حواشي وتعليقات  على فصل (مع الرأسمالية) من اقتصادنا للشهيد الصدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

مقدمة

الباب الخامس

أغراض البحث

هذا الباب هو بمنزلة الخاتمة لهذا الكتاب الذي يسعى إلى إعطاء فكرة متكاملة عن تطور الفكر الاقتصادي ضمن المنظومة الرأسمالية إلى حدّ مرحلة نضجها وتكاملها مع نهاية القرن التاسع عشر.

وحيث ان الكتاب اللاحق سيواصل التعرف على مسيرة تكامل المقولات الاقتصادية في إطار المدرسى الاكاديمي بعد أن ترسخت أركان الجبروت الاقتصادي، فإنه قد استأثر بمعظم البحوث النظرية، فلم يكن بمقدورنا فتح ملفات عديدة مهمة ضمن هذا الكتاب لعدم كفاية المقدمات.

ومن أهم هذه الملفات ما علينا تأديته من حقّ لأصحاب الفضل من كبار علماء الإسلام الذين خاضوا غمار البحث الاقتصادي عملا بتكليفهم الإلاهي، وأبرز هؤلاء على الإطلاق المرجع المجدد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (ره) الذي زرع بذرة البحث العلمي الاقتصادي في الحوزة العلمةي ولم تمكنه يد المنون من سقايتها والعناية بها، فبقيت أبحاثه بين نكران الجاهلين وتعبد المخلصين، والحال أن أي بذرة علمية تتطلب تعهدها، عناية وتزكية بالشرح والتعليق حتّى تثمر ثمرها المطلوب، وأحيانا بالتنقيح.

وهذا الباب الأخير لا يدعي أكثر من فتح هذا الملف الذي ساد الاتجاه العام إلى غلقه تماما في الآونة الأخير. وسنحاول من خلال هذا البحث المختصر أن نوصل بعض أفكار السيد الشهيد حول الرأسمالية وقوانينها الاقتصادية إلى حالة من الوضوح بحيث ترتفع عنها كلّ الشبهات ويزول منها كلّ موطن التباس.

ونحن إذ نتحدث عن الشبهات والالتباسات، فلا نزيد على تقرير ما تشهده الساحة العلمية في الواقع. وسوف نبين أن هناك عللا خارجية عن كلام السيد الشهيد وهي التي أوجدت المناخ الملائم لترعرع بعض الشبهات التي بلغ بعضها من الخطورة بحيث يؤدي بقارئ بعض المقاطع الخاصة بالرأسمالية من كتاب (اقتصادنا) للسيد الشهيد إلى غرض مناقض لما رسمه صاحب الكتاب، وهو الغرض الذي أمكننا الاطمئنان إليه من دراسة مجموعة مؤلفاته التي أوضح فيها دون ليس أو غموض أن معارضة الإسلام للرأسمالية ليست أقل جذرية من معارضته للاشتراكية وأنه لا يمكن تطبيق القوانين العلمية الاقتصادية الناشئة في إطار المجتمع الرأسمالي والمجربة فيها إلى مجتمعات أخرى مثل المجتمع الإسلامي.

والذي يدفعنا إلى اختصاص قسم صغير من أعمال السيد الشهيد (وهو فصل ـ مع الرأسمالية ـ من كتاب ـ اقتصادنا) بهذا البحث رغم وجود بعض الأعمال الأخرى التي تعبر بشكل أوضح عن مراد المؤلف في هذا الموضوع، هو استمرار الحوزة العلمية في اعتماد هذا المتن ضمن مقرراتها الدراسية. وقد أمكنني بنفسي معاينة كثير من حالات الالتباس النّاشئة عن اكتفاء بعض الفضلاء بمطالعة هذا الفصل بسبب اضطرابهم الإداري لذلك ولضيق وقتهم عن استقصاء غيره من البحوث.

ونظرا لهذه الاعتبارات فإن تقديم هذه الحواشي على ذلك المتن ضمن هذا الكتاب الذي استهدف بالتحقيق المنظومة الرأسمالية ونظامها الاقتصادي بشكل خاص يكون مساهمة متواضعة في إحياء ذكرى السيّد الشهيد وإيصال برنامجه العلمي النقدي إلى بعض أهدافه.

أهم الموضوعات المطروحة للبحث

هذا البحث ـ في حقيقته ـ هو جزء من تعليقة على كتاب (اقتصادنا).

والمواضيع المنتخبة هنا هي تلك التي فرضت نفسها بحكم همينتها على كثير من الاذهان من خلال شبهات مترسخة ومستحكمة، كنّا نحتاج إلى كثير من الأبحاث السابقة في هذا الكتاب كمقدمات ضرورية لرفعها.

في الفصل الأول سعينا إلى عرض أهمّ هذه الشبهات، مستهلّين الكلام بتقديم الظروف الذاتية والموضوعية التى صاحبت انتشار كتاب (اقتصادنا) والأجواء الثقافية التي سهّلت نشأة واستحكام هذه الشبهات. ثم اختصصنا أهمّ الالتباسات ببعض التوضيح لبيان خطورتها وأولوية رفعها.

وفي الفصل الثاني قدمنا مقتطفات من المتن المذكور يمكن أن تكون مصدرا للشبهات المتقدمة، وعلقنا علهيا بالمقدار الذي يرفع الالتباس ويوصل مراد السيد الشهيد إلى القارئ دون تأثر بالمناخ الأكاديمي الذي سبّب استحكام تلك الشبهات.

وهنالك بحثنا قضية ارتباط العلم بالمذهب، وبيّنّا الأسباب الكامنة وراء القول بالترتّب بين البحوث العلمية والبحوث المذهيبة. ثم، وفي مبحث ثان تناولنا مسألة علمية القوانين الاقتصادية والعلاقة بين علمية القانون واستقلاله عن الإرادة الإنسانية، وطرحنا طرق الوصول إلى إثبات المدّعى وتحصيل نتيجة علمية منسجمة مع قول السيد الشهيد ـ في مجموع أعماله الأخرى ـ بأنه لا يمكن استنساخ قوانين الرأسمالية خارج إطارها الخاصّ.

وفي الفصل الثالث ركّزنا الاهتمام على موضوع علمية القوانين الاقتصادية واطّرادها في الزمان والمكان، منطلقين من دراسة مثال حيّ لتوضيح استحالة الفصل بين اقتصادية القوانين وارتباطها بإرادة الإنسان. ثم ختمنا البحث لبيان ضعف القول بكونية القوانين حتّى في مجال العلوم المخبرية وتوضيح أولوية هذا الاستدلال في ما يخصّ العلوم الاقتصادية.

الفصل الأول:

الظروف العامّة للبحث والالتباسات المحيطة به

المبحث الأول:

في رحاب العلامة السيد الصدر

خصوصية الظروف العامة لأعمال الشهيد الصدر

ما من أحد ينتسب إلى الحوزات العلمية أو الجامعات الإسلامية يرتضي لنفسه أن لا يعرف الشهيد العلامة المرجع السيد محمد باقر الصدر، وما من أحد فكّر في الاهتمام بموضوع الاقتصاد الإسلامي وأمكنه تجاهل كتاب (اقتصادنا) لهذا العالم الفقيد. فقد ظلّ هذا الكتاب النفيس أهمّ ما كتب في بابه طيلة أربعة عقود دخلت. ورغم مرور هذا الزمن الطويل على ظهوره فمازالت بعض أجزائه ضمن المقررات الدراسية التي يُطالب طلاب الحوزات العلمية بامتحانها في السنة الأخيرة من السطوح العليا. وهذا من ضمن الأسباب التي تجعل من هذا الكتاب مؤثّراً فعالاً وعاملا قويّاً في توجيه تشكّل المعلومات الاقتصادية عند خريّجي الحوزات العلمية بالخصوص، ولدى جميع الدارسين والباحثين في الاقتصاد الإسلامي أو النُّظم الاقتصادية المقارنة بوجه عام.

ولكن الشيء الذي يبدو أن الكثير من أهل الحلّ والعقد في مجال وضع البرامج الدراسية قد نسوه، هو مجموع الظروف التي أحاطت بتأليف هذا الكتاب الجليل وأثّرت في محتواه وشكله.

فمن المعروف أنّ هذا الكتاب قد نشر في ستّينات هذا القرن وفي كنف حوزة النجف الأشرف، وقد كانت المصادر المترجمة إلى العربية والتي كانت بين يدي المؤلّف الكبير تقتصر على عدد قليل من العناوين ذات الدافع السياسي الواضح والتي انهمرت على البلدان العربية طيلة الخمسينات. فلم تكن هناك حركة علمية بالمعنى الاصطلاحي. وكانت الحركة الفكرية ذات طابع سياسي وحزبي شديد التحيز وبعيد عن الموضوعية والتجرّد.

ولو كان العلامة السيد الشهيد متمكناً من الاستفادة مباشرة من إنتاج الحركة العلمية في أروبا لكان عمله في ما يخص نفقد المذاهب الرائجة أكثر عطاءا ونفوذا.

وعلاوة على هذا فإن العراق قد كان في ذلك الزمن مسرحا لصراع مرير بين تيّارات حزبية كثيرة كانت تستمد عمقها الفكري من جذور أروبية غربية أو شرقية إضافة إلى بعض التيّارات ذات الفكر الهجين التي جمعت بين القومية العربية والاشتراكية الاروبية.

وقد كان التيّار الشيوعي الماركسي أشدّ تلك التيّارات تأثيراً وقوة على الإطلاق. ومن المعروف أنّ الحزب الشيوعي العراقي كان يفتخر بأنّه قد استطاع احتواء عامّة الشباب المثقّف العراقي وخاصّة الشيعة منه. وكان هذا الحزب يحمل الفكر الماركسي اللينيني الستاليني، ويروجّ تعاليمه بين الشباب كأنّها تعاليم دينية مقدسة.

غرض المؤلف من الكتاب

من الواضح أن تأليف كتاب (اقتصادنا) بعد سنوات من صدور (فلسفتنا) كان بغرض التصدّي لذلك الزحف الإلحادي الذي توشّح بلباس العلم ورفع شعارات التقدم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية، مهاجما كل الأديان وداعيا إلى تمشيها ثم القضاء عليها. فكان غرض كتاب (اقتصادنا) مزدوجا: فمن جهة، كان يريد أن يبين كذب ادّعاءات العلمية والتقدّمية والعدالة الاجتماعية عند الماركسيين، ومن جهة ثانية كان يريد أن يقدّم دليلا واضحا على إمكان تقديم الإسلام لبديل يتفوق، ليس فقط على الإطروحة الماركسية، بل أيضا على الاطروحة الرأسمالية ويتجاوز سلبياتها جميعاً.

وقد نجح المؤلف (ر) في مسعاه هذا نجاحا خلّد اسمه في تاريخ الفكر الإسلامي. فرغم شحّة المصادر التي أشرنا إليها فقد استطاع أن يوضح أهمّ نقاط الضعف والمغالطات التي كان يحتويها النظام الفكري الماركسي. كما أنّه استطاع إنجاز عملية تركيبية رائعة وصل بها إلى بيان خصائص الاقتصاد الإسلامي انطلاقا من الفروع الفقهية ونصوصها الاستدلالية، محقّقا في ذلك سبقا سيحفظه له التاريخ رغم الغرض الجدلي الواضح منه.

وليس هناك من شكّ في أن الشهيد الصدر لم يكن يدعو إلى تطبيق تلك القوانين الاقتصادية الإسلامية العامة التي حصل عليها انطلاقا من فروع فقهية لمذاهب إسلامية مختلفة وفي أزمنة متباعدة. ومن الظلم أن ننسب هذا النظام المركّب إليه ـ وهو مرجع التقليد الذي له فتاواه الخاصّة في كلّ مورد من تلك الموارد ـ وإنّما الإنصاف يستوجب أن نعطي الأهميّة المناسبة لما قرره السيد الشهيد نفسه من الطابع الجدلي لهذا الطرح، فلا نحمله مسؤولية لم يدّعها صاحبها أبداً مثل انعدام الطابع العملي او الفائدة الإجرائية…

وحيث أن المؤلف (ر) كان بعيد النظر وكان يعرف أن الماركسية ـ وإن كانت موجة عارمة وقوية في زمانه ـ سيكون مآلها الاندثار لكثرة تناقضاتها الداخلية، فقد ضمّن كتابه فصلا قصيرا عظيم الأهميّة رغم اختصاره، فتحدّث فيه عن الرأسمالية بما يكفي للتمكّن من مقارنتها بالطرح الإسلامي الذي كان يعتز تقديمه.

وقد كان السيّد الشهيد ـ خلال هذا الاختصار ـ مراعيا للاعتبارات الشرعية التي تقتضي عدم تضييع وقت الطالب في بحوث غير ملحّة مثل الغوص في أعماق الفكر الرأسمالي وتحليل ونقد قوانينه. فقد عرفنا أنّ الرأسمالية في ذلك الوقت لم تكن مورد ابتلاء شديد، او هكذا كان يسود الاعتقاد على الأقلّ. ولا نظنّ أبداً أنّ العلامة الشهيد كان يتوقّع من ذلك الفصل القصير الذي كتبه حول الرأسمالية أن يجيب عن تساؤلات لن تدور بخلد المسلمين إلا بعد سقوط الماركسية وابتلاءهم بالهيمنة الرأسمالية ولم يحدث ذلك إلا بعد أكثر من عشرين سنة من ظهور الكتاب. فإذا حكمنا اليوم بتقصير أو قصور ما فالشهيد الصدر بريء منه تماما. والحوزة العلمية ما تزال تشهد له بالنبوغ والتفوق والدقة العلمية في كل المجالات التي خاضها بغرض البحث المعمق فيها.

دعوة إلى الإنصاف

بناءا على ما سبق ليس هناك أي داع للتعجب من اكتفاء الشهيد بأربعين صفحة لعرض ونقد أهم الجوانب التي رآها ملحة في النظام الرأسمالي. وهذا الفصل القصير كان كافيا لما رسمه المؤلف لكتابه من أهداف. ولكنّ تطور الأوضاع العالمية ـ بداية من أواسط الثمانينات ـ نحو انفراد النظام الرأسمالي بالهيمنة على اقتصادات العالم بأسره وسقوط المنظومة الاوربية الشرقية ذلك السقوط المشهود الذي تابعه ملايين النظّاراه على شاشات التلفزيون، قد حمل معه موجة من الصلف والاستكبار الرأسمالي شبيهة بموجة الصلف والاستكبار الماركسي التي عقبت الحرب العالمية الثانية وخروج الاشتراكية منها معزّزة مكرّمة…

أفبعد كلّ هذه التطورات يجوز لنا أن نسمح لأنفسنا باختزال أهمّ القضايا الاقتصادية للبشر، وهي مشروعية الفكر الرأسمالي، في نقد بعض الأسس النظرية والمذهبية بشكل مختصر عابر؟!

لقد عرفنا أنّ الشهيد الصدر بريء من كلّ هذا، ونحن لا نرى مسؤولية استمرار هذا الوضع بعهدة مراجع التقليد ـ أدام الله وجوداتهم المباركة ـ ولا حتى بعهدة العلماء المتفرغين لشؤون الحكم ولمعالجة مشاكل الناس اليومية. فكلّ هؤلاء مشغلون بالأهمّ الأوحب عن المهمّ الواجب ولهم علينا حق الدّعاء بالتوفيق والسداد مهما كانت نتائج أعمالهم. والإنصاف أن مسؤولية التصدي لعمل نظري مثل نقد الفكر الاقتصادي المهيمن وبيان نقاط القوّة والضعف فيه هي ملقاة على عاتق أهل الاختصاص ممن توفّرت لهم فرص الاطّلاع على اللغات الأجنبية المهمّة وإمكانية معرفة الأفكار الرائجة قبل أن تمرّ بغربال دور النشر ثمّ بمصفاة المترجمين…

فأيّ حركة فكرية يحكم عليها بالمرور من غربال تجاري هو تزكية الناشرين، ثم من مصفاة الذوق والتحزب السياسي الذي يوجّه عمل المترجم في كثير من الأحيان لن تصل إلى قرّاء يجهلون لغاتها إلا مشوّهة مقطّعة الأطراف. فلا نستغرب إذن أن يقضي بعض العلماء الافذاذ ردحا من عمرهم في دراسة بعض الأفكار الغربية مع اضطرارهم للاكتفاء ببعض التّرجمات الضعيفة أو الموجّهة بحسب مقتضات الغربال والمصفاة، فلنا عندئذ أن نتصوّر طبيعة النقد الذي سيتمكّنون من إنجازه.

وأبرز مثال على ما نقول هو محالة العلامة الفذّ الشهيد المطهري لاكتناه النظام الرأسمالي انطلاقا من بعض الترجمات المتوفرة لديه. فقد أجهد العلامة الشهيد نفسه في الرد على كثير من الآراء الضعيفة والحال أنّ هذه الردود كانت قد دخلت مهملات تاريخ الفكر الاقتصادي منذ عهد بعيد، وبعضها قد زال بفعل عمليّات النقد المضادّ.

وهكذا فإنّ متابعة علم مهيمن كالاقتصاد السياسي لا يمكن أن تتمّ من خلال غربال ومصفاة قد تضاف إليهما موانع إدارية أو مذهبية لا يمكن تجاوزها…

من خلال هذه الكلمات كنّا نريد إتمام الحجّة على كلّ من يأنس في نفسه القدرة على رفع حالة النقص العام التي تعاني منها المكتبات الحوزوية في هذا المجال الخطير، في نفس الوقت الذي ندفع به تهمة أيّ تقصير قد يتجرؤ بعضهم على توجيهها إلى أمثال الشهيد الصدر والشهيد المطهري (ر). ونحن نسير في دفع هذا الاتّهام أكثر من هذا المقدار فنؤكّد  أنّه حتّى لو اقتُصر على فهم أعمال هذين العالمين الكبيرين حقّ فهمهما لأمكن تجنّب كثير من الويلات التي سقطت فيها الأمة الإسلامية  نتيجة لسوء تقدير كثير من أهل السياسة لخطورة المدّ الرأسمالي الجديد وعدم إلمامهم بالطبيعة الطفيلية للنّظام الرأسمالي.

استدراكات مهمّة

في هذه الفصول الختامية سنحاول الاستفادة من مجموع البحوث الماضية في هذا الكتاب وبعض البحوث والمقدّماتية التي تضمّنتها المرحلة الأولى من أجل استدراك نقاط بالغة الأهمية كان غيابها عن الأذهان نتيجة طبيعة للوضع العام الذي ذكرناه أعلاه.

وفي هذا الكتاب سنكتفي بالاستدراكات ذات الأولية الأولى بحسب ما تسمح لنا به هذه المرحلة من تقدّم البحث، بينما سنضمّن الكتاب المقبل جميع الاستداركات المهمّة الأخرى بحسب تقدّم البحوث وتدرّجها.

وأوّل ما نبدأ به هذه الاستدراكات هو رفع بعض الالتباسات الخطيرة الرائجة بين كثير من طلاب الحوزات العلمية والجامعات ممن اكتفى بمطالعة فصل (مع الرأسمالية) من كتاب (اقتصادنا) للخروج بفكرة عامّة عن هذا النظام الاقتصادي المهيمن، وهي التباسات عمّقها ورسخها انعدام الشروح والتعليقات على هذا المتن المختصر طيلة هذه العقود التي تلت نشره.

 

المبحث الثاني:

أهمية الالتباسات النّاشئة عن بعض عبارات السيد الشهيد

أهمّ مواطن الالتباس

يمكن حصر الالتباس الهامّة ذات الآثار العميقة في توجيه ذهنيات الباحثين المسلمين في أمور الاقتصاد من غير أهل الاختصاص، والذين انطلقوا في عملهم هذا من المنطلقات المذكورة في المبحث الماضي، في مسألتين مهمتين:

ـ الأولى: التفكيك بين الجوانب المذهبية والجوانب العلمية في البحث الاقتصادي.

ـ الثانية: ما قد فُهم من كلام الشهيد الصدر من إمكانية الاكتفاء ببحث الجوانب المذهبية في الاقتصاد الرأسمالي دون الجوانب العلمية منه.

مسألة التفكيك

لم يطرح الشهيد مسألة التفكيك بين الظواهر المذهبية والظواهر العلمية في الاقتصاد الرأسمالي بالشكل الذي قد نجده عند الكثير من الباحثين في تاريخ الفكر الاقتصادي. فعلى سبيل المثال نجد أحد هؤلاء وهو جوزيف لاجوجي يتبنّى مثل هذا التفكيك، ولكن بمضمون مغاير تماما عمّا يتصوّره الشهيد الصدر: فعندما يتحدّث هذا الكاتب الفرنسي عن الجوانب المذهبية والجوانب غير المذهبية إنّما يقصد التفريق بين المبادئ (الاصول الموضوعة) من جهة، والتحليل الاقتصادي من جهة أخرى. وبعبارة أكثر فنّية فإنّه يفرّق بين المرحلة التركيبية للعلم والمرحلة التحليلية فيه. ولا ينتج عن هذا التفريق أيّة مقابلة بين جوانب مذهبية وجوانب عملية بالمعنى الذي قد فهم من كلام صاحب (اقتصادنا) (ر).

الاكتفاء ببحث الجوانب المذهبية

لقد كان كل كتاب (اقتصادنا) بحثا مذهبيا ـ بتعريف مؤلفه ـ ولم يكن الفصل الخاص بالرأسمالية استثناءا رغم أنّ المؤلف قد خرج عن هذه القاعدة في بحث الماركسية نظر لاعتقاده بانفراد المذهب الماركسي بالارتباط بين الجوانب المذهبية والجوانب العلمية.

ومما أورثه مثل هذا الاقتصار على الجوانب المذهبية في الرأسمالية في أذهان كثير من القرّاء تسليمهم المتسرع بكثير من القواعد الرأسمالية التي اعتبروها علمية وملزمة للجميع. وقد غاب عنهم بناءها جميعا على مسلّمات مذهبية كما سنرى.

وأخطر ما في هذا الالتباس هو مجموعة النتائج التي كثيرا ما تبنى عليه والتي يمكن تلخيصها في حالة الضياع والحيرة التامّتين التي تميزّ كلّ من كانت هذه الاعتبارات تشكّل جزءا من خلفيته الثقافية، ثمّ حملته الظروف إلى مواقع القرار في السياسات الاقتصادية (سواءا كان هذا من موقع السلطة أو من موقع المعارضة). وهي الظاهرة التي تكرّرت في أنحاء شتّى من العالم الإسلامي.

خطورة وهم العلمية

إنّ الاعتقاد بعلمية أصل مذهبي ما، إضافة إلى الاعتقاد بأنّ العلمية مساوقة للصدق والاطّراد، لهو من أخطر ما يمكن أن يصيب المحقق أو الباحث في أيّ علم من العلوم. وتزداد هذه الخطورة كلّما كان هذا العلم ذا أهميّة اجتماعية وسياسية. وهذا هو حال العلوم الاقتصادية.

القول بالتساوق: عائق علی معرفي

الحقيقة أن الاعتقاد بتساوق العلمية مع الصدق والاطّراد يشكّل أحد العوائق العمعرفية التي لا بدّ من تحطيمها حتى يصل طلاب الحقيقة إلى مبتغاهم. وفي غير هذه الحالة، فإنّ الجهل المركّب وحده سيكون نصيبهم.

وإنّ هذا الذي ذكرناه بالنسبة للعالم الإسلامي ليس خصوصية له. ولن نفشي سرّا إذا ما قلنا اليوم أنّ وصفات صندوق النقد الدولي التي اشتهرت باسم التعديل أو الإصلاح الاقتصادي في كثير من دول العالم الثالث هي إحدى مظاهر سوء الإستفادة من هذا الالتباس الرائج بين معظم سياسيي هذه الدّول. فرغم فشل أكثر من عشرين تجربة لهذه الوصفات في العقدين الأخيرين، ورغم أنّ كثيرا من هذه التجارب قد أدّت لا إلى حلّ المشاكل الاقتصادية بالشكل المطلوب بل إلى تسبيب ثورات اجتماعية وسياسية لم تنتج سوى الفوضى والدّمار، وفي أفضل حالاتها حملت إلى سدّة الحكم فريقا سياسيا جديدا، بينما بقيت دار لقمان على حالها في المجال الاقتصادي، فلا يبدو أنّ هناك ميلا للاتّعاظ بهذه الدّروس بين أكثر أهل الحلّ والعقد في السيّاسات الاقتصادية!

دواني بالتي كانت هي الدّاء!؟

رغم كلّ تلك المؤشرات السيّئة فإنّ كثيرا من ساسة العالم الثالث بقوا على اعتقادهم بصلاحية تلك الوصفات معتقدين أنّها هي الحلّ العلمي الوحيد الذي يرتئيه علم الاقتصاد!! فما زلنا اليوم نسمع باستمرار تداول هذه الوصفات من بلد إلى بلد حتّى بعد أن أحدث تطبيقها في وقت ليس ببعيد مآسي اجتماعية واضحة. وكأنّ سياسي العالم الثالث اليوم قد استقرّ رأيهم على ترك مقولات الحكماء والأنبياء المذكّورين دوما بأنّ (المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين) وفضّلوا التأسّي ببيت أبي نواس:

دع عنك لومي فإنّ اللوم إغراء             وداوني بالتي كانت هي الدّاء

ولا ينبغي التعجّب من مثل هذا الإصرار، ففي كثير من بلدان العالم الثالث قد تحوّلت الدّاوئر العلمية الاقتصادية إلى لعبة في يد النويظمة القارونية التي تسيّر اختياراتها من وراء السّتار. فحتى لو فرضنا أنّ السلطة السياسية لم تقع بعد تحت هيمنة المقولات الاقتصادية، ولم تتحول هي بنفسها إلى أداة لأغراض (المافيات) القارونية فإنّ سقوط تلك الدوائر العلمية يجعل هذه السلطة السياسية منفّذة لتلك الأغراض دون أن تعي أبعادها بالضرورة.

ونظرا لخطورة هذا الوضع، فقد رأينا أن نبدأ البحث حول الالتباسات المذكورة بتقديم بعض النقوض الابتدائية على أهمّ ما يحصل من تلك الالتباسات وهو تثبيت الوهم السّائد بين كثير من الأكاديميين حول التّساوق بين العلمية والاطّراد.

 

المبحث الثالث:

مقدمات توضيحية حول الشبهات المحيطة بقهم وتقويم الرأسمالية

تقديم البحث

لقد تحصل من المبحث الماضي أن وهم التّساوق بين العلمية والاطراد في القوانين الاقتصادية قد شاع بين الكثيرين. وقد شكّل هذا الشيوع فضاءا ساهم في تعميق بعض الالتباسات الحاصلة من مطالعة بعض عبارات العلامة الصدر.

ولهذا فإنّ تقديم بعض النقوض الأولية على هذا الوهم الخطير، ولو بضرب أمثلة لأهم آثاره، سوف يمكّننا من دخول الفصلين المقبلين الخاصّين بعرض الشبهات وتوضيحات وردّها، بروح أكثر إنصافا وبانتباه أشدّ.

فالمطلوب في هذه البحوث ليس إلا إيصال أبحاث السيد الشهيد إلى أغراضها الحقيقة بعد أن منعت يد المنون صاحبها من إتمام عمله. ونحن وإن كنّا قد نعرّف البعض من الأوهام السائدة بكونها ناشئة عن بعض عباراته فلا يجوز أن يغيب عن أذهاننا أنّ الجوّ الأكاديمي العام هو الذي أوجد هذا الفهم وجعله بهذا الثقل والتّأثير. وفي هذا المبحث سوف يتضح لنا أنّ ما يفهمه الطالب الحوزوي من عبارات السيد الشهيد هو من أثر إشراط هذه الحالة الأكاديمية المهيمنة، وأكثر دليل على ما نقول وجود بعض التنبيهات الخاطفة من نفس السيد الشهيد في مواطن كثيرة سواءا في (اقتصادنا) او في بعض المقالات والكرّاسات الأخرى من جهة، ورسوخ قدم وهم المساوقة بين العلمية والاطّراد في شتّى الفضاءات العلمية والسياسية التي لا تعرف فكر هذا العلامة الكبير أو آراءه في الموضوع من جهة ثانية. فالقضية إذا عامّة وأكاديمية قبل أن تكون خاصة حوزوية ومتعلّقة بفصل من كتاب (اقتصادنا). وفي الأمثلة القادمة دليل على المدّعى.

مثال لخضوع القوانين العلمية لتحكّم المجموعات القارونية

في إحدى بلدان العالم الإسلامي الكبيرة قامت السلطة السياسية بإجراء برنامج اقتصادي كان في معظم بنوده تلبية لرغبات صندوق النقد الدولي. وطيلة سنوات تطبيق البرنامج كان كلّ من الدولة والشعب ينتظرون الكثير منه. ولكن أتت النتائج مفجعة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي.

فشل ذريع عام وأرباح خيالية خاصّة على المستوى الاقتصادي تضاعفت الأسعار خمس مرات في غضون بضع سنوات هي مدة البرنامج، بينما لم تتضاعف أجور الموظفين والعمّال إلا مرتين. ورغم أنّ الاقتصاد قد حقّق نسبة نموّ تفوق نسبة نموّ السكّان، فإن الخلل في سوق التشغيل زاد عمقا، فازدادت نسبة العاطلين بشكل لم يسبق له مثيل.

أمّا على المستوى الاجتماعي فقد ظهرت طبقة من أصحاب المليارات الجدد الذين نشؤوا فجأة بفضل استغلال انفتاح السوق للتوريد. فكانوا ـ مثلا ـ يأخذون القروض الضخمة من البنوك بعنوان استثمارات صناعية أو فلاحية ولا يوظّفهونها في المحلّ بل يديرونها في صفقات تجارية لا تدرّ شيئا على المجتمع، بينما تحقّق لهم أرباحا طائلة. وعلاوة على كل هذا فإنّهم يتهرّبون من الضرائب ولا يعلنون إلا عن نزر يسير من مكاسبهم…

وعدد هؤلاء المليارديرات لا يصل قطعا إلى نسبة واحد من مائة ألف من السّكان، كما أنّ المداخيل التي يعلنون عنها لا تتجاوز واحد بالمائة من مداخيلهم الحقيقية. وقد اكتُشف في إحدى التحقيقات الجبائية أنذ أحد هؤلاء الذين لم يكن يقلّ دخلهم عن عشر مليارات وحدة نقدية، بقي يساوم إدارة الضرائب على دفع قيمة خمسين ألف وحدة نقدية، مطالبا دفعها على عشر أقساط!! إلى أن اكتُشف أمره بفعل الصدقة.

اللعب بالأرقام

في إحدى الجلسات التي اجتمع فيها معارضون لهذه التجربة مع أنصار لها قدّم أحد هؤلاء الأنصار أرقاما تدعم قوله في أنّ التجربة ناجحة وأنّ إيقافها كان خطأ. ويبدو أن الحاضرين لم يلتفتوا إلى المغالطات التي تمضمنتها هذه الأرقام والتي نقدّم منها نموذجا واحدا فيما يلي:

قال (نصير التعديل الاقتصادي) أنّ هذا البرنامج قد حقّق تقدما على مستوى تحسين وضع العدالة الاجتماعية في البلد بدليل أنّ نسبة مجموع دخل الشريحة العليا تضمّ 10% من السّكان الأعلى دخلا إلى مجموع دخل الشريحة الدنيا التي تضم 20% من السكان الأقل دخلا قد سارت في سير تناقضي!

وإذا قبلنا صحّة هذه الأرقام طبقا لاعتقادنا بحسن نية المتكلّم فإنّ تركبيبتها تخفي مغالطتين:

ـ الأولى: أنّ الشريحة الأضعف دخلا ليس لها ما تخفيه عن أعين إدارة الضرائب، ولهذا فإن مداخيلها المعلنة عادة ما تكون مطابقة للواقع، في حين أنّ الشريحة الأعلى دخلا أخذت تتفنّن في وسائل التهرّب من الضرائب وبالتالي في طرق إخفاء دخلها الحقيقي، فلا تمثّل المداخيل المعلنة إلا جزءا يسيرا منها.

ـ الثانية: إنّ أخذ شريحة 10% العليا ـ في حدّ ذاته ـ هو نوع من التعمية على حقيقة ما يجري على مستوى الطبقات العليا من المجتمع وهو انتقال الثروات من الأثرياء العاديين إلى الأثرياء الجدد المنتفعين من الانفتاح الاقتصادي والقادرين على ربط علاقات مصلحية مع الجهاز الإداري. وهم الذين اشتهرت تسميتهم بـ(المافيا) في جميع أنحاء العالم.

مثال للانقلاب في مفهوم الرأسمالية الوطنية

المافيا الروسية: نموذج آخر للنويظمة القارونية اللاقانونية

تشك المافيا من التقاء مصالح تجمع بين تجار كبار وموظفين سامين في الإدارة. وقبل سقوط الاتّحاد السوفياتي كانت المافيا الصقلية في إيطاليا أشهر مصداق لهذه النويظمة القارونية الانتهازية التي تعمد إلى توظيف الأموال في التجارات الممنوعة مثل المخدرات.

وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية الأوربية وصلت حملة الخوصصة ـ وهي التفويت في ممتلكات القطاع العام الصالح القطاع الخاص ـ إلى أوجها في هذه البلدان التي شهدت منذ بداية التسعينات حالة انفتاح شبيهة بحالات التعديل والإصلاح الاقتصادي التي سبق ذكرها، خاصّة وأنّ هذا الانفتاح كان شرطا لتدفّق الإعلانات من صندوق النقد الدولي.

ولكنّ الذي حدث هو تحول كثير من رجال السياسة وكبار ضبّاط المخابرات وأقربائهم إلى تجّار يستأثرون بصفوة ما تعرضه الدولة من ممتلكاتها للبيع بشروط ميسرة غير عقلائية أحيانا. ولحماية مصالحهم الجديدة شكّل هؤلاء القوارين الجدد شبكات على نمط شبكات المافيا.

وأشهر هذه المافيات على الإطلاق المافيا الروسية التي استطاعت تهريب أموال من روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي بمقدار يبلغ أضعاف القروض التي لم تنجح حكومة هذا البلد في جمعها إلا بعد تنازلات ومساومات امتدّت سنوات… وقد أحصت مؤسسة فرنسية معتبرة مجموع الأموال التي تمتلكها المافيا الروسية في فرنسا وحدها، فقالت أنّها تفوق الأربعين مليار فرنك فرنسي إلى حد شهر جوان 1998.

دوافع الانقلاب في مفهوم الرأسمالية الوطنية

إذا عدنا إلى مثالنا الأول فمن الواضح أنّ عدم تفكيك الشريحة العليا إلى شُريحات تكون أعلاها لا تضمّ إلا الألف شخص الأكثر ثراءا في البلد، فإنّ حقيقة انتقال الثروات إلى أيدي مافيا قارونية جديدة ستبقى طيّ الخفاء. وحيث أنّ مثل هؤلاء الأثرياء الجدد يحسّون دائما بالخوف من انتقام الشعب أو من تغيّر الأوضاع السياسية لغير صالحهم، فإنّهم أسرع الناس إلى تهريب أموالهم إلى خارج البلاد، وبالتالي فهم أشدّ الفئات خطرا على الاقتصاد الوطني خلافا لما يُعرف عن الرأسمالية الوطنية من كونها عمدة تقوية الاستثمار والدافع الأساسي لحركة النمو الاقتصادي.

ومن هنا فإنّ حالات الانتقال من الاقتصاد الميسر إلى الاقتصاد الحرّ قد تكون ظرفا مناسبا لتشكل النويظات القارونية في إطار غير قانوني، فرغم محاولتها للاكتساء ببرقع الرأسمالية الوطينة في الظاهر فإنّها تختار العمل خارج الشرعية القانونية وذلك في شكل مافيات لا تختلف في شيء من المافيات التقليدية التي عرفتها الرأسمالية الناضجة منذ عهد بعيد.

وهكذا فإن الانقلاب الذي تحدثنا عنه مفهومي وليس واقعيا. وهذا مما يوضّح أحد أسباب تعطيل القوانين العلمية التي أشرنا إليها، فالموضوع منتف والكلام عن التعطيل ـ في الحقيقة ـ مجازي.

موجّهات البحث في علمية القوانين الاقتصادية واطرادها

كانت هذه أمثلة بسيطة توضّح عمق الكارثة التي تحلّ بأيّ اقتصاد بريد إجراء إصلاح اقتصادي دون الاحتياط من انقلاب جميع الإيجابيات الافتراضية في هذا البرنامج إلى سلبيات واقعية مثل انقلاب مقولة: (الرأسمالية الوطنية هي محرك النمو) إلى المقولة المضادة: (المافيا القارونية هي سوس الخراب في الاقتصاد).

وفي ظل قابلية بعض المقولات العلمية إلى الانقلاب إلى ضدّها بمثل هذا الشكل المفجع هل يجوز الاستمارر في توهم التساوق بين العلمية والصحة والاطراد؟

لا يبدو أنّ عاقلا سيتردّد في الإجابة عن هذا السؤال ولكن يبقى علينا إثبات أنّ قاعدة الانقلاب ليستح حالة شاذّة من جهة، وأنّ مجموع قوانين الاقتصاد الرأسمالي هي عرضة لنوع من أنواع التخخصيص أو الورود أو الحكومة أو النسخ (بمصطلحنا الفقهي). وبالتالي فإنّ تناقلها مثل نصص مقدسة يرتّلها بعض البسطاء هنا وهناك بدفع أو إيحاء من قاروونات العصر ليس أبدا دليلا على صحتها واطرادها.

وهذا الموجهات ستكون بمثابة الخيط الموصل بين الأبحاث المقبلة التي سنقتصر فيها على عرض ونقد البيان الذي تضمنه فصل (مع الرأسمالية) للشهيد الصدر وذلك للأسباب التي سبق أن ذكرناهنا طي بحوث هذا الفصل.

 

الفصل الثاني:

عرض أهم مواطن الالتباس ورفع شبهاتها

 

المبحث الاول:

شبهة التفكيك بين العلم والمذهب

الثقل العلمعرفي للشبهة

أشرنا في الفصل السابق إلى أنّ أحد مواطن الالتباس التي يمكن أن تحصل من مطالعة فصل (مع الرأسمالية) في كتاب (اقتصادنا) هو القول بالتّفكيك بين الجوانب العلمية والجوانب المذهبية في الاقتصاد الرأسمالي.

وفي موضع لاحق من نفس الفصل أشرنا إلى شبهة قد تبدو أهمّ وأعظم خطرا من الأولى وهي الاعتقاد بعلمية وصحّة واطّراد قوانين الاقتصاد الرأسمالي، وما نشأ عن هذا الاعتقاد من تبنٍّ عجول لبرامج اقتصادية أُعدت لغير الزمان والمكان المطلوبين.

والذي نريد أن نشير إليه هنا هو أنّ للشّبهة الأولى دورا فعّالا في ترسيخ الثانية وتقويتها نظرا لثقل شحنتها العلمرفية لدى كل من طرح على نفسه التعامل بحذر مع الوصفات الرأسمالية معتقدا أنّ المقدار الضروري من الاحتياط لا يتجاوز الاكتفاء بقبول الجوانب العلمية، ووضع الجوانب المذهبية جانبا.

إنّ قولنا بأنّ الشبهة الأولى تشكّل عائقا علمرفيا أمام معرفة الحقيقة ليس من المبالغة في شيء، فبمجرد أن يقوم الباحث بفرز لما يراه علميّا فإنّه يتخلّى بشكل لا إرادي عن الحذر في تعامله مع المقولات التي قد قضي وقتا في تحصيلها، وأجهد نفسه في فرزها عن غيرها… والمسألة نفسية بدرجة أولى ولا دليل عليها إلا الاستقراء…

ولا ثمرة من اثبات هذه القضية سوى إبراز أهميّة بحثنا وضرورته لمن لم يشعر بهذا تحت ضغط إلحاحات الواقع الخارجي.

وفي هذا الفصل سنقدّم شواهد تبرز منشأ الشبهتين والالتباسات النّاشئة عنهما، وذلك بسرد مقاطع من نفس الكتاب المذكور. وسنحاول الاكتفاء بالحد الأدنى من التعليقات لبيان بعض اللّوازم الخفيّة للشّواهد، بينما سيكون رفع الالتباسات بشكل استدلالي موضوعا لمباحث لا حقة.

التفكيك بين العلم والمذهب في (اقتصادنا)

يقول العلامة الصدر:

(… كذلك ينقسم الاقتصاد الرأسمالي إلى هذين القسمين (أي علم ومذهب)، ففيه الجانب العلمي تحاول الرأسمالية فيه أن تفسّر مجرى الحياة الاقتصادية وأحداثها تفسيرا موضوعيا قائما على أساس الاستقرار والتحليل. وفيه أيضا الجانب المذهبي الذي تدعو الرأسمالية إلى تطبيقه وتتبنّى الدعوة إليه.

فقد اختلط هذان الجانبان او الوجهان للاقتصاد الرأسمالي في كثير من البحوث والأفكار مع أنّها وجهان مختلفان، ولكلّ منهما طبيعته الخاصة وأسسه ومقاييسه. فإذا حاولنا أن نسبغ على أحد الوجهين الطابع المميز للآخر فنعتبر القوانين العلمية مذهبا خالصا أو نضفي الطابع العلمي على المذهب فسوف نقع في خطا كبير كما سنرى. والرأسمالية وإن اتّفقت مع الماركسية في تشعبّها إلى جانب علمي وجانب مذهبي، ولكن العلاقة بين علم الاقتصاد الرأسمالي والمذهب الرأسمالي في الاقتصاد تختلف اختلافا جوهريا عن العلاقة بين الجانب العلمي من الماركسية والجانب المذهي منها…).

(الشهيد الصدر: اقتصادنا. ص253).

في هذه الفقرة قدّم لنا المؤلف (ر) ما أسماه بالجانب العلمي من الاقتصاد الرأسمالي بكونه الجانب الذي يحاول تفسير مجريات الحياة الاقتصادية بموضوعية، وذلك باعتماد الاستقراء والتحليل. ولا شكّ في أنّ المراد من مصطلح التحليل هو مفهومه الاصطلاحي العلمنهجي، وذلك بقرينة ذكره مباشرة عقيب مصطلح الاستقراء.

وبذلك يكون مقصود المؤلف من الاستقراء والتحليل هو التمثيل لمجموع المناهج المعتبرة والمتعارفة في تحصيل الحقائق العلمية.

والذي يجب الالتفات إليه هو أنّ الشهيد الصدر لم يغفل عن ضرورة الموضوعية، فجعلها شرطا من شروط علمية القانون أو المقولة الاقتصادية. ولن نجانب الصّواب إذا قلنا أنّ أوّل الكلام عند الحديث عن الرأسمالية إنّما هو موضوعية تحاليلها بصفة عامّة.

وقد رأينا نماذج من هذه المناقشات في الموضوعية طيّ أبواب هذا الكتاب، وسيكون الكتاب اللاحق أكثر بيانا وإبرازا للإشكالات الكثيرة والعميقة الواردة على موضوعية المقولات الاقتصادية الرأسمالية وغير الرأسمالية بوجه أعمّ.

النسبة بين العلم والمذهب

إنّ ظاهر كلام الشهيد الصدر قد يوحي بأنّ هناك بين البحث العلمي والبحث المذهبي نوعا من أنواع التقابل المعروفة في المنطق. ومثل هذا الفهم لعبارات المؤلف هو الذي يؤدي إلى انعقاد الشبهة المشار إليها والالتباسات الناشئة عنها.

ولهذا فقد رأينا من الضروري تعريف هذين المفهومين بما يستوجبه المقام من الدّقة مع محاولة توضيح مقصود السيد الشهيد من المصطلحين. وقد عرفنا في (المرصاد) ما يتقوّم به العلم من غرض ومنهج ومقولات، ونحن ـ في الحقيقة ـ قد تبنّينا التعريف الوظيفي للعلم. وهناك طرق كثيرة لتعريفه وجميعها في نظرنا تقرّب من جهة وتبعّد من جهة أخرى، وهي ـ بأيّ حال من الأحوال ـ لا تفيدنا في بحثنا هذا شيئا.

وتبعا لهذا التعريف فإنّ العلم لا يتشكّل من مجموع المقولات بل يضمّ أيضا المنهج والغرض. وقد عرفنا في (المرصاد) كيف أنّ تعددّ المناهج من أسباب تعدّد المباني العلمية.

والحقيقة أنّ تعدد المناهج ليس هو السبب الوحيد لتعدد المباني، فإنّ تعدد صياغات الغرض بنفسه تؤدّي إلى تعدد آخر للمباني قد يتقاطع مع التعدد الاوّل الحاصل تبعا لتعدد المناهج وقد يكون موازيا له. وتفصيل الكلام في هذا الموضوع موكول إلى محلّه من علم المناهج ولنا فيه رأي متواضع ضمناه كتاب (شرح كلّيات علم المناهج).

تعريف المبنى العلمي

هكذا فإنّه بإمكاننا تعريف (المبنى العلمي) بأنّه قسم من العلم متميّز إمّا بمنهج خاص أو بصياغة لغرض العلم.

ومن البديهي أنّ الموقف من العرف الاقتصادي يتدخّل في صياغة غرض العلم. وقد رأينا نموذجا من هذا التدخّل في (المرصاد) على مستوى الفرق بين صياغتي ساي وسميث ـ مثلا ـ رغم كونهما تنتميان إلى نفس المدرسة كما سيأتي تفصيله في الكتاب اللاحق.

وبناءا على هذا فإنّ التعريف للمبنى لا يتعارض مع ما سبق ذكره في (المرصاد) في باب أقسام المباني.

المذهب والمبنى

الذي نريد أن نؤكّد عليه هنا هو أنّ ما تعارف عليه المحقّقون في العلوم الاجتماعية من مفهوم المذهب هو الذي نشير إليه بمصطلح المبنى.

وفي الحقيقة فإنّ في استعمال مصطلح (مذهب) للإشارة إلى مفهوم المبنى إشكالا مستوردا ناشئا عن ترجمة كلمة (Doctrino) التي تعني في لغتها الأصلية (المعتقد) بوجه عام وتستعمل في الاصطلاح العلمي للإشارة إلى المبنى العلمي، فيقال ـ مثلا ـ مذهب ريكاردو ولا يقال مبنى ريكاردو إلا نادرا. وهم لا يقصدون من مصطلح المذهب ما يتبادر إلى ذهن الطالب المتشرعّ من معاني أخرى للفظ (المذهب)، وهي تلك المعاني بالذات التي يريد الشهيد الصدر الإشارة إليها عند الحديث عن الجوانب المذهبية في مقابل الجوانب العلمية.

وتتضح هذه الصورة عندما نرى كتّاب ومؤرخي الفكر الاقتصادي مثلا يؤكّدون أنّهم في مثل هذه الكتب التاريخية لا يتعرضون إلى الجوانب التحليلية بل إلى الجوانب المذهبية من أعمال المؤلفين الاقتصاديين كما نجده حرفيا عند لاجوجي في مختصره الذي ذكرناه. وهم يقصدون بالذات النواحي المبنائية الكلّية لأنّ المجال عادة ما يضيق عن التطرّق للمسائل التحليلية الفرعية.

توضيح اصطلاح الشهيد الصدر

أمّا ما يقصده الشهيد الصدر من اصطلاح المذهب الرأسمالي أو المذهب الاشتراكي أو غيره من المذاهب فهو مجموع المعتقدات التي تجعل من هذه الأنظمة مذهبا فكريا بالمعنى المتعارف بين غير أهل الاختصاص.

عزل المذهب عن القوانين العلمية في الرأسمالية

اعتقد الشهيد الصدر أنّ المذهب الرأسمالي تأسّس على أسس ثلاث هي: حرية الملكية، وحريّة الاستغلال، وحرية الاستهلاك. وبعد أن أوضح هذه الحريّات الثلاث قدّم تبريرا لعزلها عن محيطها العلمي قائلا:

(… في فجر التاريخ للاقتصاد، حين كان يضع أقطاب الاقتصاد الطبيعي الكلاسيكي جذور هذا العلم وبنيته الاولية سادت الفكر الاقتصادي يومذاك فكرتان: إحداهما أنّ الحياة الاقتصادية تسير وفقا لقوى طبيعية محددة تتحكّم في كلّ الكيان الاقتصادي للمجتمع كما تسير شتّى مناحي الكون طبقا لقوى الطبيعة المتنوعة، والواجب العلمي تجاه تلك القوى التي تسيطر على الحياة الاقتصادية هو استكشاف قوانينها العامّة وقواعدها الاساسية التي تصلح لتفسير مختلف الظواهر والأحداث الاقتصادية. والفكرة الأخرى هي أنّ تلك القوانين الطبيعية التي يجب على علم الاقتصاد اكتشافها كفيلة بضمان سعادة البشرية إذا عملت في جوهرها وأتيح لجميع أفراد المجتمع التّمتّع بالحريات الرأسمالية: حريات التملك والاستغلال والاستهلاك.

وقد وضعت الفكرة الأولى البذرة العلمية للاقتصاد الرأسمالي. ووضعت الفكرة الثانية بذرته المذهبية. غير أنّ الفكرتين أو البذرتين ارتبطتا في بادئ الأمر ارتباطا وثيقا حتى خيّل للمفكرين الاقتصاديين يومئذ أنّ تقييد حرية الأفراد والتدخّل في الشؤون الاقتصادية من قبل الدولة يعني الوقوف في وجه الطبيعة وقوانينها التي كفلت للإنسانية رخاءها وحلّ جميع مشاكلها. وكلّ محاولة لإهدار شيء من الحريات الرأسمالية تعتبر جريمة في حقّ القوانين الطبيعية العادلة. وهكذا انتهى بهم القول بأنّ تلك القوانين الخيّرة تفرض بنفسها المذهب الرأسمالي وتحتم على المجتمع ضمان الحريات الرأسمالية.

غير أنّ هذا اللون من التفكير يبدو الآن مضحكا وطفوليا إلى حد كبير لأنّ الخروج على قانون طبيعي علمي لا يعني أنّ هناك جريمة ارتكاب في حقّ هذا القانون وإنما يبرهن على خطأ القانون نفس وينزع عنه وصفه العلمي الموضوعي لأن القوانين الطبيعية لا تتخلف في ظل الشروط والظروف اللازمة لها، وإنما قد تتغير طبيعية فتعتبر مخالفتها جريمة في حق تلك القوانين. فقوانين الاقتصاد الطبيعية هي تعمل ولا تكفّ عن العمل في جميع الأحوال. ومهما اختلفت درجة الحرية التي يتمتّع بها الأفراد في حقول التملّك والاستغلال والاستهلاك، وإنّما قد يحدث أن يختلف مفعول تلك القوانين تبعا لاختلاف الشروط والظروف التي تعمل في ظلّها كما تختلف قوانين الفيزياء في آثارها ونتائجها طبقا لاختلاف شروطها وظروفها. فيجب إذن أن تدرس الحريات الرأسمالية لا بوصفها ضرورات علمية تحتّمها القوانين الطبيعية من جهة رأي الرأسماليين حتى تكتسب بذلك الطابع العلمي، وإنما تدرس على أساس ما تتيح للإنسان من سعادة وكرامة وللمجتمع من قيم ومثل. وهذا هو الأساس الذي اتّبعه بعد ذلك علماء الاقتصاد الرأسمالي في دراسة الرأسمالية المذهبية.)

(ن.م. ص259).

(أمّا الرأسمالية المذهبية فليست هي نتيجة لعلم الاقتصاد الذي شاده الرأسماليون ولا يرتبط مصيرها بمدى نجاح الجانب العلمي للرأسمالية في تفسير الواقع الموضوعي وإنما برتكز الرأسمالية المذهبية على قيم وأفكار خلقية وعلمية معيّنة يبج أن تعتبر هي المقياس في الحكم بحق المذهب الرأسمالي.)

(ن. م. ص260).

هذه الشواهد واضحة جدا في دلالتها على مراد السيد الشهيد (ر)، فالتفكيك الذي أراد أن يقوم به بين علم الاقتصاد الرأسمالي والمذهب الاقتصادي الرأسمالي هو من آثار المقارنة التي أراد أن يقوم بها بين النظامين الرأسمالي والماركسي. فمربط الفرس _ كما يقال ـ في هذه المسألة هو ـ إذن ـ تلك المقارنة التي حملت معها شحنة علمعرفية ثقيلة أدّت إلى حدوث إسقاط لابدّ من توضيحه.

الشحنة العملعرفية للمقارنة وبيان الإسقاط

بيان الإسقاط عن مقارنة النظامين

إذا قبلنا جدلا بتصور السيد الشهيد لتقسيم البحوث إلى جوانب علمية وجوانب مذهبية فإنّ كلامه حول ترتّب الجوانب المذهبية على الجوانب العلمية أو تأخرها عنها رتبة في الفكر الماركسي أمر مقبول كما سيأتي بيانه في محلّه من الكتاب المقبل.

ولكنّ المشكلة الناشئة من محاولة مقارنة النظامين الرأسمالي والماركسي هي توهم ضرورة أن يكون هذا الترتّب في نفس هذا الإتّجاه العليّ أو لا يكون. ولا يعني هذا أن السيد الشهيد قد كان واقعا تحت هذا الرهم، بل إنّ مجمعل كلامه لا يدلّ على ذلك أبدا، وإنما مقصودنا ما يُفهم من مجرد مطالعة عباراته المرتبطة مباشرة بالموضوع.

أقسام الترتّب العلّي

الترتب العلي هو تأخر معلول جزئي عن علته الجزئية. وقد يمكننا الاكتفاء بذكر العلية دون الترتب إلا أنّ الإشارة إلى التقدم الرتبي ضروري لبثحنا لأنّ المراد ليس العلية الوجدية بين الظاهرتين بل التقدم الرتبي في البحث والدرس بالنسبة للباحث الاقتصادي، والتمييز بين مستويي التحليل ضروري. ولهذا فقد جمعنا بين الوصفين: الرتتب والعلية.

وفي الحقيقة نحن أمام احتمالات ثلاثة للترتّب: فإمّا أن يكون هذا الترتب في نفس الاتجاه، أي أن تكون الجوانب المذهبية في الرأسمالية مترتبة عن الجوانب العلمية فيها، أو أن يكون ـ على عكس ذلك ـ العلم مترتبا عن المذهب، أو أن لا يكون هناك ترتب بمعنى العلية أصلا، فيكون عندنا انفكاك علّي بين الظاهرتين العلمية والمذهبية. وهذا الانفكاك العلّي غير ما أشرنا إليه من التفكيك الذي يصدر عن الباحث ولي نابعا من واقع موضوع البحث.

فالأمر ـ كما نرى ـ ليس مقتصرا على الدوران بين الترتّب الأوّل والانفكام. وسنرى لاحقا كيف أنّ الاقتصاد الرأسمالي متميز بالترتّب بين ظاهرتيه بالشكل الثاني بالذات.

وكل هذا بناء على القبول ـ جدلا ـ بإمكان الفصل، وهو ما أشرنا إلى بطلانه ابتداءا. وسنعود لتوضيح ذلك لاحقا بعد استكمال مقدماته حيث سيكون الكتاب للاحق بأجمعه بمثابة الدليل المطول على المدعى.

 

المبحث الثاني:حول شبهة العلمية

منشأ الالتباس الثاني

قد أوضحنا في الفصل السابق أنّ الالتباس الثاني لم ينشأ من نفس عبارات السيد الشهيد، بل من الفهم الشائع والمتداول الذي ربما نشأ عن الاختصار والاختزال الذي تميز به بحثه للرأسمالية. وهذا الالتباس الذي يبدو أنّه قد صار محل تسالهم هو إمكان الاطمئنان إلى علمية القوانين الرأسمالية أو بعضها على الأقلّ وما يعمق من آثار هذا القبول من تسالم ثان على مساوقة العلمية للصحة والاطرا. وهي أمور قد أوضحنا خطورتها في الفصل الماضي بالمقدار المبرئ للذمة.

والحاصل من هذه (التسالمات الرائجة) هو شيوع فكرة اقتصار المقدار الضروري من العلم بالرأسمالية على نقض وردّ البحوث والمقولات التي تعتبر مذهبية فيها.

وقد وجدنا لصاحب (اقتصادنا) (ر) عبارة مختصرة تلخّص منشأن هذه الششبهة التي نحن الآن بصددها. يقول السيد الشهيد:

(… أما بالنسبة إلى موقفنا تجاه الرأسمالية المهذبية، أي الحريات الرأسمالية، فإننا نواجه مذهبا لا يستمد كيانه من القوانين العلمية ليكون المنهج الضروري لدراسته هو بحث تلك القوانين وتدقيقها. وإنما نواجه مذهبا يستمد كيانه من تقديرات خلقية وعملية معينة. ولهذا سوف لن نتحدث عن الجانب العلمي من الرأسمالية، إلا بالقدر الذي يوضّح: أنّ الجانب المذهبي ليس نتيجة حتمية له، ولا يحمل طابعه العلمي، ثم ندرس المذهب الرأسمالي في ضوء الأفكار المعلية والقيم الخلقية التي يرتكز عليها، لأنّ بحوث هذا الكتاب تحمل كلّها الطابع المذهبي ولا تتسع للجوانب العلمية إلا بمقدار ما يتطلبه الموقف المذهبي.

ودراسة المذهب الرأسمالي على هذا الأساس، وإن كانت تتوقف أيضا على شيء من البحث العلمي، غير أنّ دور البحث العلمي في هذه الدراسة، يختلف كل الاختلاف عن دوره في دراسة الماركسي.)

(ن. م. ص260 و261).

وفي نفس الصفحة يقول المؤلف (ر):

(… فوظيفة البحث العلمي في دراسة المذهب الرأسمالي، إعطاء صورة كاملة عن واقع المجتمع الرأسمالي لنقيس تلك الصورة بالمقاييس العلمية الخاصة. وليست وظيفته تقديم البرهان على حتمية المذهب الرأسمالي أو خطإه.

فكم يخطئ الباحث ـ على هذا الأساس الذي قدمناه ـ إذا تلقّى المذهب الرأسمالي من العلماء الرأسماليين، بوصفه حقيقة علمية أو جزءا من علم الاقتصاد السياسي، ولم يميّز بين الصفة العلمية والصفة المذهبية لأولائك الاقتصاديين. فيخيل له مثلا، حين يحكم هؤلاء بأنّ توفير الحريات الرأسمالية خير وسعادة للمجتمع: إنّ هذا رأي علمي أو قائم على أساس علمي كالقانون الاقتصادي القائل مثلا: (إذا زاد العرض انخفض الثمن)، مع أنّ هذا القانون تفسير علمي لحركة الثمن كما توجد في السوق. وأما الحكم السابق بشأن الحريّات الرأسمالية، فهو حكم مذهبي يصدره أنصاره بوصفهم المذهبي، ويستمدونه من القيم والأفكار الخلقية والعلمية التي يؤمنون بها، فلا تعني صحّة ذلك القانون العلمي أو غيره من القوانين العلمية: أن يكون هذا الحكم المذهبي صحيحا وإنما يتوقّف هذا الحكم على صحة القيم والأفكار التي أقيم على أساسها.)

(ن. م. ص261 و 262).

هذه هي ـ إذن ـ أهم العبارات التي مثلت منشأ الالتباس الثاني الذي ذكرناه. ونحن قد أشرنا إلى أن السيد الشهيد لم يكن يقصد ما ذهب إليه بعضر قراشه بعده. وقبل الدخول في توضيح الشبهة روفع الالتباس نرى من الإنصاف أن نذكر شاهدا على براءة العلامة السيد الشهيد مما فُهم من كلامه.

صاحب (اقتصادنا) يردّ على الالتباس الثاني

يبدو أن السيد الشهيد لم يكن غافلا عن خطورة ما قد يوقعه التفكيك المذكور في بعض الأذهان، فسارع إلى رفع الالتباس الثاني الذي ذكرناه، بالقدر الذي سمح به المجال الضيّق للبحث. فعقد مبحثا خاصا للتأكيد على أنّ الجوانب المذهبية للرأسمالية تشكّل الإطار العام للجوانب العلمية فيها فها هو ذا يقول:

(… ونريد هنا أن نصل إلى نقطة أعمق في تحليل العلامقة بني الجانب المذهبي والجانب العلمي من الرأسمالية، لنرى: كيف أنّ المهذب الرأسمالي يحدد إطار القوانين العلمية في الاقتصاد الرأسمالي، ويؤثّر عليها في اتّجاهها ومجراها؟. ومعنى هذا أن القوانين العلمية في الاقتصاد الرأسمالين قوانين علمية في إطار مذهبي خاص، وليست قوانين مطلقة تنطبق على كلّ مجتمع وفي كلّ زمان ومكان، كالقوانين الطبيعية في الفيزياء الكيمياء. وإنما يعتبر كثير من تلك القوانين حقائق موضوعية، في الظروف الاجتماعية التي تسيطر عليها الرأسمالية، بجوانبها الاقتصادية وأفكارها ومفاهيمها، فلا تنطبق على مجتمع لا تسيطر عليه الرأسمالية ولا تسوده أفكارها.

ولكي يتّضح هذا يجب أن نلقي ضوءا على طبيعة القوانين الاقتصادية التي يدرسها الاقتصاد الرأسمالي لكي نعرف: كيف والى أي درجة يمكن الاعتراف لها بصفة القانون العلمي؟

إن القوانين العلمية للاقتصاد تنقسم إلى فئتين:

إحداهما: القوانين الطبيعية التي تنبثق ضرورتها من الطبيعة نفسها ـ لا من الإرادة الانسانية ـ كقانون التحديد الكلي القائل: إن كل إنتاج كان يتوقّف على الأرض وما تشتمل عليه من مواد أولية، محدود طبقا للكمية المحدودة للأرض وموادها الأولية. أو قانون الغلة المتزايدة القائل: إن كل زيادة في الإنتاج تعوض على المنتج تعويضا أكبر نسبيا مما زاده في الإنفاق، حتى تبلغ الزيادة إلى درجة خاصة، فتخضع عندئذ لقانون معاكس، وهو قانون الغلة المتناقصة، الذي ينص على أنّ زيادة الغلة تبدأ بالتناقض النسبي عند درجة معينة.

وهذه القوانين لا تختلف في طبيعتها وجانبها الموضوعي عن سائر القوانين الكونية التي تكشف عنها العلوم الطبيعية، ولذلك فهي لا تحمل شيئا من الطابع المذهبي، ولا تتوقف على ظروف اجتماعية او فكرية معينة بل لا تختلف في شأنها أبعاد الزمان والمكان، ما دامت الطبيعة التي يتعلق بها الإنتاج هي الطبيعة في كل زمان ومكان.

والفئة الأخرى: من القوانين العلمية للاقتصاد السياسي، تحتوي على قوانين للحياة الاقتصادية ذات صلة بإرادة الإنسان نفسه، نظرا إلى أنّ الحياة الاقتصادية ليست إلا مظهرا من مظاهر الحياة الإنسانية العامة التي تلعب فيها الإرادة دوراص إيجابيا فعلالا في مختلف شعبها ومناحيها).

(ن. م. ص263 و 264).

وبعد هذا المقطع يستمر السيد الشهيد في تحليله موضحا أسباب ارتباط الطائفة الثانية من القوانين العلمية بالجوانب المذهبية في الرأسمالية، وحيث أن بقية كلامه (قده) تؤدي إلى غرضنا وتؤكد مطلوبنا، إذ أنها تؤكد ترتب هذه الطائفة على الأقل من قوانين الرأسمالية على أصول مذهبية مسلّمة، وأنّ هذه الأصول ليست إلا مقدمات (بالمعنى المنطقي) لتلك القوانين، وليست إلا مجرد ـ إطار عام ـ بالمعنى الفضفاض لكلمة (الإطار) فسنكتفي بالتعليق على هذا المقطع الذي أوردناه والذي تكمن فيه مصادر أخطر الالتباسات وأشدّها تأثيرا كما مر ذكره.

القوانين الاقتصادية العلمية والإرادة الإنسانية

الذي نستخلصه من عبارات السيد الشهيد المذكورة في المطلب السابق هو أنّ ملاك ديمومة صدق واطّراد القانون العلمي الاقتصادي هو تحرره وساتقلاله كليا عن إرادة الإنسان. فإذا ثبت هذا الإمكان صح تقسيم العلامة الشهيد (ر)، وإذا لم يثبت، صار كلامه بحاجة إلى تنقيح جوهري.

هل تستقل القوانين الاقتصادية عن الإرادة الإنسانية؟

في هذا البحث المختثر لن يكون المجال مناسبا لطرح هذا السؤال بشكل عام ومطلق يتجاوز موضوعا الخاص لأنّ تحصيل إجابة عامّة ومطلقة يحتاج إلى عملية استقرائية لن تكون ممكنة إلا بعد المرور بجميع مباحث الكتب اللاحقة التي نستعرض فيها أهم المدارس العلمية الاقتصادية ومقولاتها وبرامجها. أمّا هنا فسنكتفي بتقديم إجابة مختزلة نرجو أن تكون ـ مع ذلك ـ كافية لتوضيح الشبهة ورفع الالتباس. ونحيل القرئ إلى الكتب الموالية لإحراز إجابة مفصلة تشفي غليل المحقق.

فهل بالإمكان تصور قوانين اقتصادية لا تخضع في جريانها الواقعي أ, قي ثبوتها العلمي لإرادة ورغباته النفسية، بحيث يصدق أن يقال عنها أنّها قوانين علمية طبيعية؟

وحتى لا يكون بحثنا مناقشة في مثال فسنعرض صفحا عما مثل به السيد الشهيد لقوانين الطائفة الأولى، وسنترك رد هذا التمثيل ـ بشكل ضمني ـ لتطورات الفكر المدرسي الاقتصادي التي سيأتي عرضها في الكتاب الموالي.

طريقان للإجابة على:

هناك طريقان للإجابة عن السؤال المطروح:

ـ الطريق الأول: هو سلوك سبيل الاستقراء.

ـ الطريق الثانيك هو البرهان المنطقي الذي عتمد إثبات المطلبو عن طريق إثبات كذب النقيض والذي قد يسمى ببرهان الخُلف.

والاستقراء يحتاج إلى استعراض مجمل القوانين العلمية الاقتصادية لبحث مدى توقف كل منها على عنصر من عناصر الإرادة الإنسانية في ديمومة تحققها وصحتها. ولن يكون سلوك هذا الطريق ممكنا إلا بعد طيّ جميع أشواط الكتاب المقبل. فهناكل نشير إلى أهم القوانين الاقتصادية العلمية، ونثبت ارتباط كل واحد منها بمقدمات لا يمكن تجريدها عن الإرادة الإنسانية.

أما الطريق الثاني، فبإمكاننا سلوكه في هذه المرحلة من البحث، فالبرهان المذكور لا يحتاج إلى مقدمات لم يتم تعريفها او الاستدلال عليه بعد. ولكن مع ذلك فإنّ هذا البرهان يستوجب منّا تنقيحا وتفكيكا جديدين للموضوع (أي القانون العلمي الاقتصادي) انطلاقا من تعريف وظيفي له. وهذا ما سيكون موضوع الفصل المقبل.

الإثبات بطريق الاستقراء الناقص

طبقا لقاعدة (ما لا يدرك كله) فنحن بإمكاننا أن نقوم باستقراء ناقص لإثبات مطلوبنا، أي عدم وجود أي قانون علمي اقتصادي رأسمالي لا يرتبط بنون من أنواع الارتباط بمقدمات تخضع للإرادة الإنسانية، وذلك على مستوى ما سبق عرضه من المقولات العلمية الرأسمالية وخاصة ضمن فصول الباب الثالث.

ولا نرى من داع للعودة إلى هذه المقولات واحدة واحدة لأنّنا قد ضمنّا تلك البحوث من التوضيح والتعليق ما يكفي لإثبات الارتباط المطلوب. فليراجَع وليُستَنتج.

 

الفصل الثالث:

بحث نظري حول العلمية والكونية ودور الإرادة الانسانية في القوانين الاقتصادية

 

المبحث الأول: منهج التحليل الوظيفي في خدمة البحث

الطابع التصوري للبحث

في هذا الفصل نريد أن نبرهن على استحالة وجود قانون علمي اقتصادي غير متوقّف على مقدمات مرتبطة بالإرادة الإنسانية. وقد أشرنا في الفصل السابق إلى أنّ برهان الخلف كاف لإثبات المطلوب، ولكنّ الوصول إلى إبراز كذب النقيض، (أي وجود قانون علمي اقتصادي مستقل عن الإرادة الإنسانية) يحتاج إلى تحصيل مجموعة من الأحكام المطلقة وهي:

ـ كون القضية المراد تكذيبها تشمل مطلق القانون العلمي الاقتصادي.

ـ كون القضية المراد تكذيبها تشمل مطلق ارتباط الإرادة الإنسانية بمطلق مقدمات ذلك القانون.

إنّ الخروج بهذه الأحكام المطلقة ليس بالأمر السهل لأنّها لا تتأتّى إلا من طريقين:

ـ الأول هو الاستقراء الذي يحوّل قضيّتنا من صورة القانون إلى صورة المبدأ، والذي أوكلنا إلى ما بعد تقدّم البحوث في الكتب الموالية.

ـ والثاني هو العودة إلى التجريد التصوّري، بحيث تكون تلك الإطلاقات مقتضيات تصورية لا تصديقية، أي أنّ مجرد تصور مفهوم القانون العلمي الاقتصادي وتصوّر المقدمة وتصور الإرادة الإنسانية يكون ملازما لهذه الإطلاقات.

لهذا فإنّ البحث الذي بين أيدينا ـ رغم طبيعته التصديقية الظاهرية ـ هو بحث تصوري بدرجة أولى. ومن هنا فقد كان من المناسب أن نعود إلى كثير من بحوث المرحلة الأولى وذلك بعد أن تسلّحنا بأداة تحليل التصورية لغرضنا الجديد، وهي التي استعملناها في جميع البحوث التصورية في مختلف أبواب هذا الكتاب، أي طريقة التحليل الوظيفي التي سبق تعريفها في التمهيد.

التعريف الوظيفي للقانون العلمي الاقتصادي

القانون العلمي ـ بوجه عام ـ هو القضية المثبتة لعلاقة مستقرة بين ظاهرتين أو أكثر. وقد عرفنا في المرحلة الأولى أنّ مصطلح القانون كثيرا ما يستعمل في إطار مسامحة عرفية رائجة للتعبير عن إحدى الأنواع: المبدأ أو القانون أو النظرية. وذلك رغم الفروق التي ذكرناها في ملحّها هناك.

ومصطلح (الظاهرة) في هذا التعريف يعبر عن كل موضوع مفردا كان أمر مركبا، ماديا كان أم معنويا، بشرط تحيزه في الزمان والمكان. فلا معنى للربط بين ظواهر غير متحيزة زمانا ومكانا إلا أن تكون وجودات ذهنية أو مجردة، وهي خارجة عن موضوع بحثنا.

أما القانون العلمي الاقتصادي فهو كلّ قانون تكون أطراف علاقته المذكورة من المفردات أو المركبات الاقتصادية. وقد عرفنا في (المرصاد) انقسام هذه الموضوعات (مفردات كانت أم مركبات) بانقسام المفاهيم التي تعنونها، وانشعاب هذه المفاهيم جمبيعا من الإشكاليات المنبثقة بدورها مباشرة من غرض العلم. ومهما اختلفت تلك التقسيمات فهذا لا يغيّر شيئا في ملاك اقتصادية أيّ مفهوم.

وملاك اقتصادية مفهوم ما هو ما يثبت به للمصطلح من معاني اقتصادية. وهذا الملاك يتجسد في ارتباط المفهوم بغرض العلم بأيّ شكل من أشكال الارتباط: فيمكن أن يكون مفهوما تحليليا أو تركيبيا أو منتزعا من الغرض نفسه. وقد عرفنا الفروق بين هذه الأقسام من المفاهيم في القسم الثالث من (المرصاد).

ويمكننا التعبير عن مجموع الارتباطات التي تجعل المفاهيم متعلقة ـ بأيّ شكل من الأشكال ـ بغرض العلم، بأنها وظائف: فحتى يكون أيّ مفهوم علمي مفهوما اقتصاديا فلابدّ أن تكون وظيفة ما في علم الاقتصاد. وفي صورة ما إذا كان المصلطة المعبّر عن المفهوم مشتركا بين المفهوم الاقتصادي ومفهوم آخر غير اقتصادي فإنّ القانون العلمي الاقتصادي لا يكون ناظرا إلا إلى المفاهيم الاقتصادية، والا لخرج عن كونه قانونا اقتصاديا. ولتوضيح هذه المسألة الدقيقة التي تشكل قطب الرحى في استدلالنا لا بد أن نستعين بأمثلة من المفاهيم ضمن قانون سنحاول البحث في اقتصاديته.

مثال لملاك اقتصادية القانون العلمي

لنأخذ المفاهيم الآتية:

ـ عوامل الإنتاج

ـ السلسلة الصناعية

ـ العمل الحرفي

ـ المردود الاقتصادي

وقد عرفنا في (المرصاد) أن هناك قانونا علميا رائجا مفاده أنه إذا حولنا نفس عوامل الإنتاج من شكل الإنتاج الحرفي إلى شكل الإنتاج الصناعي السلسلي سنتحصل على زيادة معتبرة في المردود.

فتارة نحن نتعامل مع الظواهر التي يربط بينها هذا القانون بما هي ظواهر فنّية بحتة ودون لحاظ وظيفتها الاقتصادية إذا أُخذت كلّ على حدة. وفي هذه الصورة يكون القانون دائم الصدق ولا يتخلف عن التحقّق أبدا. ولكنّه أيضا سيصبح عندئذ قانونا صناعيا فنّيا وليس قانونا اقتصاديا بالمعنى الاصطلاحي لأنّ هذه العوامل كلها قد نُظر إليها نظرة فنّية بحتة، وجّردت من وظيفتها الاقتصادية.

فمثلا لو أخذنا العمل الحرفي وجردناه عن الإطار الاقتصادي العام لوجدناه إنتاجا يهيمن عليه حرفي واحد في جميع مراحله (وهذا مصداق القدرة على محاكمة الإنتاج) دون أن يكون لهذا المنتج تخصّص ما في أيّ مرحلة من مراحل الإنتاج. وتكون كيفية المنتوج عاكسة لحذق الحرفي ولكفاءته ومهارته الشخصية ولا يتدخّل في كل ذلك أيّ عنصر خارجي إلا بشكل ثانوي لا يعتد به.

الحرفين إلى عمّال متخصصين كلّ منهم في مرحلة صغيرة ومعينة. وتكون كيفية المنتوج الحاصل في آخر السلسلة نتيجة لعمل هؤلاء جميعا ومطابقة لصورة هندسية مسبقة لا تتدخل أيّ عوامل شخصية في تحديدها، وليس للمهارات الفردية للعمال دور في تشكيلها بل إنّ متطلبات السوق هي التي تفرضها ابتداءا ثم تجعل من عملية مراقبة الكيفية مرحلة ضرورية تختتم بها السلسلة عملها.

ومن الواضح أن جميع هذه العبارات فنية بحتة ولا دخل للعوامل الاقتصادية فيها.

ولا يقال بأنّ عامل السوق يتدخل فيها من خلال تعيين الكيفية المطلوبة، فإنّ عمل السلسلة من حيث هو لا يتغير بتغيّر الكيفية. ولهذا فلا يخدش دخول هذا العامل الخارجي الطابع الفنّي البحت للسلسلة.

أما مفهوم المردود، ففي هذا الإطار الفنّي يصبح مجرد حاصلة عملية حسابية لا غير. وكذلك الأمر بالنسبة لعوامل الإنتاج التي تصبح في هذا الإطار مجرد مُدخلات إنتاجية بالمعنى الفني الصناعي وليس بالمعنى الاقتصادي الذي يعكس حظور رأس المال والعمل مثلا.

خلاصة القول إن هذا القانون الذي يبرهن الاستقرار على صدقه دائما ليس قانونا اقتصاديا بل هو قانون فنّي قد أصبح ضمن نطاق علوم فنّية متفرعة عن علم الاقتصاد، وهو ما يسمى بعلم التصرّف، وأحد فروعه وهو التصرف في الإنتاج (أو تدبير الإنتاج Gestion Prduction). وقد عرفنا في (المرصاد) (القسم الرابع) أنّ هذا الفنّ هو من الفروع التي استقلت بنفسها عن الاقتصاد السياسي، وإن بقي يُصنف ضمن العلوم الاقتصادية بالمعنى الأعمّ. ولا مُشاحة في الأسماء، فالفرق واضح. وإذا كان المقصود من القوانين العلمية الاقتصادية هو هذا النوع من القوانين الفنية، فهذا مما لا يختلف فيه إثنان وليس هذا محل نزاع كما هو بين.

وهكذا فإنّه بإمكاننا الجزم بأنّ هذا القانون، بشرطه وشروطه التي ينبغي التّأكّد من تحققها، غير مرتبط بنظام اقتصادي دون آخر لأنّه ليس من القوانين الاقتصادية أصلا.

أما لو رجعنا إلى جميع الظواهر التي يربط بينها هذا القانون ومفرداتها ونظرنا إليها بما هي مفاهيم اقتصادية، لتغيّر هذا الحكم تماما ولأمكننا أن نشاهد مصداقا جليا للقاعدة التي نريد إثباتها. وهذا هو موضوع المبحث الآتي.

 

 المبحث الثاني: قاعدة الارتباط بين القوانين العلمية الاقتصادية والإرادة الإنسانية

دراسة مثال

لنأخذ المثال المذكور في المبحث السابق ولتنصور القضية تصورا جديدا في إطار اقتصادي. ولننطلق من إرادة (فوقية أو قاعدية) في نقل الإنتاج داخل المنظومة الاقتصادية من الطور الحرفي إلى الطور الصناعي (السلسلي) ولنتأمّل ما يحدث.

إنّ اقتصادية هذه الظواهر المذكورة تقتضي محدوديتها، فقد عرفنا أنّ أوّل دوافع التفكير الاقتصادي هي الندوة النسبية. ففي هذا الإطار الاقتصادي يبدو من الواضح أنّ نفس أولائك العمّال الحرفيين هم الذين يتحولون إلى عمّال صناعيين في السلسلة، وأنّ نفس رؤوس الأموال التي كانت تستثمر في الإطار الحرفي بشكل متفرق وشخصي ستتجمع في إطار عمل جماعي سلسلي. وفي غير هذه الصورة التي تفترض ندرة نسبية لقوة العمل ولرأس المال فإنّ عملية الانتقال عبثية ولا معنى لها، إذ أنّه في صورة الوفرة الكاملة لا يمكن تصور مشكلة اقتصادية أبدا حتى يُراد لها حلّ. وكما يقال في المنطق فإنّ القضية ستكون سالبة بانتفاء موضوعها! وهذا خارج عن محل كلامنا.

نريد الآن أن نعرف كيف تمت عملية الانتقال وما هي تكلفتها المادّية والمعنوية. ولنأخذ أفضل الشروط الممكنة لمثل هذا الانتقال، وهي أنه لا يحتاج إلى أي تغيير في أدوات الإنتاج وكلّ العملية تتم بإعادة ترتيب ونظم جديدين من خلال تجميعها في إطار سلسلة صناعية كبيرة.

وإذا ما أثبتنا المطلوب مع هذا الشرط الصعب فإنه يثبت من باب أولى مع تحقق ما دونه من الشروط.

تكلفة الانتقال من الحالة الحرفية إلى الحالة الصناعية وآثارها.

قد أشرنا إلى أن للانتقال من الحالة الحرفية إلى الحالة الصناعية داخل المنظومة الاقتصادية تكلفتين أساسيتين: الأولى معنوية، والثانية مادية. ونحن الآن نريد أن ندرس ما يترتّب عن هذه التكاليف.

التكلفة المعنوية

إن التكلفة المعنوية هي ما يتعرض له العامل لدى انتقاله من الوضع الحرفي المستقل إلى الوضع السلسلي الذي يكون فيه مسلوب الإرادة. وفي (المرصاد) أشرنا إلى أهم جوانب هذا الضرر الذي يحصل للعمّال.

وفي مقابل هذا الضرر يتوقّع العامل أن يحصل على نفع إضافي إذا كان الإنتقال اختياريا. وأما إذا كان هذا الانتقال إجباريا وبواسطة قوّة قهرية (كالدولة مثلا) فإن الإحساس بالغبن يبقى ملازما للعامل ويحتاج صاحب السلسلة إلى إجراء ضوابط دقيقة على توزيع الأدوار لامتصاص أكبر قدر ممكن من العمل من عند العمّال في هذه الحالة، نظرا لانقطاع رغبتهم فيه. ومن هنا تتحول هذه التكلفة المعنوية التي كان من المفروض أن يتحمّلها العامل وحده إلى تكلفة مادية إضافية يتحمّلها صاحب السلسلة في إطار ما يسمّى بأدوات ووسائل مراقبة السلسلة.

التكلفة المادية

إنّ التكلفة المادية، علاوة على ما يتفرع عن التكلفة المعنوية ـ وهو المذكور أعلاه ـ هي التكلفة المباشرة التي يجب على صاحب السلسلة (شخصا كان أم هيئة) أن يدفعها أو يستعد لها منذ بداية عمل السلسسلة. وليس لها ارتباط برغبة العمّال في العمل أو عدمها ولا بأحاسيسهم (إيجابية كانت أم سلبية). وهذه التكلفة متأتية من شروط السوق التي تفرض نوعية الإنتاج وكيفية علاوة على الضوابط القياسية التي يجب على المنتج الصناعي الخضوع لها. وكثيرا ما تشكّل هذه التكلفة المادية الإضافية في صورة واحدات مراقبة قياسية للمنتوجات قد تتوزّع على بعض مراحل السلسلة وقد تتجمع في آخرها…

شروط صدق القانون

إذا أردنا تنأكذ من صدق قانوننا المذكور في مثل هذه الظروف فإنّه علينا أن نتأكّد ـ قبل ذلك ـ من حجم التكلفتين المذكورتين ومعاينة الزيادة في المردود التي يمنحها لنا الانتقال من النّظام الإنتاجي الحرفي إلى النظام الإنتاجي السلسلي، لنستلخص النتيجة فيما بعد: إذا ما كانت هناك زيادة بالفعل في المردود الصافي أم لا.

هنا تتدخّل اقتصادية الظواهر لتفرض علينا قبول حقيقة لا مراء فيها: وهي أنّ مثل هذا الانتقال قد يؤدّي إلى زيادة في المردود في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى لا يؤدّي إلى ذلك، بل قد يؤدي إلى نتيجة معاكسة وذلك تبعا للشروط الاقتصادية والاجتماعية العامّة للمنظومة التي يراد تطبيق هذا الانتقال فيها.

ألا يعني هذا أن قانوننا الاقتصادي ليس علميا بالمعنى الاصطلاحي، أيّ أنّه ليس مطردا عبر الزّمان والمكان مثل القوانين الطبيعية؟

إذا أردنا البحث في شروط صدق هذا القانون الاقتصادي لوجدنا أنفسنا مضطرين إلى التسليم ببعض المقدّمات المذهبية، وأولها أنّ التكلفة الإضافية للانتقال هي أقلّ مطلقا من الزيادة المتوقّعة في المردود العام بعد الانتقال!

والحقيقة أن كل ما يزعم أنّه قوانين اقتصادية علمية والتي اعتقد السيد الشهيد أنّها من الطائفة الأولى (مجاراة للاعتقاد السائد) إنما هي مبتناة على مقدمات مطوية مذهبية (بالاصطلاح الذي اختار السيد الشهيد). والنّكتة في ذلك ترجع إلى أنّها لا يمكن أن تنفك عن الجانب الإرادي الإنساني أبدا. وإذا أردنا أن نتعسّف عليها بتجريدها من هذا الجانب، فإنّها ستخرج عن كونها قوانين اقتصادية كما ذكرنا أوّلا لتصبح قوانين فنّية أشبه ما تكون بالقوانين المخبرية. فهي عندئذ قوانين فنّية أو صناعية لا علاقة لها بعلم الاقتصاد بمعناه الأكاديمي الذي لا يعالج الظواهر المادّية إلا في إطارها الاقتصادي والاجتماعي العام.

نتيجة البحث

من هذا المثال نستطيع أن نفهم عمق وخطورة الالتباس الرائج بين معظم المهتمين بالمسائل الاقتصادية والذي سبّب كثيرا من المصائب التي عمّت بلدان العالم الثالث من جرّاء تطبيق (وصفات علمية) مستوردة كان جميع أهل الحلّ والعقد في تلك البلدان مستعدين للمراهنة بمستقبلهم السياسي من أجلها لاعتقادهم بأنّها علمية مطّردة الصدق في جميع الأماكن والأزمنة‍!

هل بقي شيء من قوانين الطائفة الأولى؟

رغم أننا قد اخترنا عدم مناقشة الأمثلة التي اختارها السيد الشهيد، فمن الضروري أن نشير إلى منشإ رأيه القائل بوجود طائفة من القوانين العلمية الرأسمالية لا ترتبط بالجوانب الإرادية الإنسانية.

فالمثال الأول الذي ضربه يوضّح منشأ هذا الاعتقاد، فبعد التعريف الذي ذكرناه والمثال الذي شرحناه يبدو الآن من الجليّ أنّ القانون الأول الذي ذكره السيد الشهيد وهو ارتباط الإنتاج بإمكانات الأرض ليس أبدا من القوانين الاقتصادية وإلا لجاز لنا أن نقول أنّ ارتباط كمية السمك المستخرج من البحر بالظروف الطبيعية، او ارتباط كمية النفط المستخرج من تحت الأرض بسعة المخزون الأرضي، أو غير ذلك من نظائر هذه الأمثلة التي تقع نتائجها في موضوعات أو محولات القضايا الاقتصادية هي أيضا من القوانين العلمية الاقتصادية.

إنّ هنالك كثيرا من القوانين العلمية التي لا تعدو كونها نتائج محاسبات فنّية في شتى الميادين من فلاحة واستخراج معادن وصناعة وصيد بحري. ونتائج كلّ هذه القوانين تقع في علم الاقتصاد بواسطة موضوعات المقولات أو محمولاتها وهي الماهيم الفنّية مثل خصوبة الأرض وحجم الثروة السمكية أو حجم الثروة المعدنية إلخ…

ومما لا شكّ فيه أنّ مثل هذه القوانين المرتبطة أساسا بالثروات الطبيعية وبالأساليب الفنّية المناسبة لاستخراجها هي متجاوزة لجميع الحدود المكانية والزّمانية لأنّها قوانين علمية طبيعية لا دخل للمجتمع ولا لإرادة الإنسان ـ بوجه عام ـ فيها. أمّا علم الاقتصاد فهو يتعامل معها بنفس الدّرجة التي يتعامل فيها مع قوانين أخرى طبيعية كقانون الجاذبية أو فنّ بناء السّدود!

هكذا إذن يمكن لنا أن نرفع جميع جوانب الالتباس في هذه الشبهة المركبة: فالقوانين العلمية الاقتصادية مرتبطة دائما بالإرادة الإنسانية بوجه من الوجوه، ولا فرق في ذلك بين النظام الرأسمالي وغيره. وهذه القاعدة يمكن قبولها بعنوان مبدإ إذا لم يكن برهان الخلف كافيا على بيان اطرادها… لأنّ الاستقراء كفيل بذلك على أيّة حال.

هل برهان الخلف تام؟

لم يكن المثال جزءا من الاستدلال كان وسيلة لتوضيح معنى التعريف الوظيفي وتطبيق منهج التحليل الوظيفي.

وإذا أردنا تحصيل نتيجة الاستدلال فيمكن أن نقدمه بالشكل القياسي الآتي:

نحن نريد إثبات أنه لا وجود لقانون علمي اقتصادي مستقلّ عن إرادة الإنسان.

لنفترض جدلا وجود مثل هذا القانون، فهو إما أن يكون مختصا بظواهر فنية بالمعنى الذي أوضحناه، وعندئذ يمكن قبول استقلاله عن إرادة الإنسان، ولكنّه يخرج عن كونه اقتصاديا.

الحالة يتوقف صدق الفرض، أي استقلال القانون عن إرادة الإنسان على تجريد جميع الظواهر التي يختص بها عن إرادة الإنسان، وهذا يتطلب ـ طبقا للتعريف الوظيفي لهذه الظواهر ـ اقتصار اللحاظ على غير المفهوم الاقتصادي لأنّ المفهوم الاقتصادي ـ بحسب تعريفه ـ لازم للإرادة الإنسانية. وهذا خُلف، وبهذا يثبت المطلوب.

إشكالات وردود

قد يقال بان البرهان مبني على مصادرة وهي أن هناك تلازما بين المفهوم الاقتصادي للأشياء والإرادة الإنسانية. ومن الممكن رد هذا الإشكال بطريقتين:

ـ الأول: باستقراء جميع المفاهيم الاقتصادية. وقد تمّ ذلك في مرحلة التصورات.

والثاني: إذا قيل بأن هذا الاستقراء ناقص، أمكننا اللجوء إلى تعريف علم الاقتصاد نفسه الذي يثبت المطلوب.

وإذا قيل أن تعريف علم الاقتصاد أمر مبنائي ويتفاوت فيه الاقتاديون، أمكننا أن نجيب بأنّ جميع التعريفات المعتبرة قد اتّفقت على الربط المذكور، وهو يكاد يكون القدر المتيقن المشترك الوحيد بينها. وهذا ما سيأتي توضيحه في الكتاب المقبل.

النتيجة

حاصل القول أن برهان الخلف تامّ، وإن كان ذلك مرتهَن برفع وهم المصادرة المذكورة بالاسقرار. ولهذا فإن القاعدة التي أثبتناها في هذا الفصل، وهي عدم وجود قانون علمي اقتصادي مستقل عن الإرادة الإنسانية، مبدأ وليس قانونا (بالمعنى الاصطلاحي). وهذا لا يغّير في الموضوع شيئا، لما نعرفه من شيوع المبادئ وتسالم أهل التحقيق على حجيتها في العلوم. وتفصيل الكلام في حجّية المبادئ والنظريات والقوانين يقع في علم المناهج.

انحلال شبهة كونية العلمية

قد أشرنا طي البحوث السابقة إلى أن الشبهة التي نحن بصدد دفعها مركّبة، فهي من الممكن أن تفكك إلى شبهتين:

ـ الأولى: شبهة (كونية علمية القوانين الاقتصادية)، أي الاعتقاد بأنّ القوانين العلمية كونية (Universlle)، ولا موضوعية للمكان أو الزمان فيها مثل كونية قانون الجاذبية او المبدإ الثاني للترموديناميك…

ـ الثانية: شبهة استقلال القوانين الاقتصادية العلمية عن الإرادة الإنسانية.

ونحن قد قمنا بتوضيح ودفع الفرع الثاني من الشبهة لأنّه من الواضح أن دفع الفرع الأول لا يحتاج إلى أكثر من توضيح اصطلاحي يخص معنى العلمية والكونية، وقد تركناه إلى محله هذا ليكون خاتمة لبحثنا.

توضيح معنى العلمية

من الرائج الاعتقاد بأنّ العلمية مساوقة لاطراد الصدق. وهذا قول قد يقبل بشكل مقيد، ولكن لا يمكن قبوله مطلقا من القيود. فلابدّ من تقييد المساوقة بالشروط الخاصة ورفض ادّعاء كونيتها، أي تجاوزها لكلّ شرائط الزمان والمكان. وهو ما أشرنا إليه بكونية العلمية.

فالملاحظ أنه يقال بأنّ القانون العلمي الفلاني صادق دائما كلّما توفّرت شروطه الموضوعية. وهذا أمر طبيعي ومتعارف في جميع العلوم التجريبية. فحتى في البحوث المخبرية نرى أنّ أول ما يعتني به الباحث هو القياسية المحددة سلفا)، فإذا اختلت الشروط سيكون من الحتمي تخلّف القانون المراد تجربته.

والحقيقة أن الكلام عن تخلف القانون مجازي لأنّ القانون العلمي لا ينفكّ عن شروطه أبدا. فالشروط هي التي تتخلف.

فلو أخذنا ـ مثلا ـ قانون الجاذبية نجد أن الشروط الأرضية تقتضي أن تسقط الأشياء طبقا له من أعلى إلى أسفل. وبمجرد أن نخرج عن الشروط الأرضية وندخل في الفضاء الواسع الخاضع لشروط مجموع الأجرام السماوية فإنّ قانون الجاذبية سيبقى صادقا، ولكنّ الشروط الجديدة ستعطي لتحقّقه شكلا جديدا. ففي بعض نقاط هذا الفضاء إذا رميت شيئا فلن يسقط بل يرتفع. والملاحظ أن مفاهيم الأعلى والأسفل نفسها تفقد معناها الأرضي… فالشروط حاكمة في جميع الحالات والقانون العلمي لا ينفكّ عنها.

أولوية القوانين الاقتصادية في نفي الكونية

إذا كان ذلك هو شأن القوانين المخبرية فإنّه من باب أولى أن يكون أيضا ذلك شأن القوانين العلمية الاقتصادية. فلا يمكن أن نتوهم أن قانونا علميا اقتصاديا سيصدق في شروط منطومية واجتماعية ما بمجرد ثبوت صدقه تحت شروط وظروف أخرى. وقد رأينا في الفصل السابق أنّ اللامة الصدر كان ملتفتا إلى هذه النكتة. ونحن نستغرب ممن جاء بعده ولم يع خطورة شبهة كونية العلمية التي ليس هناك أبدا من داع للوقوع فيها.

والحقيقة أنّ مثل هذا الاعتقاد قد صار من الطرائف المضحكة في الأوساط الأكاديمية منذ أكثر من عقدين. وكانت التجارب الفاشلة المتكررة لكثير من تطبيقات هذه القوانين العلمية سببا في ظهور تيّارات ناقدة في علم الاقتصاد تريد البحث عن الحلول الملائمة لمشاكل التخلّف انطلاقا من واضع المنظومات الاقتصادية المتخلفة نفسها.

ومن أبرز هذا التيارات تيار فكر العالم الثالث الاقتصادي، أو ما اصطُلح على تسميته بالفظ المورد: الفكر التيارمندي (Tiersmondisme). وسنرى في محله، طي مباحث التنمية، أن هناك عوائق علمعرفية من نوع آخر قد وقفت دون نجاح هذا التيار أيضا في مسعاه رغم مصداقية كثير من منطلقاته الأولى.

د. الشيخ التونسي