منذ أربعة عشر عاماً ونحن نرثي فقيدنا الكبير آية الله الإمام السيد الشهيد الصدر (رضي الله عنه)، ونؤبنه في كل ذكرى سنوية تمر على استشهاده باقامة الاحتفالات والمهرجانات والخطابات، ونحن نرمي من وراء ذلك التعبير عن اعتزازنا بالفقيد الكبير وربما نقصد التعبير عن انتمائنا اليه أيضاً.
ان التعبير عن الاعتزاز بالشهيد الصدر (رضي الله عنه) والانتماء اليه، في وجداننا وسلوكنا لم يبرح تلك الاساليب في الاغلب الاعم، واذا ماتخطى بعضنا ذلك فان ثمَّة أساليب اخرى لاتخرج في منهجها عن الطابع الاحتفالي بشكل عام وان هي لم تندرج في سياق احتفالي تقليدي.
فالمنهج الاحتفالي يقوم على أُسس التوصيف والاطراء، والخطابية، والانفعال الذي يستهدف شد الجمهور إلى فقرات الحفل وتحريضهم للحظة الراهنة والهدف التعبوي الذي نعيش هاجسه بشكل كبير منذ كنا أصحاب قضية مقصيين عن وطنهم يرومون العودة اليه منتصرين.
ان مايصف ماكتب عن السيد الشهيد طيلة الفترة الماضية انه ظل أسير الطابع الاحتفالي والخطاب التقريري المستطرد في توصيف السيد الشهيد وشمائله أو توصيف كتاباته وعبقريته ونبوغه، على قاعدة الاندياح خلف ذات العناوين الكبيرة التي طرحها السيد الشهيد (رضي الله عنه) نفسه، فيدخل في فضائها الفكري والثقافي من ذات البوابات التي شيدها فقيدنا الغالي دون ان يستطيع ان يبرح إلى ماسواها، لانه لاشيء سواها حسبما يظن الكثير منا، فيكتب في الاقتصاد في فضاء اقتصادنا، ويكتب في الفلسفة من وحي فلسفتنا، ويكتب عن الاصول من ثنايا حلقات الاصول وهكذا دواليك مع مؤلفات السيد الشهيد الاخرى.
ان هذه الحالة وبالوقت الذي أوقفتنا عند حدود العناوين وعند حدود الحالة الخطابية السردية التحريضية المهيمنة على خطابنا الفكري والسياسي، فهي ايضاً قد أفضت إلى نتائج سلبية في واقعنا الفكري والاجتماعي وحتى السياسي، وقصّرت بالوقت ذاته بحق السيد الشهيد (رضي الله عنه) وغمطته قيمته الحقيقية، حيث انها أختزلت السيد الشهيد (رضي الله عنه)، إلى حدود عناوينه الفكرية الذي طرحها هو، فدارت حولها، وكررت دورانها إلى حد الدوخة والغثيان الامر الذي أثر سلباً على ماكان ينبغي ان يمتد في طوله وعرضه السيد الشهيد واقصد انها قلصت من امتداده في الزمان وتأثيره في المكان.
أستدل على ذلك بذكر شاهدين :
الأول : لقد قيل ـ أسفاً ـ إنّ السيد الشهيد ولد في زمانه ومات في زمانه، وان الزمن قد تجاوزه، وتجاوز اطروحاته وأفكاره، فالماركسية ماتت ومات معها كتاب فلسفتنا، وان مقولاته الفكرية محدودة، ومن طبيعة المحدود ان تتجاوزه حركة الزمن المتدفقة والمتطورة دوماً. ومن قال ذلك يضيف : انه لايجب ان نتكلس عند حدود السيد الشهيد (رضي الله عنه) بل يجب ان تتجاوزه إلى غيره، فالعصر الآن ليس عصر السيد الشهيد !؟
الثاني : في كتاب صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية، واسمه «الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي»، ثمة دراسة تتحدث عن الحركة الإسلامية في شمال افريقيا، وفيها احصاء أختيرت عينته من تونس، عن أهم الكتب الإسلامية المقروءة من قبل شباب الحركة الإسلامية هناك، فجاءت النتيجة ان القرآن الكريم هو أول كتاب مقروء وبنسبة 75 %، وكتب السيد الشهيد (رضي الله عنه) هي ثاني الكتب المقروءة عند شباب الحركة الإسلامية في تونس بعد القرآن فيما احتلت كتب لمؤلفين آخرين كالشهيد سيد قطب المراحل التالية.
هذا الشاهد يعطي الدليل على ان السيد الشهيد مايزال يؤثر بقوة في المكان ويحافظ على وجوده فيه، ولكنه ليس مكاننا نحن أبناء السيد الشهيد، وأتساءل هل حققنا نحن ذات النسبة آنفة الذكر ونحن أولى بذلك من اخواننا التونسيين لعلاقتنا الخاصة بالشهيد الصدر؟ وحينما لانجيب بنعم، ولا أحسب أن أحداً يستطيع الاجابة بنعم، فهذا يعني اننا فرضنا الحجر على السيد الشهيد ـ من غير قصد ـ، ومنعناه من الامتداد والتأثير في الزمان زماننا.
والسبب في ذلك ليس واحداً، وان كانت هذه الورقة تركز على الابرز من الاسباب في ذلك.
إذ من الاسباب، هيمنة الخطاب السياسي التحريضي الدعائي التعبوي بشكل عام على ساحة المعارضة الإسلامية بحكم امتداد فعل التعارض مع النظام البعثي في العراق وطول مدته، مما استلزم استدعاء بُعد الثورة والتضحية من السيد الشهيد والتركيز عليه دون الابعاد الاخرى التي حسبها خطابنا السياسي انها لاتفي بالغرض في هذه المرحلة !
ويبقى السبب الابرز والاهم في هذه المسألة ـ برأيي ـ هو المنهج الذي استخدمناه في قراءة السيد الشهيد، وفكره وأثره المعرفي والثقافي ـ والذي كان منهجاً ـ اذا ماأردت توصيفه، اتباعياً، تقليدياً تجزيئياً.
فاتباعية وتقليدية المنهج تجعل منا ـ نحن الشرقيين ـ المسلمين ـ نبذل قصارى جهودنا عند ارادة تأبين موتانا والتعريف بعطاءاتهم والتعبير عن الوفاء لهم، ان نستغرق في الرثاء والبكائيات والاوصاف والمديح والشعارات والعويل وما إلى ذلك مما هو مشهود عندنا، وتجزيئيته تجعلنا ونحن نروم قراءة السيد الشهيد (رضي الله عنه)، ان نتتبعه خطوة خطوة من بداية حياته وإلى استشهاده، من أول كتاب ألفه إلى آخر كتاب، ومن هذا العنوان إلى ذلك، فنتمسك بما نشاء، وندع ما نشاء، فيتعسر علينا فهمه خارج ماتمسكنا به من عناوينه الكبيرة، فنقع فى حبسها، ولانخال أن خلفها ثمة أشياء وأشياء، وموضوعات، وسنكون في خضم هذا المنهج عاجزين عن قراءة السيد الشهيد، فضلاً من معرفته، والتعريف به، واذاً كيف سنكتشف مااختفى خلف طبقات عناوينه، وفي ثنايا ماخطته يده المباركة، وانتشر في الآفاق..؟
لابدّ من منهج آخر نقرأ فيه فقيدنا فكراً وسلوكاً ومواقف، منهجاً يمكننا ـ بما فيه من ادوات ـ من اكتشاف السيد الشهيد ومعرفته لاغناء حياتنا الفكرية والثقافية بمعطياته، ولتحريك واقعنا ـ المرتبك ـ على غرار مايتحرك فيه واقع الإسلاميين في دول شمال أفريقيا العربية التي قرنت السيد الشهيد بالقرآن أو جعلته بعده مباشرة من حيث المطالعة والاهتمام والتأثر.
أن رجلاً مثل السيد الشهيد، لا يقرأ بمنهج وادوات من خارجه، ولابدّ من استعارة المنهج منه، لاكتشاف منظومات فكرية ومعرفية جديدة انتشرت في كتبه وخطاباته ومحاضراته، وستجد لها المزيد من العناوين التي ظلت تائهة في مجالنا الخاص، رغم انها سجلت حضوراً في المجالات الاخرى من خلال ملئها بالافكار فيما يخص قضايا المجتمع والنهضة الذي سطعت فيه اسماء بارزة ومعروفة.
اننا مضطرون إلى ذلك، لان يد الغدر الاثمة لم تمهل فقيدنا لكي يملأ الفراغات المتروكة، ولهذا سنتجه للتنقيب عن بعض الافكار والمقولات في فكره فنشيد على اسسها الابنية التي تحتاجها الاُمّة، ويسعفنا في ذلك ثراء وغنى الفكر الذي طرحه السيد الشهيد والذي لايزال مطموراً في تراثه المتروك لنا. وحينئذ لابدّ من طرح منهج آخر في قبالة المنهج الاتباعي التقليدي التجزيئي الذي قُرِئ فيه السيد الشهيد ـ طيلة الفترة الماضية ـ، وهو المنهج الموضوعي الذي يتأسس على فكرة استنطاق تراث السيد الشهيد الفكري حول موضوعات مأخوذة من الخارج وطرح التساؤلات عليه، والبحث عن اجوبتها في ثنايا بحوثه ومؤلفاته ورسائله ومحاضراته ومواقفه.
لقد كتب بعض الباحثين في فكر السيد الشهيد موضوعات أعتمد فى انتاجها على هذا المنهج، فطرحوا التساؤلات والموضوعات المأخوذة من الخارج عليه ونقبوا وبحثوا فجاءت النتائج موفقة.
تساءلوا..
هل ثَمَّةَ نظرية؟ سياسية عند السيد الشهيد؟
هل ثَمَّةَ فكرٌ ومقولات نهضوية عند السيد الشهيد؟
هل ثَمَّةَ قواعدُ ونظرية في الثورة والتغيير الاجتماعي عند السيد الشهيد؟
ماهي نظرية السيد الشهيد في الدولة الإسلامية..؟
ماهي نظريته في مسألة العلاقة مع الغرب؟
ماهو رأيه في مسألة المرأة؟
كيف يتطور العالم وما هي نظريته في تطور المجتمع الانساني؟
وهكذا عشرات بل مئات من الاسئلة والموضوعات التي ـ لم يبحثها السيد الشهيد بشكل مستقل ويخصص لها عناوين رئيسة يمكن للباحثين ان يكشفوا الاجابات الوافية عنها كما هو قد حصل عند بعض العناوين والتساؤلات الآنفة الذكر حيث طالعتنا دراسات ومقالات ومؤلفات اعطت الاجابة عنها بشكل أو بآخر.
وحري بالعلماء والمثقفين والباحثين ان يعتمدوا هذا المنهج الموضوعي للتعاطي مع تراث السيد الشهيد (رضي الله عنه) ليس فقط في ميدان الكتابة والبحث والتأليف، وانما في سائر الميادين الاخرى بما فيها حتى مراسيم احياء ذكراه السنوية ، حيث ينبغي الانطلاق بها بعيداً عن الاساليب الاحتفالية والخطابية التي استوفت الجماهير حقها فيها من رثائه والبكاء عليه ومعرفة مظلوميته، ولكنها لم تستوفهم حقهم بعد في معرفة افكاره ومناهجه وعطائه ، وصولاً إلى اعتماده مرجعاً فكرياً وحضارياً للاُمّة.
أما أهم المجالات التي يمكن وضع منهج لها لدراستها فهي :
1ـ منهج الاحياء :
تقدم الحديث عن المنهج الانتقالي السائد في التعبير عن احياء ذكرى استشهاد المرجع السيد الصدر (رضي الله عنه)، وعن طبيعة هذا المنهج القائم على الخطابية والانفعال والاطراء والرثاء والمديح وتكرار المطالب.
ونحن بالوقت الذي ندعو فيه إلى اتباع منهج احيائي آخر، لانعدم المنهج التقليدي السائد، ولانقلل من شأن فوائده على صعيد شد الجمهور والتأثير في عواطفهم وربما أفكارهم، ولكن هذا المنهج ولاكثر من ايجابياته آنفة الذكر يظل عاجزاً عن التطور وتلبية حاجات الجماهير من الوعي الذي كرَّسه المرجع الفقيد السيد الصدر (رضي الله عنه) في مجمل نتاجاته الفكرية والثقافية وهي ماتحتاج إلى قراءتها ودراستها من خلال اسلوب يعتمد برنامجاً علمياً متأنياً تُحشَدُ له بعض الطاقات العارفة بهذا النتاج والمهتمة به وهذا مالا تستطيع الانتقالات العامة من النهوض به.
إنّ مانعنيه بالتحديد هو اعتماد اسلوب الندوات المتخصصة لدراسة السيد الشهيد بكافة أبعاده وابداعاته من خلال مانطرح من اوراق بحثية تتمحور حول جانب معين يتوزع الدارسين والباحثين على ملء ابعاده المختلفة بالدراسات والبحوث والاثارات المأخوذة من وحي المحور المطروح للدراسة وموضوعاً رئيساً للندوة.
ان اقل مايمكن ان يتوفر عليه هذا المنهج من نتائج هو العملية في الطرح والنأي عن الاساليب العاطفية التي طفقت مؤسساتنا المهجرية تتبعها طريقةً لإحياء ذكرى المرجع الفقيد، مما سيوفر لنا تراثاً ضخماً من الافكار والابداعات والرؤى والتصورات، فيزيد هذا التراث في اكتشاف السيد الشهيد، وتطوير الوعي الإسلامي عامة، واستثارة الاذهان وتحفيز القابليات لابداع مماثل، أو لبناءات جديدة فوق ماتم اكتشافه من أسس فكرية ومفهومية ومسلكية ظلت غائمة او مجهولة لدى غير الدارسين والعارفين بالسيد الشهيد الصدر (رضي الله عنه) وبالاضافة إلى ذلك فان اتباع منهج الندوات الدراسية ـ يحفز الساحة لتلقي هذا الاسلوب الجديد والتفاعل معه والانفعال به مما سيؤسس لوعي «انتقالي» آخر، نأمل ان يحتل مواقع الاساليب القديمة التي ماعادت تلبي حاجات مجتمعنا في مثل هذا الموضوع، ولربما اعطت نتائج عكسية وسلبية بسبب مايتضمنها من انفعال وارتجال، وربما استغلال مقصود يسخر لاغراض سياسية وجهوية يتم بموجبه تسخير السيد الشهيد (رضي الله عنه) لاغراض خاصة تعتمد التزييف، تزيفه هو، قبل تزييف عقول الجماهير، بالاضافة إلى ماتضفيه هذه الاحتفالات من مناهج تجزيئية تشطر السيد الشهيد إلى عدة أقسام «مطوعة» حسبما تقتضيه مصالح الجهة صانعة الاحتفال، وبالتالي تشطر وعي الجمهور تبعاً لهذا المنهج، وتشطره ذاته ـ أي الجمهور ـ تبعاً لتعددية الاحتفالات وجهاتها الصانعة والراغبة لتعبئة الجمهور لصالحها.
ان المنهج العلمي المطروح اسلوباً لاحياء ذكرى السيد الشهيد (رضي الله عنه)، سوف يؤول حتماً إلى احياء فكر السيد الشهيد ومنهجه في العمل والسياسة والابداع والاخلاق، وسوف يصمد امام عمليات التطويع والتسخير و «التملك» التي يمارسها المنهج الاحتفالي السائد، لان الطرائقية العلمية التي يتبعها اسلوب الندوات، سوف تستعصي على كل ذلك لسبب بسيط هو ان المنهج المتبع (المقترح) فيها عصيٌّ على التسخير، ويستبطن التنوع، ويعتمد الاستقراء والنقد والتمحيص، فأي شيء بعد ذلك يظهر غير السيد الشهيد نفسه.
2ـ منهج الدراسة والتأليف :
المنهج الذي اتبع في مامضى من الزمان في مجال دراسة السيد الشهيد الصدر (رضي الله عنه)، او التأليف عنه، او في نطاق تقويم ابداعاته الفكرية، لم يبرح الجهود الفردية والشخصية للدارسين والمؤلفين سواء من جهة طرحها مشاريعَ، او من جهة التنفيذ، وهذا مايؤدي إلى جملة سلبيات نوجز بالذكر منها :
أ ـ ان الجهد الفردي في طرح المشاريع وتنفيذها يتميز بالمحدودية وغلبة النظر الشخصي عليه، مما سيفقده جانباً مهماً من الموضوعية والشمول والمتانة.
ب ـ ان الجهود الفردية في الدراسة والتأليف، قد تلتقي عند موضوع معين من غير سابق قصد أو اتفاق، فتكثر في هذا الموضوع النتاجات وتبعاً لذلك تظهر التباينات بين المؤلفين واختلاف وجهات النظر والتقييم رغم انهم جميعاً قد كتبوا في موضوع واحد عن السيد الشهيد، وأبرز مثل على ذلك مانشاهده من وفرة فيما كتب في المجال الاقتصادي باستيحاء من «اقتصادنا»، او فيها كتب في رؤى ونظرية السيد الشهيد السياسية، بحيث ان القارئ ليحار في فهم نظرية السيد الشهيد السياسية التي تمتد ـ حسب ما كُتب ـ من ايمانه بالحزب القائد إلى ولاية الفقيه قبل المطلقة وقيل غير المطلقة، إلى الجمع بين الشورى وولاية الفقيه… إلى الديمقراطية!!
جـ ـ ان الجهود الفردية (غير المتفقة) سوف تهمل جوانب كثيرة في فكر السيد الشهيد (رضي الله عنه) وشخصيته، فلا تتناولها بالدراسة أو التأليف عنها، أما لانها لاتحضى بأهمية عند الدارس أو الباحث، وأما لانها عسيرة الفهم عليه، أو لانها غير مكتشفة لديه.
د ـ إنّ الجهود الفردية قد تقوم بمشاريع كبيرة في هذا الاتجاه، كما في جمع تراث السيد الشهيد الصدر (رضي الله عنه) لاصداره كموسوعة وما شابه ذلك، لكن الميزة التي تبقى ملازمة لهكذا مشاريع هي البطء، واحتكار التراث وعدم الالمام به، مما يؤدي إلى حرمان الدارسين من اهم الوثائق التي استحوذ عليها المشروع والذي لايُعلم كم من الزمن سيستغرق حتى ترى النور فقد مضى أربعة عشر عاماً على بعض هذه المشاريع ولمّا تزل قيد العمل والتنقيب والجمع والاحتكار.
اما المنهج المقترح بهذا الصدد فهو مانعبر عنه بالمنهج الجماعي أو المؤسساتي للدراسة والتأليف، حيث ان هذا المنهج، وبالاضافة إلى انه لايحتوي السلبيات آنفة الذكر، فأنه سيتوفر على دراسة السيد الشهيد والتاليف عنه من وحي رؤية مدروسة وناضجة وملتزمة تستند إلى مؤسسة توظف لها امكانات وطاقات متنوعة ومتخصصة في هذا المجال. وسنوضع خارطة بحثية مدروسة يتم تنفيذها على مراحل وبمنهج دراساتي موضوعي استيعابي شامل، وسوف يتم التخلص من ظاهرة بطء المشاريع وأُحادية النظرة فيها، وتخليصها من التأثيرات الشخصية وما إلى ذلك.
ان مشروعاً مثل هذا وللاسف الشديد ليس لم يوجد فقط وانما حتى لم يُفكر به إلى هذا الحين، رغم ان ساحتنا المهجرية لم تزل تعصف بها السباقات المحمومة لتأسيس المزيد من المؤسسات والفعاليات ذات الطابع السياسي أو المذهبي.. الخ.
وأكثر هذه المؤسسات هي مشاريع فردية ايضاً، فبقيت تحمل جانب الفردية السلبية ولم تأخذ المنهج او الاسلوب المؤسساتي.
3ـ منهج التقييم ودراسة منهج السيد الشهيد الابداعي :
كان يخيل لبعضنا عندما يقول ان المرجع الشهيد محمد باقر الصدر (رضي الله عنه)، عبقري، ومفكر ومبدع، انه بلغ حقيقة السيد الشهيد (رضي الله عنه)، وقد عرّف بها. وعندما تتكرر هذه المعاني على لسان الخطباء والشعراء واقلام الكاتبين يحصل الشعور نفسه، علماً بأن تقرير هذه الاوصاف لايضيف للسيد الشهيد ميزة، ولا للامة وعياً جديداً، ولا للباحثين ثقافة هم بحاجة إليها، ولكن عندما تقلب هذا المنهج الشكلي إلى آخر يغوص في الاعماق سوف يمتلئ الجميع بمعطيات الشيء المُستكشَف، ولعلّ شيوع ذلك المنهج راجع إلى تعطل الدراسات او اختفائها في مجال الكشف عن منهج السيد الشهيد المتّبع في الدراسات والبحوث والمجالات الابداعية، فالشهيد الصدر لم يبدع لانه مجرد متفوق على نضرائه بالذكاء المبكر وحسب، وانما ابدع لانه اعتمد منهجاً خاصاً جمع فيه بين الاتجاه العلمي والموضوعي في المجالات البحثية والدراساتية وبين الاتجاه النقدي والاستقرائي لتمحيص الافكار والنظريات، وبين الاصالة والرجوع إلى المنابع وفق رؤية استكشافية عقلية اعتمدت قراءة المعطيات مهما كانت قراءة تجريدية دونما مسبقات أو تصورات منمطة، وقبل ذلك كله فالمعطى الشخصي ذاته له (رضي الله عنه) جاء متناسقاً مع ماأسلفنا بحكم النشأة العلمية والنبوغ المبكر وحسب المطالعة الذي بلغ به. المطالعة يومياً وفي جميع الظروف والاحوال، حوالي 16 ساعة تقريباً كما ادلى بعض المقربين له بهذا.
ان محاولة اكتشاف منهج المرجع الشهيد محمد باقر الصدر (رضي الله عنه) الابداعي يحتاج إلى تظافر جهود دراساتية، وباحثين لهذا الفرض، ولكن عدم تحقق ذلك ـ راهناً ـ لايمنع من اعطاء الرأي في هذا المجال.
والمتصور ان منهجه الابداعي يقوم على النقاط التالية :
1ـ قراءة الفكر الآخر قراءة متأنية وعميقة ونقدية بغية استكشافه أو لا وتشخيص نواقصه وعيوبه ثانياً، وتأسيس رؤى جديدة مغايرة واكثر نضوجاً ثالثاً. ويمكن اكتشاف هذا الامر في قراءته للفلسفة الماركسية وللاقتصاد الماركسي، وعرضه، نعم نقده لهما بموضوعية وعلمية اكسبته احترام حتى الماركسيين «المنصفين».
2ـ التوفر على استيعاب المادة موضوع الدراسة والابداع من مصادرها الرئيسة ومحاكمتها في ضوء اساسياتها هي لافي ضوء مبادئ واساسيات اخرى.
3ـ اعتماد المنهج الاستقرائي في تقويم الافكار والوقائع.
4ـ الموضوعية في التقويم وعدم المبالغة والاسترسال في توصيف الاشياء والحكم عليها أو لصالحها حتى لو كانت منسوبة اليه، وهذا ماجعل باحثاً عربياً يطري عليه بقوله : «تجدر الملاحظة هذا ان فقيهاً ومفكراً اسلامياً كمحمد باقر الصدر، كان قد نبه إلى ضرورة الانتباه إلى هذه المسألة لجهة عدم الانزلاق إلى القول بعلم اقتصاد اسلامي، فقال بوجود مذهب اقتصادي اسلامي على موازاة مذهب الاشتراكية ومذهب الرأسمالية. أما العلم كموضوع ومنهج وطرائف تجريبية واستدلالية فهو مستقل نسبياً عن المذهب، كما ان المفكر نفسه سبق ونبّه الذين يحاولون أن يتعاملوا مع القرآن الكريم ككتاب «علمي»، بقوله : ان القرآن هو «كتاب هداية» للسلوك الانساني والاخلاقي والاجتماعي، وليس كتاب علوم تستخرج منه النظريات العلمية على اختلافها»[1].
5ـ الشمولية في النظر والتكامل في الرؤية لموضوع الدراسة، فلا ينعزل الاقتصاد مثلاً عند السيد الشهيد عن باقي الاحكام والقواعد الاخلاقية والسياسية والاجتماعية والامر نفسه مع باقي الاشياء الاخرى.
6ـ المطالعة اكثر من الكتابة.
7ـ الاستقلالية عن المؤثرات الخارجية والغريبة على موضوع الدراسة او البحث واعتماد منهج ذاتي للدراسة حسب الموضوع، فالموضوع الإسلامي يبحثه على وفق منهج اسلامي بحت، والبحث القرآني على وفق رؤية قرآنية صرفة، والاجتماعي وفق معطيات اجتماعية، وهكذا دواليك. فلا تتداخل المناهج لديه، ولايحمل موضوعاً ما عسف موضوع آخر او رؤية غريبة على جنس الموضوع إلاّ إذا كان ثَمَّةَ ربط بينهما.
زين العابدين البكري
[1] ثلاثة أزمنة في مشروع النهضة العربية والإسلامية، الدكتور وجيه كوثراني: 22، مجلة المستقبل العربي، العدد (120)، شباط (فبراير) 1989