رحم الله الشهيد الصدر، وحشره في جنات النعيم، مع اجداده الائمة المعصومين، صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين؛ فقد اوقف نفسه وقلمه على خدمة الاسلام والمسلمين، وكانت مؤلفاته زاداً للطليعة الواعية المجاهدة، يغذّي افكارها ويزكّيها، ويمدّها بالطاقة الفكرية التي تواجه بها التيارات الضالة المنحرفة عن الدين القويم.
وبعد ان كانت الهجرة من العراق، والتحق فريق منّا بالدراسات الحوزوية في مدينة قم المقدسة، وجدنا في كتابه (دروس في علم الاصول) مادة خصبة نتربى عليها علمياً، تتسم بوضوح العبارة، وعمق الفكرة، وجدّة المنهج، ففضله لا يزال علينا سابغاً، ورعايته متواصلة، رغم التحاقه بالرفيق الاعلى، فان تبلور في ذهن احد الطلبة رأي او خطرت له فكرة، فإنما هو من ثمار غرس الشهيد، ومن نفحات روضه، والاّ فأين نحن من مداه البعيد وقمته السامقة.
الاّ ان اعتزازنا بالشهيد الصدر (رحمه الله) واجلالنا له، لا ينبغي ان يتحول الى نزعة تقديس تقمع الفكرة وتحاصر الكلمة؛ فان هذا امر لا يرتضيه الشهيد نفسه؛ لانه يؤدي الى تكبيل حركة القلم، وشل مسيرة العلم، الذي عاش الشهيد الصدر من اجل اثرائه وتعميقه.
ولاجل ذلك، فانني عند تعريفي بالحلقة الاولى من كتاب الشهيد (دروس في علم الاصول)[1]، التي صدرت عن مجمع الفكر الاسلامي الموقّر، بتحقيق فضيلة السيد علي اكبر الحائري، لم اجد غضاضة في ابداء بعض الملاحظات على جانب من منهج الكتاب، وعلى بعض ما اورده محققه في مقدمته.
وقد سرّني ان يحظى تعريفي الكتاب بـ (نظرة فاحصة) من قبل فضيلة الشيخ حامد الظاهري، رغم انه خالفني الرأي غير أن اختلاف الرأي لا يفسد في الودّ قضية، بل انه عامل ضروري لحث الدارسين على المناظرة والأخذ والردّ، من اجل تجلية الافكار والوصول الى الحقائق.
وقد لاحظت على رده نقاطاً أربع:
النقطة الاولى: نظرية القرن
لا شك في ان الشهيد الصدر (رحمه الله) اول من ادخل نظرية القرن في تفسير الوضع في مجال الدراسات الاصولية، لكن النقاش في انها من ابداعه ام انها من تطبيقات نظرية بافلوف في المنبه الشرطي على مجال اللغة؟
لقد لاحظ بافلوف ان اقتران شيء ما بمنبّه طبيعي يكسبه نفس فعاليته، فاذا اقترن دق الجرس بتقديم الطعام للكلب مرّات عديدة، كان مجرد دقه موجباً لأن يسيل لعاب الكلب، كما يوجب ذلك تقديم الطعام نفسه، وسمّى تقديم الطعام منبهاً طبيعياً، والاستجابة له استجابة طبيعية، وسمّى دق الجرس منبّهاً شرطياً، والاستجابة له استجابة شرطية، واعتبر ادوات اللغة من المنبهات الشرطية.
وقد ادعى الشيخ الظاهري ان بافلوف لم يقم بتطبيق نظريته في مجال اللغة واوضاعها، وان السيد الشهيد لم ينسب اليه ذلك.
ويردّ هاتين الدعويين ما ذكره الشهيد الصدر بقوله:
«وقد افترض بافلوف لاجل ذلك نظامين اشاريين:
احدهما: النظام الاشاري الذي يتكون من مجموعة المنبهات الشرطية التي لا تتدخل فيها الالفاظ، والآخر: النظام الاشاري المشتمل على الالفاظ والادوات اللغوية، بصفتها منبهات شرطية ثانوية»[2].
وقد حاول الشيخ الظاهري ابطال الاستدلال بهذه الفقرة بان قال: انها ليست كلاماً للشهيد الصدر، بل هي استمرار لقوله قبل ذلك: «وعلى هذا الاساس حاول جماعة…».
واقول: هذا لا يؤثر في اصلِ المطلب شيئاً; فان تلك الجماعة لم تنسب تقسيم النظام الاشاري لنفسها، بل نسبته الى بافلوف، والشهيد الصدر لم يعترض على صحة هذه النسبة، بل إنه ساق كلام اولئك الجماعة اساساً من اجل ان يبين نظرية بافلوف، ولو تنزلنا وقلنا: ان هذا التقسيم للنظام الاشاري يعبّر عن رأي تلك الجماعة، فستكون النتيجة كون الشهيد مسبوقاً بما قررته تلك الجماعة، وانه لم يكن مبدعاً لنظرية القرن في مجال اللغة.
ومما قاله الشيخ الظاهري: ان بافلوف لم يكن ناظراً لمسألة الوضع اللغوي، بل «اخذت دلالة اللفظ على معناه المحسوس امراً مفروغاً عنه… لانه لم يكن بافلوف بصدد تفسير دلالة اللفظ على معناه، وانما غرضه دراسة استجابة شرطية اوجدها منبه شرطي».
ويرد عليه: انه مما لا شك فيه قيام
بافلوف بتقسيم المنبهات الى طبيعية وشرطية، وقد عرّف المنبه الشرطي بانه ما يدل على شيء بسبب إشراطه واقترانه به، فحينما يعبر عن الالفاظ بانها منبهات شرطية، لابد ان يكون ناظراً الى منشاء كونها كذلك، والى ان دلالتها على معانيها حاصلة بسبب اشراطها بتلك المعاني، ولاجل ذلك قال بولتزير: «وقد اكتشف [يعني بافلوف] من ناحية اخرى ان الكلمات ـ بمضمونها ومعناها ـ يمكن ان تحل محل الاحساسات التي تحدثها الاشياء التي تدل عليها»، اي انها تكون منبهات شرطية بسبب اقترانها بتلك الاشياء.
وان مما يدل على ان لنظرية بافلوف ارتباطاً بالوضع اللغوي، وان السيد الشهيد متأثر بها، قوله (رحمه الله) في بيان حقيقة الوضع: ان الاحساس بالشيء سبب لوجود صورته في الذهن «وهذه استجابة طبيعية للاحساس به، وهذا القانون تكويني، ويوجد قانونان تكوينيان ثانويان يوسّعان من دائرة تلك الاستجابة الذهنية:
احدهما: قانون انتقال صورة الشيء الى الذهن عن طريق ادراك مشابهه، كانتقال صورة الحيوان المفترس الى الذهن بسبب رؤية رسم مشابه له على الورق.
ثانيهما قانون انتقال صورة الشيء الى الذهن عن طريق ادراك الذهن لما وجده مشروطاً ومقترناً بذلك الشيء على نحو اكيد… وهذا ما يسمّى بالمصطلح الحديث بالمنبه الشرطي، والاستجابة الحاصلة منه بالاستجابة الشرطية»[3].
فالسيد الشهيد (رحمه الله) يصرح بان قانون انتقال صورة الشيء الى الذهن عن طريق تصوّر ما وجده مقترناً به بنحو اكيد هو قانون المنبه الشرطي، ويلاحظ ايضاً التشابه بين ما ذكره هنا ، وما ذكره عن بافلوف من تقسيمه للنظام الاشاري الى ثلاثة انظمة، وهي :
اولاً: النظام الاشاري الذي يتكون من مجموعة المنبهات الطبيعية، ويقابله في كلام الشهيد الاحساس بالشيء مباشرة.
ثانياً: المنبهات الشرطية التي لا تدخل فيها الالفاظ، ويقابله في كلام الشهيد رؤية رسم الشيء وصورته.
ثالثاً: المنبهات الشرطية المشتملة على الالفاظ والادوات اللغوية، ويقابله في كلام الشهيد «جعل لفظ او صوت مخصوص مقترناً ومشروطاً بمعنى مخصوص»[4].
ثم ان الشيخ الظاهري ابدى ملاحظة قال فيها: ان هناك فرقاً جوهرياً بين (نظرية القرن) للشهيد الصدر، وبين تطبيق فكرة المنبه الشرطي على مجال اللغة؛ فان هذه الفكرة «تفترض وقوع الاشراط والقرن بين مناشيء الاستجابة، اي بين (الماء المحسوس) وبين سماع كلمة (الماء) لتحصل نفس الاستجابة المثارة من المنبه الأول، بينما نظرية القرن الاكيد ترى وقوع الاقتران بين تصور الماء الخارجي وتصور كلمة ماء… فهنا قرن اكيد بين تصورين مختلفين، يراد به خلق القدرة لدى احد التصورين على ان يستثير التصور الآخر… وفي نظرية المنبه الشرطي يراد الربط بين الاشياء الخارجية المحسوسة؛ لاستثارة استجابة معينة».
ومن الغريب ان تكتب هذه الملاحظة وان يعبّر عنها بانها فارق جوهري بين فكرة المنبه الشرطي ونظرية القرن؛ فان الاشراط والقرن يتم دائماً بين الصورة المنطبعة في الذهن عن الشيء وبين صورة اللفظ، وما اراءة الشيء الخارجي نفسه الاّ بهدف طبع صورته في الذهن، حتى تتيسر عملية قرنها واشراطها بصورة اللفظ، وهذا لا يفرق فيه بين النظريتين معاً، اذا سلمنا بانهما نظريتان لا واحدة.
ومن الغريب ايضاً انه تصور ثمرة عملية لهذا الفرق، وهي «انه بناءً على نظرية القرن الاكيد، بامكان اي شخص ان يجلس في غرفته بعيداً عن العالم ويضع اي لفظ شاء لأي معنى شاء بتكرار عملية القرن بينهما في ذهنه، حتى يحصل الربط الاكيد بينهما… في حين ان هذا الامر غير ممكن بناءً على نظرية (المنبه الشرطي)؛ لانها ترى ضرورة الاقتران بين الإحساس [بالشيء ]الخارجي وبين سماع ذات اللفظ».
ويلاحظ على ذلك: ان السيد الشهيد انما كان يريد ان يفسر دلالة الالفاظ على المعاني بمعنى انتقال ذهن السامع من سماع اللفظ الى المعنى، واين ذلك من جلوس شخص في غرفته بعيداً عن العالم ليمارس عملية وضع اي لفظ شاء لأي معنى شاء فهل نظرية القرن كانت بصدد تفسير دلالة اللفظ على المعنى في ذهن الواضع نفسه وهو الذي حضرت صورة المعنى في ذهنه قبل الوضع؟ ام انها بصدد تفسير دلالة اللفظ على المعنى عند السامع الذي يريد الواضع ان ينقل اليه ما في ذهنه من صور بواسطة الالفاظ بعد ربطها بمعانيها، ذلك الربط الذي يحصل بعلم السامع الذي يراد ان تحصل الدلالة لديه؟
النقطة الثانية: مسلك حق الطاعة
كان السيد الشهيد (رحمه الله) قد ذكر في مبحث البراءة العقلية، عند استقرائه للجانب التأريخي لقاعدة (قبح العقاب بلا بيان) التي تشترط في منجزية التكليف القطع به من قبل المكلف، ذكر ان الشيخ المفيد والطوسي (رحمهما الله) «لم يظهر منهما تبني هذه القاعدة العقلية، بل قد يستشم من كلامهما العكس؛ فانه كانت هناك مسألة اصولية يبحث فيها عن حكم الاصل في الاشياء هل هو الحظر او الاباحة… فقيل فيه: بالحظر؛ لانه لا يؤمن من الوقوع في المفسدة بسبب الاقدام، وهذا الطراز من التفكير لا يناسب قاعدة قبح العقاب بلا بيان»[5].
وقد استندت الى هذه الفقرة من كلامه (رحمه الله) واشرت الى ان لمسلك حق الطاعة جذراً في كلام الشيخين المفيد والطوسي (رحمهما الله).
وعقب الشيخ الظاهري على اشارتي بقوله:
ان التعبير بعدم ظهور تبني قاعدة قبح العقاب بلا بيان ليس تصريحاً بوجود جذر لمسلك حق الطاعة في كلامهما، بل هو ظاهر في الشك في تبني القاعدة المذكورة، وأمّا قوله: «بل قد يستشم من كلامهما العكس» فليس تصريحاً بذلك ايضاً؛ لما فيه من كلمة (قد) المستفاد منها التضعيف، وكلمة (الاستشمام) التي يعبّر بها عادة عن الظهور الخفي جداً، مع ان المقصود من كلمة (العكس) مجمل، لا يعلم ان المقصود منه تبني مسلك حق الطاعة، او أمر آخر بين المسلك والقاعدة.
ويلاحظ عليه:
اولاً: انني لم ادّعِ ان مسلك حق الطاعة بالنحو الذي طرحه السيد الشهيد كان مطروحاً من قبل الشيخين المفيد والطوسي (رحمهما الله)، بل صرّحت بان السيد الشهيد هو الذي بلور هذا المسلك، غايته ان للمسلك جذراً في كلامهما؛ اذ يكفي في ذلك ان تكون في كلماتهما اشارات الى اتجاه مناف للقول بالبراءة العقلية، ليستفيد محقق له ذهن وقاد من تلك الاشارات في بلورة وتشييد هذا الاتجاه المقابل وتقعيده، وهذا ما حصل بالنسبة للشهيد الصدر(قدس سره).
ثانياً: ان قوله باجمال المقصود من كلمة (العكس)، وانه لا يعلم كون المقصود بها تبني مسلك حق الطاعة ام امر آخر بين المسلك والقاعدة، مردود بان معنى القاعدة ان المنجز للتكليف هو القطع به، وليس وراء القطع سوى الاحتمال بمختلف مراتبه، فاذا انكرنا كون المنجزية مقصورة على القطع، كان معنى ذلك منجزية الاحتمال للتكليف، والقول بمسلك حق الطاعة؛ اذ ليس ثمة بين القطع والاحتمال حد وسط يمكن المصير اليه.
واما ما احتمله من ان ذهاب الطوسي الى التوقف مالم يظهر الحكم الواقعي بدليل شرعي، قد يكون مقصوده به التمسك بما يشبه قاعدة دفع الضرر المحتمل، فيمكن مناقشته بانه اذا لم يكن ناظر الى منجزية الاحتمال للتكليف، فاي ضرر محتمل في مخالفته، لكي يفتي بالتوقف والاحتياط؟
هذا ويبدو من كلمات المحقق الشيخ محمد تقي الاصفهاني (م1248 هـ ق) هو اننا اذا احتملنا وجوب شيء معين، فتارة نعلم بعدم ورود بيان من الشارع على وجوبه، فيكون هذا دليلاً على انتفاء التكليف به، وتارة لا نعلم بذلك، بل نحتمل صدور البيان، فاذا لم نصل اليه بعد الفحص، فحينئذ لا يحكم العقل بالبراءة، بل يحكم بوجوب الاحتياط، ما لم يرد ترخيص شرعي في ترك الاحتياط؛ فقد قال (قدس سره) في معرض بيان الاستدلال على البراءة بحكم العقل:
«واما العقل، فانما بعث الانبياء ونصب الاوصياء لتبليغ الاحكام… فاذا لم يرد التبليغ بوجوب شيء… دلّ ذلك على انتفاء وجوبه… هذا اذا انتفى البيان من اصله، واما اذا انتفى الوصول اليه… [فمقتضى] دفع الضرورة وجوب الاحتياط في ما يحتمل فيه الوجوب اذا انتفى فيه احتمال المنع…
ويدفعه ان البناء عليه قاض بلزوم العسر والحرج الشديد الذي لا يوافق طريقه اللطف.
ويرد عليه انه لو تم ذلك، فانما يتم في ما اذا كانت الاحتمالات كثيرة غير محصورة، واما اذا انحصرت في امور عديدة لا حرج في الاتيان بها، فلا، وهذا امر حاصل في الاغلب… [فإن] ما يحتمل وجوبه مما لم يدل دليل على انتفاء الوجوب فيه امور عديدة يمكن مراعاة الاحتياط فيها… فينبغي القول بوجوب الاحتياط نظراً الى حكم العقل، نعم، اذا لوحظت دلالة الشرع على سقوط التكليف حينئذ، فلا كلام»[6].
وبهذا يكون المحقق المذكور(قدس سره) قد سبق الاتجاه القائل بالاشتغال العقلي.النقطة الثالثة: تنوين التنكير والتمكين عرّف السيّد الشهيد تنوين التنكير بانه: التنوين الذي يلحق النكرة لافادة قيد الوحدة، ومثّل له بتنوين كلمة (رجل) في مثل قولنا: جئني برجل[7]، وعرّف تنوين التمكين بانه تنوين: «يؤتى به لاشباع حاجة الكلمة المعربة؛ لانها تستند الى اللام في اولها او الى التنوين في آخرها، ولا تستقر مجردة عن ذلك»[8].
فهل كان للسيد الشهيد مصطلح خاص في هذين التنوينين، ام انه موافق فيهما لمن تقدمه من النحاة؟
والجواب: اما تنوين التنكير فالنحاة في تعريفه فريقان:
الاول: يعرفه بانه التنوين اللاحق لآخر الاسماء المبنية فرقاً بين معرفتها ونكرتها كالتنوين اللاحق لسيبويه.
والثاني: يعرفه بانه التنوين الذي يلحق الكلمة للدلالة على الشيوع وارادة فرد غير معين، ومن هذا الفريق رضي الدين الاسترآبادي، وعبد الرحمان الجامي، والسيوطي، والسيد علي خان المدني، والاستاذ عباس حسن[9]، وقد قال هؤلاء: ان ما ذكره الفريق الاول في تعريفهم يمثل فرداً ومصداقاً واحداً من مصاديق تنوين التنكير، الذي يشمل ايضاً تنوين بعض الاسماء المعربة كتنوين رجل، والممنوعة من الصرف، كتنوين احمد في نحو: رأيت احمداً من الاحمدين.
والشهيد الصدر موافق لهذا الفريق الثاني في تعريف تنوين التنكير.
واما تنوين التمكين فقد اتفق الجميع على انه تنوين لفظي يؤتى به للدلالة على كون الاسم معرباً وليس مبنياً ولا ممنوعاً من الصرف، ولكونه كذلك فانه لا يفيد الكلمة دلالة اخرى كإرادة فرد غير معّين، وليس في كلام السيد الشهيد ما يدّل على انه يريد غير هذا المعنى.
وهناك بحث آخر تعرّض له النحاة، ولم يذكره السيد الشهيد؛ لعدم دخالته في غرضه، وهو ان هذين التنوينين هل يمكن اجتماعهما في كلمة واحدة ام لا؟
ذهب النحاة المذكورون الى امكان ذلك ووقوعه؛ ذلك لان هذين التنوينين ليسا متباينين، بل هما مختلفان؛ لان الاول يفيد الكلمة معنى الوحدة، واما الثاني فليس ناظراً لهذه الجهة نفياً ولا اثباتاً، اذ لا يدل على شيء سوى كون الكلمة معربة، فالنسبة بينه وبين تنوين التنكير كالنسبة بين السواد والحلاوة، فيمكن اجتماعهما في مورد واحد، وعليه يكون تنوين (رجل) في مثل: جئني برجل، دالاً على ارادة فرد غير معيّن، ودالاً ايضاً على ان الكلمة معربة، كما هي الحال في واو الجماعة والف الاثنين، فكل منهما علامة للفاعل وللاعراب معاً.
ويلاحظ ان الشيخ حامد الظاهري اصر على تصحيح رأي محقق الحلقة الاولى والثانية السيد علي اكبر الحائري، وحرص على ابراز فرق بين اصطلاح السيد الشهيد واصطلاح النحاة، فقال: لو اخذنا برأي الفريق الثاني من النحاة ستكون النسبة بين التنوينين هي العموم والخصوص من وجه، فيصح التقاؤهما في كلمة (رجل)، واما على رأي الشهيد فان النسبة بينهما هي التباين؛ لان الشهيد يعبّر بتنوين التنكير عن كل تنوين قصد به قيد الوحدة، وبتنوين التمكين عن كل تنوين لم يقصد به قيد الوحدة.
اقول: انما تكون النسبة بينهما هي التباين لو كان تنوين التمكين دالاً على نفي قيد الوحدة، والحال ان هذا التنوين ليس ناظراً الى هذا القيد، لا اثباتاً ولا نفياً، والسيد الشهيد لم يعبر عن هذا التنوين بانه ما لم يقصد به قيد الوحدة، لكي يباين وضع تنوين التنكير، وكل الذي قاله: ان اسم الجنس اذا نوّن بتنوين التنكير دلّ على واحد غير معيّن، وان عُرِّف بلام الجنس دلّ على الشمول، وان كان منوناً بتنوين التمكين، او مضافاً، كان صالحاً للاطلاق الشمولي بجريان قرينة الحكمة[10].
ومما قاله الشيخ الظاهري بهذا الشأن: ان السيد الشهيد يفصّل بين تنوين (رجل) في مثل: (جئني برجل)، وبين تنوينه في مثل: (رجل خير من امرأة)، فيعبّر عن الاول بتنوين التنكير، وعن الثاني بتنوين التمكين، في حين ان النحاة يعبّرون عن تنوين (رجل) في كلتا الحالتين بتنوين التنكير.
ويلاحظ عليه:
اولاً: عدم صحة تمثيله ـتبعاً للمحقق ـ بعبارة (رجل خير من امرأة)؛ فإنها عبارة مصنوعة لم ينطق بها العرب، وهذا ابن مالك يقول في الفيّته: «ولا يجوز الابتدا بالنكرة ما لم تُفِد»، فالصواب الاستشهاد بنحو قولهم: اكرم رجلاً زارك بالامس، او بقوله تعالى: (قولٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ من صدقة يتبعها اذىً…)[11].
ثانياً: لا احد من النحاة يعبّر عن التنوين الثاني بتنوين التنكير، اما الفريق الاول؛ فلأن تنوين التنكير لديهم هو اللاحق للمبنيات فرقاً بين معرفتها ونكرتها، وليست كلمة (رجل) مبنيّة، واما الفريق الثاني، فلأنهم يريدون بتنوين التنكير ما يدل على واحد غير معيّن، وهو في الحال الثانية لا يدل على ذلك، فالنحاة يعبرون عن التنوين الثاني بانه للتمكين بلا فرق بينهم وبين السيد الشهيد.
وقال الشيخ الظاهري ايضاً: ان القول بتطابق اصطلاح الشهيد الصدر مع النحاة في اجتماع التنوين في مثل كلمة (رجل) سيؤدي الى بروزمشكلة التعارض بين إفادة الاطلاق البدلي والاطلاق الشمولي معاً؛ لأن تنوين التنكير يجعل اسم الجنس دالاً على الاطلاق البدلي، وتنوين التمكين يجعله صالحاً لشمول تمام افراده باجراء مقدمات الحكمة، وكيف يعقل افادة البدلية والشمولية معاً، في حين انهما معنيان متنافران؟
والجواب:
اولاً: في حال اجتماع التنوين لا يحصل اجتماع معنييين متنافرين، لأن تنوين التنكير يدلّ فعلاً على الاطلاق البدلي، واما تنوين التمكين فانه لا يدل فعلاً على الاطلاق الشمولي، وانما يجعل اسم الجنس صالحاً لافادة الشمول باجراء مقدمات الحكمة، الاّ ان الاطلاق الشمولي موقوف على عدم المانع، وتنوين التنكير مانع من ذلك.
ثانياً: ان تنوين التمكين لا يؤدي بالضرورة الى صلاحية اسم الجنس لشمول تمام الافراد بواسطة مقدمات الحكمة، ففي نحو قولنا: (اكرم رجلاً زارك بالامس) لا يثبت الشمول رغم ان تنوين الكلمة للتمكين.
وينبغي التأمل ايضاً في قول الشهيد (رحمه الله) ان اسم الجنس المضاف يصلح لافادة الاطلاق الشمولي، فان ذلك مختص باضافته الى المعرّف بلام الجنس كما في نحو: (اكرم عالمَ الدين)، واما اذا اضيف الى نكرة، كما في نحو: (اكرم عالمَ دين) ، فانه يفيد الاطلاق البدلي.
النقطة الرابعة: الاخطاء اللغوية
كنت في تعريفي للحلقة الاولى قد اشرت الى بقاء ما يزيد على ثلاثين خطأً لغوياً في متن الكتاب بعد تحقيقه، وقد وقف فضيلة الشيخ الظاهري من هذه الاشارة موقفاً لا ينقضي عجبي منه؛ فقد كنت اتوقع ان يطالبني ببيان هذه الاخطاء لوضعها موضع المناقشة، لكنه فاجأني بان بادر الى تقسيم تلك الاخطاء الى قسمين، بقوله: «ان التفسير المعقول لهذه الدعوى ـفي اكبر الظنـ ان اكثرها اما هو محلّ خلاف بين اللغويين، فاخذ السيد الشهيد (رحمه الله) برأي ويرى الملاحظ خطأه… واما هو من الخطأ المشهور الذي لا ينبغي للمحقق تغييره اذا استخدمه المؤلف الاّ بإذن خاص»، وبهذا طوى ملف (الدعوى) بمنتهى السرعة والاختصار.
اقول: هذه هي الاقسام، فأين المقسم؟ انني لم ابين شيئاً من تلك الاخطاء، فكيف تمكّن الشيخ حامد من تقسيمها ـوهي بظهر الغيب ـ هذه القسمة الحاصرة، اعتماداً على (اكبر الظن) ؟! لقد ارتكب بهذا ما لا تسوّغه اصول البحث العلمي.
والذي أراه ـ في ما يخص اصل الموضوع ـ ان التفسير المعقول لوجود تلك الاخطاء اللغوية هو شيء آخر غير ما ذكره، مردّه الى ان السيد الشهيد (رحمه الله) لم يُعر مسألة اللغة مزيد التفات؛ اذ كان جلّ اهتمامه منصبّاً على تدوين الافكار، مع الاخذ بعين الاعتبار ايضاً الرقم القياسي الذي ضربه في سرعة التأليف في موضوع عميق كعلم الاصول.
ان تعليق اصلاح الاخطاء الواردة في حلقات السيد الشهيد (رحمه الله) على اذن شخصي من المؤلف بعد ارتحاله الى الرفيق الاعلى، يعني الاصرار على بقاء هذه الاخطاء فيها، مع انها تعد نقصاً في هذا الكتاب الجليل الذي اصبح له في واقع الدراسة الحوزوية شأن كبير، وليس ثمة ما يدعو الى التردد والاحجام عن تصحيحها، مع ان فيه احساناً للمؤلف وكتابه، وما على المحسنين من سبيل، بل ان تقديم هذه الخدمة للكتاب هي اقل ما يقتضيه الوفاء للمؤلف الشهيد.
السيد علي حسن مطر
[1] نشر في مجلة (الفكر الاسلامي) العدد الثاني. السنة الاولى
[2] اقتصادنا : 56 (الشهيد الصدر) .
[3] بحوث في علم الاصول 1: 81 (الشهيد الصدر، تقرير آية الله السيد محمود الهاشمي)
[4] المصدر السابق 1: 82.
[5] بحوث في علم الاصول، آية الله السيد محمود الهاشمي، تقريراً لبحث السيد الشهيد الصدر 5: 25.
[6] هداية المسترشدين في شرح معالم الدين: 447 (محمد تقي الاصفهاني). الطبعة الحجرية.
[7] الحلقة الثانية: 106 (الشهيد الصدر)
[8] بحوث في شرح العروة الوثقى 1: 24 (الشهيد الصدر)
[9] انظر اقوالهم على التوالي في المصادر الآتية: شرح الرضي على الكافية 1: 13 (تحقيق يوسف حسن عمر)، الفوائد الضيائية في شرح كافية ابن الحاجب 2: 396ـ 397 (تحقيق الدكتور اسامة الرفاعي)، همع الهوامع 1: 10 (تحقيق عبد العال سالم مكرم)، الحدائق الندية في شرح الصمدية: 27، النحو الوافي 1: 36 (عباس حسن).
[10] الحلقة الثانية: 106ـ 107
[11] البقرة: 263