة الأساس، وعلى المستوى القيادي كأن قائداً للحركيين أيضاً، ولم يأخذ بعده القيادي الرمزي مداه الجماهيري إلاّ بعد استشهاده بأكثر من عشرة اعوام. عندما هتفت جماهير انتفاضة شعبان المليونية باسمه ورفعته عنواناً للأنتفاضتها، ولم يكن ذلك بعيداً عن دور الحركيين ونشاطهم أيضاً.

منطلقات التحرك الإجتماعي

وقد انطلق السيد الشهيد في تحرّكه الإجتماعي من أربعة منطلقات وهي:

1- شمولية الإسلام:

خلافاً للنظرة التي سادت أجواء النجف الأشرف وشطراً كبيراً من أوساط الأمّة الإسلامية بحصر الإسلام في إطار ضيق من الممارسات الفردية، فإنّ السيد الشهيد انطلق في تحرّكه من شمولية الإسلام لجميع مجالات الحياة الفردية والإجتماعية، ولذا فهو يؤكّد في الأساس الأوّل من نشرة «الأسس» الّتي تمثّل الرؤية السياسية لحزب الدعوة الإسلامية في أنّ الإسلام «مبدأ كامل لأنّه يتكوّن من عقيدة كاملة في الكون ينبثق عنها نظام إجتماعي شامل لأوجه الحياة ويفي بأسس وأهمِّ حاجتين للبشرية وهما القاعدة الفكرية والنظام الإجتماعي»[1].

ويؤكّد السيد الشهيد هذه الرؤية بقوله «إنّ شمول الشريعة وإستيعابها لجميع مجالات الحياة، من الخصائص الثابتة لها، لا عن طريق تتبع أحكامها، في كلِّ تلك المجالات فحسب، بل عن طريق التأكيد على ذلك، في مصادرها العامة أيضاً»[2].

وتمثّل هذه الرؤية خروجاً على المألوف الحوزوي النجفي الّذي تسالم على حصر الإسلام في الميدان الفردي فقط.

2- شمولية التغيير:

ما هو مدى التغيير المطلوب أو الطابع الّذي يجب أن تتخذه الدعوة؟ يرى السيد الشهيد «أنَّ ما يواجهنا قبل كل شيء السؤال عن الطابع الّذي يجب أنّ تتخذه الدعوة الإسلامية وهل هو الطابع الإصلاحي؟ أو الطابع الإنقلابي؟»[3].

إنّ تحديد الاجابة على هذا السؤال لاينطلق من رغبة ذاتية أو مزاج شخصي، وإنّما من خلال قراءة موضوعية للواقع الإجتماعي فمن «الضروري أن نحدّد الجواب في ضوء الظروف الّتي يعيشها الإسلام ومدى وجوده في واقع الامّة الإسلامية فالإسلام إذا كان هو القاعدة الرئيسية الّتي يبتني عليها نظام الحياة فإنّ على الدعوة الإسلامية أن تتخذ الطابع الإصلاحي…. وأما حين يفقد الإسلام مركزه من القاعدة الأساسية ويستبدل بغيره من القواعد المعادية أو اللاقاعدة فإنّ الدعوة الإسلامية في هذه الحالة يجب أن تكون إنقلابية، وهذا هو الواقع الذي تعيشه الأمّة منذ نهاية الحرب الأولى، إذ قوّض المستعمرون الدولة الإسلامية ودخلوا بلاد المسلمين وتقاسموها فيما بينهم، وما أن تمّت عملية الإستعباد هذه للعالم الإسلامي حتى تمَّ بذلك إنقلاب كليٌّ في حياة الامّة فاقصيت العقيدة الإسلامية من موقعها في القاعدة الرئيسية لكيان الامة ووضعت الامة في أطر فكرية وسياسية غريبة عن عقيدتها…

إنّ قضية الإسلام في مثل هذه الظروف ليست قضية إصلاح بل قضية إنقلاب، والدعوات الاصلاحية التي قامت بانشاء المدارس الدينية تارة واصدار الكتب والمجلات الإسلامية تارة أخرى، وتأسيس لجان للوعظ والإرشاد مرّة ثالثة ونحو ذلك من ألوان الخدمة، إنّ هذه الدعوات وإن قدّمت للإسلام خدمات جلّى تذكر فتشكر، فإنّ المعركة الرئيسية التي يخوضها الإسلام اليوم مع أعدائه إنّما تستهدف قبل كل شيء استرداد القاعدة للإسلام وجعل العقيدة الإسلامية في موضعها الرئيسي من حياة الامّة والقضاء على الواقع الفاسد والكيان القائم برمّته،…

ما هي حقيقة الأمر، يسأل السيد الصدر ويجيب. الأمر أيها الاخوة ليس أمر شبيبة تفسدها المدارس ولا أمر جماعة تحتاج إلى وعظ وتوجيه ولا امر بيئة يجب أن تهذبَّ وتنظّف من الدعارة والفاسد، بل امر امّة يجب أن تقام على أساس الإسلام لتسعد في الدنيا والآخرة.ولهذا فإنّ دعوتنا إلى الإسلام دعوة إنقلابية لإنقاذ الامّة من واقعها الفاسد..»[4].

وعليه فإنّ التغيير الّذي استهدفه الشهيد الصدر في تحركه لم يكن ليستهدف ميداناً من ميادين الحياة أو جانباً من جوانبها وأنّما استهدف تغييراً شاملا لجميع مجالات الحياة فضلا عن الأساس الذي يقوم عليه البناء الإجتماعي والسياسي.

3 – الدور البشري:

يرى السيد الشهيد أنّ للتغيير جانبين، جانب المحتوى والمضمون، وهذا الجانب ربانيُّ سماويٌّ، وهو الإسلام «ولا شك ولا ريب في أنَّ دينناً ثابت لايتغيّر ولايتجدّد، ولا يمكن في يوم من الأيام أن يفترض كون هذا الدين بحاجة إلى تغيير أو تحوير أو تطوير…. الصيغة النظرية للإسلام صيغة ثابتة فوق التجدّد وفوق التغيير. لابدّ لها هي أن تحكم كلَّ عوامل التغيّر وكلَّ عوامل التجدّد لا أنَّ عوامل التجدّد والتغيّر تحكم الرسالة وتحكم الإسلام، بل الإسلام يحكم على كل عوامل التجدّد…»[5].

أمّا الجانب الثاني، فهو الجانب البشري أي المجموعة البشرية الّتي تمارس العملية التغييرية، وهذه المجموعة تمارس هذا الدور وفقاً لسنن التاريخ و «يكون هؤلاء أناساً كسائر الناس، تتحكم فيهم إلى درجة كبيرة سنن التاريخ التي تتحكّم في بقية الجماعات البشرية وفي بقية الفئات على مرِّ الزمن»[6].

وعلى ضوء الآيات القرآنية التي تتحدث عن غزوة أحد وخسارة المسلمين فيها يستنتج الشهيد الصدر مايلي «لاتتخيّلوا أنَّ النصر حق الهي لكم، وإنّما النصر حق طبيعي لكم، بقدر ما يمكن أن توفروا الشروط الموضوعية لهذا النصر بحسب منطق سنن التاريخ الّتي وضعها الله سبحانه وتعالى كونياً لا تشريعياً…»[7].

وإنطلاقاً من هذه الرؤية التي توكل المهمة التغييرية إلى الإنسان والدور الذي يمكن أن يلعبه، والجهد الذي يمكن أن يبذله، والتخطيط الّذي يهتدي إليه، دون تواكل واستسلام للواقع وانتظار سلبي من أجل أن تقوم السماء بهذا الدور نيابة عن الإنسان، راح الشهيد الصدر يبذل جهده مع أنصاره من أجل توفير الشروط الموضوعية لاحداث التغيير وفق رسالة السماء.

4- الأساليب المتغيرة:

ينطلق السيد الشهيد في العمل الإجتماعي من خلال ايمانه بضرورة تغيير الأساليب، وعدم الجمود على أسلوب أو أساليب معينة، ويبدأ السيد الشهيد بنقد الحالة القائمة آنذاك التي تتسم بالجمود على أساليب معينة، ورفض تجديدها وتغييرها، «ففي أساليب العمل الخارجي كانت لدينا حالة أنا أستطيع أن أسمّيها (حالة النزعة الاستصحابية). الإستصحاب الذي قرأناه في علم الأصول طبقناه على أساليب العمل وطبقناه على حياتنا، فكنّا نتّجه دائماً إلى ما كان ولانفكر أبداً في أنّه هل بالإمكان أن يكون أفضل مما كان؟

وهذه النزعة الإستصحابية إلى ما كان والحفاظ على ما كان يجعلنا غير صالحين لمواصلة مسؤولياتنا. وذلك لأنّ أساليب العمل ترتبط بالعالم، ترتبط بمنطقة العمل، ترتبط بالبستان الذي نريد أن نزرع فيه، وهذا البستان وهي الأمة التي تزرع فيها بذور الخير والتقوى والورع والإيمان… ليست لها حالة واحدة. الامة تتغير، نعم اسلامك لايتغيّر، لكنَّ الأمّة تتغيّر. الأمّة اليوم غير الأمّة بالامس،في مستواها الأخلاقي، في علائقها الإجتماعية، في أوضاعها الإقتصادية، في كل ظروفها. الامّة اليوم غير الأمّة بالأمس. وحيث أنَّ اليوم غير الأمّة بالأمس لايجوز لك أن تتعامل مع الأمّة اليوم كما تعاملت مع الأمّة بالامس….

فحيث أنَّ منطقة العمل هي الأمّة.. لهذا يجب أن نأخذ بعين الإعتبار الظروف والتغيّرات والتصوّرات الّتي توجد في الأمّة. هذه التصوّرات والتغيّرات الّتي توجد في الامة (تحدد) لنا أساليب العمل، وليس بالإمكان أن يكون هناك اسلوب واحد يصدق على الأمّة اليوم وعلى الأمّة بالامس وعلى الأمّة غداً»[8].

ويعزو السيد الشهيد غياب الاثار والنتائج الإيجابية لبعض الأعمال نتيجة عقم الأساليب وجمودها «لأننا نعيش بأساليب كانت منسجمة مع أمّة لم يبق منها أحد وقد انتهت وحدثت أمّة أخرى ذات افكار أخرى، ذات اتجاهات أخرى، ذات ظروف وملابسات أخرى، فحينئذ من الطبيعي أن لانوفق في العمل لاننا نتعامل مع أمة ماتت والأمّة الحية لانتعامل معها، فمهما يكن لنا من تأثير سوف يكون هذا التأثير سلبياً، لانّ موضوع العمل غير موجود في الخارج، موضوع العمل ميّت، وما هو موجود في الخارج لانتعامل معه….

إذن فلابدّ وأن نجعل جزءاً من وظيفتنا أن نفكّر دائماً في أنّه كيف نغيّر أساليب العمل، كيف ننسجم مع وظيفتنا وبيئتنا»[9].

وتطوير أساليب العمل الإجتماعي لايأتي عبر طريقة تفكير رياضية تعتمد البرهان واليقين العلمي، وإنّما تعتمد الحدس الإجتماعي، وهذا الحدس «يتكوّن من خلال التفاعل مع الناس، ومن خلال الإطلاع على ظروف العالم، ومن خلال الإطلاع على الملابسات ومن خلال الإطلاع على التجارب التي قام بها الآخرون، ومن خلال المقارنة بين أحوالنا وأحوال الآخرين…

ووفق هذه الرؤية جاءت مبادرته المباركة في تأسيس حزب الدعوة الإسلامية، ويرى (رحمهم الله) أنَّ «الشكل التنظيمي الذي أخترناه في دعوتنا هو تطوير للشكل الشائع في التنظيمات المعاصرة مع ملاحظة ما تقتضيه مصلحة ا لدعوة إلى الإسلام.

وسبب اختيارنا له يعود إلى مشروعية أوّلا، وفائدته ثانياً.

أما مشروعيته فلأنَّ أسلوب الدعوة إلى الإسلام إنّما هو الطريق الذي يمكن بواسطته إيصال الإسلام إلى أكبر عدد من الناس وتربيتهم بثقافة الإسلام تربية مركّزة تدفعهم للقيام بما فرض الله عليهم. وحيث أنَّ الشريعة لم تأمر باتباع اسلوب محدد في التبليغ والتغيير جاز لنا شرعاً انتهاج أيّة طريقة نافعة في نشر مفاهيم الإسلام وأحكامه وتغيير المجتمع بها ما دامت طريقة لاتتضمن محرماً من المحرمات الشرعية. وأيّة حرمة شرعية في أن تتشكل الأمة الداعية إلى الخير الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر في هيئة وجهاز وتكوّن كياناً موحّداً وفعالية منتجة في الدعوة إلى الله عزّ وجل… إنَّ تجميع الجهود من أجل الإسلام وتنسيقها بحكمة واختيار الطريقة الأفضل لتنظيمه ذلك ليس مجرد أمر جائز في عصرنا وحسب. بل هو واجب ما دام تغيير المجتمع وتعبيده لله ومجابهة الكفر المنظم متوقفاً عليه»[10].

مرتكزات العمل الحركي عند الشهيد الصدر

1- النظرية:

لم ينطلق السيد الشهيد في تحركه الإجتماعي على أساس عاطفي وخطاب تعبوي عام، وانّما انطلق منذ البداية على أساس وضوح نظري وتأصيل فكري. استهدف طرح نظرية الإسلام في الحياة في قبال النظريات الأخرى، ولذا فانّ نتاجه الفكري لم يأت بناء على عقلية فلسفية وأخرى إقتصادية وثالثة سياسية كما كتب البعض عن الشهيد الصدر، وانّما انطلق في كلِّ ما كتبه على أساس عقلية تغييرية تهدف إلى سدِّ حاجة الحركة إلى نظرية متكاملة، وهذا ما بيّنه الشهيد السعيد في مقدمّة فلسفتنا عندما تحدّث عن العالم الإسلامي والغزو الذي تعرض له، وكيف اصبحت ديار المسلمين ساحة صراع بين تيارات الفكر الغربي «وكان لابدّ للإسلام أن يقول كلمته، في معترك هذا الصراع المرير، وكان لابدّ أن تكون الكلمة قوية عميقة، صريحة واضحة، كاملة شاملة، للكون، والحياة، والإنسان، والمجتمع، والدولة والنظام، ليتاح للأمة أن تعلن كلمة (لله) في المعترك، وتنادي بها، وتدعو العالم إليها، كما فعلت في فجر تاريخها العظيم.

وليس هذا الكتاب إلاّ جزاء من هذه الكلمة…»[11].

ويؤكّد هذه الرؤية في مقدمة الطبعة الأولى لكتاب إقتصادنا بقوله: «كنّا يا قرائي الأعزاء على موعد منذ افترقنا في كتاب فلسفتنا، فقد حدثتكم أنّ (فلسفتنا) هي الحلقة الأولى من دراستنا الإسلامية، بوصفها دراسة تعالج الصرح الإسلامي الشامخ، الصرح العقائدي للتوحيد، وتتلوها بعد ذلك الدراسات التي تتعلق بالبنيات الفوقية في ذلك الصرح الإسلامي، لتكتمل لنا في نهاية المطاف صورة ذهنية كاملة عن الإسلام، بوصفه عقيدة حية في الأعماق، ونظاماً كاملا للحياة، ومنهاجاً خاصاً في التربية والتفكير…»[12].

وضمن هذا التوجّه كتب السيد الشهيد النظرية السياسية أيضاً في نشرة خاصة تحت عنوان الأسس، أي أسس النظام الإسلامي السياسي، واصرار الشهيد الصدر على طرح نظرية الإسلام من خلال قناعته أنَّ «كلَّ انسان على الأرض لا يمكن أن يحمل رسالة يحارب ويدافع ويجاهد عنها حقيقة إلاّ إذا كان مستوعباً لها إستيعاباً كاملا شاملا…»[13].

إنّ إدراك أهمية وجود النظرية الشاملة، والقدرة على التنظير عند الشهيد الصدر، تكشف بعض منابع الإبداع عنده حيث لم يكن في انطلاقته هذه عيالا على غيره، ويكفي في هذا الإطار الإستشهادبنموذجين من أجل المقارنة، النموذج الأوّل الشهيد سيد قطب (رحمهم الله) حيث لايرى في كتابه (معالم في الطريق) الحاجة إلى طرح نظرية الإسلام ويرى أنَّ «الّذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ نظريات وأن يصوغ قوالب نظام، وأن يصوغ تشريعات للحياة… بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة الله وحدها، ورفض كلِّ شريعة سوّاها، مع تملّكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفيذه… الّذين يريدون من الإسلام هذا، لايدركون طبيعة هذا الدين، ولا كيف يعمل في الحياة…»[14].

أما النموذج الثاني فهو نموذج اليسار العربي، فيكتب مطاع صفدي قائلا (أنّ حزباً كحزب البعث، وهو من أكبر الأحزاب التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية، اعتمد في افكاره النظرية على مجموعة الأحاديث التي كان يلقيها ميشيل عفلق على مجموعة ضئيلة من شباب الحزب الأوائل. ولقد اتصفت تلك الأحاديث بأنّها أحاديث مرتجلة، فقد كان ميشيل عفلق يلقيها من دون اعداد سابق ومكتوب، واتصفت كذلك بأنّها ذات لون ظرفي، وتالياً فقد كان ينقصها التأمل الهادئ وتسودها دوافع الصدفة التي تجعل عبارة ما تأتي نتيجة لعبارة طارئة، وهكذا)[15].

«أما الأحزاب الشيوعية، فالحقيقة أنّها لم تنج هي الأخرى من الفقر الايديولوجي الذي تعرضت له الحركات والأحزاب القومية في الوطن العربي، وذلك على الرغم من الأصول المتعددة للنظرية الماركسية وتجذرها في الواقع الفكري والعالمي. والواقع أنّ تلك الأحزاب لم تستطع أن تقدم دراسات علمية بحسب المنهج الجدلي لمشكلة واحدة من مشكلات المجتمع العربي وخصوصياته، فعاشت هي الأخرى فقيرة مجدبة، كالحركات القومية،على توريد إصطلاحات فارغة، والمساهمة في محاربة نتف التيارات الثقافية الأخرى التي كان رذاد أمواجها يصل من وقت لآخر إلى بعض الحلقات الثقافية في بلادنا، من دون أن تكلف نفسها عناء التفكير في إعطاء شيء من البديل…»[16].

2 – الإستراتيجية:

الإستراتيجية هي الخطة الموضوعة للوصول إلى الهدف الذي تحدده النظرية إنطلاقاً من الواقع القائم.

«وكما أنَّ الإلتزام بنظرية من دون إستراتيجية، لايعدو أن يكون ثقافة فكرية مجردة فارغة من الإلتزام والمحاسبة، كذلك فإنّ الإلتزام باستراتيجية من دون نظرية لايعدو أن يكون إلتزاماً شكلياً غير ذي مضمون لايمكن متابعته، ولايتحرّج أحد في الخروج عنه، ومن ثم فالتخطيط (الاسلوب العلمي) في العمل السياسي يستلزم النظرية والإستراتيجية كليهما.

وكما اسهم الشهيد الصدر (رضي الله عنه) في وضع النظرية، فقد اسهم كذلك في وضع استراتيجية عمل الدعوة الإسلامية لبلوغ الهدف التغييرى على أساس الإسلام، حيث تمثلت هذه الإستراتيجية بالعمل المرحلي، حيث يكون هدف المرحلة الأول هو تكوين الحزب وبنائه، وتغيير الامة فكرياً، فيما تكون المرحلة الثانية هي مرحلة الصراع السياسي، حيث تدخل الدعوة والامة في صراع سياسي مع النظام الحاكم، ثم هناك المرحلة الثالثة وهي مرحلة اقامة الحكومة الإسلامية وتطبيق شريعة الله سبحانه. ومع أنّ هذه الإستراتيجية جرى تبنيها منذ انطلاقة الدعوة عام 1377 هـ، فإنّ السيد الشهيد ورغم تركه العمل داخل التنظيم، فإنّه لم يترك مراجعة هذه الإستراتيجية ومحاولة معالجة أي ثغرة تنطوي عليها هذه الإستراتيجية، وهذا ما نقله عنه تلميذه السيد كاظم الحائري، إذ ينقل أنّ للسيد الشهيد مجلساً اسبوعياً مع بعض طلابه يتناول فيه مختلف الأمور السياسية والإجتماعية وفي أحد هذه المجالس بحدود عام 1392 هـ طرح السيد الشهيد على مستمعيه ظروف الإنتقال من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية في عمل الدعوة، أي من مرحلة البناء والتغيير الفكري إلى مرحلة الصراع السياسي، ورأى أنّ مثل هذه التحول ممكن في بلد ديمقراطي يحترم حقوق الانسان وحريته في العمل السياسي، أما في ظروف كظروف العراق فانّ النظام سيلجأ إلى الارهاب والعنف مما يحول دون أيِّ انتقال طبيعي من مرحلة إلى أخرى (فما لم يصادف تحوّل آخر دولي في العالم يقلب الحسابات ليس بإمكان الحزب أن ينتقل من مرحلته الأولى إلى المرحلة الثانية»[17].

إنّ السيد الشهيد بالوقت الذي ادرك أهمية وضع استراتيجية للعمل الإسلامي التغييري، فإنّه أدرك ضرورة مراجعة هذه الإستراتيجية، فعلى الرغم مما تتسم به الإستراتيجيات من ثبات نسبي إلا انّ ذلك لايعني أنّها غير قابلة للمراجعة والوقوف عند الثغرات أو النقائص التي تكشفها التجربة والتطبيق، وهذا عادة ما تتسم به العقول الديناميكية المبدعة التي لاتعرف الجمود والتحجر، ولا شك إنّ السيد الشهيد عقلية مبدعة لاتعرف الجمود، كيف وهو يثبت ما نقلناه آنفاً أنّ العمل الإجتماعي يحتاج إلى عقيلة تتجاوز مقولة «ليس بالإمكان أفضل مما كان».

3- المؤسسية في العمل (مأسسة العمل):

من الظواهر اللافتة في مجتمعاتنا هو طغيان الحالة الفردية، وغياب المؤسسة أو العمل الجماعي، وهذا ما نلمسه في مختلف التكوينات الإجتماعية ابتداءاً من القبيلة وانتهاء بالدولة، حيث إنَّ دولنا غالباً ما هي حكومات فردية، يتولى رئيس الجمهورية، أو الملك، ابتداء من قيادة القوات المسلحة وحتى الاشراف على منع عمليات التهريب عبر الحدود مروراً بالخطة الخمسية (إن وجدت) وسياسة الطاقة وبرامج التعليم.. هذه الظاهرة الفردية نجدها كذلك في الحركات والأحزاب أيضاً، وحيث أنّ البحث يدور حول البعد الحركي عند الشهيد الصدر، لذا فاننا نتناول أمثلة حركية متنوعة ليتضح لنا الإبداع الحركي للشهيد من خلال مقارنته بالتجارب الحركية الأخرى. وفي هذا الإطار سنتناول ثلاثة أمثلة، احدها عن جماعة الاخوان المسلمين، والثاني عن حزب التحرير، والثالث عن حزب البعث.

فمثال الاخوان المسلمين في مصر هو ما يتعلق بالشهيد حسن البنا (رحمهم الله)، فالشهيد حسن البنا تولى موقع المرشد العام منذ عام 1928 وحتى استشهاده 1949 أي حوالي واحد وعشرين عاماً، ويصف صلاح شادي حالة الاخوان بعد استشهاده فيقول: (ماذا كان يعني وجود حسن البنا بيننا؟ لم يكن فقط اشعاعه نور على طريق الحق نبصر به خطونا، وانما كان المحور الذي تبلورت عليه آمالنا للوصول بالحركة الإسلامية إلى هدفها الصحيح، كانت حياتنا بعض أنفاسه وصحونا من صحوه وحركتنا في خطوه. فلمّا اختاره الله إلى جواره توقف اداركنا لمسيرتنا، إلى أين نسير وكيف نمضي بعده؟)[18].

ويعلق الدكتور عبدالله فهد النفيسي على هذا النص قائلا، إنَّ هذا النص «يؤكد على أنّ القيادة في مفهوم الاخوان هي شخص أكثر منها مؤسسة، شخص ينتهي وتكون معه نهاية ولابد من شخص آخر يبتدئ لتكون معه بداية. هذا المفهوم الشخصاني للقيادة قد عانت منه كلُّ التشكيلات العقائدية في العالم الثالث سواء كانت الإسلامية منها وغير الاسلامية.

لذلك ظلت جماعة الاخوان بدون قيادة ما بين مقتل البنا في 12/2/1949حتى 19/10/1951 عندما تسلّم حسن الهضيبي (رحمهم الله) القيادة، أي أنّ الأخوان ظلوا بدون قيادة ولا توجيه لمدة تقارب الثلاث سنوات أمّا التجربة الأخرى فهي تجربة حزب التحرير حيث يرى تقي الدين النبهاني أن التكتل الصحيح لابد أن يسير في عدة خطوات الأولى هي الإهتداء إلى المبدأ من قبل شخص فائق الفكر والإحساس فيتفاعل معه حتى يتبلور فيه، ويصبح واضحاً لديه، وحينئذ توجد الخلية الأولى…

ويعلق الاستاذ يوسف العظم على مقولة الشيخ النبهاني قائلا: «وكان (رحمهم الله) من هذا المنطلق، الشخصية الطاغية على الحزب، يفصل من يشاء ويأمر بما يشاء، ولذلك التزم فكرة الشورى المصلحة ولم يبق حتى الآن في حزب التحرير واحد من مؤسسيه، فهم إما توفوا إلى رحمة الله، وهم الآن مع شيخهم الذي توفي إلى رحمة الله عام 1977 م في بيروت، وإما أنَّهم تركوا الحزب بسبب فصلهم منه، أو بسبب اختلافهم مع الشيخ.

وقد ألف الشيخ كتباً عديدة،.. هي وحدها مصادر الفكر لحزب التحرير، ولم يؤلف تحريريٌّ واحد كتاباً واحداً يعتمد في الحزب أو يعتمد مصدراً من مصادر فكره..»[19].

أما المثال الثالث فهو حزب البعث العربي الإشتراكي، ولا أتعرض لهذا الحزب في ظل قيادة صدام، وإنما أكتفي بذكر استشهاد واحد على لسان أحد رجالات البعث الاوائل وهو جلال السيد عن سنيّ الحزب الأولى يقول: «كنت أتساءل وأسأل زميلا لي هل يمكن أن يكون هناك حزب بعث عربي بدون ميشيل عفلق؟ أنا لا أتصوّر أنَّ ذلك ممكن. إذن فإنَّ وجود ميشيل عفلق في الحزب هو أمر لابدّ منه ولا يمكن الاسغناء عنه وهذه الضرورة كفيلة بالغاء كل الإتجاهات الأخرى التي يمكن أن تجري ضد ميشيل عفلق»[20].

السيد محمد باقر الصدر ابن الحوزة العلمية التي لاتعرف شيئاً عن المأسسة والمؤسسية حيث الفردية تبلغ مداها، وابن العالم الثالث بكل وجوداته الإجتماعية احزاباً وحركات ودولاً، يقفز قفزة عملاقة ومبدعة في طرح تصور قيادي لحزب الدعوة الإسلامية يتجاوز فيها مسميات الامين العام أو السكرتير العام أو الزعيم أو القائد باتجاه قيادة جماعية تمثل صورة من صور الشورى الإسلامية والعمل المؤسسي الجماعي الذي يتجاوزالفرد ولايرتهن إليه مهما كانت امكاناته وتغيب الذات الفردية عند الشهيد الصدر لتحلَّ محلَّها (نحن) الجماعية إلى درجة أنّه فكّر حسب ما نقله عنه السيد الحائري بأن يطبع «فلسفتنا» باسم جماعة لعلماء «إلاّ أنَّ الذي منعه أنّ جماعة العلماء أرادت اجراء بعض التعديلات في الكتاب، وكانت تلك التعديلات غير صحيحة في رأي استاذنا الشهيد ولم يكن يقبل اجراءها فيه فاضطرَّ أن يطبعه باسمه».

صادق الركابي

[1] الأسس الإسلامية، نقلا عن الحسيني، محمد: الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر. ص 337.

[2] الصدر: السيّد محمد باقر المدرسة الإسلامية. ص / 139

[3] كيف تكون الدعوة إلى الإسلام، نقلا عن الحسيني، محمد; السيد محمد باقر الصدر. ص 361.

[4] المصدر نفسه.

[5] الصدر السيد محمد باقر: المحنة. ص / 49 50.

[6] الصدر: السيد محمد باقر: السنن التاريخية. ص / 49.

[7] المصدر نفسه. ص / 50.

[8] الصدر، السيد محمد باقر. المحنة. ص / 51.

[9] المصدر، نفسه. ص / 55.

[10] حول الأسم والشكل التنظيمي. نقلا عن الحسيني، محمد، مصدر سابق، ص / 365 – 366.

[11] الصدر، السيد محمد باقر، فلسفتنا. ص / 6.

[12] الصدر، السيد محمد باقر: إقتصادنا، مقدمة الطبعة الأولى. ص / 25.

[13] الصدر، السيد محمد باقر: المحنة. ص / 70.

[14] قطب، سيد: معالم في الطريق. ص / 34 – 35.

[15] مطاع صفدي: حزب البعث مأساة المولد، مأساة النهاية، نقلا عن حسين محمد محمود معلوم: قراءات في نقد اليسار العربي، مجلة المستقبل العربي، العدد 114، آب 1988، ص / 135.

[16] السعيد: رفعت: تاريخ المنظّمات اليسارية المصرية، نقلا عن حسين محمد محمود معلوم، مصدر سابق. ص / 38.1.

[17] الحائري، السيد كاظم. مباحث الأصول. ج 1، نقلا عن النعماني الشيخ محمد رضا: الشهيد الصدر. سنوات المحنة وأيام الحصار. ص / 149.

[18] نقلا عن: النفيسي عبدالله: الإخوان المسلون في مصر: التجربة والخطاء. في الحركة الإسلامية رؤية مستقبلية. ص / 219.

[19] ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر. ص / 630.

[20] نقلا عن عبد الهادي، نبيل: الصدر وصدام، الإنسانية في مواجهة الهمجية، في محمد باقر الصدر. دراسات في حياته وفكره. ص 619 – 620.