فكما نبغ السيد الشهيد «قده» في الفقه منذ صباه فانه نبغ في علم الأصول منذ تلك الفترة ومن آيات نبوغه هذه الإيرادات التي أشكل بها على كتاب «المعالم في الأصول» يوم تتلمذه على يد أخيه السيد إسماعيل الصدر «قده» فكانت تخطر بباله الاشكالات التي اوردها صاحب الكفاية الآخوند الخراساني في كفايته التي تعد من أدق الكتب الأصولية.
وكذلك ما كتبه في علم الأصول في مبحث الاشتغال «غاية الفكر» وقد خالف فيه نظريات المشهور من علماء الأصول وأساطين هذا العلم.
ويبدو نبوغه أمراً طبيعياً فانه ورث عن آبائه وأجداده تلك العبقرية الخارقة والذكاء المفرط فكان آباؤه وأجداده ممن أسهم مساهمة فعالة في بناء الكيان الأصولي فجده الأعلى السيد نور الدين علي بن علي ممن دافع عن علم الأصول إبان الهجوم الذي شنه الاخباريون على علم الأصول فكتب كتابه « الفوائد المكية في نقض الفوائد المدنية الأستر آبادية»[1] وذلك رداً على كتاب شيخ الإخباريين الميرزا محمد أمين الاسترآبادي الذي صنف كتابه «الفوائد المدنية» وتعرض لعلماء الأصول وحمل عليهم.
وجده السيد إسماعيل بن السيد الصدر الدين كان من مفاخر علماء الأصول وهو صاحب «الشبهة العبائية» التي أثارها في الاوساط العلمية حين قدومه إلى النجف الأشرف على عهد صاحب القوانين.
وناهيك عن مقام أبيه وبراعته في الفن الأصولي وهو صاحب «الشبهة الحيدرية» التي تناولها العلماء بالبحث والتحقيق وكان في مقدمتهم شيخ الأصوليين الشيخ ضياء الدين العراقي.
وقد تتلمذ السيد الشهيد «قده» على السيد الخوئي وحضر أبحاثه الأصولية فقضى ما يقرب من أربعة عشر سنة ثم انفصل عنه ليؤسس مدرسته الأصولية المتميزة فشرع في إلقاء بحوثه العليا في عالم الأصول في سنة «1378هـ» في يوم الثلاثاء في الثاني عشر من شهر جمادي الثاني.
وكانت حصيلة ما ألقاه من بحوث في الأصول في دورتين بدأت الأولى سنة «1378هـ» وانتهت في يوم الثلاثاء في الثاني عشر من شهر ربيع الثاني لعام «1391هـ» وقد استمرت هذه الدورة لما يقرب من ثلاث عشر سنة، ثم بدأ الدورة الثانية إلى قبيل استشهاده فلم يوفق لإكمالها وقد مضى عليها ما لا يقل عن تسع سنوات.
وكتب تقريرات بحثه الأصولي كل من تلميذيه السيد كاظم الحائري والسيد محمود الهاشمي فصدر للاول الجزء الأول من القسم الثاني تحت عنوان «مباحث الأصول» وهو بخصوص مبحث القطع وكتب في مقدمة الكتاب ترجمة وافية لأستاذه السيد الشهيد اعتمدنا عليها كثيراً.
وصدر للثاني منهما ـ وهو في العراق يوم كان بقرب أستاذه ـ كتابين وألحق بهما في إيران خمسة أجزاء أخرى تحت عنوان (بحوث في علم الأصول).
وقد ترك السيد الشهيد «قده» آثاره الخالدة في عملية تطوير الفكر الأصولي فقد كتب فيه وباحث، فشيد أروع النظريات الأصولية، ولكن ما كتبه أقل مما درسه فقد كتب في شبابه كتاب «غاية الفكر» في مبحث الاشتغال وكتاب «المعالم الجديدة» وذلك تلبية لدعوة كلية أصول الدين ببغداد في وضع المناهج الدراسية فكتب لها هذا الكتاب، وأخيراً وقبيل شهادته بثلاثة أعوام كتب أروع كتاب أصولي يقع في أربعة أجزاء على حلقات ثلاث ليكون كتاباً دراسياً في جامعة النجف الكبرى وهو اليوم موضع عناية العلماء وسنلقي عليه نظرة خاصة.
أما درسه فكان في فترة زمنية تقرب من اثنتين وعشرين سنة تخرج من مجلس بحثه الكثير من الفضلاء والفقهاء.
أما إبداعاته ومساهمته في تطوير الفكر الأصولي فقد تجلى في النظريات التي طرحها السيد الشهيد «قده» وإبداعهفي تغيير مناهج البحث الأصولي، وكتب السيد الحائري عن ذلك يقول:
«.. فحقاً أن علم الأصول قد مر على يد أستاذنا الشهيد بعصر جديد فلو أضفناه إلى الأعصر التي قسم[2] إليها فترات العلم في المعالم الجديدة لكان هذا عصراً رابعاً هو عصر ذروة الكمال ترى فيه من الأبحاث القيمة والجواهر الثمينة والدرر المضيئة ما يبهر العقول وهي تشتمل على مباحث فريدة من نوعها وفيها ما تكون ـ تارة ـ جديدة على الفكر الأصولي تماماً أي: أنها لم تبحث من قبل، وأخرى تكون مغيرة كما اختاره الأصحاب في أبحاثهم السابقة ببرهان قاطع وأسلوب فائق، وثالثة معدلة لنفس ما اختاره الأصحاب ومصلحة له ببيان لم يسبق له نظير.
فمن القسم الأول: ما جاء به من البحث الرائع لسيرة العقلاء وسيرة المتشرعة فقد تكرر لدى أصحابنا المتأخرين «قده» التمسك بالسيرة لإثبات حكم ما ولكن لم يسبق أحد أستاذنا ـ رحمه الله ـ فيما أعلن في بحثه للسيرة وإبراز أسس كشفها والقوانين التي تتحكم فيها والنكات التي ينبني الاستدلال بها على أساسها بأسلوب بديع ومنهج رفيع وبيان متين.
ومن هذا القسم أيضاً بحثه القيم عما اسماه بنظرية التعويض وهو وان كان اقرب إلى فن البحوث الرجالية منه إلى الأصول ولكنه قد بحثه بالمناسبة ضمن مباحث حجية خبر الواحد وأوضح فيه كيف إننا نعوض ـ أحياناً ـ المقطع السندي المشتمل على الضعف البارز في سند الحديث بمقطع آخر غير بارز لدى الناظر بالنظرة الأولية وهذا الأمر وان وجدت بذوره لدى من تقدم على الأستاذ ـ رحمه الله ـ ولكن لم أر أحداً قبله يتعرض لهذه الفكرة على مستوى البحث العلمي ويدقق في أسس هذا التعويض وأقسامه.
ومن القسم الثاني: بحثه البديع في حجية القطع الذي أثبت فيه أن رأس الخيط في البحث إنما هو مولوية المولى وحدودها، وانحدر من هذا المبدأ إلى الآثار التي تترتب على ذلك وانتهى إلى إبطال ما بني عليه المحققون جيلاً بعد جيل من قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وآمن بمنجزية الاحتمال وأن البراءة التي نؤمن بها هي البراءة الشرعية أما البراءة العقلية فلا.
ومن هذا القبيل إبطاله لحكومة الأصول بعضها على بعض حينما تكون متوافقة في النتيجة كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدة الطهارة أو الأصل السببي على الأصل المسببي الموافق له وكذلك إبطاله لحكومة الإمارة على الأصل لدى توافقها في النتيجة.
ومنه أيضاً إبطاله لما اشتهر من جريان أصالة الطهارة في ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة على تفصيل يأتي في محله إنشاء الله.
ومنه أيضاً بحثه البديع في الوضع وإبرازه لنظرية القرن الأكيد.
ومن القسم الثالث بحثه الرائع عن حقيقة المعاني الحرفية حيث يوافق فيه على أصل ما اختاره المحققون المتأخرون من كون المعاني الحرفية هي المعاني النسبية والمغايرة هوية للمعاني الاسمية ولكن مع إدخال تعديل وإصلاح جوهريين على ما أفاده الأصحاب «قده» ومن هذا القبيل بحثه الذي لم يسبق له نظير عن الجمع بين الأحكام الظاهرية والواقعية حيث اختار نفس ما اختاره المحققون من إمكانية الجمع بينهما وعدم التنافي والتعارض فيما بينهما ولكن مع التعديل الجوهري لطريقة الاستدلال وكيفية الجمع.
وقبل أن اترك هذه النقطة لا يفوتني أن أشير إلى أن من أبحاثه البديعة أيضاً أبحاثه عن الترتب وعن التزاحم وعن قاعدة لا ضرر والتي تعارف البحث عنها في الأصول رغم أنها قاعدة فقهية.»[3] انتهى.
وقد وضع السيد الشهيد «قده» نظرياته في أدق المسائل والبحوث الأصولية التي قل فيها المخالف لوعورة مسالكها والتعقيد الذي يكتنفها وغالباً ما يكون العلماء مقلدة للسلف والمشهور تحاشياً للخلاف وهذا ما يعكس نظره الثاقب والدقة العلمية في نظريات السيد الشهيد «قده».
نظرة في كتابه «دروس في علم الأصول».
لقد كان السيد الشهيد الصدر «قده» يرفض حالة الجمود والركود واعتياد الأساليب القديمة التي أكل الدهر عليها وشرب حتى انه «قده» كان يسمي هذه الحالة بالنزعة الاستصحابية أي استصحاب الوسائل القديمة والنفور مع طابع التجديد في كل شيء. وفي محاضرة له أكد تذمره من هذه النزعة إذ يقول: «لا بدلنا أن نتحرر من النزعة الإستصحابية ، من نزعة التمسك بما كان حرفياً بالنسبة إلى كل أساليب العمل هذه النزعة التي تبلغ القمة عند بعضنا، حتى إن كتاباً دراسياً مثلاً ـ أمثل بابسط الأمثلة ـ إذا أريد تغييره إلى كتاب دراسي آخر افضل منه حينئذٍ تقف هذه النزعة الإستصحابية في مقابل ذلك. إذا أريد تغيير كتاب بكتاب آخر في مجال التدريس ـ وهذا أضأل مظاهر التغيير ـ حينئذٍ يقال: لا، ليس الأمر هكذا بل لابد من الوقوف، لا بد من الثبات والاستمرار على نفس الكتاب الذي كان يدرس فيه الشيخ الأنصاري أو المحقق القمي «قده»…»[4].
نعم إن هذه النزعة هي التي عطلت الطاقات العظيمة وهدرت الإمكانات الهائلة كتطوير الفكر والحركة العلمية حتى نقل أن السيد المجدد الشيرازي الذي يعتبر من أعاظم الفقهاء لم يترك كتاباً واحداً وقد سئل عن ذلك فقال: بعد الرسائل والمكاسب لا ينبغي لأحد تأليف كتاب في الفقه والأصول، ولذا أمر بإلقاء كل ما كتبه من بحوثه العلمية وآرائه القيمة ونظرياته الصائبة في نهر دجلة[5].
ومن هذا الواقع انطلق السيد الشهيد (قده) ليغير وليشجع على التغيير في كل أساليب العمل الإسلامي بل حتى في وضع المناهج الدراسية في جامعات الفقه فلجأ إلى تغيير منهاج علم الأصول وبكل جرأة فكان انقلاباً ضجر منه أصحاب الدعة والراحة وممن ليس فيهم قابلية التغيير الذين يبررون ركودهم وجمودهم بحفظ ما كان وإبقائه.
وهكذا كتب السيد الشهيد (قده) دروس في علم الأصول) في ثلاث حلقات ويقع في أربعة أجزاء أعده لطلبة ما يسمى «بطلبة السطوح» أي قبل مرحلة الدراسات العليا التي تسمى «البحث الخارج».
وقد كان بعض العلماء الأبرار من يدفع السيد الشهيد (قده) للإسراع في إنجاز هذا المشروع فكتبه وأنجزه في ما يقرب من ثلاثة اشهر أو يزيد عليها، وكان من هؤلاء العلماء تلميذه المرحوم السيد عبد الغني الأردبيلي الذي كان له الدور الكبير في حث السيد الشهيد على إنجازه _ كما صرح بذلك الشهيد نفسه _ ليكون هذا الكتاب منهاجاً في حوزته (مدرسته الفقهية) الفتية التي أسسها في أردبيل بعد هجرته إلى إيران بيد انه توفي قبل نيل مراده وصدر الكتاب بعد وفاته فأهدى الشهيد (قده) كتاب هذا إلى روح تلميذه.
وانطلق السيد الشهيد (قده) في ثورته المنهجية والطرح العلمي المتجانس لا لرغبة في نفسه لوضع منهج في علم الأصول _ وهو الذي لا يكتب إلا لملء الفراغ وبدافع إشباع الحاجة كما تقدم _ بل لتوفر المبررات الموضوعية التي لا يختلف فيها اثنان.
وقد أوضح السيد الشهيد (قده) هذه المبررات التي دعته إلى استبدال الكتب الأصولية القديمة بما وضعه من منهج علمي جديد وذلك في مقدمة كتابه نذكرها باختصار وتلخيص لأهميتها علمياً وتاريخياً.
المبرر الأول: إن الكتب الدراسية القديمة (المعالم، القوانين، الرسائل، الكفاية)[6] تمثل مراحل مختلفة من مراحل الفكر الأصولي، فالمعالم تعبر عن مرحلة قديمة تأريخاً من مراحل علم الأصول، والقوانين تمثل مرحلة أعلى من سابقتها، بينما كانت الرسائل والكفاية نتاج أصولي يعود لما قبل مائة سنة تقريباً وقد حصل علم الأصول بعد الرسائل والكفاية على خبرة مائة سنة تقريباً من البحث والتحقيق على يد أجيال متعاقبة من العلماء المجددين وهذا المئة جديرة بإفرازات علمية جليلة، وتطورات جديدة في طريقة البحث في جملة من المسائل الأصولية واستحداث مصطلحات حديثة تبعاً لهذه الطفرة العلمية خلال المئة عام. أليس من الحق أن تنال هذه التطورات والإفرازات اهتماماً أكبر ليكون الطالب قد استوعب أفكارها ومصطلحاتها الحديثة بينما يقف الطالب متحيراً في البحث الخارج لهول سماعها لأول مرة دون أن تطرق ذهنه في تلك الكتب الدراسية القديمة التي تتعامل معه بلغة ما قبل مائة عام. فهناك فاصل معنوي بين أبحاث الخارج التي تمثل التطور الذي هو حصيلة المائة سنة الأخيرة وبين تلك الكتب الدراسية.
ويؤكد السيد الشهيد (قده) هذا بشاهد يذكره على سبيل المثال لما استجد من مطالب ومن هذه المطالب أفكار باب التزاحم ومسلك جعل الطريقية الذي أشاده الميرزا النائيني والمسائل المتفرعة عليه في مسائل قيام الإمارات مقام القطع الموضوعي وحكومة الإمارات على الأصول ورفع قاعدة قبح العقاب بلا بيان يجعل الحجية وفكرة جعل الحكم بنحو القضية الحقيقية بآثارها الممتدة في كثير من أبحاث علم الأصول كبحث الواجب المشروط والشرط المتأخر والواجب المعلق وأخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم والوجه الجديد لبحث المعاني الحرفية الذي يختلف اختلافاً أساسياً عن الصورة الغريبة التي تخلفها آراء صاحب الكفاية في ذهن الطالب.
نعم أن الفكر الأصولي قد تطور بعد الشيخ الأنصاري والآخوند الخراساني على يد أساطين الأصول كالميرزا النائييني والشيخ آقا ضياء العراقي والسيد الخوئي والأصفهاني والسيد الشهيد الصدر (قده) واصبح في مرحلة متميزة عن المراحل السابقة في صياغتها النظريات الأصولية المختلفة ولغتها واصطلاحاتها فلا بد من تعرف الطالب على هذا النظريات والمصطلحات كي لا يفاجأ في الدراسات العليا بنظريات أصولية مختلفة تماماً عما درسه، وبلغة مختلفة ومصطلحات متباينة، وهذا يستدعي وضع كتاب يمثل هذه المرحلة، وكان هذا هو المبرر الأول الذي دفع السيد الشهيد لوضع هذا المنهج الدراسي الجديد.
المبرر الثاني: إن هذه الكتب الأربعة لم يكن يهدف مصنفوها أن تكون كتباً دراسية بل كانت تعبر عن أفكارهم ولهذا لم يكن في حسبانهم الطالب المبتدئ والذي يسير خطوة خطوة، وإنما كانوا يهدفون إلى إقناع خصومهم في المسائل المختلفة عليها ولذلك غالباً ما يستعرض مصنفوها خطوات الاستدلال بشكل متكامل وتحذف منه بعض الحلقات في الإثناء أو البداية لوضوحها لدى العلماء.
وعليه فلم يراع في هذه الكتب توفير فهم مسبق عند الطالب للمسائل والقواعد التي يستعين بها الطالب لهضم المادة ومعرفة تسلسل البرهان والدليل.
وقد أوضح السيد الشهيد (قده) هذه الحقيقة ودعمها بعدد غير قليل من الشواهد والأمثلة في مختلف الأبحاث الأصولية من هذه الكتب الأربعة.
المبرر الثالث: وهو من إفرازات المبرر الثاني الذي تمثل في كون غرض هذه الكتب يعبر عن أفكار مصنفيها للرد على خصومهم ومن أجل إقناعهم! وعليه فهي فاقدة لغرض أساسي في طريقة التدريس ويتمثل هذا الغرض في طريقة إعداد الطالب بشكل متجانس وبتنسيق دقيق بين عدة مراحل من دراسته، فلا بد في البداية من تكوين ثقافة عامة ثم الانتقال به إلى مرحلة أعلى منها بشكل تدريجي إلى بحث الخارج.
المبرر الرابع: الطريقة الموروثة تاريخياً في عناوين المسائل الأصولية التي لم تعد تعبر عن الواقع تعبيراً صحيحاً لأن أبحاث علم الأصول وصلت القمة وإفراز التطور الأصولي عن عناوين جديدة لم تكن بالأمس بينما كانت بعض هذه المسائل يبحث تحت عناوين ربما تكون هي أهم من المسائل صاحبة العنوان.
هذه هي المبررات التي دعت السيد الشهيد (قده) لاستبدال الكتب القديمة بما وضعه من فيهم جديد في علم الأصول.
ولم يكن بوسع السيد الشهيد (قده) إن يقبل بعمليات الترقيع والتلفيق في المناهج من القديم والحديث فهو يصبو إلى عملية انقلابية تهدف إلى التغيير بشكل كامل وجذري ولذلك رفض السيد الشهيد (قده) المحاولات الإصلاحية التي قام بها بعض العلماء الإجلاء وبالخصوص محاولة العلامة الشيخ محمد رضا المظفر في كتاب أصول الفقه.
ورغم حداثة (أصول المظفر) وجهوده الجبارة في هذا المضمار يرى السيد (قده) عدم نجاح هذه المحاولة ويبدي عليها بعض الملاحظات مع انه (قده) يعتبرها اكثر المحاولات استقلالية وأصالة.
والملاحظات التي أبداها السيد الشهيد «ره» هي ما سنذكره باختصار هي:
1_ إن كتاب أصول الفقه لا يمكن أن يقتصر عليه في مرحلة السطوح (وهي مرحلة ما قبل الدراسات العليا) بل هو حلقة وسيطة بين المعالم وكتابي الكفاية والرسائل، ومع أن الشيخ المظفر قد ضمن كتابه بأفكار حديثة مستقاة من مدرسة النائيني والمحقق الأصفهاني بيد أنها لا تفي بالغرض لأن الطالب يقرأ المعالم التي تمثل مرحلة قديمة لعلم الأصول ينتقل فجأة وبقدرة قادر ـ كما يعبر السيد الشهيد ـ ليقرأ الأفكار الحديثة السالفة الذكر ثم يعود القهقري ليقرأ أفكار الكفاية والرسائل التي نوقشت واستبدلت جملة منها بأفكار أمتن في كتاب أصول الفقه.
ولذلك فان السيد الشهيد «قده» يعتبر هذه المحاولة ترقيعية.
2_ إن بحوث الكتاب لا تعبر عن مستوى واحد من العطاء كيفاً وكماً فيعمد الشيخ المظفر إلى الإطناب في بعض المباحث بينما يوجز في مباحث أخرى بل يرى السيد الشهيد «قده» أن لا تنسيق بين بحوثه وبين بحوث الكفاية التي فرض منهجياً أن تكون بعده في الخط الدراسي.
وبعد كل هذه الاعتراضات والملاحظات التي سجلها السيد الشهيد «قده» على الكتب الدراسية القديم منها والحديث ما هي ميزات الحلقات التي كتبها وأراد لها أن تحل محل الكتب الأربعة وما استجد بعدها، فلا يسعنا إلا أن نقرأ ما كتبه السيد في مقدمة كتابه «دروس في علم الأصول» لنرى الفرق والبون بين هذه وتلك.
أولاً: من الاعتراضات التي أوردها السيد «قده» على الكتب الأربعة إنها لا تصلح اليوم لئن تكون مرجعاً في التدريس وهي تمثل مراحل تاريخية تتفاوت قدماً وقد ظهرت نظريات جديدة ومصطلحات حديثة غيرت مجرى الفكر الأصولي لذلك كان هدف السيد إلى طرح هذه النظريات الجديدة التي تمثل آخر مرحلة من مراحل تطور الفكر الأصولي وان لم تكن هذه النظريات صحيحة في نظر السيد الشهيد لأن الغاية من كتابة المنهج الجديد «دروس في علم الأصول» أو ما تسمى بـ «الحلقات الثلاث» اختصاراً ـ هي إعداد الطالب وتمرينه على الممارسة الفنية لتلك الأفكار وتطرح أحياناً أفكاراً غير صحيحة ليطرح من خلالها عرض النظريات الصحية عند مناقشة هذه النظريات القديمة.
ثانياً: إن الحلقات الثلاث تمثل جميعاً منهجاً واحداً يستوعب كل واحدة منها مباحث علم الأصول بكاملها ولكنها تختلف في مستوى البحث كما وكيفاً وتتدرج هذه الحلقات بطرح مسائل علم الأصول بشكل يتناسب وقابلية الطالب وتفادي تحميله ما يفوق قابلياته وقدراته في كل من هذه المراحل.
فبينما تمثل الحلقة الأولى مقدمة وتمهيداً لمسيرة الطالب العلمية، تمثل المرحلة الثانية أعلى من سابقتها، بينما تقسم الحلقة إلى جزأين يمثل الجزء الثاني منها مرحلة عالية جداً تؤهل الطالب لحضور البحث الخارج «الدراسات العليا».
وهذه الميزة في الحلقات الثلاث تنفرد بها عن الكتب الأصولية الآخرى.
ثالثاً: وقد تجاوزت الحلقات الثلاث ما اعترض على الكتب الأربع من الطابع الموروث تاريخياً للمسائل الأصولية فأبرزت المسائل بعناوين مناسبة مستجدة تناسب التطور الذي مر به علم الأصول. إضافة إلى عدول السيد الشهيد «ره» عن تصنيف المسائل الأصولية إلى مجموعتين او التصنيف الرباعي فعوضاً عن تقسيم المسائل الأصولية إلى مباحث الألفاظ والأدلة العقلية قسم الشهيد مسائله إلى مباحث الأدلة ومباحث الأصول العملية ويظهر أن السيد «ره» إنما عمد إلى هذا التقسيم لأنه يناسب عملية الاستنباط التي يمارسها الفقيه والتي تشتمل على مرحلتين مترتبتين طولياً وهي الأدلة والأصول فبعد أن يفقد الفقيه الدليل يعمد إلى البحث عن الأصول.
رابعاً: استعرضت الحلقات مسائل الأصول مبتدئة باليسير وتنتهي بالمعقد من هذه المسائل وتدرجت في عرضها بحيث لا تعرض مسألة إلا بعد أن تكون قد استوفت كل ما له دخل في تحديد التصورات العامة فيها.
خامساً: ومن أجل ذلك كله فإن الشهيد (قده) لم يتعرض في المسائل التي بحثها لكل أدلتها من روايات وآيات إلا بقدر ما يستدعيه الطرح العلمي لأن عرض كل الأدلة ليس من هدف الحلقات وإنما تلزم في البحث الخارجي أو الكتب المعدة لتكوين الآراء النهائية فيلتزم المؤلف باستعراض الأدلة كلها.
سادساً: ومن مميزات الحلقات هذه انعدام الذاتية فلم يكن الشهيد «ره» بصدد عرض آرائه الأصولية في كتابه هذا لذلك يعمد إلى عرض الآراء والنظريات التي اكتشفها غيره من علماء الأصول وان لم يكن السيد الشهيد «قده» يوافق نظره نظرة العلماء هؤلاء.
نعم. يذكر السيد الشهيد «قده» آراءه الأصولية إذا استدعى ذلك الأمر ليس باعتباره مؤلف الكتاب فلا بد أن يضم نظرياته في الأصول وإنما باعتباره صاحب مدرسة أصولية لها آراؤها ونظرياتها الخاصة التي ساهمت بشكل فعال في تطوير الفكر الأصولي في المرحلة الأخيرة من مراحله.
ولذلك فان آراء السيد الصدر «قده» ونظرياته لا يمكن التعرف عليها من خلال مراجعة الحلقات الثلاث «دروس في علم الأصول» وان صيغت هذه الآراء المعروضة في الحلقات بشكل يدل على التبني والارتضاء.
ومع هذا التجديد في منهج الدراسات الأصولية فان السيد الشهيد «قده» حافظ على العبارات الأصولية القديمة ولم يدخل عليها تطويراً مهماً وذلك ليمكن الطالب من الرجوع إلى الكتب القديمة وغيرها التي تستعمل تلك المصطلحات ولكن السيد «قده» اكتفى في عملية تجديد هذه المصطلحات على مستوى الحلقة الأولى فقط مراعاة لهذه الملاحظة المهمة وهي تجديد المصطلحات الأصولية.
السيد محمد الحسيني
[1] الذريعة ج14 ص224 آغا بزرك الطهراني ، وتكملة الأصل ص305 السيد حسن الصدر.
[2] لقد قسم السيد الشهيد «ره» في كتاب المعالم المراحل التي مر بها علم الأصول إلى ثلاثة عصور
[3] مقدمة المباحث ص58، ص60.
[4] محاضرات المحنة ص78.
[5] ترجمة الشيخ الأنصاري في مقدمة (المكاسب) بقلم السيد محمد كلانتر ص141.
[6] كتاب المعالم للشيخ حسن نجل الشهيد الثاني والقوانين للمحقق القمي والرسائل للشيخ الأنصاري والكفاية للآخوند الخراساني.