التجديد والزّمن رؤية الشّهيد الصّدر لمؤثرات التجديد

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

مقدمة:

ارتبط مصطلح (التجديد) بالجانب الفكري إلى حد كبير، بحيث صار ينظر إلى هذه المفردة على إنها تقتصر على هذا الجانب دون سواه. وقد خضع لهذا الفهم جمهور من الكتّاب والمفكرين والمثقفين، فقيّموا التجديد على إنه ظاهرة فكرية أولا وأخيراً.

ورغم صحة هذه الرؤية في عمومها، إلاّ أنها لا تعكس الحقيقة كاملة، فالتجديد لا ينحصر على الحقل الفكري وحده، بل يتعداه إلى المجالات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية، باعتباره مشروعاً حضارياً في حياة الأمّة والمجتمع. ومن هنا يكون الفكر أحد آفاق المشروع التجديدي الحضاري، مع التأكيد على قيمة هذا الحقل وموقعه في الحالة الحضارية بشكل عام، على أساس إنَّ البنية الفكرية هي القاعدة الأساسية في انطلاق المشروع التجديدي، وهي الّتي تحدد هويته ومتجهاته العامة في الواقع الإجتماعي.. وتدخل أيضاً في تحديد مساحته الجغرافية.. كما إنها قد ترسم مدياته المستقبلية وقدرته على الامتداد عبر الزّمن.

أنّ حصر التجديد بالجانب الفكري وحده يحجم التجديد كظاهرة حضارية مؤثرة في المسار التاريخي للأمم والشّعوب، ويحذف من سجلاتها التاريخية العديد من المحاولات، إضافة إلى أسماء القائمين بها في مختلف الفترات.

إنّ التجديد فعل حضاري محرك في الحياة الإجتماعية وله مجالاته المتنوعة ومظاهره المختلفة الّتي تتحدد على أساس حاجة الواقع الإجتماعي، فقد يفرض الواقع في بعض الفترات أن يكون مجال التجديد في البناء الفكري، وقد يفرض في فترات أخرى الحركة السياسية أو الموقف الثوري. وهنا يأتي دور الرمز المجدد وقدرته في تحديد الخيار المناسب.

إننا ننطلق من هذه الفكرة من خلال دراسة التاريخ الإسلامي ودور أئمة أهل البيت في حياة الأمّة، فهم عليهم السّلام الرواد الحقيقيون لحركات تجديدية متتالية حيث كان كل إمام يضطلع بدور خاص به ويأتي الإمام الّذي يليه ليستكمل هذا الدّور، أو يبدأ حركة تجديدية من خلال حاجة الظرف إلى ذلك.

فالإمام الحسين عليه السّلام كانت الظروف الّتي عاصرها تستدعي القيام بعمل ضخم ومؤثر بشكل كبير من أجل إعادة الأمّة إلى أصالتها الضّائعة، بعد أنْ تعرضت لمحاولات إبعادها عن نهجها الإسلامي الأصيل نتيجة سياسات الأمويين المنحرفة. فقد استطاع حكامهم تصوير الخلافة على أنها منصب مقدس يجب طاعته حتّى لو كان الخليفة منحرفاً عن الإسلام معادياً لنهجه مثل معاوية ويزيد وغيرهما. واستطاعوا أن يوجدوا تياراً من وعاظ السّلاطين يقدمون للأمّة فكراً منحرفاً تحت اسم الإسلام، وكان هذا التيار ينمو ويتعاظم بشكل خطير بفعل التخطيط المبرمج والدّعم المادي الّذي يقدمه حكام الخلافة الأموية في هذا الإتجاه.

لقد كانت الحركة الإسلامية تحتاج إلى حركة تجديدية أساسية، تعيد الواقع إلى أصالته الإسلامية، وتنبه الأمّة بما يشبه الصّدمة إلى انزلاقها في تيار الإنحراف الأموي، وضرورة العودة إلى الخط الصّحيح بعد أن ضاعت أحكام الإسلام، وأصبح الخليفة هو الّذي يحدد الأحكام حسب رغباته وأهوائه.

ومن هنا كان الإمام الحسين عليه السّلام يؤكد للأمّة إنه خرج في حركته لطلب الإصلاح في أمة جده صلى الله عليه وآله وسلّم، ولم يكن في المجتمع الإسلامي شخص غيره قادر على القيام بهذا الدّور، لما يتمتع به عليه السّلام من مكانة متميزة في نفوس المسلمين لكثرة ما ورد في حقّه وفي حقّ أهل البيت عموماً من آيات قرآنية ومن أحاديث نبويّة تبين عظيم منزلتهم وإنهم والقرآن الكريم حقيقة واحدة، كما في الحديث الشّريف: «إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين كتاب الله عزّ وجلّ وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السّماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف أخبرني إنهما لن يفترقا حتّى يردا علي الحوض، فانظروا بم تخلفوني فيهما»[1].

وفى ضوء ذلك، كان الإمام الحسين هو الإنسان الوحيد الّذي انيطت به تلك المهمة الخطيرة في تصحيح مسار الأمّة، وكان عليه أن يختار أحد أمرين:

أمّا أن يبايع يزيد، وإِمّا أنْ ينكر أعماله وينكر على المسلمين كافة إقرارهم أعمال يزيد، وبذلك يغيّر ما كانوا عليه، ويمكّن الأئمة من بعده من أن يقوموا بإحياء ما اندرس من شريعة جده صلى الله عليه وآله وسلّم وهذا ما اختاره الحسين عليه السّلام واستهدفه في قيامه[2].

وبهذا الموقف العظيم الّذي ضحّى به الإمام الحسين بنفسه وبأهل البيت أحدث التجديد الحقيقي للشريعة ونبّه الأمّة إلى مسؤوليتها التاريخية الكبيرة بعد أن كانت غارقة في الجمود. وبذلك تهيأت قطاعات منها لنشر الإسلام الصّحيح من جديد من خلال الإرتباط بأئمة أهل البيت عليهم السّلام، وبدأ الأئمة اعداد الأمّة لمرحلة تقبل الفكر الأصيل بدءاً من الإمام السّجاد ومن بعده الإمام الباقر ليبدأ الإمام الصّادق حركته التجديدية العملاقة على الصّعيد الفكري، حيث كانت الظروف تستدعي القيام بهذا الدّور الفكري الرائد.

واستمر الدّور الرائد للأئمة عليهم السّلام حتّى غيبة الإمام المهدي عليه السّلام، لإعادة الإسلام الصّحيح إلى المجتمع في حركة تجديدية هائلة (فأعادوه حكما بعد حكم وعقيدة بعد عقيدة حتّى تم في نهاية هذا العهد تبليغ جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وأبعد عنه كل محرّف وزائف في حدود من تقبّل منهم وتم تدوين سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في رسائل صغيرة ومدونات كبيرة… وبذلك انتهى واجب الأئمة التبليغي في نهاية هذا العهد كما انتهى واجب رسول الله التبليغي في آخر سنة من حياته)[3].

لقد كان أئمة أهل البيت عليهم السّلام الرواد المتفردين في إحياء الدّين، وتجديد الواقع الإسلامي العام من خلال أدوارهم المتنوعة حسب طبيعة الظروف الّتي يعيشها كل إمام والّتي تستدعي القيام بدور خاص تتطلبه الأجواء العامة للحياة الإسلامية.

وقد أكد الشّهيد الصّدر على هذه الفكرة وقدم تصوراته المبدعة لها في سلسلة من المحاضرات تحت عنوان: «أهل البيت… تنوع أدوار ووحدة هدف».

ونختار من أفكاره بعض الفقرات الّتي تبين رأيه في هذا الخصوص يقول رضوان الله عليه (وحين ندرس الأئمة ككل ونربط بين هذه النشاطات، وبعضها ببعض ونلاحظ إنّ العلميات وضعت على مدى ثلاثة أجيال، نجد أنفسنا أمام تخطيط مترابط يكمل بعضه بعضا، ويستهدف الحفاظ على تواتر النصوص عبر أجيال عديدة حتّى تصبح في مستوى الوضوح والإشتهار، تتحدى كل مؤامرات الإخفاء والتحديد)[4].

ويؤكد رضوان الله عليه على هذه الحقيقة في فقرة أخرى بقوله:

(وفي عقيدتي، إنّ وجود دور مشترك مارسه الأئمة جميعاً، ليس مجرد افتراض نبحث عن مبرراته التاريخية، وإنما هو ما تفرضه العقيدة نفسها وفكرة الإمامة بالذات، لأنّ الإمامة واحدة في الجميع بمسؤولياتها وشروطها، فيجب أن تنعكس انعكاساً واحداً في شروط الأئمة عليهم السّلام وادوارهم مهما اختلفت ادوارها الطارئة بسبب الظروف والملابسات، ويجب أن يشكل الأئمة بمجموعهم وحدة مترابطة الأجزاء، ليواصل كل جزء من تلك الوحدة الدّور للجزء الآخر ويكمله)[5].

إننا نلاحظ في هذه النصوص الّتي طرحها الشّهيد الصّدر إنه يفسر دور الإمام في ضوء المشروع التجديدي الّذي قام به من أجل تأكيد الأصالة الإسلامية ودفع الأمّة بالإتجاه الصّحيح الّذي يريده الإسلام.

وقد كان لمنهج الأئمة عليهم السّلام في التجديد اثره الأكبر في ظهور الحركات والمشاريع التجديدية في الحياة الإسلامية على يد علماء مدرستهم الإسلامية الأصيلة كلمّا دعت الحاجة إلى ذلك، مستهدين بمنهجهم الرائد في هذا الإتجاه.

التجديد وحركة الزّمن

يرتبط مفهوم التجديد بشكل مباشر مع حركة الزّمن، فهي الّتي تمثل الإطار العام لتكوّن الدّوافع التجديدية في النطاق الفكري والإجتماعي. إذ لا يمكن أن نتصور ولادة حركات تجديدية متعاصرة في مقطع زمني واحد، فلكل ظرف زمني حركته الخاصة في مجال التجديد.. حركة تنبثق من المعطيات العامة للواقع المعاش بكل مركباته الثقافية، والإجتماعية، والإقتصادية، والسياسية، مما يشكل دافعاً لانطلاقة حركة التجديد الّتي لابد أن تأخذ بالإعتبار هذه المعطيات في بلورة أسس الحركة التجديدية.

وربما يثار أمام هذه الفكرة الّتي قررناها بسرعة، ملاحظة مفادها أن التاريخ شهد انبثاق عدة محاولات تجديدية في ساحة واحدة في الفترة نفسها. وهذه الحقيقة تاريخية لها مصاديقها في التاريخ القديم والحديث، وفي حياة الكثير من الأمم والشّعوب، بصرف النظر عن انتماءتها العقائدية وهويتها العرقية، ولا مجال للتشكيك في هذه الحقيقة على الإطلاق.

نحن نتفق مع هذه الملاحظة، لكن الّذي نريد أن نؤكد عليه في هذا الخصوص أن تلك المحاولات لا تمثل حركات تجديدية متعددة، إنما هي تشكل بمجموعها حركة واحدة في التجديد، لكن باتجاهات متنوعة وبأساليب متعددة، كان روادها رجال أكفاء تمتعوا بمواصفات ذاتية عالية، فحرّك كل واحد منهم اتجاهاً تجديدياً ضمن الخط العام لحركة التجديد في عصره ومجتمعه. ويمكن أن نجد العديد من الشّواهد التاريخية على ذلك.

ففي النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، ظهرت حركة تجديدية في الفكر الشّيعي تمثلت في حفظ تراث أئمة أهل البيت عليهم السّلام، فقد كتب محمد بن الحسن الصّفار الأعرج (ت 290) كتابه (بصائر الدّرجات في علوم آل محمد)[6] الّذي كان بداية حقيقية للموسوعات الحديثة، وبادرة تجديدية في هذا الحقل الحساس من حقول المعرفة الإسلامية. ثم تلاه الشّيخ الكليني في تدوين كتابه (الكافي)، والكليني أحد رموز التجديد في عصره، وأحد الخالدين في التاريخ الثقافي الشّيعي.

كما برز الشّيخ ابن بابويه القمي (ت 329) ضمن حركة التجديد هذه ليضيف لها أبعاداً جديدة، فهو أول من ابتكر طرح الأسانيد وجمع النظائر، وأتى بالخبر مع القرينة[7].

ثم أكمل منهجه ابنه الشّيخ الصّدوق (381) الّذي تجاوزت تأليفاته الثلثمائة كتاب من أشهرها كتابه (من لا يحضره الفقيه) وهو أحد الكتب الأربعة للشيعة الّتي ظلت ممتدة عبر الزّمن تحتفظ بتألقها وبريقها اللامع وأهميتها العلمية المتميزة[8].

لقد أسفرت تلك النشاطات عن بلورة اتجاه حديثي رائد في تاريخ التشيع وكان مركز الفقهاء المحدثين مدينة قم المقدسة فقد جاء في اللوامع للمجلس الأول ص 149 ان زمان علي بن الحسين بن موسى بن بابويه كان في قم من المحدثين مائتا ألف رجل محدث[9].

وهذا الرقم الكبير يشير إلى قوة تلك الحركة التجديدية وإمكانيتها على التأثير في الحياة الإجتماعية وقدرتها في التحول إلى تيار عام مؤثر في الحياة الثقافية آنذاك.

إنّ كل من هؤلاء الرموز هو مجدد كبير لا يرقي إليه الشّك، وهم جميعاً ينتمون إلى حركة تجديدية واحدة في مجال الحديث والرواية، وإنّ هذه الحركة ما كان لها أن تتبلور بالشكل الّذي حدث والّذي فرض نفسه على امتداد العصور وواكب بكفاءة حركة الزّمن، لولا تضافر جهود رموزه واستكمال اللاحق منهم لجهود السابق، مما جعل الحركة حية قادرة على الإستمرار والعطاء، وكذلك جعلها تختزن عناصر استمراريتها وتجددها من خلال اعداد الأجيال الّتي تحمل رايتها ومعالم منهجها، فلم تتحجم داخل اطارها الخاص ولم تتوقف في منتصف الطريق، بل امتدت مع الزّمن قوية مؤثرة.

وخلال تلك الفترة أيضاً ظهر الشّيخ المفيد (ت 413) كرائد لمدرسة تجديدية في الكلام والفقه والتاريخ، وقد طور مدرسته تلميذه السيد المرتضى (ت 436) حيث كان من أوائل المنادين بالإجتهاد، وترك أثره الخالد (الشّافي في الإمامة).

وقد امتدت هذه الحركة التجديدية واستطاعت أن تحتل موقعها في الحياة العلمية الإسلامية بشكل مؤثر ممتد مع الزّمن على يد الشّيخ الطوسي (ت 460) الّذي تتلمذ على يد المفيد والمرتضى وأسس فيما بعد مدرسة النجف الأشرف خالدة الدّهر. وبلغ عدد تلامذته أكثر من ثلثمائة مجتهد، وترك تراثاً غنياً لا يزال حيّاً معتمداً إلى اليوم مثل كتابه (الإستبصار) وكتابه (التهذيب) وهما من الكتب الأربعة الّتي لا يمكن الإستغناء عنهما عند علماء الشّيعة.

والشّيخ الطوسي هو أول من فتح باب الإجتهاد المطلق، وهو الّذي نظم مناهج الإستنباط والبحث الأصولي[10]. ويجب أن لا ننسى إنّ هذه الحركة كانت تتطور وتسبق الأحداث في ظل ظروف صعبة من الناحيتين السياسية والإجتماعية.. فعلى الصّعيد السياسي كانت السلطة البويهية تعيش فترة التدهور والضّمور في بغداد نتيجة الإضطرابات والأوضاع القلقة.. وعلى الصّعيد الإجتماعي كانت الطائفية تتأجج نارها بشدة حتّى وصل الأمر إلى إحراق المكتبات والأضرحة، فضاع نتيجة ذلك تراث كبير من نتاجات علماء الإسلام لم يعوض أبدا.

لكن رغم صعوبة تلك الظروف الّتي كانت تسير بشكل معاكس للحركة العلمية، إلاّ إنّ حركة التجديد ظلت مستمرة، واستطاعت أن تفرض وجودها بقوة على الواقع وإنّ تغير حركة الزّمن لصالحها، وهذه هي ميزة المشاريع الّتي تستند إلى الموضوعية والأصالة.

إنّ خلاصة الفكرة الّتي نطرحها هنا والّتي أتينا على ذكر هذه الشّواهد التاريخية، هي إنّ حركة التجديد مرتبطة بحركة الزّمن ولا يمكن ولادة أكثر من حركة في الحقل الواحد في فترة واحدة. وإنّ رموز الفترة الزّمنية الواحدة المجددين هم أصحاب اتجاه تجديدي ضمن الحركة التجديدية نفسها. ويجب التأكيد في هذا الخصوص إنّ هذه الفكرة لا تعني بأي حال من الأحوال التقليل من دور الرموز، فلكل دوره المشهود الذي يفوق محاولات التقييم والإشادة، بل إنّ عظمة الرمز تكمن في قدرته على إضافة مساهماته في الحركة الّتي يجد فيها سرّ النجاح والعطاء فيزيدها عطاءً، ويذوب فيها من أجل أن يدفع بها إلى الأمام لكي تتحقق أغراضها العليا وأهدافها الكبيرة. وتلك هي سيرة العظماء في التاريخ عندما يتعاملون مع قدراتهم الذاتية على إنها المباديء وحقّ الأمّة وليست ملكا شخصياً للذات.

ويجب التأكيد أيضاً إنّ الرمز المجدد ضمن حركة تجديدية يتمتع بالقدرة على تأسيس حركة جديدة عندما تستدعي الظروف ذلك، كما سيأتي في هذه الدّراسة.

التجديد مشروع واقعي

إنّ التلازم بين التجديد وبين عامل الزّمن يتمثل في علاقة متفاعلة تتداخل فيها الخطوط، مما يفرض التأمل بدقة من أجل استكشاف مكوناتها ومؤثراتها المتبادلة.

فالتجديد لا يولد من خلال رغبة مجردة تحاول أن تجسد نفسها في واقع الأمّة إنّ مثل هذه المحاولة لا يمكن أن تتحقق علمياً، لأنها تفتقر إلى المقدمات الميدانية الحقيقية، فهي أشبه ما تكون بقفزة في الفراغ.

إنّ التجديد حاجة يفرضها الواقع العام بكل مكوناته الثقافية والإجتماعية والسياسية… والتجديد مشروع متكامل ينطلق من أرضية واقعية، ومن نظرة شمولية تستوعب حركة الزّمن بدقة ووعي، وهذا ما يميز المشروع التجديدي عن غيره من المحاولات الأخرى.

لقد ولدت الكثير من المحاولات في حياة الأمم والشّعوب في كل فترة من فتراتها، غير إنها لم تتمتع بالقدرة على استيعاب واقعها استيعاباً موضوعياً واعياً، فلم تستطع أن تتحول إلى تيار تجديدي مؤثر في حركة الزّمن، ممّا جعلها تنزوي وتنطفئ سريعاً.

كما إنّ هناك الكثير من المحاولات الّتي رصدت الواقع بدقة وتوافرت على نظرة واسعة لمؤثرات الظروف الميدانية، لكنها مع ذلك لم تتحول إلى حركة تجديدية، بل بقيت في حدود الظرف الّذي ولدت فيه، وتجمدت خطواتها هناك فلم تستكمل الطريق. ولعل السبب يعود إلى انها لم تتوافر على الإرادة الكاملة الّتي تحوّل المشروع إلى حقيقة ميدانية ملموسة على أرض الواقع وهو ما يمكن أن نصطلح عليه بالشخصية التجديدية، ولذلك عجزت عن استباق الزّمن أو مواكبته، فكانت صدى يتردد وخطوات مثقلة تتحرك وراء الزّمن.إنّ قيمة الحركة التجديدية هي في قدرتها على الإنطلاق في ظرف معين وتحريك عناصر هذا الظرف باتجاه المستقبل في خطوات متسقة مع حركة الزّمن، بحيث لا تتأخر عنه ولا تتخلف مهما كانت الحركة متسارعة حتّى تحقق أغراضها. وهذا هو الفارق بين حركة التجديد.. وبين غيرها من المحاولات الّتي تولد وتموت قبل أن تحقق غرضها وقبل أن تركز هويتها في الذاكرة الإجتماعية.

إنّ التجديد ليس رغبة لفعل شيء ما، بل هو منهج متوازن يحتاج إلى العقل الّذي يستوعب الواقع من أجل أن يقيّم ويخطط ويبدع… ويحتاج إلى الظرف المناسب من أجل أن ينفّذ برامجه بواقعية… ويحتاج إلى الإرادة على الفعل والمواصلة من أجل أن يستمر في العطاء، وبعبارة أخرى، إلى الشّخصية التجديدية.

وفي ضوء هذه الفكرة نحاول أن ندرس الفهم الّذي يقدمه الإمام الشّهيد الصّدر للمشروع التجديدي.

عوامل التجديد في رؤية الشّهيد الصّدر:

عندما يدرس الإمام الشّهيد رضوان الله عليه، المشاريع التجديدية فإنه يقدم رؤية موضوعية شمولية في تقييم التجربة موضوع الدّراسة، وذلك لعاملين أساسيين:

الأوّل: ما تميز به الشّهيد الصّدر من قدرة عالية في كل المجالات الّتي تناولها بالبحث والدّراسة، وهذه سمة طبعت حياته العلمية بالكامل رغم قصر عمره المبارك. فهو باحث من طراز خاص، إذ إنه لا ينطلق في دراسته من محاولات تجزيئية تنحصر في جو الدّراسة، بل إنه قدس سره يجعل الدّراسة كمنهج عام عنده خاضعة لرؤية شمولية عامة يندرج موضوع الدّراسة ضمن سياقاتها الكلية. وعلى هذا فإنّ رؤيته للمشاريع التجديدية تستند إلى العمق الشّمولي الّذي تحتاجه مثل هذه الدّراسات عادة.

الثاني: إنّ الشّهيد الصّدر هو نفسه مجدد وصاحب حركة تجديدية مؤثرة في واقعه الثقافي والإجتماعي والسياسي، الأمر الّذي يجعل من تقييماته للتجارب التجديدية على قدر كبير من الأهمية، لأنها منطلقة من عقلية تجديدية حقيقية ومن نظرة ترصد الماضي والحاضر والمستقبل بهموم التجديد.

وسنحاول هنا أن ندرس تجربة الشّيخ الطوسي كنموذج للتجديد كما تناولها الشّهيد الصّدر رضي الله عنه.

رؤية الشّهيد الصّدر لتجربة الطوسي:

يرى الشّهيد الصّدر إنّ مساهمة الشّيخ الطوسي في علم الاصول لم تكن مجرد استمرار للخط، بل كانت تطوراً جديداً ضمن التطور الشّامل في التفكير الفقهي والعلمي الّذي حققه. وقد تمثل ذلك في مجال الاصول بكتابه (العدة) وفي مجال الفقه بكتابه (لمبسوط). ومن خلال هذا الإنجاز يعتبر الشّهيد الصّدر إنّ الشّيخ الطوسي حد فاصل بين عصرين يطلق عليهما العصر التمهيدي والعصر العلمي الكامل، (فقد وضع هذا الشّيخ الرائد حد للعصر التمهيدي وبدأ عصر العلم الّذي أصبح الفقه والاصول فيه علماً له دقته وصناعته وذهنيته العلمية الخاصة)[11].

ثم يتناول الشّهيد الصّدر دراسة هذه التجربة التجديدية في ضوء موقعها في الترتيب الزّمني للحركة العلمية، فيتعبر إنّ البحث الفقهي الّذي سبق الشّيخ الطوسي كان يقتصر في الغالب على إستعراض المعطيات المباشرة للأحاديث والنصوص أي إصول المسائل، ويرى في كتاب المبسوط (محاولة ناجحة عظيمة في مقاييس التطور العلمي لنقل البحث الفقهي من نطاقه الضّيق المحدود في إصول المسائل إلى نطاق واسع يمارس الفقيه فيه التفريع والتفصيل والمقارنة بين الأحكام وتطبيق القواعد العامة ويتتبع أحكام مختلف الحوادث والفروض على ضوة المعطيات المباشرة للنصوص)[12].

ويؤكد الإمام الشّهيد على أهمية الترابط في مشروع التجديد الفكري مع حركة الزّمن وذلك بقوله: (إنّ التطور الّذي أنجزه الشّيخ (الطوسي) في الفكر الفقهي كان له بذوره الّتي وضعها قبله أستاذاه السيد المرتضى والشّيخ المفيد وقبلهما ابن أبي عقيل وإبن الجنيد…. وكان لتلك البذور أهميتها من الناحية العلمية حتّى نقل عن أبي جعفر بن معد الموسوي وهو متأخر عن الشّيخ الطوسي إنه وقف على كتاب ابن الجنيد الفقهي واسمه (التهذيب) فذكر إنه لم ير لأحد من الطائفة كتاباً أجود منه ولا أبلغ ولا أحسن عبارة ولا أرق معنى منه، وقد استوفى فيه الفروع والاصول وذكر الخلاف في المسائل واستدل بطريقة الإمامية وطريق مخالفيهم. فهذه الشّهادة تدل على قيمة البذور الّتي نمت حتّى آتت أكلها على يد الطوسي)[13].

ويلخص الشّهيد الصّدر رؤيته لتجربة الطوسي التجديدية في بعدها الزّمني بقوله: (ما مضى المجدد محمد بن الحسن الطوسي قدس سره حتّى قفز بالبحوث الإصولية وبحوث التطبيق الفقهي قفزة كبيرة وخلّف تراثاً ضخماً في الاصول يتمثل في كتاب العدة وتراثاً ضخماً في التطبيق الفقهي يتمثل في كتاب المبسوط. ولكن هذا التراث الضّخم توقف عن النمو بعد وفاة الشّيخ المجدد طيلة قرن كامل في المجالين الإصولي والفقهي على السواء).

وهذه الحقيقة بالرغم من تأكيد جملة من علمائنا لها تدعو إلى التساؤل والإستغراب، لأن الحركة الثورية الّتي قام بها الشّيخ في دنيا الفقه والاصول والمنجزات العظيمة الّتي حققها في هذه المجالات كان المفروض والمترقب أن تكون قوة دافعة للعلم وإن تفتح لمن يخلف الشّيخ من العلماء آفاقاً رحيبة للإبداع والتجديد ومواصلة السير في الطريق الّذي بدأه الشّيخ، فكيف لم تأخذ أفكار الشّيخ وتجديداته مفعولها الطبيعي في الدّفع والإغراء بمواصلة السير)[14].

ويقدم الإمام الصّدر تفسيره لهذه الظاهرة الغريبة، من خلال دراسته للظروف الزّمانية، حيث يرى إنّ هجرة الطوسي الى النجف الأشرف فصلته عن حوزته المبدعة في بغداد، وإنه ركّز على التفاعل مع أفكاره العملاقة، فكان لابد من مرور فترة زمنية حتّى تصل إلى مستوى استيعاب أفكاره والتفاعل معها حيث كتب يقول:

(فهجرته إلى النجف وإن هيأته للقيام بدوره العلمي العظيم لما أتاحت له من تفرغ ولكنها فصلته عن حوزته الأساسية، ولهذا لم يتسرب الإبداع الفقهي العلمي من الشّيخ إلى تلك الحوزة الّتي كان ينتج ويبدع بعيداً عنها، وفرق كبير بين المبدع الّذي يمارس إبداعه العلمي داخل نطاق الحوزة ويتفاعل معها باستمرار وتواكب الحوزة إبداعه بوعي وتفتح، وبين المبدع الّذي يمارس إبداعه خارج نطاقها وبعيداً عنها.

ولهذا كان لابد لكي يتحقق ذلك التفاعل الفكري الخلاق إن يشتد ساعد الحوزة الفتية الّتي نشأت حول الشّيخ في النجف حتّى تصل إلى ذلك المستوى من التفاعل من الناحية العلمية، فسادت فترة ركود ظاهري بانتظار بلوغ الحوزة الفتية ذلك المستوى، وكلّف ذلك العلم أن ينتظر قرابة مائة عام ليتحقق ذلك ولتحمل الحوزة الفتية أعباء الوراثة العلمية للشيخ حتّى تتفاعل مع آرائه وتتسرب بعد ذلك بتفكيرها المبدع الخلاق إلى الحلة)[15].

ونستطيع أن نفهم من رؤية الشّهيد الصّدر في تفسيره هذا، إنّ الشّيخ الطوسي سبق حركة الزّمن في مشروعه التجديدي العملاق، وتقدم على واقعه بمسافة زمنية طويلة، ويمكن أن نتصور حجم هذا الإنجاز بشكله الحيّ عند التأمل في المراحل الّتي تلت مرحلة الطوسي والّتي تحولت فيها النجف إلى المعقل الأوّل للفكر الشّيعي بمنجزاته العلمية الرائدة..

ويقلل الشّهيد الصّدر من أهمية التّفسير السائد لظاهرة الجمود العلمي الّذي أعقب الشّيخ الطوسي والقائل بأن قداسة الشّيخ الطوسي منعت الآخرين من العلماء من مناقشة آرائه. فيقدم سبباً آخر في تفسير هذه الظاهرة يسير في سياق الأوّل من حيث ارتباطه بعامل الزّمن، وهو ان الفكر السّني في تلك الفترة قد تحجم في دائرة التقليد وأغلق باب الإجتهاد رسمياً، وبذلك انكمش الفكر الإصولي السّني ومني بالعقم علي حد قول السيد الشّهيد الأمر الّذي جعل التفكير العلمي لعلماء الشّيعة يفقد أحد محفزاته المحركة.

ويؤكد الشّهيد الصّدر إنّ الحركة التجديدية الّتي أحدثها الشّيخ الطوسي والّتي عاشت توقفاً نسبياً بعده، عادت من جديد للتفاعل بالمستوى الّذي يتناسب مع أفكاره. وذلك على يد الفقيه المبدع محمد بن أحمد إبن إدريس (ت 598) الّذي انطلق في حركته التجديدية من تقدير دقيق للظروف الفكرية الّتي يعيشها الواقع العام والّتي اتسمت بالجمود، فقرر أن يعيد الحياة فيها من جديد، وتمكن بالفعل من إحداث نقلة نوعية في الواقع الّذي عاصره، على إنّ من المهم أن نتذكر إنّ هذه النقلة عندما حدثت فإنها أدركت حينذاك مستوى الشّيخ الطوسي، وكأنّه كان لا يزال حيّاً إلى تلك الفترة الزّمنية.

ويعود السيد الشّهيد إلى تفسير ظاهرة الإنطلاقة الجديدة للفكر الشّيعي في تجربة إبن إدريس، مستنداً على حركة الزّمن حيث يقول إنّ (الحوزة العلمية الّتي خلّفها الشّيخ الطوسي سرى فيها روح التقليد لأنها كانت حوزة فتية، فلم تستطع أن تتفاعل بسرعة مع تجديدات الشّيخ العظيمة، وكان لابد لها أن تنتظر مدة من الزّمن حتّى تستوعب تلك الأفكار وترتفع إلى مستوى التفاعل معها والتأثير فيها، فروح التقليد فيها كانت مؤقتة بطبيعتها)[16].

هذه باختصار رؤية الشّهيد الصّدر لتجربة الشّيخ الطوسي التجديدية والّتي يؤكد فيها رضوان الله عليه على أهمية عامل الزّمن في مشاريع التجديد الّتي ظهرت في تاريخ الفكر الإسلامي واستطاعت أن تفرض وجودها واستمراريتها مع حركة الزّمن، وقد اخترنا نموذج الشّيخ الطوسي في دراسة الشّهيد الصّدر باعتبار إنّ تجربته تمثل سبقاً لحركة الزّمن.

التجديد وحركة الزّمن في فكر الشّهيد الصّدر

يرى الشّهيد الصّدر إنّ المشروع التجديدي يتنامى من خلال عامل الزّمن، حيث تكون كل مرحلة مقدمة للمرحلة التالية. وذلك في المجال الواحد من مجالات التجديد، ففي التجديد الفكري وبالتحديد التجديد الإصولي، يحدد الشّهيد الصّدر العصور الثلاثة التالية:

أولا: العصر التمهيدي، ويعتبر قدس سره إنّ هذا العصر بدأ بإبن أبي عقيل وإبن الجنيد، وفيه وضعت البذور الأساسية لعلم الاصول.

ثانياً: عصر العلم، وهو العصر الّذي بدأ بالشيخ المجدد الطوسي فكان رائده ورمزه الأكبر. وفي هذا العصر تحددت معالم الفكر الإصولي على أساس البذور الأولى. وكان من رجال هذا العصر إبن إدريس والمحقق الحلّي والعلامة الحلّي والشّهيد الأوّل.

ثالثاً: عصر الكمال العلمي، وبدأ هذا العصر على يد المجدد الوحيد البهبهاني أواخر القرن الثاني عشر الهجري، وفيه واصل رجال هذه المدرسة التجديدية مشروع البهبهاني التجديدي على امتداد فترة زمنية قاربت النصف قرن.

ويرى الشّهيد الصّدر إنّ هذا التقسيم الزّمني العام، تتفرع عنه تقسيمات زمنية فرعية حيث يقول: (ولا يمنع تقسيمنا هذا لتاريخ العلم إلى عصور ثلاثة، إمكانية تقسيم العصر الواحد من هذه العصور إلى مراحل من النمو، ولكل مرحلة رائدها وموجهها، وعلى هذا الأساس نعتبر الشّيخ الأنصاري قدّس سره المتوفى (1281) رائداً لأرقى مرحلة من مراحل العصر الثالث وهي المرحلة الّتي يتمثل فيها الفكر العلمي منذ أكثر من مائة سنة حتّى اليوم)[17].

وهكذا نرى إنّ الشّهيد الصّدر قدّس سره يؤكد على التجديد من خلال عامل الزّمن وفق ترابط دقيق في العلاقة بينهما، نستطيع أن نلخصها بالمرتكزيين التاليين:

الأوّل: إنَ الحركة التجديدية إنما تنبثق نتيجة اتجاه عوامل موضوعية تفرضها طبيعة الظروف العامة في مرحلة زمنية محددة، فقد يبرز اتجاه تجديدي يسبق الزّمن كما هو الحال في تجربة الشّيخ الطوسي، وقد يبرز اتجاه تجديدي يواكب الزّمن ويمنع التخلّف عنه كما في تجربة الوحيد البهبهاني.

الثاني: إنّ الفترة الزّمنية لطول العصر العلمي إنما تتحدد في ضوء مهمة الحركة التجديدية وخصائصها المميزة مما يجعل إمكانية تقسيمه إلى مراحل زمنية متعددة كما في العصر الثالث لتطور علم الاصول.

وفي الختام أوجّه الدّعوة من جديد إلى كل الإخوة المفكرين والباحثين إلى ضرورة الإستمرار في دراسة الشّهيد الصّدر كتجربة ومنهج ومدرسة رائدة في التجديد المعاصر.

حسين الشّامي

[1] الترمذي، ج 2، ص 380، ومستدرك الصّحيحين ج 3، ص 109. وقد ورد هذا الحديث بألفاظ أخر في الكثير من كتب الحديث عند الفريقين.

[2] مرتضى العسكري، معالم المدرستين 3، ص 336.

[3] المصدر نفسه ص 392

[4] الشّهيد الصّدر، أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف ص 142

[5] نفس المصدر

[6] عمر كحالة معجم المؤلفين، ج 9، ص 208.

[7] للوقوف علي رأي ابن بابويه في أسانيد الحديث راجع: البحراني، لؤلؤة البحرين ص 381.

[8] راجع الذريعة للطهراني، ج 1 ص 67 وأجزاء أخرى وردت فيها مؤلفات الشّيخ الصّدوق.

[9] الشّيخ يوسف البحراني، لؤلؤة البحرين ص 373 هامش 50 نقلا عن الدّكتور عبد الهادي الفضلي في تاريخ التشريع الإسلامي

[10] علي الفاضلي القائيني، علم الاصول تاريخاً وتطوراً، ص 134

[11] الصّدر، المعالم الجديدة للاصول، ص 56 – 57

[12] الصّدر، المعالم الجديدة للاصول: ص 60

[13] المصدر السابق، ص 62 – 63

[14] الصّدر، المعالم الجديدة للاصول، ص 62 – 63

[15] الصّدر، المعالم الجديدة للاصول، ص 66

[16] الصّدر، المعالم الجديدة للاصول، ص 70

[17] الصّدر، المعالم الجديدة للاصول، ص 89