1ـ عناصر المجتمع :
ان المقطع الزمني الذي كتب فيه الشهيد الإمام الصدر عدة نظريات واكثرها تعقيداً، والتي لم تتمكن النظريات الحديثة من التوصل إلى ابعادها الحقيقية وتراجع فيها الكثير من المفكرين.. وخاصة نظريتي الاجتماع والاقتصاد لما بينهما من تداخل، فكان العالم الانساني بحاجة ماسة وضرورة قصوى بالتطلع لمن يتصدى لتحديد اصول هذه النظريات بالدقة العلمية والواقعية، وتعيين المصدر الحقيقي للمعرفة في اطارها الواسع وحقولها الخاصة. وفي هذه المرحلة كانت المشكلة الكبرى التي يعيشها العالم الإسلامي او المتدينون هي عدم وضوح بعض النظريات، أو ضعف القدرة على كشف النظرية الإسلامية في هذا المجال او ذاك من الناحية العلمية والموضوعية.
ان الجانب التجزيئي في الدراسة الفقهية أو القرآنية هو الاسلوب السائد، بل هناك حالة جمود وقلة خبرة في الاسلوب والمنهج وطريقة استخلاص النظرية، وتحديد وتشخيص حالة التصور التربوي في التبني واسلوب الترويح والتأثير والدعوة، فكانت الحياة الانسانية بمساحتها الواسعة تترقب الموقف الفاصل والحاسم للخلاص من حالة الارتباك والقلق.
وفي ظل هذه الحالات والاوضاع المعقده التي تمربها الانسانية، والاُمّة الإسلامية بالاخص تصدي الإمام الشهيد للتيار الحضاري باعلى درجات الابداع في اكتشاف حقيقة نظرية الاجتماع في تشخيص البعد الرابع ! بعد ان ظل علم الاجتماع يؤكد على العناصر الثلاثه الانسان، الارض العلاقة المعنوية أو النظام… فتخبطت النظريات ولم تصل إلى نتيجة صحيحة في معرفة مصدر النظام الاجتماعي والعلاقات الانسانية. وكانت هناك دراسات ناقصة ومبتورة عن النفس الانسانية لانفصالها عن البعد الرابع…
ونظراً لأهمية الدراسة الاجتماعية، باعتبار ان المجتمع هو مادة الاديان في حركة الانبياء والمصلحين كان من الضروري منهجة النظرية الاجتماعية الصحيحة، وان يشخص هذا الجانب بالدقة العلمية والفكرية، حيثُ ـ قبل تشخيص البعد الرابع ـ كان الغموض والنقص يحيط ويطوق نظرية الاجتماع الحديثة. فاوضح الإمام الشهيد هذه العناصر الثلاثه ـ فأكد أن المجتمعات البشرية جميعاً تشترك في العنصر الأول (الارض)، والعنصر الثاني (الانسان)، فانه لايوجد مجتمع بدون انسان يعيش مع اخيه الانسان ولايوجد مجتمع بدون ارض او طبيعة يمارس عليها دوره الاجتماعي. وفي هذين العنصرين تتفق المجمعات التاريخية والبشرية.
واما العنصر الثالث وهو العلاقة بين الانسان والانسان (النظام الاجتماعي) فان في كل مجتمع علاقة. ولكن المجتمعات تختلف في طبيعة هذه العلاقة وفي كيفية صياغتها في نظام تتوقع فيه العدالة.
فالعنصر الثالث هو العنصر المرن والمتحرك من عناصر المجتمع. وهذه العلاقة التي هي العنصر الثالث لها صيغتان: صيغة رباعية واخرى ثلاثية.
فالرباعية هي الصيغة التي ترتبط بموجبها الطبيعة او (الارض والانسان) والعلاقة المعنوية او ارتباط الانسان بالانسان في ظل النظام الاجتماعي. فهذه اطراف ثلاثة وإلى هنا يمكن ان نسميها (الثلاثية).
فالعلاقة اذاً اتخذت صيغة تربط بموجبها بين هذه الاطراف الثلاثة ولكن مع افتراض طرف رابع ونسميها (بالصيغة الرباعية). فالصيغة الرباعية تربط بين هذه الاطراف الثلاثة ولكنها تفترض طرفاً رابعاً ـ بعداً رابعاً ـ للعلاقة الاجتماعية.
وهذا الطرف الرابع ليس داخلاً في اطار المجتمع وانما خارجٌ عنه. والصيغة الرباعية تعتبر هذا الطرف الرابع مقوماً من المقومات الاساسية للعلاقة الاجتماعية على الرغم من انه خارج اطار المجتمع، وهذه الصيغة ذات الابعاد الاربعة هي التي طرحها القرآن الكريم تحت اسم الاستخلاف. والاستخلاف عندما نحلله نجده ذا اربعة اطراف لان الاستخلاف يفترض مستخلِفاً.
فمستخلِف ومستخلَفٌ عليه، ومستخلَفٌ فهناك اضافة إلى الانسان واخيه الانسان والطبيعة (الارض) يوجد طرف رابع في طبيعة وتكوين علاقة الاستخلاف وهو المستخلِف، اذ لا استخلاف بدون مستخلِف. فالمستخلِف هو الله سبحانه وتعالى، والمستخلَف هو الانسان واخوه الانسان اي الانسانية ككل، والمستخلف عليه هو الارض وما عليها ومن عليها. وهذه الصيغة ترتبط بوجهة نظر معينه نحو الحياة والكون، بوجهة نظر قائله بانه لاسيد ولا مالك ولا إله للكون وللحياة إلاّ الله سبحانه وتعالى، وان دور الانسان في ممارسة حياته انما هو دور الاستخلاف؛ واي علاقة تنشأ بين الانسان والطبيعة انما هي علاقة امين على امانة.
هذه هي الصيغة الاجتماعية الرباعية، ومنها تنبثق نظرية الاجتماع، وفي مقابلها توجد صيغة ثلاثية الاطراف صيغة تربط بين الانسان والانسان والطبيعة، ولكنها تقطع صلة هذه الاطراف مع الطرف الرابع ـ فتجرد تركيب العلاقة الاجتماعية عن البعد الرابع.
وبعد ان عُطِّل البعدُ الرابع وفُرِضَ ان البداية هو الانسان، حينئذ تنوعت على مسرح الصيغة الثلاثية اشكال الملكية واشكال السيادة، سيادة الانسان على اخيه الانسان. وبالتدقيق في المقارنة بين الصيغتين الرباعية والثلاثية يتوضح ان اضافة الطرف الرابع للصيغة الرباعية ليس مجرد اضافة عددية، أو مجرد طرف جديد يضاف إلى الاطراف الاخرى، بل ان هذه الاضافة تُحدِث تغيراً نوعياً في كيفية العلاقة الاجتماعية وفي تركيب الاطراف الثلاثة الاخرى نفسها. فليس هذا مجرد عملية جمع ثلاثة زائدة واحداً بل هذا الواحد الذي يضاف إلى الثلاثة سوف يعطي للثلاثة روحاً اخرى ومفهوماً آخر، سوف يحدث تغييراً اساسياً في كيفية هذه العلاقة ذات الاطراف الاربعة، اذ يعود الانسان مع اخيه الانسان مجرد شركاء في حمل هذه الامانة.
وهذه الصيغة تارة نلحظها من زاوية ربطها بالفاعل، وهو الله سبحانه وتعالى (إني جاعلٌ في الارضِ خليفة)[1] واخرى نلحظها من زاوية القابل. من ناحية دور الانسان فى تقبل هذه الخلافة. وتحمل هذه الامانة (إِنا عَرَضْنا الأَمانةَ على السماواتِ والارضِ والجبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يحمِلْنَها وحَمَلها الانسانُ إنه كان ظلوماً جهول)[2].
وبعد هذا الكشف الرائع والابداع الجميل عن نظرية الاجتماع وعن حركة المجتمع وابعادها يكشف ويشخص الإمام :
2ـ منهج حركة المجتمع وحل التناقض :
أي الحركة الاجتماعية نحو المثل الاعلى وهي الحقيقة المنشودة للانسانية والتي ظلت في حسرة وتقييد امام وضوح طريقة ومنهج هذه الحركة.. فان مبدأ هذه الحركة الذي شخصه الشهيد وحدد قاعدته في عمليتين يجب ان يسيرا جنباً إلى جنب وهما (المحتوى الداخلي والنفسي) (والبناء الفوقي الخارجي) للانسان واطلق القرآن الكريم على ذلك بالجهاد الاكبر والجهاد الأصغر. وبعد ان تمت المعرفة في ذلك. وان الاساس في حركة المجتمع والتاريخ هو المحتوى الداخلي ووضع اليد على نقطة البدء والمحور الذي يستقطب عملية بناء المحتوى الداخلي للانسانية حيث عبر عنه القرآن الكريم (ولله المثل الأعلى)[3] الذي تتمحور فيه وتعود اليه كل الاهداف. فبقدر مايكون المثل الاعلى للجماعة البشرية صالحاً وعالياً وممتداً، تكون الغايات صالحة وممتدة. وبقدر مايكون المثل الأعلى محدوداً أو منخفضاً، تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة ومنخفضة، لأن الحركة الاجتماعية تتميز عن اي حركة اخرى في الكون بانها حركة غائية حركة هادفة، والحركات تميز بمثلها العليا، والمثل هو الذي يُحدِّد الغايات والاهداف، وهي بدورها تحدد النشاطات والتحركات ضمن مسار ذلك المثل الأعلى.
ثم أوضح الشهيد انواع المثل العليا التي تميز النشاط الانساني في كفاحه وحركته وتحدياته المختلفة :
المثل الأعلى التكراري :
وهو منتزع من واقع الجماعة وأوضاعها وظروفها التي تحكمها فتكون حيثية حركة الجماعة حركة تكرارية جامدة حيث انها تحمل تصور وسلوك يعيد الحالات السابقة ويتحول الطموح الانساني والمستقبل إلى تكرار للواقع والماضي.
وأسباب تكون هذا المثل الاعلى : 1ـ الألفة والعادة والضياع 2ـ السبب الخارجي، وهو التسلط وسيادة الطاغوت.
ثم ان هذه الاُمّة سوف تفقد ولاءها لمثلها الأعلى لانه سوف يفقد فاعليته وقدرته عن العطاء وتطوير البشرية. وبقي ان هذه القاعدة الجماهيرية سوف تتمزق وحدتها لان وحدتها بالمثل الواحد، فاذا ضاع المثل ضاعت هذه القاعدة.
المثل الأعلى الانطلاقي :
ثم يحدد الشهيد النوع الثاني من المثل العليا… وهو في طريقه لوضع اليد على الحركة الحقيقية التي تحل التناقض في حركة الانسان والتي عجزت كل الافكار المطروحة في طول التاريخ من امكانية الوصول إلى الابعاد الصحيحة والحقيقة في حل جذور التناقض حيث يتدرج في المرور بالنوع الثاني… وهو المثل الأعلى المنبثق من طموح الاُمّة ومن تطلعها إلى المستقبل حينما تكون الحرية المطلقة هي المثل الأعلى بعد تحطيم القيود المفروضة على الانسان… كما حصل هذا في المجتمع الغربي حيث اطلقت الحريات في كل شيء، إلا إن هذا التصور يكون حركة في المجتمع الانساني نحو خطوة واحدة محدودة يتحرك باتجاهها الانسان، ويبقى يتعامل مع هذه الخطوة، وتبقى المحدودية بين حركة الانسان وتصوره المستقبلي قائمة.
وقد تحقق في ظل هذا المثل بعض المكتشفات والاجراءات التاريخية في حياة الاُمّة لانها تمر بمراحل أربع :
الأولى : مرحلة فاعلية هذا المثل الذي بدأ مشتقاً من طموح مستقبلي.. فيكون لهذا المثل في المرحلة الأولى فاعلية وعطاء وتجديد، لكن هذا العطاء مرحلي أي يسميه القرآن الكريم بالعاجل (مَّن كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلنَا لَهُ فِيهَا مَانَشَآءُ…)[4].
فهذه المكاسب عاجلة لأن عمر هذا المثل قصير وعطاءه محدود.
الثانية : مرحلة تجمد هذا المثل ونفاد طاقته وقدرته فيتحول إلى تمثال، والقادة الذين كانوا يعطون ويوجهون على الساحة الاجتماعية يتحولون إلى كبراء وجمهور الاُمّة يتحول إلى مطيع ومنقاد وليس مشاركاً في الابداع والتطور.. وقد يعبر القرآن الكريم عن هذه المرحلة بقوله : (وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ)[5].
الثالثة : مرحلة الامتداد التاريخي.. حيث يتحول المثل إلى امتداد تاريخي في تكون صيغة تتوارث مقاعدها عائليا فتكون هي الطبقة المترفة المثقلة بهمومها الصغيرة وهذا ماعبر عنه القرآن الكريم بقوله : (وَكَذلِكَ مَآأَرسَلنَا مِن قَبلِكَ في قَريَة مِن نَّذِير إِلاَّ قَالَ مُترَفُوهَآ إِنَّا وَجَدنَآ آبَآءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثارِهِمْ مُّقتَدُونَ)[6].
المرحلة الرابعة : التسلط والسيطرة وتفسخ المثل كما سيطر هتلر والنازية وقضى على كل تبعات ذلك المثل الذي رفعه الانسان الاوربي الحديث والذي تحول ايضاً كسابقه إلى مثل تكراري كما عبر عنه القرآن الكريم في قوله تعالى (وَكَذلِكَ جَعَلنَا في كُلِّ قَريَة أَكابِرَ مُجرِمِيهَا لِيَمكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمكُرُونَ إِلا بِأَنفُسِهِم وَمَا يَشعُرُونَ )[7].
المثل الأعلى الحقيقي :
ثم يوصلنا(رضي الله عنه) إلى النوع الثالث من المثل العليا. هو المثل الأعلى الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى وفي هذا المثل سوف يحل التناقض الذي واجهناه باروع صورة بعدما كانت تبحث في المثل العليا السابقة عن الحل، ولكن دائماً نواجه عقبه متمثلة في حركة المحدود نحو تصور ذهني ايضاً محدود. والتناقض يرتسم في ان الوجود الذهني للانسان محدود، والمثل يجب ان يكون غير محدود. فكيف يمكن توفير المحدود وغير المحدود ؟ وكيف يمكن التنسيق بين المحدود وغير المحدود؟ وهذا ماسوف نجده واضحاً في المثل الأعلى الحقيقي لأن المثل الأول والثاني في حقيقته نتاج الانسان المحدود اما هذا النوع الثالث فليس من نتاج الانسان وليس افرازاً ذهنياً له، بل هو مثل اعلى عيني له واقع موجود خارج دائرة الانسان وله قدرته المطلقة وله علمه المطلق. فحركة الانسان نحو هذا المثل محدودة بمسك حزمة من النور لكن المثل الأعلى مطلق.
وقد عبر القرآن الكريم بقوله (يَأَيُّهَا الإِنسانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدحاً فَمُلاقِيهِ)[8].
وكما كان الله سبحانه وتعالى هو المطلق اذن الطريق لاينتهي. فهذا الطريق، طريق الانسان نحو الله، وهو اقتراب مستمر بقدر التقدم الحقيقي نحو الله ولكن هذا الاقتراب يبقى اقتراباً نسبياً ويبقى مجرد خطوات على الطريق من دون ان يجتاز هذا الطريق لأن المحدود لايصل إلى المطلق لأن الكائن المتناهي لايمكن ان يصل إلى اللامتناهي . فالفسحة المحتدة بين الانسان والمثل الأعلى قسمة لامتناهية.
وحينما توفق المسيرة الانسانية في وعيها وحركتها نحو هذا المثل يحدث تغير كمي وكيفي في مسيرتها. أماالتغير الكمي فهو ان الطريق إلى المثل الاعلى الحق يكون طريقاً غير متناه فيكون مجال التطور والابداع والنمو قائماً ابداً ودائماً ومفتوحاً للانسان باستمرار من دون توقف.
وحينما يُتبنى هذا المثل الأعلى سوف تمسح من الطريق كل الآلهة المزورة وكل مايسيء بالمثل المتقدمة على طريق الانسان. ومن هنا كان دين التوحيد صراعاً مستمراً مع مختلف اشكال التكبر والمثل المنخفضة والتكرارية التي حاولت ان تحد من كمية الحركة فتوصله إلى نقطة ثم تقول قف ايها الانسان. هذه المثل التي ارادت ان توقف الانسان في وسط الطريق وفي نقطة معينة كان دين التوحيد على مر التاريخ هو حامل لواء المعركة ضدّها.
وأما التغير الكيفي.. فهو اعطاء الحل الموضوعي الوحيد للجدل الانساني والتناقض الذي كان يواجهه في تعامله مع المثل المصطنعة فيتحول الامر إلى شعور الانسان بالمسؤولية امام مَثَلِهِ الحق والحركة العادلة نحوه، وقد خرج من يقود التناقض في الحركة الاجتماعية.
وبهذا الايجاز أكد الإمام الشهيد نظرية علم الاجتماع الصحيحة وكشف كذلك نظرية حركة المجتمع الانساني وهل التناقض الذي لم تستطيع كل النظريات في طول التاريخ من كشفه، وحلّه، وتمكن من رسم المنهج العلمي الدقيق لحركة الانسان الصحيحة.
وسوف يأتي في بحث آخر كيف توصل الإمام الشهيد إلى حل التناقض في حركة الانسان بين الدافع الذاتي والمثالية في مجال الحركة التغييرية وحمل لواء الرسالة والدعوة اليها.
السيد جواد العذاري
[1] سورة البقرة : آية 30.
[2] سورة الاحزاب : آية 72.
[3] سورة النحل : آية 60.
[4] سورة الإسراء : آية 18 ـ 20.
[5] سورة الأحزاب : آية 67
[6] سورة الزخرف : آية 23.
[7] سورة الأنعام : آية 123.
[8] سورة الانشقاق : آية 6.