نظرية الشهيد الصدر في كشف المذهب الاقتصادي على ضوء قواعد الاجتهاد الفقهيّ الشيعيّ

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

مجلّة المنهاج / 53
تمهيد
إنّ تحديدَ منهج الاستنباط والطريق المتَّبع للوصول إلى النظام الاقتصاديّ في أيّ شريعةٍ يُشكّل عنصراً مهماً، ولذا كان للاختلاف في منهج الاستنباط أثرا بالغاً في اختلاف التعاليم الاقتصاديّة المُستنبطة. ولا تخرج شريعة الإسلام عن هذه القاعدة، فإنَّ صاحب أيّ منهجٍ من مناهج الاستنباط يرى فيما يتوصّل إليه الموقفَ الإسلاميَّ الصحيح. من هذه النقطة بالذات تبرز الأهميّة البالغة للقضيّة التي سوف نُعالجها والتي ينبغي البحث عنها، وترتبط ببُعدٍ معرفيّ وهو أنَّ التعاليم المُستنبَطة للنظام الاقتصاديّ إذا أُريد إدراجها ضمن التعاليم السلوكيّة أو جعلها أساساً للكثير من الأحكام والقوانين في المسير الاقتصاديّ، فلا بدَّ وأن نصلَ فيها إلى درجةِ القطع واليقين بصحّة نسبتها إلى الإسلام، أو لا أقل من توافر الحجّة الشرعيّة على ذلك. وكمثالٍ على ذلك ما ننسبه إلى الشريعة الإسلاميّة من أحكام وقوانين نصل إليها عن طريق الخبر المتواتر ـ بلحاظ سنده ـ فإنَّنا نكون على يقينٍ منه، وأمَّا الأحكام والقوانين التي نستنبطها اعتمادا على خبر الواحد فإنَّ نسبتها إلى الشريعة الإسلاميّة لا يكون بنحو اليقين، ولكن قامت الحجّة الشرعيّة على العمل بمَفاد الخبر المتضمّن لها. ولذا نعمل بهذا المضمون بلا أيّ تردّد، بل يجب العمل بمفاد ذلك الخبر.
إنَّ من المسائل المهمَّة فيما يرجع إلى نظريَّة الشهيد الصدر مسألة نسبة المذهب الاقتصاديّ المُستنبَط إلى الشريعة الإسلاميّة. وبعبارةٍ أُخرى، إنَّ ما نكتشفه ونصل إليه اعتماداً على منهج الشهيد الصدر ممّا يندرج تحت عنوان الاقتصاد الإسلاميّ ونجعله أساساً للأحكام والقوانين والسلوك الاقتصادي هل هو حجّة عند الله؟ ولو أثبتنا أنَّه كذلك فهل يُمكننا العمل به؟
لا بدَّ من إلفات نظر القارئ أولا إلى أنَّ كاتب هذه السطور لا يتصدَّى ليُعلن موقفاً محدّداً بالرفض أو القبول لنظريّة الشهيد الصدر، بل هو بصدد الردّ على بعض التفاسير غير الصحيحة التي قُدّمت لنظريّته، والسعي لتصحيحها طبقاً لقواعد الفقه الشيعيّ؛ نعم قد نكتفي أحياناً بالإشارة فقط إلى اختلاف رأي كاتب هذه السطور مع نظريَّة الشهيد الصدر.
ولا بدَّ لنا قبل التعرَّض لما تقدّم من الإشارة إلى مراتب الدّين، لأنّ ذلك يُعتبر ضروريّا في معالجتنا لهذه المسألة.
مراتب الدّين
إنَّ ملاحظة حقيقة الدِّين، وما وقع في تاريخ الأديان، يُظهر لنا وبوضوح إلى أنّ للدِّين مراتب مختلفة طوليّة، وهي عبارة عن:
1ـ الدِّين الواقعيّ (نفس الأمريّ): خلق الله تعالى هذا الإنسان وهو العارف منذ البدْء بكافّة أبعاده الوجوديّة، ماديّة ومعنويّة. وفي العلم الإلهيّ والمشيئة الربّانيّة ثمّة طريقٍ جامعٍ ومسيرٍ واضحٍ يصل بهذا الإنسان إلى الفلاح والاستقامة والتي هي الهدف النهائيّ من خلقه. وهذا الطريق الجامع يشمل كافّة القضايا العقَديّة التي يحتاج إليه للفلاح والاستقامة، كما يشتَمل على كافّة الأحكام (أي ما ينبغي وما لا ينبغي) التي يحتاج إليها الإنسان في علاقته مع أخيه الإنسان، وفي علاقة الإنسان مع الطبيعة ومصادرها، وعلاقة الإنسان بالدولة في مختلف الأبعاد والمجالات ومنها البُعد الاقتصاديّ، وهذا الواقع هو ما نُطلق عليه اصطلاحا عالم الواقع ونفس الأمر.
2ـ الدِّين المرسَل : يُطلقُ على ما أنزله الله عزّ وجلّ على أنبيائه ورسله لهداية الإنسان إلى سواء السبيل، وإلى ما فيه صلاحه وفلاحه تسميةَ (الدِّين المرسَل)؛ فقد أنزل الله عزَّ وجل في كلِّ زمانٍ قسماً من هذا القانون الجامع على رسُله لهداية الناس، ولذا كان الدِّين المرسَل عبارة عن التعاليم الإسلاميّة الواردة في الكتاب والسنّة والمنزَلة عن طريق الوحي والتي قام النبيّ (عليهما السلام) والأئمة (عليهم ‏السلام) ببيانها. ولكن ثمّة مرتبة من الدّين هي مرتبة نفس الأمر وهو الدِّين الثابت في العلم الإلهيّ والمشيئة الربّانيّة. وما قدّمه لنا النبي (عليهما السلام) والأئمة المعصومون (عليهم ‏السلام) بواسطة الوحي هو المطابِق لهذا الدِّين النفس الأمريّ وهو جامعٌ وكاملٌ، ولو وقفَ أعداء الدِّين سداً أمام وصول الدِّين الحقّ المرسَل إلى العصور السالفة. فقد قامت الأدلّة النقليّة على أنَّ نبيّ الإسلام هو خاتم الرسُل وأنّه قد بيّن الطريق الكامل الكفيل بوصول الإنسان إلى سعادته. ولذا نقرأ في آيات كتاب الله قوله: (ما فرَّطنا في الكتاب من شيء ) (الانعام، 38 )ولهذه الآية نظائر أُخرى في كتاب الله كالآية 89 من سورة النحل؛ ويرى العلامة الطباطبائي (رحمه‏ الله) أنَّ احتمالات المراد من الكتاب ثلاث هي : ألف ـ أنْ يكون المقصود من الكتاب، اللوح المحفوظ. أي إنَّ كلَّ ما يحتاج إليه البشر موجودٌ في اللوْح المحفوظ وفي عالم نفس الأمر. ب ـ أنَّ المقصود من الكتاب، القرآن المجيد. وبناء عليه فإنَّ كلَّ ما فيه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة قد جاء به القرآن الكريم. ج ـ أنْ يكون المقصود من الآية كلا الاحتمالين .
إذا هذه الآية ونظائرها تدلُّ على وجود نظامٍ متكاملٍ لسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، لا سيّما بناء على الاحتمال الثالث. نعم، لو حُملت الآية على الاحتمال الأوّل، فإنَّ بإمكاننا الرجوع إلى الروايات الكثيرة التي ورد فيها ما يدلُّ على أنَّ الشريعة الإسلاميَّة هي نظامٌ متكاملٌ لسعادة الإنسان في الدنيا والآخر وبعض هذه الروايات عبارة عن :
ـ ما ورد عن الإمام الصادق (عليه ‏السلام) من قوله: (… ليس شيءٌ إلا وقد جاء في الكتاب وجاءت فيه السنّة) .
ـ وفي رواية أُخرى يقول المعصوم (عليه ‏السلام): (… أتى رسول الله (عليهما السلام) بما استغنوا به في عهده وبما يكتفون به من بعده إلى يوم القيامة) .
ولهذه الروايات نظائرُ كثيرة في الجوامع الحديثيّة الشيعيّة والسنّية، تدلّ جميعها على جامعيّة الشريعة الإسلاميّة، على مستوى الواقع ونفس الأمر وعلى مستوى الدِّين المرسَل. ففي عالم الواقع ونفس الأمر، ثمّة أُسسٍ عقائديّة، أخلاقيّة، وسلوكيّات عامّة، وأحكام لكافّة علاقات البشر في مختلف المجالات الفرديّة والاجتماعيّة تؤدِّي إلى سعادة الإنسان، مضافاً إلى الأسس والأحكام العامّة. كما تحتوي على الأهداف وطُرق الوصول إليها في كافّة المجالات الاجتماعيّة كالاقتصاد؛ لأنَّ هذا هو مقتضى جامعيّة الشريعة؛ ولذا فإنَّها تحتوي على علاقة الإنسان بالإنسان، علاقة الإنسان بالطبيعة والمصادر الطبيعيّة، علاقة الإنسان بالدولة، على المستوى الفرديّ، في مجال النظام الاقتصاديّ .
نظريّة الشهيد الصدر في كشف الاقتصاد الإسلاميّ
يرى الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) أنّ للاقتصاد الإسلاميّ نحواً محدَّداً ومجالا خاصّاً وعلى أساس ذلك يتَّبع منهجا خاصّا للكشف عن الاقتصاد الإسلاميّ فيرى:
إنَّ المراد من الاقتصاد الإسلاميّ، المذهب الاقتصاديّ لا علم الاقتصاد .
وأمَّا ما هو تعريف المذهب الاقتصاديّ عند الشهيد الصدر (رحمه‏ الله). لديه تعابير مختلفة في هذا المجال ولكن يبدو أنَّها ترجع إلى مفهومٍ أساسيّ عام. فبعض عباراته في تفسير المذهب الاقتصاديّ عبارة عن التالي :
المذهب الاقتصاديّ للمجتمع عبارة عن الطريقة التي يُفضّل المجتمع اتِّباعَها في حياته الاقتصاديّة وحلِّ مشاكلها العمليّة .
إنَّ المذهب الاقتصاديّ عبارة عن نهجٍ خاصٍ للحياة، يُطالب أنصاره بتطبيقه لتنظيم الوجود الاجتماعيّ على أساسه، بوصفه المخطَّط الأفضل ، الذي يُحقِّق للإنسانيّة ما تصبو إليه من رخاء وسعادة ويُضيف: أنّ وظيفة المذهب الاقتصاديّ هي وضع حلول لمشاكل الحياة الاقتصاديّة، ترتبط بفكرته ومثله في العدالة.
فيرى الشهيد الصدر(رحمه‏ الله) في كلا هاتين العبارتين أنّ المذهب الاقتصاديّ هو الأسلوب والمنهج المتَّبع لرفع المشاكل الاقتصاديّة. نعم يُضيف في التعريف الثاني قيدَ وفقاً للعدالة. وفي موردين آخرين من كتاب «اقتصادنا» يُقدّم لنا تعبيرين مُختلفين لتفسير المذهب الاقتصاديّ:
« المذهب الاقتصاديّ يشمل كلَّ قاعدة أساسيّة في الحياة الاقتصاديّة، تتّصل بفكرة: “العدالة الاجتماعية “».
«المذهب هو : مجموعة من النظريّات الأساسيّة التي تُعالج مشاكل الحياة الاقتصاديّة ».
ونلحَظ أنّه ثمّة اختلاف ظاهريّ بين التعبيرين الأولين، والتعبيرين الأخيرين، ونقطة الاختلاف هذه تتمثَّل في أنّه يعمدُ في التعبيرين الأولين إلى تعريف المذهب بالمنهج المولِّد والأسلوب المفسِّر، وفي التعبيرين الأخيرين يعمد إلى تعريفه بالقاعدة أو النظريّة الأساسيّة. ولكن يظهر لنا أنَّ لكلِّ قاعدةٍ ونظريّة أساسيّة نوعاً من المنهج والأسلوب يكفل التعريف بها. وبناءً عليه لا يقع الاختلاف بين هذين النوعين من التعبير. والأمثلة التي يطرحها تُبيّن أنَّ مراده من المذهب الاقتصاديّ الإسلاميّ رأي الإسلام في أمور كالملكيّة، الحريّة الاقتصاديّة، العدالة الاقتصاديّة، تدخل الدولة في الاقتصاد و….
يقدّم الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) هذه الأمور على أساس أنَّها البُنيَة الأساسيّة، ولا يبحث الفقه المُتعارف المُتداول (الفقه المدرسيّ) عن جميع هذه الأمور. وبناءً عليه لا يُمكننا من خلال اتِّباع المنهج المُتعارف في الفقه من الوصول إلى الاقتصاد الإسلاميّ الذي هو محلّ نظره. وكذلك الحال بلحاظ أنّ المذهب الاقتصاديّ يبتني على أساس بعض الأفكار والمفاهيم المحدَّدة. وهذه الأفكار والمفاهيم قد تكون أخلاقيّة، علميّة، فلسفيّة و..، ويذكر الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) في هذا المجال التالي :
«ولا شكّ في أنَّ اختيار طريقةٍ معيّنةٍ لتنظيم الحياة الاقتصاديّة ليس اعتباطاً مطلقاً، وإنَّما يقوم دائماً على أساس أفكار ومفاهيم معيَّنة ذات طابع أخلاقيّ أو علمي أو أيِّ طابعٍ آخر. وهذه الأفكار والمفاهيم تكوِّن الرصيد الفكريّ للمذهب الاقتصاديّ القائم على أساسها» .
والمذهب الاقتصاديّ من جهةٍ أُخرى يشكِّل نوعاً من الأساس والقاعدة النظريّة لوضع القوانين المدنيّة في المجال الاقتصاديّ: (كون المذهب قاعدةً نظريّة للقانون)؛ وبناء عليه، ثمّة ثلاث مراحل أساسيّة في الساحة الاقتصاديّة مترتِّبة فيما بينها وهي:
1ـ النظريَّات والمفاهيم الأساسيّة التي ترتبط بالبُعد الأخلاقيّ، الفلسفيّ، العلميّ وغيره.
2ـ المذهب الاقتصاديّ.
3ـ القانون المدنيّ.
والمراد من الاقتصاد الإسلاميّ، المذهب الاقتصاديّ في الإسلام، أي المرحلة الثانية من المراحل الثلاث. وأمَّا ما هو الطريق لكشف المذهب الاقتصاديّ؟ يُقدّم الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) طريقين عامّين وسوف نُشير إليهما وإلى مجالات استخدامهما خلال البحث.
منهج الكشف عن المذهب الاقتصاديّ
يرى الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) أنّه ثمّة فارقٍ بين منهج الكشف عن المذهب الاقتصاديّ الإسلاميّ وبين الاتّجاهات البشريّة الأُخرى. فيرى أنّ منهج الكشف عن المذهب الاقتصاديّ في الاتِّجاهات البشريّة هو منهج التكوين والإبداع (الحركة من القاعدة إلى البناء العلويّ)، وأمَّا منهج الكشف عن المذهب الاقتصاديّ في الإسلام فهو منهج الاكتشاف (أي الحركة من البناء إلى القاعدة).
ألف ـ منهج التكوين والإبداع (الحركة من القاعدة إلى البناء العلويّ)
المذهب الاقتصاديّ هو نتيجة طبيعيّة لنوع نظرة الباحث الاقتصاديّ لعالم الوجود ومقولاته الأساسيّة. أي إنَّ كلَّ باحثٍ اقتصاديّ وعلى أساس النظرة التي يحملها عن عالم الوجود ومقولاته الأساسيّة، يقوم بتوجيه ما يتلقّاه على أساسها ويستنبط مذهبه الاقتصاديّ، وعلى أساس هذا المذهب الاقتصاديّ يقوم بإصدار الأحكام والقوانين الاقتصاديّة لمُختلف الأنشطة الاقتصاديّة العقلائيّة العامّة. وبناء عليه ففي عمليّة التكوين والإبداع، تتنقَّل الحركة العلميّة والبحثيّة من القواعد والأُسس إلى الفروع والبناءات؛ أي الحركة من المرحلة الأولى من المراحل الثلاث السابقة إلى المرحلة الثانية .
وكنموذجٍ لذلك المذهب الاقتصاديّ للماركسيّة فإنَّه يقوم على أساس ما تتبنّاه الماركسيّة في المادّية التاريخيّة، وعلى أساس هذه النظرة قامت الماركسيّة بإلغاء الملكيّة الخاصّة في مجالات النشاط الاقتصاديّ، وأعلنت أنّه يجب على كلِّ إنسانٍ العمل بما يملكه من طاقات وقُدرات، ويأخذ مقدار حاجته، وخلافاً للماركسيَّة تعتمد الرأسماليّة الليبراليّة على أساس النظر إلى الملكيّة الخاصّة والحريّة الاقتصادية كركنين أساسييَّن في المذهب الاقتصاديّ القائم على أساس نوعٍ من التفسير الذي تتبنَّاه للإنسان والمجتمع ، وعلى هذا الأساس يعتمد الباحث في النظام الاقتصاديّ الرأسماليّ الليبراليّ والماركسيّ على عمليّة التكوين والإبداع للكشف عن المذهب الاقتصاديّ الذي يتبنّاه.
ب ـ عمليّة الاكتشاف (الحركة من البناء العلويّ إلى القاعدة).
يرى الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) أنَّ هذه العلميَّة وهذا المنهج هو أهمّ أسلوبٍ للبحث عن الاقتصاد الإسلاميّ والكشف عن المذهب الاقتصاديّ. فالباحث في الاقتصاد الإسلاميّ يُقدّم البحث في المرحلة الثالثة على البحث في المرحلتين الأوليَتين، أي يواجهُ أولا الأحكام والقوانين المدنيّة الموضوعة في مجال الفعاليّات الاقتصاديّة. والقانون المدنيّ هو الوجهة الظاهرة للبناء العلويّ للمذهب الاقتصاديّ وهو إنّما يعتمد في مجال النشاط الاقتصاديّ على المذهب الاقتصاديّ. وبناء عليه، يتمكَّن الباحث في الاقتصاد الإسلاميّ ومن خلال جمع الأحكام والقوانين المدنيّة في مجال النشاط الاقتصاديّ، والقيام بعمليّة تنظيمٍ وترتيبٍ لها من الوصول إلى القواعد الأساسيّة والطرق التي يُمكنها حلّ المشاكل الاقتصاديّة طبقا لنظريّة العدالة. نعم يُمكن للباحث بهذا النحو الوصول إلى القسم الرئيسيّ من المذهب الاقتصاديّ ويقايس الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) بين طريقتيّ الاكتشاف والتكوين بالتالي :
«التدرّج في عمليّة تكوين البناء تدرّج طبيعيّ من الأساس إلى التفريعات، ومن القاعدة إلى البناء العلويّر … وأمَّا في عمليّة الاكتشاف للمذهب الاقتصاديّ، فقد ينعكس السير ويختلف المنطق» .
ونظرا لكون الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) يرى أنَّ الطريق الطبيعيّ للكشف عن المذهب الاقتصاديّ يقوم على أساس الاعتماد على عمليّة التكوين أو الحركة من القاعدة إلى البناء العلويّ، فلماذا يرى أنّ الوصول إلى المذهب الاقتصاديّ الإسلاميّ يعتمد على عمليّة الاكتشاف أو الحركة من البناء العلويّ إلى القاعدة؟
والجواب عن هذا السؤال في ما دوّنه الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) هو التالي:
إنَّ النصوص الموجودة في الكتب الروائيّة هي المصدر الأساسيّ للاستنباط واستخراج المذهب الاقتصاديّ الإسلاميّ. وعند الرجوع مباشرةً إلى النصوص بغرض الوصول إلى إجاباتٍ أساسيّة حول المذهب الاقتصاديّ نرى أنَّنا لا يُمكننا أن نصل إلى الإجابات بشكلٍ مباشر، فمثلا للإجابة عن السؤال حول أنَّ الإسلام هل تبنّى الملكيَّة الخاصّة أو الملكيّة العامّة؟ أو حول رأي الإسلام في منشأ الملكيّة الخاصّة وأنَّه العمل أو الحرية؟ لا يُمكننا أن نجد إجابةً واضحةً في النصوص الموجودة :
«إنَّ بعض جوانب المذهب الاقتصاديّ في الإسلام، وان كان بالإمكان استنباطها مباشرةً من النصوص، ولكن هناك من النظريَّات و الأفكار الأساسيّة، التي يتكوّن منها المذهب الاقتصاديّ، ليس من الميسور الحصول عليها في النصوص مباشرةً و إنَّما يتعيَّن الحصول عليها بطريقٍ غير مباشرٍ، أي: على أساس اللبِنَات الفوقيّة في الصرح الإسلاميّ، و على هدي الأحكام التي نظّم بها الإسلام العقود و الحقوق».
وبهذا ينفتح للباحث في الاقتصاد الإسلاميّ طريقٌ آخر؛ وذلك لأنَّ الأحكام والقانون المدنيّ مجعولةٌ طبقا لمذهب اقتصاديّ مجهولٍ بالنسبة إلينا. فالقانون المدنيّ، هو من آثار ومظاهر المذهب الاقتصاديّ، وبهذا نتمكّن من الوصول من خلال القانون المدنيّ إلى المذهب الاقتصاديّ .
ولا بدَّ للمذهب الاقتصاديّ من أن يمتلك أقوى وأقدر العناصر على حلِّ المشاكل الاقتصاديّة، والوصول إلى أهداف الإسلام العُليا. ولكن هل بين الأحكام التي يَستنبطها مجتهدٌ ما انسجاماً يكفي للكشف عن المذهب الاقتصاديّ بلحاظ الخصوصيّات التي ذكرناها سابقاً؟
يجيب الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) عن السؤال التالي من خلال الفصل بين عالم الواقع وعالم الإثبات، فيرى أنَّ الأحكام في عالم الواقع لا شكَّ في أنّها تحمل انسجاماً كافياً في الأمر المذكور أعلاه، وأمَّا في عالم الإثبات فمن المُمكن أن لا نجد بين الأحكام التي يَستنبطها المجتهد انسجاماً كافياً لاكتشاف المذهب الاقتصاديّ. وبناء عليه لا يُمكن للمجتهد أن يصل من خلال مجموع فتاواه إلى المذهب الاقتصاديّ، وينتج عن ذلك أن يبقى السؤال عن الطريق الذي ينبغي على الباحث في الاقتصاد الإسلاميّ أن يسلكه في ظلِّ هذه الخصوصيّة المذكورة أعلاه.
إنَّ الطريق الوحيد الصحيح لذلك هو أن يقوم الباحث في الاقتصاد الإسلاميّ وفي الموارد التي لا يرى فيها انسجاماً كافياً بالاستعانة بالأحكام المُستنبطة لدى سائر المجتهدين؛ بأنْ يَضع الأحكام التي استنبطها في مقام اكتشاف المذهب الاقتصاديّ والتي لا تنسجم مع سائر الأحكام المُستنبَطة من قِبَله، ويستعين بالأحكام المنسجمة معها والتي توصّل إليها غيره من الفقهاء. وهذه المجموعة الحاصلة لعلّ بالإمكان أن يكون بينها انسجاما أكبر وتطابقاً في مساحةٍ أكبر مع واقع التشريع الإسلاميّ؛ لأنَّها قد اكتُشفت عن طريق الاجتهاد الإسلاميّ، والذي يَعتمد بشكلٍ رئيسيّ على الكتاب والسنّة.
الملاحظات المسجَّلة على منهج الشهيد الصدر
يعتمد الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) على فكرة تعدّد فتاوى المجتهدين باختلاف مشاربهم، ويختار الفتاوى التي يرى فيها قدرا من الانسجام والتي تملك عناصر أقدر على حلِّ المشاكل الاقتصاديّة والتي تتلاءم مع المقاصد الإسلاميّة وتجعل بالإمكان الوصول إليها. ومثل هذا المذهب الاقتصاديّ يَعتمد بشكلٍ أساسيّ على الكتاب والسنّة، ولكن يسجّل على ذلك:
أولا، إنَّ فتاوى كلِّ مجتهدٍ وبلحاظ مبانيه الاجتهاديّة تكون حجّة بينه وبين الله عزَّ وجل. ولكن ما هو دليل حجّية هذه المجموعة المُنسجمة والتي ندرجها تحت اسم المذهب الاقتصاديّ، والمُستقاة من فتاوى لمختلف المجتهدين؟ وما هو الدليل الذي يؤدّي بالمجتهد إلى التخلّي عن بعض فتاواه التي توصّل إليها ليعتمد على فتاوى سائر المجتهدين الذين يخالفونه في الفتوى ولا يرى صحّة إسناد تلك الفتاوى إلى الدِّين؟
ثالثاً، إذا كان المعيار في اختيار فتاوى سائر المجتهدين هو أن يكون ذلك بنحوٍ يجعل من المذهب الاقتصاديّ حاملا لأكثر العناصر قدرةً على حلِّ المشاكل الاقتصاديّة، والموصِلَة إلى المقاصد والأهداف، فلا بدَّ لنا أولا من اكتشاف تلك الأهداف والمقاصد الاقتصاديَّة، ومتى وقع التعارض بين أيّ دليلٍ شرعيّ وتلك الأهداف والمقاصد، فلا بدَّ من تقديمها على الدليل، وفي ظلّ ذلك ليس ثمّة حاجةٍ إلى الاستفادة من المنهج المتقدّم والاعتماد على مختلف الفتاوى لأجل اكتشاف المذهب الاقتصاديّ الذي يمتلك العناصر الأشدّ انسجاماً.
ولكن يبقى السؤال التالي: هل هناك طريقٌ لتصحيح حجّية المذهب الاقتصاديّ أو بعض القواعد الأساسيّة للمذهب الاقتصاديّ؟ هذا ما سوف نُوضحه ضمن السطور التالية.
حجّية المذهب الاقتصاديّ
لا بدّ لنا وقبل الإجابة عن السؤال السابق من الإجابة عن سؤال أسبق وهو هل هناك حاجة عند الخوض في موضوعات كالنِّظام الاقتصاديّ في الإسلام، لا سيّما عن المذهب الاقتصاديّ بالمفهوم الذي قدّمه الشهيد الصدر (رحمه‏ الله)، إلى الاستناد إلى ما يكون حجّة عند الله؟ أي هل أنَّ خبر العدل الواحد كما يكون حجّة في استنباط الأحكام الفرعيّة الفقهيّة، يكون حجّةً في مثل هذا الموضوعات؟ فهل من اللازم في الدِّراسات التي يكون مصبُّ اهتمامها البحث عن اكتشاف النِّظام، الاعتماد على الأدلّة والطرق التي ثبتَت حجّيَتها كخبر العدل الواحد، أو يمكن الاعتماد على الأدلّة والطرق الأخرى كالاستحسان والقياس وغيرهما؟ وبعبارة فنيّة بلغة علم أصول الفقه، هل يُمكن الاعتماد في ذلك على الظنِّ غير المعتبَر؟
القول بالاستغناء عن مسلك الحجّية في دراسة النظام الاقتصاديّ
يتبنّى بعض الفقهاء والباحثين المسلمين ردّا على من يذهب إلى التشكيك في منهج الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) في اكتشاف المذهب الاقتصاديّ القولَ بأنَّ الدراسات التي تتناول النِّظام والمذهب الفكريّ لا تتوقّف على الحجّية كما هو الحال في العمل الفرديّ، لأنّ مثل هذه الدراسات التي تتناول المذهب الاقتصاديّ لا يكون المراد منها التصدّي للكشف عن الواقع، وبناء عليه فللوليّ الفقيه الحقّ الاعتماد حتّى على الظنون غير المعتبرَة كما في المصالح المرسلة ونحوها .
تفصيل هذا الرأي
إنّ أفضلَ ما يُمكننا أن نعتمد عليه لبيان رأي القائلين بهذا القول هو نقل عباراتهم. فضمن سؤال وجِّهَ لآية الله محمّد علي التسخيريّ حول حجّية الطريقة التي اتَّبعها الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) في اكتشاف المذهب الاقتصاديّ في الإسلام يُشير إلى بعض النقاط الرئيسيّة التي يعتمد عليها رأيه في هذا المجال. وهذا نصّ السؤال الموجَّه إليه وجوابه عنه:
السؤال: يختار الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) لاكتشاف قواعد المذهب الاقتصاديّ الفتاوى التي بينها انسجام من بين مختلف الفتاوى، لكي يصل من خلالها إلى قاعدة مذهبيّة في الاقتصاد. والذي يبدو لنا أنّ هذه الطريقة تواجه إشكالا هو التالي:
لا دليلَ على أنّ ما يتمّ اكتشافه من خلال هذا الطريق، هو مطابقٌ فعلا للمذهب الاقتصاديّ الإسلاميّ؛ أي إنَّ هذه الطريقة لا تكشف عن الواقع. مضافاً إلى أنّها ليست حجّة شرعاً، لأنّ كلَّ فقيهٍ إنّما يفتي اعتماداً على ما يعتقد به من مبانٍ، والمُفترض أنَّ هذا الاكتشاف لا يعتمد على فتاوى فقيهٍ واحدٍ.
الجواب: نقول في الجواب عن هذا الإشكال، أولا، إنَّنا لا نسعى لتحديد التكاليف الفرديّة لكي نبحث عن الحجّية، بل نسعى للبحث عن النِّظام، ولا يتوقَّف ذلك على الحجّة. بل يكفي في الشرع أن يثبتَ أنّ هذه تدخل ضمن الإطار الإسلاميّ، ولمّا كانت هذه الفتاوى كافّة قد ثبتت عن طريق الاجتهاد وتمَّ التوصّل إليها بالاعتماد على طرقٍ صحيحةٍ من جهة، وبينها انسجامٌ تامٌ من جهةٍ أُخرى، فلوليّ الأمر أن يكتشف الأساس من خلالها وأن ينسبها إلى الإسلام. فلوليّ الأمر أن يجعل من فتواه التي هي حجّة على مقلّديه معياراً في وضع القانون الاجتماعيّ؛ وهذا هو ما فعله الإمام الخميني (رحمه‏ الله) حيث جعل من تحرير الوسيلة عماداً لتأسيس مجلس صيانة الدستور و…؛ وكذلك الحال عندما يصل وليّ الأمر إلى نظامٍ ويدرك أنّه ضمن الإطار الإسلاميّ، فيأمر بتطبيق هذا النِّظام. ومن الفتاوى التي تكشف عن هذا النِّظام هي الفتاوى التي لم يتوصّل إليها هو، ولكنّه توصّل إلى هذا النِّظام من مجموع هذه الأحكام. فيُصدر هنا حكمه الولائيّ، ولمّا كان الحكم الولائيّ إيجاديّا وإبداعيّا وليس كاشفاً، فيكون إيجاد هذا النظام على أساس الفكر الإسلاميّ…، وبناء عليه، فالقاعدة التي يتمّ اكتشافها بعنوان كونها أساساً، لا تكون حجّة للمجتهد ولا تكون حجّة لوليّ الأمر، ولكن لوليّ الأمر أنْ يعتبرها لمصلحةِ المجتمع ويعتمد عليها كطريقةِ عمل… وبناء عليه لا بدّ من الفصل بين الحجّية والأحكام الولائيّة .
وأمّا آية الله السيِّد كاظم الحائريّ وهو أحد تلامذة الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) البارزين، فيقول دفاعاً منه عن طريقة الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) وجوابا منه عن السؤال التالي : هل ترون للوليّ الفقيه الحقّ في الاعتماد على المصالح المرسلة وأمثالها، دون سائر الفقهاء؟
يقول : «إذا لم يجد طريقاً أفضلَ من ذلك، فله الحقّ، وأمّا سائر الفقهاء فليس لهم مثل هذا الحقّ، لأنّ وظيفة الفقيه الكشف عن الواقع .
ويُمكننا إيجاز هذه العبارات ضمن النقاط التالية :
1ـ إنّنا لا نبحث في عمليّة اكتشاف المذهب والنِّظام عن العمل الفرديّ، فلا معنى للبحث عن الحجّية أو عدم الحجّية. ولذا فعندما تكون فتاوى الفقهاء مستنبَطة عن طريق الاجتهاد الصحيح، فللحاكم الشرعي الحقّ في اكتشاف القاعدة منها وجعلها أساساً في العمل.
2ـ للحاكم الشرعيّ الاعتماد على الظنون غير المعتبَرة في الكشف عن تلك القواعد كالمصالح المرسلة، الاستحسان والقياس.
3ـ يُصدر الحاكم الشرعيّ حكمه الولائيّ حول هذه القواعد، ويكون حكمه الولائيّ إيجاديّا وإبداعيّا، ولا يُراد منه الكشف عن الواقع ونفس الأمر، ولذا لا داعي للبحث عن حجّيته.
نقد هذه النظريّة
ثمّة ملاحظات تُسجّل على كلِّ نقطةٍ من هذه النقاط الثلاث. ومراد هؤلاء المدافعين عن النِّظام الاقتصاديّ في دفاعهم عن نظريّة الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) هو ما عبّر عنه بالمذهب الاقتصاديّ. وهذه القواعد الأساسيّة مضافاً إلى ارتباطها بالعمل الفرديّ وبآحاد المكلّفين بما هم (على المستوى الشخصيّ الفرديّ)، تشمل سلوك المؤسّسات القانونيّة والأفراد بوصف أنّهم مسؤولين أو متولّين لمناصبّ معيّنة (الشخصيّة الحقوقية). وكمثالٍ على ذلك عندما نتبنّى الملكيّة المزدوَجة على أساس المذهب الاقتصاديّ في الإسلام، وطبقاً لذلك نحكم بالملكيّة الخاصّة، فإنّ هذه القاعدة سوف تتكفَّل وظيفةَ بيان حكم سلوك الأفراد فيما يتعلّق باكتساب الثروة والتملّك ونحكم بالملازمة بعدم جواز تصرّف الغير، ومن ذلك الدولة ومؤسَّساتها وسائر المؤسَّسات في الثروات والأملاك الخاصّة للأفراد. وكذلك الحال عندما نكتشف أنّه لا وجود للحريّة الاقتصاديّة المطلَقة وغير المحدودة على أساس المذهب الاقتصاديّ في الإسلام، بل نرى أنّها مقيدةٌ بالحدود التي جعلها الله، فنحن بذلك نقوم ببيان حكم السلوك الاقتصاديّ لكافّة الأفراد والمؤسَّسات الحقوقيّة في المجتمع. فلا يحقّ للأفراد الإضرار بالآخرين في نشاطهم الاقتصاديّ. فإذا كانت الملكيّة الخاصّة موجبةً لإلحاق الضرر بالمجتمع والناس وموجبةً للفساد في المجتمع فلا يكون مسموحاً بها؛ وبناء على هذا، لا نتتبَّع في بحثنا عن النظام عن العمل على المستوى الفرديّ، بل على العكس فإنّ كلَّ قاعدةٍ أساسيّةٍ في المذهب الاقتصاديّ لها مجالٌ واسعٌ تشمل العمل على المستوى الفرديِّ وعلى مستوى الدولة وعلى مستوى المؤسَّسات.
ولذا، لا بدّ عند الخوض في عمليّة اكتشاف النِّظام، من أن تكون القواعد الأساسيَّة التي تُكتشف من البناء (الأحكام والقوانين الاقتصاديّة) كنفس تلك الأحكام حجّة عند الله، وإلا فلا يُمكننا جعلها أساساً للعمل وبناء السياسات الاقتصاديّة للدولة على أساسها.
وأمّا النقطة الثانية، فهي صحيحة مع التسليم بأمرين :
ألف ـ إنَّ المذهب الاقتصاديّ أمرٌ ضروريّ للناس وللمجتمع الإسلاميّ، بنحوٍ يكون من الضروريّ بناء السلوك الاقتصاديّ للناس وللسياسات الاقتصاديّة على أساس المذهب الاقتصاديّ، وإلا سوف يستحقّ الأفراد أو المؤسّسات التي ترسم السياسات الاقتصاديّة بنحوٍ مخالف للمذهب للعقاب عند الله.
ب ـ أن لا نتمكَّن من الوصول إلى المذهب الاقتصاديّ على أساس العلم أو العلميّ (الظنّ الخاص المُعتبر). وبعبارةٍ أُخرى، لا بدَّ وأن نلتزم بانسداد باب العلم والعلميّ (الظنّ الخاص) في هذا المجال.
ما نراه هو أنّ الأمر الأوّل يمكن القبول به، ولكنّ اكتشاف المذهب الاقتصاديّ بل وأبعد من ذلك اكتشاف سائر التعاليم الاقتصاديّة في الإسلام غير منسدٍ، ويُمكننا اكتشافه عن طريق العلم أو العلميّ أي الظنّ الذي ثبتت حجّيته. ولكنّنا لن نتعرَّض لذلك في هذه السطور لأنّه بحث يحتاج إلى تفصيلٍ وهو خارجٌ وإلى حدٍ ما عمَّا وضعت له هذه الدراسة.
وأمّا النقطة الثالثة وهي ما ذُكرَ حول الأحكام الولائيَّة وأنَّها إيجاديَّة إبداعيَّة، ولا يلزم أن تكون كاشفةً عن الواقع ونفس الأمر. فيُمكننا تفسير هذا الكلام بأحد معنيين :

1ـ لا يُشترط في الأحكام التي يُصدرها الوليّ الفقيه على الأفعال والعلاقات، أن يكون لهذه الأفعال والعلاقات حكم في الواقع ونفس الأمر.

2ـ إنّ في الواقع ونفس الأمر ثمّة حكمٍ إلهيّ موجود، ولكن لمَّا كان حُكم الوليّ الفقيه على أساس المصلحة، فلم تعد من حاجةٍ إلى مطابقته للواقع ونفس الأمر.
وهذا التفسير يُخالف رأي الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) حتماً؛ وذلك لما نقلناه عنه كرارا من أنّنا نصل إلى المذهب الاقتصاديّ عن طريق الاكتشاف، ولأنَّنا نصل إليه عن طريق الاجتهاد الصحيح يكون أكثر ارتباطاً بعالم الواقع. وهذا الكلام يتنافى مع المعنى الأوّل، وهو في الاتّجاه المعاكس لرأي من يذهب إلى أنّه لا حاجة لأن يكون المذهب الاقتصاديّ مطابقاً للواقع وحجّة، بل يرى أنّه حجّة ويطابق عالم الواقع. وما تقدّم ـ من أنّ المذهب الاقتصاديّ المنظور لدى الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) لا بدّ أيضا من أن يكون مطابقاً للواقع أو حجّة عند الله ـ هو ظاهر عبارات الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) أيضا. ومن هذه العبائر العبارة التالية:
«إنّ ‌الصورة التي نكوّنها عن المذهب الاقتصاديّ، لمَّا كانت متوقفةً على ‌الأحكام و المفاهيم، فهي انعكاسٌ لاجتهادٍ معيّن، لأنّ تلك الأحكام و المفاهيم التي تتوقَّف عليها الصورة، نتيجةً لاجتهادٍ خاص في فهم النصوص، و طريقه تنسيقها و الجمع بينها. و مادامت الصورة التي نكوّنها عن المذهب الاقتصاديّ اجتهاديّة، فليس من الحتم أن تكون هي الصورة الواقعيّة، لأنَّ الخطأ في ‌الاجتهاد ممكنٌ. و لأجل ذلك كان ممكنٌ لمفكِّرين إسلاميين مُختلَفين، أن يقدِّموا صوراً مختلفة للمذهب الاقتصاديّ في الإسلام، تبعاً لاختلاف اجتهاداتهم، و تُعتبر كلُّ تلك الصور صوراً إسلاميّة للمذهب الاقتصاديّ، لأنَّها تعبِّر عن ممارسةِ عمليّة الاجتهاد التي سمح بها الإسلام و أقرَّها، و وضع لها مناهجها و قواعدها. و هكذا تكون الصورة إسلاميّة ما دامت نتيجةً لاجتهادٍ جائزٍ شرعاً، بقطع النظر عن مدى انطباقها على واقع المذهب الاقتصاديّ في ‌الإسلام» .
إنَّ كلام الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) هذا يُظهر وبوضوح أنّ عقيدته تقوم على أساس وجود مذهبٍ اقتصاديّ في عالم الواقع ونفس الأمر، وأنّ السعي في الاجتهاد لأجل اكتشاف هذا المذهب الاقتصاديّ في عالم الواقع، ينطلق من هذا الموقف بالتحديد. ولولا اعتقاده بأنّه ثمَّة مذهبٍ اقتصاديّ في عالمِ الواقع، فلا يعود ثمَّة معنىً للاجتهاد لاكتشاف المذهب الاقتصاديّ وللخطأ في الاجتهاد؛ لأنَّ الخطأ في الاجتهاد في مقام اكتشاف المذهب الاقتصاديّ إنّما يكون له معنى متى كنَّا نعتقد بأنَّ للإسلام في عالم الواقع مذهب اقتصاديّ، وأنَّ الباحث في الاقتصاد الإسلاميّ يسعى من خلال اتِّباع المناهج الصحيحة في الاجتهاد لاكتشاف ذلك المذهب. فإنْ تمكَّن من اكتشاف المذهب الاقتصاديّ كان مصيبا للواقع وكاشفاً عنه، وإن لم يكن ما توصّل إليه عن طريق الاجتهاد الصحيح مطابقاً للواقع، كان حجّة عند الله. ولهذه العبارة التي ذكرناها نظائر في عبارات الشهيد الصدر (رحمه‏ الله).
وأمَّا لو كان المراد من النقطة الثالثة المعنى الثاني، فإنَّ حكم الوليّ الفقيه أيضاً يُسند إلى الإسلام، ورضا الله به. وقد يُقال: إنّ الواقع ونفس الأمر هو نفس الحكم الذي أصدره الوليّ الفقيه حول فعلٍ ما. وفي هذا الفرض سوف يكون وجود حكمٍ في نفس الأمر لغواً. وقد يُقال أيضاً: إنَّ حكم الوليَّ الفقيه لمّا كان على أساس المصلحة فلا حاجة لكونه مطابقاً لحكم نفس الأمر، ونجيب عن ذلك بأنّ حكم نفس الأمر هو أيضاً قائمٌ على أساس المصلحة. فما هي علّة الترجيح؟ وكذلك قد يقال: إنَّ ههنا حكماً في نفس الأمر، ولكن بمجرَّد إصدار الوليّ الفقيه للحكم حول فعلٍ ما، فإنَّ نفس الأمر سوف يتغيّر طبقا لحكم الوليّ الفقيه. والجواب عن هذا السؤال ظاهرٌ لمن لديه إلمامٌ ما بقواعد الفقه الشيعيَّ، فإنّه يُدرك أنّ هذا الأمر مطابقٌ لنظريّة التصويب وهو أساسٌ في فقه أهل السنَّة، ولا يتبنّاه فقهاء الشيعة.
إنَّنا ومن خلال ما سوف نقوم بتوضيحه حول أحكام الوليّ الفقيه، سوف يظهر لنا أنَّ الطريق الصحيح الوحيد لتصحيح نظريّة الشهيد الصدر(رحمه‏ الله) هو القول بانسداد باب العلم والعلميّ في مسألة اكتشاف النِّظامين الاجتماعيّ والاقتصاديّ. والشاهد على هذا الكلام تلك الصعوبات التي يواجهها الباحث ـ والتي ذكرها الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) ـ عند الرجوع إلى النصوص ومصادر الاستنباط لاكتشاف المذهب الاقتصاديّ.
الأحكام الولائيّة (الحكوميّة)
هل الأحكام التي تندرج تحت عنوان الأحكام الولائيّة (الحكوميّة) هي في عرض الأحكام الأوليّة والثانويّة؟ أو أنَّ الأحكام الولائيّة هي نفس الحكم الأوّلي أو الثانويّ مع خصوصيّة تخصّه؟ إنَّ الإجابة عن هذا السؤال تتوقَّف على ملاحظة ما يلي:
1ـ إنَّ دراسة قواعد النظام التشريعيّ في الشريعة الإسلاميّة توصلنا إلى أنَّ الأحكام الولائيّة لا تنفصل عن الأحكام الأوليّة والثانويّة. فالأحكام الولائيّة هي الأحكام التي ترجع إلى علاقة الدولة بالناس والمجتمع والدول الأخرى. فهذه العلاقات تنطبق عليها بعض العناوين، ومتى انطبقت بعض هذه العناوين على علاقةٍ ما فإنّ حكم ذلك العنوان يسري إلى تلك العلاقة. من هنا لا نجد فرقاً بين الأحكام المتعلّقة بعلاقة الدولة بالناس، المجتمع وسائر الدول وبين الأحكام المتعلّقة بالعلاقات الفرديّة أو بالسلوك الفرديّ. فالحاكم الإسلاميّ ومؤسَّسات الدولة ومن خلال أخذها بعين الاعتبار للمسائل الفقهيّة وسائر الجهات تقوم بتحديد عناوين لمسيرِ الدولة وعلاقاتها، وتقوم باستخراج واستنباط حكم ذلك العنوان من الأدلَّة وتطبيقه على مصداقِ ذلك العنوان. ففي الأحكام المتعلِّقة بالعلاقات الاجتماعيّة والقضايا العامّة قد يلجأ الكثير من الفقهاء إلى الطريقة الفقهيّة المتداولَة والصحيحة لاكتشاف الحكم الفقهيّ المتعلّق بتلك العلاقات. وكثيراً ما يقع الاختلاف بين الفقهاء في ذلك كما في أحكام العلاقات الفرديّة، وقد نجد أنَّ الفقهاء يقومون باستنباط أكثرِ من نوعٍ من الحكم فيما يتعلّق بنوعٍ واحدٍ من العلاقات دون أن يكون بين هذه الأحكام أيُّ انسجامٍ؛ ومن الطبيعيّ أن يؤدّي ذلك إلى وقوع مقلّديهم في مرحلة العمل بتلك الأحكام ببعض المشاكل الاجتماعيّة الخطيرة، بل قد يؤدّي ذلك إلى الهرج والمرج الاجتماعيّين. ولا بدّ لأجل الحذر من الوقوع في هذه المشكلة الاجتماعيَّة ونظراً لكون الوليّ الفقيه يملك مضافا إلى عنصر الفقاهة، عنصراً آخر وهو الخبرة بالواقع الاجتماعيّ الذي يعيشه مجتمعه، فإنّه فقط هو الذي يحقّ له أن يقوم بتطبيق الحكم الذي توصّل إليه واستنبطه، وأنْ يمنع من تطبيق سائر الأحكام التي استنبطها سائر الفقهاء؛ أي إنّ الوليَّ الفقيه له وبمقتضى ولايته مثل هذا الحقّ وليس لسائر الفقهاء مثل هذا الحقّ.
إذا الوليّ الفقيه لا يقوم بجعل وتشريع حكمٍ جديد، بل يعمد إلى طريق الاستنباط المتعارف في الفقه، لتحديد واكتشاف الأحكام المتعلِّقة بالعلاقات الاجتماعيّة والقضايا العامّة وهو في ذلك كسائر الفقهاء، ولكنّه يمتاز عنهم بأنّ له حقُّ إعمال ولايته.
2ـ الأحكام الولائيّة (الحكوميّة) هي أيضاً كسائر الأحكام المتعلِّقة بعمل الأفراد والعلاقات الفرديّة تابعةٌ للمصالح والمفاسد. فإنْ كانت تلك العلاقة ذات مصلحةٍ ملزمةٍ، يكون العمل بها واجباً على الدولة وعلى الناس، وإن كانت ذات مفسدةٍ ملزمةٍ، حرم العمل بها من الدولة ومن الناس. وفي الأحكام الولائيّة يسعى الحاكم الإسلاميّ لتشخيص مصداق العنوان الذي ورد في الشرع وتحديد حكمه، ومتى قام بتحديد مصداق ذلك العنوان، قام بتطبيق حكمِ ذلك العنوان على ذلك المصداق. وواقع الحال هو أنّ عناوين علاقات الدولة هي ضوابط للمصلحة والمفسدة، كما هو الحال في الأحكام الفرديّة؛ وكمثالٍ على ذلك لو أنّ فعلا من الأفعال كان مصداقاً لنجاةِ إنسانٍ محترم، فمن المتيقَّن به أنَّ نجاة الإنسان المحترم تكون واجبةٌ، وندرك نحن من خلال الحكم بوجوب ذلك في الشريعة أنَّ نجاة الإنسان المحترم ذو مصلحة ملزمة. وكذلك الحال إذا كان سلوك الدولة الإسلاميَّة أو نوع علاقاتها مصداقاً من مصاديق المحافظة على قوَّة المسلمين، فإنّه يجب على الدولة ذلك كما يجب على الناس ذلك. ويستفاد من ذلك أنَّ المحافظة على قوَّة المسلمين يترتَّب عليها مصلحة ملزمة. وبناء عليه يكون عنوان المحافظة على قوَّة المسلمين معياراً وملاكاً للمصلحة؛ إذا عناوين الأحكام هي قواعد للمصلحة والمفسدة، ويُمكننا من خلال تحديد عناوين تلك العلاقات من معرفة المصلحة والمفسدة بالملازمة. ويترتَّب على ذلك أن لا تكون وظيفة الدولة تحديد المصلحة أو المفسدة، بل تحديد مصاديق العناوين التي يُمكننا اكتشاف أحكامها ـ العناوين ـ من الشرع.
إنّنا ومن خلال ملاحظة هذين الأمرين نصل إلى أنَّه ليس لدينا أحكام ولائيَّة في عرض الأحكام الأوليَّة أو الثانويَّة. فكما أنّ أحكام العلاقات الفرديّة والسلوك الفرديّ تابعةٌ للمصالح والمفاسد الواقعيّة، فكذلك الأحكام الولائيّة. وكما أنّ طريق تحديد المصلحة في الأحكام الفرديّة وفي السلوك الفرديّ تتمُّ بالرجوع إلى أوامر الشارع ونواهيه المتعلِّقة بعناوين تلك السلوكيَّات والأفعال، فكذلك الحال في الأحكام الولائيّة، غاية الأمر أنَّه فيما يرجع للأحكام الفرديّة فإنَّ لكلِّ واحدٍ من المقلّدين العمل بفتوى المجتهد الذي يقلّده، وأمَّا في الأحكام الولائيّة فحذرا من الهرج والمرج، فإنّ على الجميع العمل بحكم الوليّ الفقيه.
وعلى أساس ما تقدّم لا ينبغي توجيه طريقة الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) ومنهجه بنحوٍ يتنافى مع مبانٍ تُخالف ما كان عليه الأئمّة المعصومين (عليهم ‏السلام) والفقهاء طوال أربعة عشر قرناً، دون أن يكون هناك أيّة قرينةٍ في كلام الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) على مثل هذا التوجيه، بل إنَّ القرائن ـ وكما تقدّم ـ تشهدُ على خلاف ذلك. وما نراه هو أنَّ التوجيه الوحيد الصحيح لكلامه هو أنَّه يرى أنَّ الانسداد تامٌ في الكشف عن المذهب الاقتصاديّ والنِّظام الاقتصاديّ في الإسلام، وحيث لا يُمكن الوصول عن طريق العلم والعلميّ إلى المذهب الاقتصاديّ، فللوليّ الفقيه الاعتماد على الظنون غير المعتبرة أيضا. ولا بدَّ عند الرجوع إلى الظنون غير المعتبرَة من أنْ يسعى الفقيه لملاحظة ما يكون من الظنون أقرب إلى الواقع، لا إلى تلك الأحكام التي لا ربط لها بالواقع ونفس الأمر.
خلاصةٌ واستنتاج
يرى الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) أنَّ المذهب الاقتصاديّ هو عبارة عن مجموعة من النظريَّات الرئيسيَّة المطابقة لنظريَّة العدالة والتي تؤدّي إلى حلِّ المشاكل الاقتصاديَّة. فكلُّ نظامٍ لا يمتلك مذهباً اقتصاديّاً فإنَّه سوف يواجه نقصاً وضعفاً كبيرين. والدِّين الإسلاميّ المُبين دينٌ خاتمٌ وكامل، ولا يواجه نقصاً ولا ضعفاً. وبناء عليه يُمكننا أن نصل إلى المذهب الاقتصاديّ في الإسلام بالاعتماد على منهج منطقيّ ومقبولٍ. إذاً الكشف عن المذهب الاقتصاديّ في الإسلام هو من الضروريَّات التي لا يُمكن إنكارها.
ويرى الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) أنّه ثمّة مذهب اقتصاديّ متكاملٍ ومنسجمٍ تماماً في الواقع ونفس الأمر، ويُمكننا الوصول إليه من خلال الرجوع إلى الكتاب والسنّة. وأهمُّ طرق الوصول إليه هو اعتماد القانون المدنيّ، والمراد من القانون المدنيّ مجموعة من الأحكام والقوانين التي تكفلُ تنظيم العلاقات الماليّة والحقوق الفرديّة للناس. وهذه المجموعة من الأحكام والقوانين يُمكننا استنباطها من فقه المعاملات، وتكون هي الأساس للمذهب الاقتصاديّ، ويُمكن لكلِّ فقيهٍ أن يقوم واعتماداً منه على فرضيَّة مسبَقة تنصُّ على وجود مذهب اقتصاديّ في عالم الواقع ونفس الأمر، يتّصف بالكمال والانسجام، أن يقوم باكتشاف المذهب الاقتصاديّ عن طريق القانون المدنيّ. للوصول إلى مثل هذا الأمر فإنّ لكلِّ فقيهٍ أن يضع الفتاوى التي يرى بينها نوعاً من الانسجام إلى جانب بعضها البعض، ويكتشف منها المذهب الاقتصاديّ. وأمَّا اكتشاف المذهب الاقتصاديّ من خلال الرجوع إلى فتاوى فقيهٍ واحدٍ فهو أمرٌ صعب. فلا بدَّ لأجل الوصول إلى مذهبٍ اقتصاديّ متكاملٍ ومنسجمٍ يُمكنه أن يفي بحلِّ المشاكل الاقتصاديّة من الرجوع إلى فتاوى سائر الفقهاء والنظر فيها. وبناء عليه يختار الفقيه من بين فتاوى سائر الفقهاء تلك الفتاوى التي يراها أكثر انسجاماً مع فتاواه بغرض الوصول إلى المذهب الاقتصاديّ، وبهذا يُمكن الوصول إلى مذهبٍ اقتصاديّ يشمل مجالاتٍ واسعةٍ.
إلا أنَّ سؤالا يبقى قائما هنا، وهو أنَّ المذهب الاقتصاديَّ الذي نصل إليه من خلال ضمِّ فتاوى مختلف الفقهاء إلى بعضها البعض هل يكون مطابقاً للواقع ونفس الأمر فيكون حجّة عند الله؟ ذكر بعض الفقهاء والباحثين في جوابهم عن هذا السؤال بأنّه لا معنى للبحث في بعض القضايا كقضيّة المذهب الاقتصاديّ عن مطابقة ذلك أو عدم مطابقته للواقع ونفس الأمر، وعن الحجّية وعدمها؛ لأنَّنا لسنا بصدد البحث عن تكاليف الأفراد. وكذلك للحاكم الشرعيَّ الحقّ باكتشاف المذهب الاقتصاديَّ من الأحكام وجعله أساساً يعمل عليه. وله العمل بالظنِّ غير المعتبر كالمصالح المرسَلة، الاستحسان والقياس في اكتشاف المذهب الاقتصاديّ، وأمَّا سائر الفقهاء فليس لهم مثل هذا الحقّ.
وهذا الجواب هو في الواقع تفسيرٌ خاص لرأي الشهيد الصدر (رحمه‏ الله)، وكاتب هذه السطور لا يرى صحَّة تفسير كلام الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) بهذا النحو ويدّعي من خلال ملاحظة القرائن الموجودة في كلمات الشهيد الصدر التالي:
إنَّ المذهب الاقتصاديَّ الذي ادّعاه الشهيد الصدر (رحمه‏ الله) والذي يتبنّاه يرتبط بشكلٍ كاملٍ بتكاليف الأفراد، سواء أكان ذلك بصفتهم الشخصيّة أو بما يحملونه من مسؤوليّة أو من صفاتٍ حقوقيّة لا حقيقيّة. وعليه لا بدَّ وأن يكون المذهب الاقتصاديّ مطابقاً للواقع ونفس الأمر كالتكاليف الفرديّة، وأن يكون حجّة عند الله. ولكن لمّا كان الوصول إلى المذهب الاقتصاديّ عن طريق المقدِّمات البديهيّة والطرق القطعيّة أمراً غير ممكنٍ، يقع الترديد في مطابقتها للواقع ونفس الأمر. وبناء عليه فإنَّ الطريق الصحيح الوحيد هو أن يكون حجّة عند الله، ومن هنا حيث لا يُمكننا الرجوع إلى الظنون المعتبرة أيّ الرجوع إلى الكتاب والسنة مباشرةً، أي حيث ينسدّ باب اكتشاف المذهب الاقتصادي عن طريق العلم والعلمي، فلا بدَّ من الرجوع إلى الظنون غير المعتبرة؛ لأنّ اكتشافه يشكّل ضرورة للمجتمع الإسلاميّ.
ولا فرق بين الوليّ الفقيه وبين غيره من الفقهاء في اكتشاف المذهب الاقتصاديّ، نعم في مقام التطبيق والعمل لا بدَّ من الحذر من الوقوع في الهرج والمرج، ووظيفة كافّة أركان الدولة العمل بالمذهب الاقتصاديّ الذي يتبنَّاه الوليّ الفقيه.
من هنا نصل إلى أنّه ليس للوليّ الفقيه، ولا لسائر الفقهاء الحقّ في الاعتماد على الظنون غير المعتبرة، إلا أن يكونوا من القائلين بانسداد باب العلم والعلميّ للكشف عن المذهب الاقتصاديّ. ولكن لتطبيق ذلك والعمل به لا مفرَّ في كلِّ مجتمع من الرجوع إلى الاستحسان، القياس ونحو ذلك من الطرق العقلائيّة، لا سيما عندما نواجه حالات التزاحم عند تطبيق المذهب الاقتصاديّ أو القانون المدنيّ. وإنَّما نؤكِّد على هذا الأمر حذراً من الخلط بين مقام اكتشاف المذهب الاقتصاديّ وبين مقام التطبيق والعمل.
ولا بدَّ من الالتفات إلى أنَّ اكتشاف المذهب الاقتصاديّ لا يقع ضمن دائرة منطقة الفراغ، بل اكتشاف المذهب الاقتصاديّ يتمُّ من خلال الرجوع إلى القواعد الرئيسيّة المطابقة للأهداف الاقتصاديّة، ليُصدِرَ الوليّ الفقيه حكمه في منطقة الفراغ. وبعبارةٍ أُخرى، اكتشاف المذهب الاقتصاديّ ليس في منطقة الفراغ، بل لأجل منطقة الفراغ. فلا بدَّ من اكتشاف المذهب الاقتصاديّ من خلال الرجوع إلى الطرق المقبولة والمعتبرة في الفقه الشيعيّ، والاعتماد عليه لملأ منطقة الفراغ.

أحمد علي يوسفي