الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على أشرف الخلق محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
وبعد: فانّ علم الأصول قد تطور واتسع نطاق البحث والتحقيق فيه على يد المحققين العظام من علمائنا الأعلام ـ قدّس الله أسرارهم ـ بما لم يعهد له نظير في سائر العلوم الإسلامية، حتّى أصبح هذا العلم اليوم يختلف اختلافاً جوهرياً عما كانت عليه مسائله وبحوثه عند واضعيه الأوائل. فبعد أن كانت المسائل الأصولية لا تعدو أن تكون تجميعاً لمسائل متخذة بشكلها ومضمونها من علوم أخرى، كعلوم اللغة والأدب والمنطق والحديث والفقه… أصبح لهذا موضعها أو منهجها الخاص المميز لها عن مسائل سائر العلوم، حتّى تلك التي يبدو في الوهلة الأولى التشابه بينها وبين المسألة الأصولية، كجملة من مباحث الألفاظ، فأنها تبحث في علم الأصول بمنهجه وزاوية للبحث مباينة تماماً مع البحث عنها في علوم اللغة والأدب.
وأصبح واضحاً لدى كل دارس لهذا العلم اليوم إنّه يواجه علماً مستقلاً عن سائر العلوم، بمناهجه وطريقته في البحث، وبموضوعه وهدفه.
فموضوع هذا العلم هو الأدلة والقواعد العامة التي يحتاجها الفقيه في الاستدلال الفقهي، وهدفه التمكين من عملية الاستنباط السليمة وصونها عن الخطأ في كيفية ترتيبها وتطبيقها، ومنهجه دراسة تلك القواعد والأدلة بما أنها أدلة متنوعة تشترك في أنّها عامة ومشتركة في المسائل الفقهية، ولا تختص بباب دون باب. ومن هنا صحّ أن يقال عنه بأنّه منطق الفقه كما ذكره السيد الشهيد (قدس) كما أنّ تنوع هذه الأدلة يمكن تصنيفها إلى أقسام أربعة من الدليلية: الدليلية اللفظية، والعقلية النظرية، والعقلية العملية، والشرعية، ولكل منها منهجه الخاص وطبيعته المتميزة من البحث.
وهذا الوضوح في الاستقلالية والتمايز في الهدف والموضوع والمنهجة عن سائر العلوم لم يكن بالأمر السهل تناوله، وإنما حصل عليه الفكر الأصولي بعد مخاض وجهد جهيدين، تعب فيه الفكر الأصولي حتى حصل عليه، بعد أن كادت الشبهات تعصف بكيان هذا العلم، وتنسف إتسقلاليته، وتحاول أن ترسم صورته كعيال على سائر العلوم وتجميع لشتات مسائليها. ولقد بقي الفكر الأصولي إلى زمن قريب حائراً في التعبير عن موضوع هذا العلم، فبين منكر لأصل وجود موضوع لهذا العلم، أو منكر للزومه، أو مدع لوجوده ثبوتاً ولكنّه لا نعرفه أثباتاً، إلى غير ذلك من الأنظار، وكذلك الحال فيما يرجع إلى الهدف من هذا العلم، أو منهج البحث فيه، وفرقه عن المسائل المشابهة في العلوم الأخرى، فكل ذلك كان مجهولاً، ولا يزال في جل الدراسات الأصولية حتى المعاصرة. وإنما اتضحت هذه السمات والمميزات وبشكل دقيق ومعمق على يد السيد الشهيد الصدر (قدس)، وفي مدرسته وفكره الأصولي، كما لا يخفى على من اطلع على أنظار هذه المدرسة، وقارن بينها وبين ما جاء في الكتب الأصولية الأخرى.
وقد جاءت الحلقات الثلاثة التي ألفّها هذا العلم العملاق بقلمه الشريف لترسم الصورة النهائية لهذا العلم في مستويات ثلاثة متدرجة للتعليم في الحوزات العملية، يتخلّص على أساس منها علم الأصول عن كلّ ما علق به خلال السنين الطويلة من تاريخ هذا العلم من علائق غريبة عن روحه، وأجنبية عن موضوعه أو منهجته، مما كانت تشوش صورته، أو تخفي دوره ومعالمه الأساسية، أو تنحرف بالذهن إلى بحوث جانبية لا أثر ولا ربط لها بمسائل هذا العلم الحقيقية. فكانت الحلقات بحق أفضل مشروع تعليمي للتعبير عن المدرسة الأصولية في آخر طورها، وأكمل ما أنتهت إليه من العمق والأصالة وتميزت به من الاستقلالية والحداثة في المنهج والمضمون والتبويت.
وقد اعتمد السيد الشهيد (قدس) عند تربيته للحلقات على غرضين آخرين أساسيين أيضاً.
1ـ الغرض التعليمي: فان مناهج التربية والتعليم لها قوانينها وترتيبها الخاص بها، وليس أي كتاب مؤلف في علم صالح لأن يكون كتاباً دراسياً، بل لابد وأن يكون منهج التعليم على أساس علمي متناسب مع غرض التربية والتنمية للطالب، وقد أصبح اليوم وضع المناهج التعليمية في كل علم تخصصاً مستقلاً برأسه، له معاهده وكلياته المختصة.
وقد شرح السيد الشهيد (قدس) نفسه مفصلاً هذه الأغراض التعليمية في مقدمة الحلقات، أو ضع فيها ما في الكتب والمناهج الدراسية السائدة في الحوزات ـ قبل الحلقات ـ من نقاط الضعف الكبيرة في هذا المجال، بالرغم من كونها كتباً ثمينة وهامة وعلى درجة عالية من العمق والدقة، وقد أدت دوراً جيّداً في تنضيج الفكر الأصولي وتطويره ـ شكر الله مساعي أصحابها وأجزل ثوابهم ـ إلا أنها لم تكن مؤلفة للغرض التعليمي والتربوي، بل كانت مؤلفة للتعبير عن آخر ما انتهى إليه أصحابها من النظر العملي والنقدي لأنظار الآخرين، فافتقدت بذلك أهم خصائص الكتاب الدراسي والمنهج التعليمي للازم اتباعه، ولمزيد الاطلاع على تفصيلات ذلك نحيل الطالب إلى تلك المقدمة، فليراجعها وليتأملها بدقة.
2ـ الغرض الوظيفي لعلم الأصول، وإن شئت قلت: آليته ودوره في عملية الاستنباط الفقهي. وهذا غرض مهم يتضح على أساسه موقع علم الأصول وأميته ومدى ارتباطه بالفقه، والدائرة التي لابد وأن يتحرك فيها الفكر الأصولي ويصوغ نظرياته وقواعده فيها. وبهذا يجد الطالب الدارس للحلقات غايته المنشودة من هذا العلم ويستشعر لذّة العلم والتحقيق حينما يواجه ذلك البيان العلمي المحكم والأفكار العلمية الرصينة المبتكرة من قبل علمائنا الأعلام في هذا العلم، ويعرف مجال توظيفها والاستفادة منها في الفقه، بل وفي سائل علوم الشريعة في كثير من الأحيان. وهذا ما أعطى لهذا العلم ميزة أخرى جعلت منه مفتاحاً وميزاناً ومنهجاً خاصاً لفهم الثقافة وعلوم الشريعة في شعبها ومجالاتها المختلفة وتقييمها ووزنها على أساس من هذا المنهج.
وهكذا كانت الحلقات الثلاث التي وضعها سيدنا وشهيدنا الصدر (قدس) إنجازاً مهماً على صعيد خدمة هذا العلم في نفسه، وعلى صعيد تربية الطلبة وإعدادهم في الحوزات العملية للوصول إلى آخر مرحلة من مراحل تطوير هذا العلم وكماله من خلال منهج تعليمي رائع، فهو مشروع ناجح وموفق في المضمون والمنهجة معاً ينبغي أن يتبع في دراسات سائر علوم الحوزة، فيقام بمحاولات مشابهة في دراسة الفقه والفلسفة والتفسير وغيرها أيضاً.
وقد انعكس خلال تدريس الحلقات من قبل الأساتذة الأكفاء إنّ هناك بعض الصعوبات التي قد يواجهها الطالب أو الأستاذ المعني بتدريس الحلقات ينتج أغلبها من الاختلاف الحاصل في ترتيب البحوث الأولية وتنظيمها عما هو المألوف والدارج في دراسات السطوح العليا أو الخارج من هذا العلم، إلا أن لهذا التغيير في الترتيب تبريره الذي ذكره السيد الشهيد الصدر (قدس) في مقدمة الحلقات، وذكرناها في الجزء الأول من تقريرات بحثه، حيث قمنا هناك بمقارنة عملية بين الترتيبين وبيان مميزات كل منهما. كما أن استخدامه بعض الألفاظ والمصطلحات الحديثة لهذا العلم كمصطلح (حق الطاعة) أو (التزاحم الحفظي) أو (التعارض المستقر وغير المستقر) وغير ذلك قد يوجب غموضاً في الحلقات خصوصاً لغير أبناء اللغة العربية ممن يتلقون ثقافتهم العربية من المصادر القديمة التي لا تهيئ لهم قدرة كافية لفهم اللغة بأساليبها الحديثة، ولمن لم يطلع على المصطلحات الأصولية الحديثة والأنظار الأصولية المبتكرة في المدرسة الأصولية التي طورها ونقحها شهيدنا الصدر (قدس).
وهذه الصعوبة تزداد عمقاً وتتسع دائرة في الحلقة الثالثة، بحيث لا يجد الطالب تهيئاً من قبل الأساتذة والفضلاء لتدريسها. وفي النية محاولة لتذليل تلك الصعوبات بما يؤدي إلى إقبال الفضلاء على اتخاذ منهج الحلقات هو المنهج المفضل لدراسة بحوث هذا العلم في الحوزات العلمية، نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق لها لما نستشعره جميعاً، وقد أكدّ عليه قائد الأمة الإسلامية المفدى آية الله السيد علي الخامنه اي ـ دام ظلّه الشريف ـ في خطابه الموجه إلى فضلاء الحوزة وطلابها في ضرورة التغيير في مناهج الدراسات في الحوزات العملية بما يتناسب مع حاجة العصر وثقافته، وإنّ ما صنعه السيد الشهيد الصدر (قدس) في الحلقات يعتبر نموذجاً رائعاً لا يمكن الاستغناء عنه في مجال علم الأصول.
ومن الله سبحانه وتعالى نستمد العون إنه وليّ التوفيق
محمود الهاشمي
قم المقدسة