استوحى الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر من تشريع العبادات فكرة شاملة، وصلت إلى مستوى الصياغة الفلسفية لعلاقة الإنسان بالغيب وبالتاريخ، هذا البعد الفلسفي للعبادات لم يتم على حساب متطلبات الشرع عن طريق التأويلات القائمة للآيات القرآنية الكريمة وللأحاديث الشريفة، ففلسفة العبادات التي طرحها الشهيد تتمحور كلها حول التقوى من حيث المنطق والغاية التي تحكم العبادات كلّها.
فكرة التقوى
وهنا تتجلى الجوانب الاجتماعية والسياسية للعبادات. ذلك أن التقوى كما حلّلها الشهيد ليست حالة عاطفية مجرّدة ومريحة يلجأ إليها الانسان لتعويض هموم الحياة، بل التقوى هي نقطة الالتقاء بين العبادات والمعاملات، وبذلك تمتد التقوى إلى كلّ جوانب الحياة الاجتماعية.
وفي ضوء هذه النظرة نجد أنّ العبادات لا تمثل خطاً عمودياً فحسب (العلاقة بين الانسان والله تعالى). فالروحانية هنا متعددة الأبعاد، ومن هنا خصوصيتها في الرؤية الإسلامية. ذلك أنّ أنواع الروحانيات الأخرى من بوذية ومسيحية وغيرهما هي روحانيات مريحة وانسحابية (أي منعزلة عن المجتمع). في حين أنّ الروحانية في الرؤية الإسلامية ـ كما تتجلّى في تحليل الشهيد للعبادات ـ هي روحانية متجذرة في الحياة الاجتماعية، فهي انطلاقة إيمانية تشمل الحياة كلّها. فالعبادة من هذا المنظور تجعل الانسان يعيش في حالة الالتزام بقضايا المجتمع ووعي بحركة التأريخ.
العبادات حضور إنساني
فالعبادات بهذا المعنى ليست حالة انفعالية، بل هي حضور الإنسان كله جسماً وعقلا وعاطفة، فهي تتناقض مع الحالات العاطفية والانفعالية التي يغيب فيها العقل، لأنّ غياب العقل يعني أنّ الفوضى ستدبّ في مسيرة الأمة، وهذا يتناقض جذرياً مع العبادات التي شرعها الله تعالى بنظام منقطع النظير.
فالعواطف الناجمة عن العبادات ليست عواطف عفوية، بل مؤطرة بالأحكام الشرعية، وما تقتضيه العبادات من نظرة إلى الكون والحياة.
فلا يمكن إذن النظر إلى العبادات، كما حلّلها الشهيد، من موقع الروحانية أو المادية أو المثالية أو الوضعية. فالفلسفة المستنبطة من العبادات هي فلسفة منقطعة النظير. فمفاهيم الفلسفة الغربية لا تطيق أن تشكل قالباً لما تزخر به العبادات من عواطف وقيم وعقلانية صارمة ووعي بحركة التأريخ[1].
لماذا كانت العبادات ثابتة لا تتطور؟
العبادات كما حلّلها الشهيد هي واجب شرعي يلبي حاجة وجودية وضرورة كونية يحسّ بها الانسان بحكم إنسانيته أي بحكم فطرته، فعن طريق العبادات يرتبط النسبي بالمطلق: «ونظام العبادات في الشريعة الإسلامية يمثل أحد أوجهها الثابتة التي لا تتأثر بطريقة الحياة العامة وظروف التطور المدني في حياة الإنسان إلا بقدر يسير…»
ففي مجال العبادات يصلي إنسان عصر الكهرباء والفضاء ويصوم ويحج، كما كان يصلي ويصوم ويحج في عصر الطاحونة اليدوية…
ونستنتج من ذلك أن نظام العبادات يعالج حاجة ثابتة في حياة الانسان، لأنّ العلاج يصيغة ثابتة يفترض أنّ الحاجة ثابتة[2].
علاقة الإنسان بالمطلق
لا شك أنّ المذاهب الفلسفية قد صاغت علاقة الإنسان بالمطلق ضمن نظرياتها الميتافيزيقية. لكن الإسلام نظم ـ عن طريق العبادات ـ علاقة الإنسان بالمطلق، ولم يتركها في عموميتها تنزلق في متاهات الفكر المجرّد والتخمينات الميتافيزيقية، فتشريع العبادات يتضمن أنه لا يمكن للإنسان أن يرتبط بالمطلق إلا عن طريق الدين، فنسبية الإنسان تجعله كائناً مفتقراً إلى الله سبحانه وتعالى. لكنه لا يمكن أن يصوغ علاقته بالمطلق لعجز عقله عندما يسعى إلى تعقيل الغيب. فالعبادات كما حللها الشهيد هي الإطار، الذي تتم فيه صياغة الرؤية الإسلامية للمشكل الميتافيزيقي من الناحية المنهجية والمعرفية.
الفرق بين العبادات والمعاملات
إنّ عدم طرح العبادات وكلّ ما يتعلق بعالم الغيب (كذات الله سبحانه وتعالى وصفاته) للاجتهاد يعني، من وجهة نظر الشريعة، أنّ الاحكام في هذا المجال هي أحكام توقيفية، ويعني هذا الموقف القرآني، من الناحية الفلسفية والمنهجية، أنّ الاسلام يقف موقفاً نقدياً من المعرفة، لم يدرك الفكر الفلسفي بعض جوانبه إلا ابتداءً من الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (E. Kant) في العصر الحديث، في حين طرح القرآن الكريم القضايا العملية للاجتهاد، أي سمح بتدخل العقل حسب متطلبات الشرع ومقتضيات الواقع.
فالأحكام المرتبطة بالمعاملات هي أحكام توفيقية ذات علاقة بمنطقة الفراغ، التي صاغ الشرع حدودها ومبادئها.
أما في مجال العبادات ومجال الغيبيات فلم يكتف القرآن الكريم بإعطاء المبادئ العامة، بل أنه قدمها في صورتها النهائية التي لا تقبل أي تجاوز. فتفسير العبادات ميتافيزيقيا خارج عن طاقة الإنسان، ولا كلام لبشر بعد كلام الله في هذا المجال، لأنّ كلّ محاولة لعقلنة العبادات تخرج بالإنسان عن حدود المعقولية. يقول الشهيد محمد باقر الصدر:
«نظام العبادات في الشريعة الإسلامية يمثل أحد أوجهها الثابتة، التي لا تتأثر بطريقة الحياة العامة، وظروف التطور المدني في حياة الانسان إلا بقدر يسير، خلافاً لجوانب تشريعية أخرى مرنة ومتحركة، يتأثر أسلوب تحقيقها وتطبيقها بظروف التطور المدني في حياة الانسان كنظام المعاملات والعقود.
وهذا يعني أنّ الشريعة لم تعط الصلاة والصيام والحج والزكاة وغيرها من عبادات الإسلام كوصفة موقوتة وصيغة تشريعية محدودة بالظروف، التي عاشتها في مستقبل تاريخها، بل فرضت تلك العبادات على الإنسان وهو يزاول عملية تحريك الآلة بقوة الذرة، كما فرضتها على الإنسان الذي كان يحرث الأرض بمحراثه اليدوي»[3].
دور العقل في العبادات
وهكذا تشكل النظرة القرآنية، بالنسبة للشهيد، منظومة يتداخل فيها الشرع مع العقل والواقع. ويمكن القول، من الناحية الفلسفية وبالإضافة إلى الناحية العقائدية: إنّ هذه النظرة تقوم على أساسين: أساس معرفي يتمثل في نقد العقل وقدرته المحدودة في مجال الغيب، وأساس اجتماعي يسعى إلى ضمان وحدة الأمة عن طريق إبعادها عن كلّ اختلاف يعود أثره بالتفكك الاجتماعي والسياسي.
وإذا كان العقل لا يتدخل في العبادات باسم المنطق أو باسم الاجتهاد، فإنه يتدخل في تحليل العلاقة بين العبادات والمجتمع والكشف عن أبعادها ونتائجها. فصورة العبادات أوسع مما يتصور أصحاب فقه الفروع، فهي تؤطر وتنظم تطلع الإنسان نحو المطلق، ذلك التنظيم الذي ينعكس إيجابياً على الممارسات الحضارية للإنسان.
الضـياع
«لأنّ مشكلة الضياع تعني بالنسبة إلى الإنسان أنه صيرورة مستمرة تائهة، لا تنتمي إلى مطلق يستند إليه الإنسان نفسه في مسيرته الشاقة الطويلة المدى، ويستمد من اطلاقه وشموله العون والمدد والرؤية الواضحة للهدف، ويربط من خلال ذلك المطلق حركته بالكون وبالوجود كلّه، بالأزل والأبد، ويجدد موقعه منه وعلاقته بالإطار الكوني الشامل. فالتحرك الضائع بدون مطلق تحرك عشوائي كريشة في مهب الريح، تنفعل بالعوامل من حولها ولا تؤثر فيها، وما من ابداع وعطاء في مسيرة الإنسان الكبرى على مرّ التأريخ، إلا وهو مرتبط بالاستناد إلى مطلق، والالتحام معه في سير هادف»[4].
إخضاع المادة للروح لا إلغاء المادة
فارتباط الإنسان بالمطلق عن طريق العبادات يختلف عن التخمينات الميتافيزيقية، التي تنفر من الواقع أو تخضع له وتبرره، فالعبادة ثورة الروح على المادة، لا لرفض هذه الأخيرة بل لإخضاعها إلى القيم الإلهية: «فالسير نحو المطلق كله علم وكله قدرة، وكلّه عدل، وكلّه غنى، يعني أن تكون المسيرة الإنسانية كفاحاً متواصلا باستمرار ضد كلّ جهل وعجز وظلم وفقر.
المطلق الحقيقي والمطلقات الوهمية
وما دامت هذه هي أهداف المسيرة المرتبطة بهذا المطلق، فهي إذن ليست تكريساً للإله، وإنما هي جهاد مستمر من أجل الإنسان وكرامة الإنسان وتحقيق المثل العليا (وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفسِهِ إنَّ اللهَ لَغَنِيُ عَنِ العَالَمِينَ)[5]… وعلى العكس من ذلك المطلقات الوهمية والآلهة المزيفة، فإنها لا يمكن أن تستوعب المسيرة بكلّ تطلعاتها، لأنّ هذه المطلقات المصطنعة وليدة ذهن الإنسان العاجز، أو حاجة الإنسان الفقير، أو ظلم الإنسان الظالم، فهي مرتبطة عضوياً بالجهل والعجز والظلم، ولا يمكن أن تبارك كفاح الإنسان المستمر ضدها»[6].
فالارتباط بالله سبحانة وتعالى عن طريق العبادات، يعني إذن ثورة جذرية ضد كلّ المطلقات الزائفة والوهمية. هذا الارتباط هو تحرّر من كلّ العوائق، التي تطرح نفسها كعقبات يستحيل تجاوزها.
فالعبادة إذن هي كسر للمستحيل الموهوم:
«إنّ الارتباط بالله تعالى بوصفه المطلق الذي يستوعب تطلعات المسيرة الانسانية كلّها، يعني في الوقت نفسه رفض كلّ تلك المطلقات الوهمية التي كانت تشكل ظاهرة الغلو في الانتماء، وخوض حرب مستمرة ونضال دائم ضد كلّ ألوان الوثنية والتأليه المصطنع، وبهذا يتحرّر الإنسان من سراب تلك المطلقات الكاذبة، التي تقف حاجزاً دون سيره نحو الله وتزور هدفه وتطوق مسيرته»[7].
العبادة دافع للكمال
وهكذا فالعبودية تدفع بالإنسان نحو الكمال. فكلما تعمق وعي الإنسان بعبوديته لله، إلا وتقدم خطوة نحو الكمال، وهذا عكس الفكر الوضعي، الذي يتصور التقدم من منظور مادي ينفي وجود الله تعالى ويؤله الإنسان.
فالمثالية والعبودية مفهومان مترابطان في الفكر الإسلامي كما طرحه الشهيد، حيث إنّ الإنسان لا يحقق خلافته لله في الأرض بارتباطه بالله تعالى.
فالعبادات تتميز بالشمولية التي تجعل الانسان يؤسس أعماله ونشاطاته على الإيمان بالله تعالى:
«وفي ذلك تختلف الشريعة الإسلامية عن اتجاهين دينيين آخرين وهما:
أولا: الاتجاه إلى الفصل بين العبادة والحياة.
وثانياً: الاتجاه إلى حصر الحياة في إطار ضيق من العبادة، كما يفعل المترهبون والمتصوفون»[8].
ومعنى هذا أنّ الإنسان في الإسلام لايعيش تناقضاً داخلياً بين روحه وجسده، بين القيم الدينية ومتطلبات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فعدم وجود فصل بين العبادة والحياة، وعدم وجود نزعة روحية على طراز التصوف الفلسفي، ينتج عنه ـ من الناحية الفلسفية ـ أنّ النمط الفكري المستنبط من الإسلام ينفر من الثنائية، ولا يمكن أن يدرج في إطار المثالية أو المادية أو العقلانية:
«والشريعة الإسلامية ترفض هذا الاتجاه أيضاً (يقصد المؤلف فصل العبادات عن الحياة» لأنها تريد العبادات من أجل الحياة فلا يمكن أن تصادر الحياة، من أجل العبادات. وهي في الوقت نفسه تحرص على أن يسكب الإنسان الصالح روح العبادة في كلّ تصرفاته ونشاطاته، ولكن لا بمعنى أنه يكف من النشاطات المتعددة في الحياة، ويحصر نفسه بين جدران المعبد، بل بمعنى أن يحول تلك النشاطات إلى عبادات»[9]
المنظومة المفاهيمية حول العبادات
لا يمكن وجود ممارسة لتغيير الواقع بدون مرتكزات نظرية، بدون منطق أو منظومة مفهومية وقيمية يعتمد عليها العمل على ارساء قواعد مجتمع جديد.
إنّ المفاهيم والقيم الأساسية المتعلقة بالعبادات توجد في شكل نسق ينتمي إلى المنظومة الإسلامية العامة، التي لا تفصل بين الدين والدنيا، وهذا النسق لا يقل صرامة ـ من الناحية العقلانية ـ عن النسق العلمي، بل إنّ صرامته أقوى وأعمق، لأنّه يجدّد علاقات قدسية وروحية، لها امتدادات اجتماعية وسياسية تتأثر في العلاقة بين الإنسان والله تعالى. فانطلاقاً من هذه الفكرة يتجلّى أنّ موقف الشهيد من العبادات هو النتيجة الحتمية لمتطلبات النص، فليس هذا الموقف موقفاً عاطفياً أو روحياً محضاً، بل هو ينتمي إلى أرضية فكرية تحدّد الرؤية الإسلامية إلى الكون والإنسان والأمة وعلاقتها بالشعوب الأخرى وبالتاريخ. لا يمكن لمفاهيم وأحكام وقيم دقيقة كتلك التي ترتبط بالعبادات أن توجد مبعثرة وعفوية دون نظرية ـ ضمنية ـ تتسق ضمنها تلك المفاهيم والأحكام والقيم.
فكلّ كتابات الشهيد دليل على أنّ الفكر الإسلامي تتعمق معرفته للواقع بفضل الأحكام والمفاهيم الدينية. وتتعمق، في نفس الوقت، معرفته بمقاصد الشريعة بفضل تحليله للواقع حسب مقتضيات الشريعة.
إنّ تفهم محتوى العبادات وأبعادها الحضارية لا يعني التدخل عن طريق الاجتهاد للتغيير الظاهري والبنيوي للعبادات.
فالفكر الإسلامي الذي نَظَّرهُ الشهيد يؤمن بأنّ العبادات فريضة إلهية يجب أن يؤديها المسلمون كما قرّر النصّ:
«إذا أخذنا التفاصيل التي تتميز بها كلّ عبادة وآدابها بالدرس والتحليل، فكثيراً ما نستطيع على ضوء تقدم العلم الحديث أن نتعرف على الحكم والأسرار، التي يعبر عنها التشريع الإسلامي بهذا الشأن، واستطاع العلم الحديث أن يكشف عنها…
ولكن على الرغم من ذلك نواجه في كثير من الحالات نقطاً غيبية في العبادة، أي جملة من التفاصيل لا يمكن للإنسان الممارس للعبادة أن يعي سرّها، ويفسرها تفسيراً مادياً محسوساً، فلماذا صارت صلاة المغرب ثلاث ركعات، وصلاة الظهر أكثر من ذلك؟ ولماذا اشتملت كلّ ركعة على ركوع واحد لا ركوعين وعلى سجدتين لا سجدة واحدة؟ إلى غير ذلك من الأسئلة، التي يمكن أن تطرح من هذا القبيل.
الجانب الغيبي وأثره التربوي
ونسمّي هذا الجانب الذي لا يمكن تفسيره من العبادات بالجانب الغيبي منها… ومن هنا يمكن اعتبار الغيبية ـ بالمعنى الذي ذكرناه ـ ظاهرة عامة في العبادات ومن ملامحها المشتركة. وهذه الغيبية مرتبطة بالعبادات ودورها المفروض ارتباطاً عضوياً، ذلك لأنّ دور العبادات ـ كما عرفنا سابقاً ـ هو تأكيد الإيمان والارتباط بالمطلق وترسيخه عملياً، وكلما كان عنصر الانقياد والاستسلام في العبادة أكبر، كان أثرها في تعميق الربط بين العابد وربه أقوى. فإذا كان العمل الذي يمارسه العابد مفهوماً بكلّ أبعاده واضح الحكمة والمصلحة في كلّ تفاصيله، تضاءل فيه عنصر الاستسلام والانقياد، وطغت عليه دوافع المصلحة والمنفعة، ولم يعد عبادة لله بقدر ما هو عمل نافع يمارسه العابد، لكي ينتفع به ويستفيد من آثاره…
وهكذا نستخلص أنّ الغيبية في العبادة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بدورها التربوي في شد الفرد إلى ربه، وترسيخ صلته بمطلقه»[10].
العلاقة بين العبادة والحياة الاجتماعية
إلا أنّ الشهيد يرى أنّ الرجوع إلى النص، يجعلنا نكتشف بسهولة أنّ العلاقة بين العبادة والحياة الاجتماعية والسياسية هي كذلك علاقة أكّد عليها النص، وليست من انتاج الفكر الإسلامي الاجتهادي فحسب.
ومعنى هذا أنّ القيم والمفاهيم التي يستخرجها المجتهد من العبادات، ليدعم بها مسيرة الأمة، وإعادة بناء الحضارة الإسلامية، هي مفاهيم يخضع انتاجها لشروط تتمثل في متطلبات المنظومة الإسلامية من جهة، وفي مقتضيات الظروف الاجتماعية والتأريخية من جهة أخرى. لقد كان انحطاط الأمة الإسلامية متوازناً مع انطفاء الشعلة الروحية الناتجة عن انفصال الدين عن الدنيا، أو عن ربط مهلهل بينهما من طرف السلطات المنحرفة، فهذه العلمانية المستمرة بالدين قد بدأت في وقت مبكر في تاريخ الأمة، وما تحويل الدولة الإسلامية المبنية على المبادئ والقيم الإلهية إلى ملك إلا تعبيراً صريحاً عن انفصال الدين عن الدولة، أو عن جعل الدين في خدمة السلطة الحاكمة.
وقد برز الفكر الإسلامي الذي صاغه الشهيد كفكر متجاوز للأمر الواقع، يحاول أن يعيد الأمة إلى الطريق الإسلامي عن طريق الربط بين الدين والدنيا، حسب متطلبات النص والعقل والواقع. أي من موقع، تعبدي واجتهادي.
فالشهيد قد حاول أن يبتعد عن النظرة التجزيئية المتناقضة مع شمولية الإسلام. ففي هذا السياق نستطيع استيعاب أهمية تحليل الشهيد السيد محمد باقر الصدر للعبادات، فهو تحليل ينطلق من موقف واعي وحركي للإسلام، ويربط بين الأحكام الإسلامية وقضايا الأمة من منظور فقهي وفلسفي لا يفصل بين العبادة والحياة الاجتماعية.
فحركة الأمة واستمراريتها على ساحة التأريخ، تستمد ديمومتها من تطلع إنسان العالم الإسلامي إلى الله سبحانه وتعالى، ذلك التطلع الذي يتجلّى بكلّ قواه في العبادات، التي تمثل منطلق الأمة نحو تجاوز كلّ أنواع الاستلاب. فالعبادة تتضمن قيمتين أساسيتين ـ إضافة إلى بعدها الروحي والغيبي ـ الوحدة والحركة. فالوحدة واجب شرعي وضرورة اجتماعية وتأريخية، لتتمكن الأمة من مجابهة كلّ أنواع التحديات، وحركة الأمة وصيرورتها هي بدورها نتيجة لوحدتها:
«ونلاحظ أنّ العبادات الرشيدة بوصفها تعبيراً عملياً عن الارتباط بالمطلق، يندمج فيها عملياً الإثبات والرفض معاً، فهي تأكيد مستمر من الإنسان على الارتباط بالله تعالى، وعلى رفض أي مطلق آخر من المطلقات المصطنعة.
فالمصلي حين يبدأ صلاته بـ (الله أكبر) يؤكد هذا الرفض… وحين يمسك عن الطيبات، ويصوم حتى عن ضرورات الحياة من أجل الله متحدياً الشهوات وسلطاتها يؤكد هذا الرفض.
وقد نجحت هذه العبادات في المجال التطبيقي في تربية أجيال من المؤمنين، على يد النبي صلى الله عليه وآله والقادة الأبرار من بعده، الذين جسدت صلاتهم في نفوسهم رفض كلّ قوى الشر وهوانها، وتضاءلت أمام مسيرتهم مطلقات كسرى وقيصر، وكل مطلقات الوهم الإنساني المحدود.
على هذا الضوء نعرف أنّ العبادة ضرورة ثابتة في حياة الانسان ومسيرته الحضارية، إذ لا مسيرة بدون مطلق تنشد إليه وتستمد منه مثلها، ولا مطلق يستطيع أن يستوعب المسيرة على امتدادها الطويل سوى المطلق الحقّ سبحانه، وما سواه من مطلقات مصطنعة يشكل حتماً بصورة وأخرى عائقاً عن نمو المسيرة… ولا ارتباط بالمطلق الحق بدون تعبير عملي عن هذا الارتباط يؤكده ويرسخه باستمرار، وهذا التعبير العملي هو العبادة، فالعبادة إذن حاجة ثابتة»[11].
البعد الاجتماعي ليس بعداً وظيفياً
إنّ التأكيد على البعد الاجتماعي والحضاري للعبادات، لا يعني ـ في نظر الشهيد ـ أنّ تحليل العبادات قد تمّ من وجهة نظر وظيفية أو سوسيولوجية محضة، أو من وجهة نظر النزعة الاجتماعية، أو النزعة التاريخية التي تفسر الدين باعتباره مجرّد ظاهرة اجتماعية، فترجع نشوءه وشعائره إلى التفاعل الاجتماعي أو إلى العوامل التاريخية، بل على العكس من هذا فإنّ البعد الاجتماعي والحضاري للعبادات قد تمت صياغته في إطار الاجتهاد ومقاصد الشريعة.
فالشهيد لم يطرح تحليله داخل الاشكالية الضيقة للاختيار بين العبادات كعبادات محضة أو وظيفة اجتماعية محضة، لأنّ هذه الاشكالية الضيقة تتناقض جذرياً، في نظر الشهيد، مع مقاصد الشريعة ومع فلسفة الإسلام في ذات الوقت: إنّها تنطلق من طرح ناقص وغير مشروع لمفهوم العبادة، وتحدث ثنائية لا وجود لها في الإسلام:
«العبادة في الأساس تمثل علاقة الانسان بربّه، وتمدّ هذه العلاقة بعناصر البقاء والرسوخ غير أنها صيغت في الشريعة الإسلامية بطريقة جعلت منها ـ في أكثر الأحيان ـ أيضاً أداة لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وهذا ما نقصده بالجانب الاجتماعي في العبادة…
وفي العبادات ما لا يفرض التجمع بنفسه، ولكن مع هذا ربط بشكل وآخر بلون من ألوان التجمع، تحقيقاً للمزج بين الإنسان بربّه، وعلاقته بأخيه الإنسان في ممارسة واحدة…
وهكذا نلاحظ أنّ العلاقة الاجتماعية تتواجد غالباً بصورة وأخرى، إلى جانب العلاقة العبادية بين الإنسان العابد وربّه في ممارسة عبادية واحدة، وليس ذلك إلا من أجل التأكيد على أنّ العلاقة العبادية ذات دور اجتماعي في حياة الانسان، ولا تعتبر ناجحة إلا حين تكون قوة فاعلة في توجيه ما يواكبها من علاقات اجتماعية توجيهاً صالحاً»[12].
في الإسلام: كل عمل عبادة
فالفكر الإسلامي الذي صاغه الشهيد ينظر إلى الإسلام على أنه عقيدة وشريعة، دين ودولة إلى درجة أنّ كلّ نشاط يقوم به المسلم لوجه الله يعتبر عبادة.
وكما أنّ مفهوم العبادة لا يجوز طرحه، في نظر الصدر، من وجهة نظر روحية محضة أو سياسية محضة، فكذلك على الصعيد الفلسفي لا تطرح علاقة الانسان بالطبيعة والمجتمع من وجهة نظر مادية محضة أو مثالية محضة، فنظرة الاسلام إلى العبادة، كما صاغها الشهيد، تعبر عن نظرة كلية وشمولية يمكن أن تستنبط منها فلسفة إسلامية ذات إمكانيات هائلة على مستوى المفاهيم، يمكن أن تجابه كلّ المذاهب الفلسفية المعاصرة مجابهة قوية وجذرية.
فالإسلام، في نظر الصدر، يؤكد على المقاصد، ولا ينظر إلى العباده مجرّدة عن الغايات والأهداف، فالتأكيد على البعد الاجتماعي للعبادات ليس بُعداً أجنبياً عن هذه الأخيرة، أي بعداً أضيف في صورة إطلاق شعارات جديدة على العبادات، بل هو عنصر جوهري ومقصود من الشارع. فالوظيفة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للعبادات، لا تنفي التعبد المفروض أساساً وابتداءً على المسلمين، بل تؤكده وتربطه بشمولية الإسلام ومنهجيته في توحيد الأمة واستمراريتها عبر التأريخ، ونلاحظ في هذا السياق تناسقاً بين الجانب اللامتغير والثابت في العبادات، وبين العمل على استمرارية الأمة عبر التأريخ كواجب ديني، فاستمرارية الأمة تجد مرتكزاً لها في منظومة العبادات من الصلاة إلى الحجّ. فالأمة الإسلامية من حيث أمّة الخلافة في تحقق مستمر نتيجة لجدلية الصراع بين مفهوم الأمّة كمجتمع مفتوح وشمولي، وبين النزعة القبلية قديماً والقومية حديثاً كمجتمع مغلوق. والعبادات بما تتضمنه من شعائر وفرائض ثابتة مهما تغيرت الظروف والأحوال، تدعم تحقق الأمّة بتعبئة المسلمين وتوعيتهم، وجعلهم في وضعية جهادية بصفة مستمرة.
التعامل مع الواقع لقد قام الشهيد السيد محمد باقر الصدر بتحديد مفهومي للعبادات ضمن تصور كلّي للشريعة وضبط صيغة واضحة في التعامل مع النصّ ومع الواقع، فهو لم يتعامل مع واقع الأمة بطريقة فوضوية، أو بطريقة ميتافيزيقية مثل الفلاسفة المسلمين قديماً، والمحدثين في العالم الإسلامي، الذين يتميزون بالنظرة التجزيئية، التي تحاول دون جدوى فرض المفاهيم الغربية على واقع الأمّة، فليس موقف الشهيد ـ تبعاً لذلك ـ بعيداً عن تطلعات الشعوب الإسلامية، ففكره أقرب إلى عواطف الجماهير وتوقانها لممارسة القيم الإسلامية. أمّا الفلاسفة المسلمون قديماً والمحدثون في عصرنا فإنّهم يخاطبون الناس من بعيد، ويطرحون عليهم مشكلات ليست بمشكلاتهم.
موقف فكري ثابت وقراءة واحدة للنص
إنّ النظرة الشمولية إلى النصّ فيما يخص العبادات، جعلت موقف الشهيد يتميز على الصعيد الذهني بعدم التذبذب الفكري، فهو ليس عرضة لتغيير رأيه، بل له القدرة على الثبات في موقع فكري معين، وعدم التبعثر بين منطلقات واتجاهات مختلفة ومتضاربة. ونتيجة لذلك فقراءته للنص ليست قراءة تجزيئية، بل قراءة اجتماعية وتاريخية تنطلق من موقف تعبدي إيماني في الأساس[13]. ومعنى هذا أنّ مقاصد الشريعة، التي عن طريقها يتمّ التأكيد على البعد الاجتماعي والسياسي للعبادة ليست مصادر تشريع خارجية، بل هي جزء من المصادر الأساسية للتشريع الإسلامي، وإلا لما صح أن تكون عملية استنباط الوظائف الاجتماعية للعبادة عملية اجتهادية أي موقفاً تعبدياً ومعرفياً من النص. فالحكم الذي توصل إليه الشهيد وكلّ المفكّرين المسلمين الرساليين فيما يخصّ العلاقة بين العبادة والحياة الاجتماعية، باسم متطلبات الدين ووحدة الأمة واستمراريتها يعتبر حكماً شرعياً من الناحية الفقهية، وهو من الناحية المنهجية والفلسفية نتيجة حتمية لشمولية الإسلام ولاستمرارية الأمّة الإسلامية.
مقولات الصدر في مواجهة التجديد العلماني والاجتهاد المهلهل
إنّ الفكر الإسلامي الذي صاغه الشهيد في مجابهة شاملة للعلمانية، التي تعمل من خلال مظلة التجديد، وضد الفكر «الإسلامي» المهلهل الذي يعمل تحت مظلة الاجتهاد، وكلا الموقفين يحاولان عزل الإسلام عن الواقع من خلال الإسلام ذاته عن طريق تفتيت مقولة الإسلام دين ودولة، وتفريغها من مضامينها وأبعادها.
ويبرز خطأ وانحراف هذه المواقف على الصعيد المنهجي والفلسفي وذلك:
1ـ أنّ مقولة الإسلام دين ودولة، وربط العبادات بالحياة الاجتماعية والسياسية كمبدإ تابع لتلك المقولة يُعتبران جزءاً من كلّ وعنصراً من مجموعة. وكلّ محاولة لإحداث قطيعة بين الإسلام والدنيا، بين العبادة والحياة الاجتماعية والسياسية ليست محاولة موضوعية من الناحية العلمية، أي من وجهة نظر فلسفة العلوم، وذلك أنّها نظرة تجزيئية ذاتية تتناول الإسلام بالتحليل من خلال أفكار مسبقة.
فهذه المواقف تتناقض مع المنهج العلمي، الذي يحتم أن يكون التحليل لكلّ الظواهر تحليلا كلياً وتركيبياً لا انتقائياً وتجزيئياً.
مقولة «الإسلام دين ودولة»
2ـ أنّ مقولة الإسلام دين ودولة، وما ينتج عنها من منظور سياسي وثقافي واقتصادي لها خلفيتها الفلسفية، التي ساهم الشهيد في اكتشافها وتنظيرها، وهذه الخلفية الفلسفية ذات إشكالية معرفية واجتماعية وميتافيزيقية تختلف عن كل الاشكاليات الفلسفية، التي طرحت منذ افلاطون إلى يومنا هذا، وذلك إذا كانت الفلسفة قديماً وحديثاً تتأرجح بين المادية والمثالية، بين أسبقية الواقع على الفكر، أو الفكر على الواقع، بين التركيز على الجانب الروحي في حياة الإنسان أو على الجانب المادي فهي فلسفة ذات استقطاب أحادي وذات بعد واحد.
إنّ الفلسفة الإسلامية المعاصرة كما تتجلّى في فكر الشهيد، والمستنبطة من مقولة الإسلام دين ودولة، ومن التلاحم بين العبادات والسياسة تؤكد على النظرة الكلية والتركيبية للظواهر الإنسانية على العموم، وتؤكد تبعاً لذلك، على التشابك والتفاعل والتأثير المتبادل بين الفكر والمادة، بين الجانب الروحي والجانب المادي في حياة المجتمعات.
مقولة «الفطرة»
ويرى الشهيد ـ من خلال صياغته للفلسفة الإسلامية المعاصرة ـ أنّ الفلسفة الماركسية مثلها مثل سائر الفلسفات، التي تدور في أحد الفلكين: المادية أو المثالية. وأنّها عالجت مشكلة الإنسان معالجة ناقصة على الرغم من طرحها لفكرة التفاعل بين البنية الاقتصادية والبنيات الثقافية والسياسية، فلا مجال ـ في الفلسفة الإسلامية التي صاغها الشهيد ـ للحديث عن نظرة شمولية دون ربط عالم الشهادة بعالم الغيب، دون تجاوز المقولة الماركسية، التي تحدّد الانسان بأنه «مجموع العلاقات الاجتماعية» فالفلسفة الإسلامية، التي طرحها الشهيد، ترى أنّ العلاقات الاجتماعية، ليست إلا بعداً من أبعاد الانسان، وتضع هذه الفلسفة أطروحة «الفطرة» أو الطبيعة البشرية مقابل النزعة الاجتماعية، التي تميز الفكر الغربي وخاصة الماركسية، فالفطرة تتمتع بصفات أساسية من ضمنها البعد الاجتماعي، فبدلا من القول: بأنّ الطبيعة البشرية ذات مصدر اجتماعي، يجب القول ـ في نظر الشهيد ـ بأنّ المجتمع هو الذي يصدر عن الإنسان ويعبر عن خلافته لله في الأرض، وأنّ العنصر الأعمق في الإنسان هو البعد الروحي، الذي يعطي للمجتمع طابعاً فوق ـ بيولوجي.
ربط الجانب الروحي بالجانب الاجتماعي
فهذا الموقف لا يفصل إذن بين الجانب الروحي والجانب الاجتماعي، فأهم مايميز فكر الشهيد هو محاولته المستمرة على أن يطرح رؤيته في سياق مقولة الاسلام دين ودولة، التي تؤدي حتماً ـ فيما يخص الموضوع الذي نعالجه في هذا البحث ـ إلى التلاحم بين العبادة والحياة الاجتماعية، وعلى العموم فعلاقة عالم الشهادة بعالم الغيب ومقولة الاسلام: الإسلام دين ودولة (شمولية الإسلام بتعبير الشهيد)وما يترتب عنها من تلاحم بين العبادات والحياة الاجتماعية، يطرحان إطاراً عاماً لفلسفة إسلامية أصلية يؤهلها بعدها الروحي إلى تجاوز المذاهب الفلسفية الغربية المبنية على النقد وحده.
هذه العقلانية الإسلامية المرتبطة في الأساس والجوهر والهدف بعالم الغيب، هي القاسم المشترك لكلّ جوانب الإسلام، فهي من مضمنات العقيدة والعبادة والمعاملات. فالعقلانية الإسلامية توجب على المسلمين أن لا يمنحوا ولاءهم لغير الله سبحانه وتعالى، وأن لا يستجيبوا لأية فلسفة أو ايديولوجية من دون الاسلام.
عقلانية العبادات
ولأنها عقلانية إسلامية فهي ترتكز ـ كما أشرنا فيما سبق ـ على البعد الغيبي. ويتجلّى هذا الأساس الغيبي في العبادات حيث يتداخل الجانب الغيبي مع الجانب العقلي، ويدعمه ويفتح له آفاقاً لا حدود لها نحو تجاوز الأمر الواقع ونحو كسر العوائق ومعادلات الكفر، فالعبادات تمنح للعقلانية المعنى الوجودي، الذي حرم ومنع العقلانيات الغربية، ومن هنا فالغيبية التي ترتكز عليها عقلانية العبادات، ليست غيبية مريحة مبنية على التواكل، بل هي غيبية جهادية مبنية على التوكل، الذي يوفق بين الإمداد الغيبي وسنن التطور الاجتماعي والتاريخي. يقول الشهيد:
«فنظرة إنسان العالم الإسلامي إلى السماء قبل الأرض، يمكن أن تؤدي إلى موقف سلبي تجاه الأرض، وما في الأرض من ثروات وخيرات يتمثل في الزهد أو القناعة أو الكسل، إذا فصلت الأرض عن السماء، وأما إذا ألبست الأرض إطار السماء، فأعطى العمل مع الطبيعة صفة الواجب ومفهوم العبادة، فسوف تتحول تلك النظرة الغيبية لدى الإنسان المسلم إلى طاقة محركة وقوة دفع نحو المساهمة بأكبر قدر ممكن في رفع المستوى الاقتصادي»[14].
هذا والعاطفة التي تضرب بجذورها في العبادات ليست ـ في معناها الإسلامي ـ عاطفة عمياء أو عفوية، فالعقلانية كما صاغها الشهيد هي عقلانية تتم في إطار الدين: إسلام الإنسان فكرهُ وروحه لله سبحانه وتعالى إسلاماً كلياً على صعيد المعرفة وعلى صعيد الممارسة، ففكر الشهيد الذي ينظر إلى العبادات حسب آفاقها الاجتماعية والحضارية، يطرح نفسه ضمن خلفية فلسفية إسلامية تتجاوز كلا من النزعتين العقلية والروحية بمفهوميها الغربي، أي تتجاوز الاختيار الزائف بين العقلانية الغربية والروحانية الإسلامية، فالفكر الغربي إذ يطرح هذا التناقض بين العقل والروح، إنما يسعى إلى طرح نفسه على أنّه الفكر الوحيد الذي يتمتع بالمعقولية، وكلّ ما سواه إنما هو فكر خرافي أو روحاني لا يمكنه أن يشيد حضارة.
فنظرة الإسلام ـ كما تتجلّى عند الشهيد ـ إلى العلاقة بين عالم الغيب وعالم الشهادة، والأهداف الاجتماعية والسياسية التي يعطيها الإسلام للعبادات لدليل على أنّه لا وجود لتناقض ـ في نظر الشهيد ـ بين البعد الغيبي والبعد الاجتماعي والسياسي في حياة الامة، فكلّ خطاب سياسي يجب أن يطرح في أفق ميتافيزيقي، وكلّ خطاب ميتافيزيقي يجب أن يكون مرتبطاً بالبعد الاجتماعي والسياسي.
العبادة والسياسة
فالعبودية (التوحيد) والعبادة كما تتجلّيان في كتابات الشهيد، تعبران بدقة ووضوح عن التلاحم بين الدين والدنيا، لأنهما تتضمنان بعدين متداخلين: البعد الغيبي والبعد الاجتماعي ـ السياسي: إله واحد وأمّة واحدة، فالتوحيد والعبادة يطبعان الحياة الاجتماعية والسياسية بطابع خاص، ويتضمنان طاقة تحررية جهادية هائلة، فالمؤمن لا يخضع لأية قوة، بل يخضع لله سبحانه وتعالى وحده.
إذن، وكما يتجلّى من كتابات الشهيد، يحدث الإسلام تغييراً جذرياً في المعايير، التي يتم بمقتضاها تصنيف الثقافات والمذاهب الفلسفية والسياسية، فمن جهة توجد الجاهلية أي المجتمعات، التي لا ترتكز في حياتها على القيم الإلهية (استبداد، ترف، استغلال للشعوب)، ومن جهة أخرى يوجد التوحيد وتوجد العبادة المنتجان للعقلانية الجهادية المحرّرة.
وهكذا لا وجود، في المنظور الإسلامي للعبادات، للتناقض بين الجانب الغيبي والجانب العقلي والجانب السياسي، فموقف الشهيد السيد محمد باقر الصدر من العبادة يعبر ـ من الناحية الشرعية والمنهجية ـ عن العاملين الأساسيين، الذين يشكلان المفهوم الإسلامي لاستمرارية الأمة: الاجتهاد والجهاد، فالاجتهاد في هذا السياق هو إدراك العلاقة بين العبادة وواقع الأمة، والجهاد معناه رفض الواقع الفاسد وتغييره.
وهذا الموقف هو في الحقيقة إجابة للمثقفين المتغربين، الذين أرادوا حجز الطاقة الدينية في الجانب الصوري للعبادات، وإفراغها من قوتها الاجتماعية والحضارية باسم نظرة تجزيئية وناقصة إلى الاسلام.
إنّ ما سبق يبين لنا أنّ العبادات ـ في نظر الشهيد ـ ليست حيادية، فهي جزء من منطق الإسلام ومنهجه في تغيير الواقع وبناء الأمة والدولة، وهو منهج جهادي وتشريعي طرحه الاسلام منذ المرحلة المكية للرسالة.
التوحيد، العبادات والثورة
وهكذا تأتي العبادات كنتيجة حتمية لعقيدة التوحيد، لتدعم ثورية الإسلام الجذرية والشاملة، وتطرحها على الصعيد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي.
فعقيدة التوحيد رفض للأوثان بكل صورها المادية والمعنوية، والعبادات تتماشى في تناسق إلهي دقيق، مع هذا الرفض فتجسده في كلّ جوانبه وترفعه إلى أعلى درجه عن طريق تربية وتوعية مستمرتين لإنسان العالم الإسلامي:
«ونحن إذا لاحظنا الشعار الرئيسي الذي طرحته السماء بهذا الصدد (لا إله إلا الله) نجد أنها قرنت فيه بين شدّ المسيرة الإنسانية إلى المطلق الحق، ورفض كلّ مطلق مصطنع، وجاء تاريخ المسيرة في واقع الحياة على مرّ الزمن، ليؤكد الارتباط العضوي بين هذا الرفض وذلك الشد الوثيق الواعي إلى الله تعالى، فبقدر ما يبتعد الإنسان عن الإله الحق ينغمس في متاهات الآلهة والأرباب المتفرقين، فالرفض والاثبات المندمجان في (لا إله إلا الله) هما وجهان لحقيقة واحدة، وهي حقيقة لا تستغني عنها المسيرة الإنسانية على مدى خطّها الطويل، لأنها الحقيقة الجديرة بأن تنقذ المسيرة من الضياع، وتساعد على تفجير كل طاقاتها المبدعة، وتحرّرها من كلّ مطلق كاذب معيق»[15].
فالشهيد لا يرى عدم انفصال الدين عن السياسة فحسب، بل يرى أنّ السياسة جزء من الدين، ومعنى هذا أن المسلمين يجب عليهم أن يعيشوا الإسلام في إطاره الشامل الكامل، وعلى هذا الاساس طرح الشهيد العبادات كثورة على صعيد القيم والمفاهيم، لأن العبادات إذا فهمت واستُبطنت في إطار شمولية الإسلام، ترفع الأمة إلى مستوى الصراع الحضاري مع الغرب، فتكون لها كلمتها في العلاقات غير العادلة بين المستكبرين والمستضعفين، ويكون للفكر الإسلامي كلمته القطعية فيما يخصّ الاستبداد الذي يسود العالم الإسلامي.
الشمـولـية
ونتيجة لذلك تتجلّى فكرة الشمول كالأساس أو المعيار الذي يميز فكر الشهيد، من حيث هو فكر رسالي، عن غيره، فكرة الشمول التي يؤخذ الإسلام بمقتضاها على أنه كلّ تترابط أجزاؤه، فالعقيدة والعبادة والشريعة يتداخل بعضها في الآخر، ومن هنا فلا مجال للفصل بين الدين والدنيا، بين العبادة والحياة الاجتماعية.
فطرحُ مبدإ إعادة بناء الدولة الإسلامية هو النتيجة الحتمية لفكرة الشمول، التي تتضمن مبدئية وحدة الشعوب الإسلامية ضمن حياة اجتماعية وثقافية وسياسية واقتصادية في إطار الأمة القومية، كما يتجلّى ذلك من كتابات الشهيد.
فشمولية الإسلام هو جوهره وحقيقته، التي لا يكون الإسلام إسلاماً إلا بها، فالشهيد يرى أنّ كلّ خلل يصيب شمولية الإسلام هو خلل يعمّ الإسلام كلّه، ويعطل أحكامه عن التأثير في الواقع الحي. ومعنى هذا أنّ المساس بشمولية الإسلام هو مساس بروح الشريعة الإسلامية وبصلاحيتها لكلّ زمان ومكان.
وهكذا ففصل الدين عن السياسة، والعبادة عن الحياة الاجتماعية يمثل عملية ترقيع في الشريعة الإسلامية، وقد كان هذا الفصل دائماً وأبداً ملازماً للفصل بين السلطة والجماهير، ولا يمكن اعتبار الملك الذي ظهر بعد الدولة الإسلامية ممثلا لمقولة الإسلام دين ودولة، عبادة وسياسة الا بالمعنى السُوسْيُولُوجي، أي بالمعنى المنحرف عن موقف الإسلام من الواقع.
إنّ التناقض المفتعل بين العبادات وشؤون الحياة مهدّد لوحدة الأمة ولمصيرها في نظر الشهيد، فوحدة الأمة تتشكل أساساً من الثقافة، التي توحد نظرة إنسان العالم الإسلامي إلى الكون والحياة، والثقافة بدورها تتشكل معالمها وأسسها من العقيدة ومن العبادات. فكلّ فصل بين العبادات والحياة الاجتماعية هو في الحقيقة فصل الروح عن الجسد.
العبادات والرفض والتغيير
إنّ العبادات تمثل قمة الرفض الإسلامي للتبعية، والإسلام كما طرحه الشهيد من خلال كتاباته في الاقتصاد والسياسة والعبادات، لا يكتفي بالرفض، بل يقدم في نفس الوقت، الحلّ البديل والأفكار المضادة للغزو السياسي والثقافي والاقتصادي.
فالأمة الإسلامية تتطور وتتقدم بقدر تشبع الفكر الإسلامي بالمفاهيم الدينية وتتدهور وتحطّ بقدر انفصاله عنها، هنا تبرز أهمية العقيدة والعبادة في تحديد ذهنية انسان العالم الإسلامي وتعبئته، لتحويل وضعيته الاجتماعية والسياسية.
فالعقيدة والعبادات تشكّلان منطلقاً لتغيير الواقع، إذ بفضل العقيدة والعبادات يتحدّد موقف المسلم من الواقع في جميع جوانبه.
إنّ كلّ عملية بناء حضاري تتطلب تجاوز العقلية الفردية، والتركيز على الروح الجماعية، وذلك أنّ العمل على تطوير المجتمع يحتم تعبئة شاملة، وهذه القيمة الأخيرة لم يطرحها الإسلام كمجرّد قيمة أخلاقية مرتبطة بضمير الفرد، بل يتجاوز الميدان الأخلاقي عندما أطر الروح الجماعية بالعقيدة وبالأحكام الشرعية والفرائض، ومن جملة هذه الفرائض العبادات، التي لا يمكن فهمها إلا كوحدة وككل، أي أبعادها الغيبية والاجتماعية والسياسية.
إنّ التأكيد على الجوانب الاجتماعية والسياسية للعبادات هو ـ الى جانب أسسه الروحية والغيبية ـ يمثل الطرح الفلسفي والاجتماعي لبناء الفرد والأمة، ويرفع الشعوب الإسلامية إلى مستوى الصراع الثقافي والسياسي والاقتصادي ضد الغرب.
فكلّ قطيعة بين العبادات واهتمامات الأمة هو تعبير عن فوضى فكرية لا يمكن أن تولد وعياً صحيحاً بالواقع ووضعية الشعوب الإسلامية في معركة الحضارة، إنّ الطرح الإسلامي التعبدي للعقيدة وللعبادات يعبر عن المنهج الإلهي لتسخير طاقات الواقع لصالح العباد. إنّ القطيعة بين العبادات والواقع هي وليدة لتأملات مجرّدة في النصوص وللنزعة الفقهية، التي سادت أثناء عصر الانحطاط.
إنّ الفكر الإسلامي الذي صاغه الشهيد هو فكر أعاد للواقع ثقله، لأنّه وليد للتفاعل الإيماني والمنهجي بين الاسلام والواقع، وليس هذا التفاعل إلا تعبيراً عن الاجتهاد الذي بفضله صار الشهيد السيد محمد باقر الصدر ينظر إلى الاسلام في شموليته، وكانت النتيجة الحتمية لهذا الموقف أن اعتبرت السياسة عبادة والعبادة سياسة، أي أصبحت شمولية الإسلام بالنسبة للشهيد عقيدة مقررة.
فلسفة واقعية وثورية في آن
لا أعرف فلسفة أكثر واقعية وأكثر ثورية من فلسفة الاسلام ونظرته إلى الحياة والإنسان كما طرحها الشهيد، وتتجلّى هذه الواقعية الثورية أو الجهادية في تحليل الشهيد للعبادات وعلاقتها بالحياة، إنّ العبادات التي تمثل أعلى مستوى من الروحانية والتجريد النفسي والفكري تلتصق وتتلاحم مع اهتمامات الأمة في الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية.
فالدين الإسلامي، كما يرى الشهيد، هو دين شمولي يؤطر الممارسات، ويجعل المسلمين ينطلقون دائماً من موقع العقيدة لا من الفوضى والغوغائية أو تمييع العقيدة والعبادات. فالاسلام كما يتجلّى في فكر الشهيد رسم الإطار الذي يعيش فيه المسلم عقيدته وعبادته، هذا الإطار يتناقض مع كلّ الرؤى الفلسفية الغربية المادية والمثالية معاً. والعقيدة والعبادات يجب أن يعيشها المسلم في نظر الاسلام بأبعادها الروحية والاجتماعية: هذا هو الشرع وهذا هو المنهج.
فالعبادات ـ إضافة إلى بعدها الغيبي ـ تجربة ومعاناة على مستوى الفكر وعلى مستوى العاطفة، وعلى مستوى الممارسة في الميادين الاجتماعية والسياسية[16]. وهذا ما يجعل نفسية انسان العالم الإسلامي ذات امكانيات هائلة للجهاد والعمل على تغيير الأوضاع الفاسدة وتجاوزها لتأسيس الأمة والدولة.
العبادات تصنع أمّة
إنّ تطلع المسلمين نحو أمة موحدة ليس تطلعاً غائماً، أو تطلعاً من نوع المثاليات الضبابية، فالإسلام ـ كما يتجلّى في فكر الشهيد ـ خطط ونظم الطريق المؤدي إلى وحدة الأمّة، ولم يترك المسلمين يعيشون في حالة عفوية أو مجرّد حالات انفعالية وعاطفية، فالإسلام خطط لتفجير طاقات إنسان العالم الإسلامي[17].
فالعبادات تؤدي إلى ثورة ليست كسائر الثورات، لأنها مرتبطة شرعاً وعقلا بعالم الغيب.
فالأمة الإسلامية هي النتيجة الحتمية والمنطقية لختم النبوّة ولشمولية الإسلام[18]. ولا تحقق الأمة الإسلامية وجودها واستمراريتها إلا عن طريق الجهاد المستمر، ومن عناصر الاستمرارية العبادات، فالجهاد والأمة مترابطان، والمنهج الإسلامي قد عالج هذا الترابط عن طريق الأحكام الشرعية في الميادين السياسية والاقتصادية وعن طريق العبادات.
فالجهاد (أو الثورة) لا يستمد من الإسلام أسسه العاطفية فحسب، بل يستمد، في نفس الوقت ـ أسسه الفكرية، فالعقيدة والعبادات تشكل نظرة المسلم إلى الكون والحياة، ومن هنا فكل مذهب اجتماعي وسياسي في العالم الإسلامي ينبغي أن تتم صياغته من خلال الميتافيزيقا في نموذجها الإسلامي (علاقة الشهادة بالغيب)، فالاستلاب ينشأ عندما يصطدم الإنسان في تنظيره للواقع، أو في ممارسته بالكون والفطرة، أي يصطدم مع معنى الكون والحياة، فتأتي في نظريته وممارسته مبتورتين.
فمن هذا المنطلق طرح الشهيد قصور المذاهب الفلسفية الغربية من ماركسية ووجودية وغيرها عن تفسير وعلاج الاستلاب وأزمة الحضارة[19]. فالرؤية الإسلامية التي ترجع الأمة الحضارية إلى انقطاع الإنسان عن الجذور الحقيقة للوجود، تتجاوز هذا الانقطاع وتزيله عن طريق العقيدة والعبادات التي تجعل الإنسان متصلا باستمرار بعالم الغيب، وهذا هو سرّ المقاومة التي تجعل المسلم يتحدى ويقاوم قوى الشر.
العبادات وامكانية التغيير
فالعبادات تتضمن أن التغيير عملية ممكنة مع أصعب الحالات، ومن هنا فلا معنى لليأس والشعور بالعجز، لأنهما يتناقضان مع العبادة وخلافة الانسان لله في الأرض، فعن طريق العبادات تحصل داخل ذهنية الأمة وثبة عقلية ترفض كلّ التصورات غير الإسلامية للكون والإنسان، ومن هذا البناء النفسي الجديد تمتد العملية التغييرية إلى الواقع في كلّ مظاهره، وتعمل على قلبه تماماً.
فالعبادات، بهذا المنظور، تشكل حركة المسؤولية الإيمانية بكلّ أبعادها الروحية والمادية، فحصر العبادات في الجانب التعبدي الصوري والمنفصل عن الحياة هو من عمل الفكر المتخلف، ويعتبر جناية كبيرة على الإسلام والمسلمين ومصير الأمة.
إنّ الطموح الذي يحمله الإسلام لتغير المجتمع وبناء الأمة العالمية، قد يظهر لأول وهلة أمراً مستحيل التحقيق أمام صعوبات الواقع الراهن. لكن هذا الطموح يصبح معقولا ومنطقياً في ضوء التصور الإسلامي للحوادث ولعلاقة الدين بالدنيا.
فالإسلام قاوم النظرة الغيبية المحضة أو المبتذلة في تفسير الحوادث، واعتبرها موقفاً استسلامياً، لأن القرآن الكريم يربط دائماً عالم الغيب بعالم الشهادة: فالامداد الغيبي لا يتحقق إلا ضمن شروط أساسها العمل الانساني.
فحركة الإنسان هي التي تأذن بالتدخل الإلهي: الاستقامة على طريق الله من دواعي التدخل الإلهي، فتعامل الشهيد مع حركة التأريخ ومع العبادات تمَّ داخل فلسفة الإسلام، التي لا تحدث قطيعة بين الروحي والمادي، فالعبادات، إذا نُظر إليها من خلال شمولية الإسلام، تدعم الحسّ النقدي لدى المؤمنين وتعمق وعيهم بمجرى الحوادث، وهما عاملان ضروريان في كلّ عملية تغييرية.
فالعبادات بهذا المعنى تهزّ ضمائر المسلمين وعواطفهم، وتعجل بالمسيرة نحو الجهاد، وتدفع بالشعوب الإسلامية إلى القيام بعملية تسريعية لبناء الأمة والدولة الإسلامية. إنّها، حسب تعبير الشهيد، تُفجر الطاقات الكامنة في الشأن العام الإسلامي[20].
العبادات كمصدر للعلاقات الإنسانية
وهكذا فمن وجهة نظر الشرع والعقل والمنهج لا أساس لفصل العبادات عن الحياة الاجتماعية وعن حركة التأريخ وعزلها، لتكون معبرة عن علاقة الإنسان بالله، بل إنّ العلاقة بين الإنسان والله سبحانه وتعالى في إطار العقيدة وفي إطار العبادات، تنتج عنها علاقة أخرى هي علاقة الإنسان بالإنسان، وذلك مما ينتج عن العقيدة والعبادات من إمكانيات روحية وأخلاقية لدى إنسان العالم الإسلامي، وهي إمكانيات يجب تجسيدها، شرعاً، في الواقع الحي بالالتزام باهتمامات الأمة.
فالعبادات بهذا المنظور هي عاطفة وعقل وجهاد، وكلّ موقف مضاد هو الشذوذ والخضوع للأمر الواقع، فبمجرّد ربط الدنيوي بالروحي ينتهج المجتمع الإسلامي أسلوباً جهادياً يتجاوز كلّ الصيغ الثورية المطروحة في الفكر المعاصر، ذلك أنّ ثورية المجتمع الإسلامي هي ثورية ذات استمرارية تستمدها من مصدرها الإلهي، الذي ينتج عنه صيرورة تاريخية لا نهاية لها، في حين أنّ مفهوم الثورة في المذاهب الفلسفية الغربية هو مفهوم ذو دلالة وأبعاد ونتائج جدّ نسبية بحكم نسبية الفكر البشري الذي أنتجه وبحكم نسبية أهدافه فبالنسبة للشهيد «المثل الأعلى الذي ينبثق تصوره عن الواقع، ويكون منتزعاً عن الواقع الذي تعيشه الجماعة، هذا مثل أعلى تكراري. وتكون الحركة التاريخية في ظل هذا المثل الأعلى حركة تكرارية…»[21].
الارتباط بالمطلق
أما حركة التأريخ التي ترتكز على علاقة الشهادة بالغيب، فهي حركة مفتوحة نحو المطلق:
«… المثل الأعلى الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، في هذا المثل التناقض الذي واجهناه (أي المثل العليا النسبية) سوف يحل بأروع صورة، كنا نجد تناقضاً، وحال هذا التناقض هو أن الوجود الذهني للإنسان محدود، والمثل يجب أن يكون غير محدود، فكيف يكون توفير المحدود وغير المحدود؟ وكيف يمكن التنسيق بين المحدود وغير المحدود؟ هذا التنسيق… سوف نجده في المثل الأعلى الذي هو الله سبحانه وتعالى.
لماذا؟ لأنّ هذا المثل الأعلى ليس من نتاج الإنسان، ليس إفرازاً ذهنياً للإنسان.. هو موجود مطلق في الخارج، له قدرته المطلقة وله علمه المطلق وله عدله المطلق. هذا الموجود العيني بواقع العين يكون مثلا أعلى لأنه مطلق، لكن الانسان حينما يريد أن يستلهم من هذا النور، حينما يريد أن يمسك بحزمة من هذا النور، طبعاً هو لا يمسك إلا بالمقيد، إلا بقدر محدود من هذا النور، إلا أنه يميز بين ما يمسك وبين مثله الأعلى، المثل الأعلى خارج حدود ذهنه، لكنه يمسك بحزمة من النور، هذه الحزمة مقيدة لكن المثل الأعلى مطلق.
عبادة المسمى لا الاسم
ومن هنا حرص الإسلام على التمييز دائماً بين الوجود الذهني وما بين الله سبحانه وتعالى الذي هو المثل الأعلى، فرق حتى بين الاسم والمسمى، وأكد على أنه لا يجوز عبادة الاسم، وإنما العبادة تكون المسمى، لأنّ الاسم ليس إلا وجوداً ذهنياً، إلا جهة ذهنية لله سبحانه وتعالى. بينما الواجهات الذهنية دائماً محدودة. العبادة يجب أن تكون للمسمى لا للاسم لأنّ المسمى هو المطلق، أما الاسم فهو مقيد ومحدود…
تقدم مسؤول وفسحة لا نهائية
حينما تتقدم الإنسانية في هذا المسار واعية على المثل الأعلى وعياً موضوعياً يكون التقدم تقدماً مسؤولا، يكون عبادة بحسب لغة الفقه، لوناً من العبادة، يكون لهم امتداد على الخط الطويل وانسجام مع الوضع العريض للكون…
وبحكم أنّ الله سبحانه وتعالى هو المطلق اذن الطريق أيضاً لا ينتهي، هذا الطريق طريق الإنسان نحو الله، اقتراب مستمر بقدر التقدم الحقيقي نحو الله. ولكن هذا الاقتراب يبقى اقتراباً نسبياً… لأنّ المحدود لا يصل إلى المطلق… فالفسحة الممتدة بين الإنسان وبين المثل الأعلى هنا فسحة لا متناهية، أي أنه ترك له مجال الابداع إلى اللانهاية، مجال التطور التكاملي إلى اللانهاية، باعتبار أنّ الطريق الممتد طريق لا نهائي»[22].
فضمانة الاستقامة الجهادية ترجع إلى الأساس العقائدي، الذي ترتكز عليه ممارسات المسلمين السياسية والاقتصادية والثقافية، وكلّ فصل ولو كان بسيطاً بين القاعدة الروحية والممارسة يؤدي إلى تلاشي الشعلة الجهادية في ذهنية انسان العالم الإسلامي.
فالأساس الروحي والالتزام بالنص التزاماً تعبدياً ومطلقاً يعتبران القاعدة العامة، التي يستنبط منها نمط العلاقة بين الدين والدنيا عموماً، وبين العبادة والحياة الاجتماعية على وجه الخصوص.
إنّ حركة الأمة الإسلامية واستمراريتها تصطدم بكثير من العقبات والعراقيل، إذا لم تتضمن حافزاً عميقاً يدعو إلى التفاعل معها والتفاني في سبيلها، وتجسد العبادات ـ إذا فهمت في إطار شمولية الإسلام ـ الحدّ الأقصى في تعبئة المسلمين ودفعهم نحو الالتزام بمتطلبات وحدة الأمة.
الخـلاصـة
مما تقدم يتبين لنا بوضوح أنّ الشهيد السيد محمد باقر الصدر قد طرح العبادات طرحاً إسلامياً مقابل الطرح الناقص، وقد تم هذا الطرح من خلال عملية اجتهادية خاضعة لشروط الشريعة الإسلامية، أي في إطار منهجي ومعرفي في عالم يتمثل في إشكالية العلاقة بين العقل والنص والواقع.
فتحليل الشهيد للعبادات يبين بوضوح أنّ ربط هذه الأخيرة بالحياة الاجتماعية ليس واجباً شرعياً فحسب، بل هو كذلك ضرورة تحتمها المنظومة الإسلامية نفسها على الصعيد المنهجي والمعرفي، وبقطع النظر عن عقيدة الدارس وموقفه من الإسلام.
وهكذا فكلّ قطيعة بين العبادات والحياة الاجتماعية تؤدي إلى فوضى في المنظومة الإسلامية، لأنها تأخذ مصدرها من قراءة غير شرعية وغير علمية، في نفس الوقت، للقرآن الكريم وللسنة الشريفة.
د.محمد عبد اللاوي
[1] انظر: نظام العبادات في الإسلام، الفصل الخامس: 145، حيث يطرح الشهيد العلاقة بين الحج والوعي التأريخي، نشر منظمة الإعلام الإسلامي، طهران 1404هـ
[2] المصدر السابق: 13 ـ 14.
[3] السيد الشهيد محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة: 704، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الثامنة، بيروت 1983م.
[4] نفس المصدر: 808.
[5] العنكبوت: 6.
[6] نفس المصدر: 710 ـ 711.
[7] نفس المصدر: 711.
[8] نفس المصدر: 724.
[9] نفص المصدر: 726.
[10] نظام العبادات في الإسلام: 32 ـ 33.
[11] نفس المصدر: 23 ـ 24.
[12] نفس المصدر: 38 ـ 39
[13] انظر: التفسير الموضوعي للشهيد محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت، الطبعة الثانية 1981م.
[14] السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا، (المقدمة: ن)، دار الفكر، الطبعة السادسة ـ بيروت 1984م.
[15] انظر اقتصادنا (الاقتصاد الاسلامي جزء من كل): 269 ـ 277.
[16] انظر نظام العبادات في الاسلام (خاصة الملامح الخاصة لتشريع كل عبادة).
[17] انظر مقدمة اقتصادنا
[18] انظر (للشهيد): (خلافة الانسان وشهادة الانبياء)، فصل: الوصاية على الثورة ممثلة في الإمام: 31، وفصل: المرجعية بوصفها المرحلة الثالثة من خط الشهادة: 35، نشر قسم الاعلام الخارجي لمؤسسة البعثة، طهران (بدون تأريخ).
[19] نظام العبادات في الإسلام: (الايمان بالله هو العلاج): 19 ـ 22.
[20] انظر: اقتصادنا: خاصة المقدمة
[21] التفسير الموضوعي: 155
[22] التفسير الموضوعي: 176 ـ 181 ـ 184.