(جاء في صحيفة (الحياة) البيروتية بعددها الرقم 4294 الصادر بتاريخ 23/4/1960م ما يلي:
صدر في العراق مؤخراً كتاب ضخم بعنوان: (فلسفتنا) لمؤلفه محمد باقر الصدر أثار ضجة كبرى وتضاربت حوله الآراء وتناولته الأقلام بأكثر من نقد وتوضيح وتعليق وقد عرض الكاتب العربي الكبير (أ) لهذا المؤلف فكتب فيه ما يلي:
(فلسفتنا) هذا كتاب قرأته في تأمل بل درسته دراسة في كدح ذهن وجهد فكر…
وتساءلت حين شرعت قراءته بل دراسته عن مؤلفه : من هو (محمد باقر الصدر) وعلى من يعود ضمير الجمع المتكلم في (فلسفتنا) وانتهيت من الكتاب إلى اليقين بأن السيد محمد باقر الصدر علامة مدركة غزير الاطلاع يجيد الكر على الخصم ويحسن الدفاع. وقد حملني كتابه على أن أصفه في صف الفلاسفة الإسلاميين وفي أئمة المتكلمين، وعلى الاعتقاد انه بوفرة علمه ووجاهة فكره وقوة حجته ينزل المنزلة التي تجيز له أن يجعل عنوان كتابه (فلسفتنا).
وقد وددت لو استطيع التمهيد للحديث عن هذا الكتاب بكلمة وجيزة عن مؤلفه العلامة ولكن جهلي شيئاً عنه حال دون ذلك، ولعل أحد عار فيه يتفضل علينا معشر قادريه بكلمة عنه تذهب بجهلنا الذي نأسف عليه ونعتذر عنه.
وكتاب (فلسفتنا) إنما يدرس دراسة دقيقة ولا يطالع مطالعة عابرة، ولابد لقارئه من بعض المام بالمذاهب الفلسفية ومصطلحاتها ومن أن يكون ذا صبر على الغوص في الفلسفة وذا جلد على تفهم دقائقها وتتبع الفروق بين مناحيها. ومعنى هذا أن هذا الكتاب يستعصى فهمه على القارئ العادي.
ومع أن هذا هو شأن كل كتاب فلسفي فقد كنت أرجو أن يحرص الأستاذ باقر جهده على التبسيط أكثر مما فعل وأن يجعل التيسير ذاته هدفاً مهماً وغاية مقصودة وحيث أن الأستاذ لا يكتفي من بحوثه بعرض المذاهب الفلسفية عرضاً ولا بذكر متناقضاتها ولا بتنفيذ ما يستأهل التنفيذ منها ولكنه يبدو صاحب رسالة ورب فكرة فان الوضوح إلى المدى الأبعد عنصر أساسي مهم لا يمكن تجاوزه.
وحيث أن المؤلف المفضال يعدنا باتحافنا بكتاب يستكمل فيه بحوثه وعلاجاته لمختلف مشاكل الحياة باسم (مجتمعنا) فاننا نرجوه الحرص على التبسيط جهد الطاقة.
وبعد فان كتاب (فلسفتنا) هو دراسة موضوعية في معترك الصراع الفكري القائم بين مختلف التيارات الفلسفية وخاصة بين الفلسفة الإسلامية والمادية الديالكتية الماركسية، وهذه الدراسة تتسم بالدفاع المنطقي الحار عن الميتافيزية أو الإلهية حتى يمكن القول أن الكتاب هو جهد فلسفي منطقي موفق لنسف الأسس الفلسفية للإلحاد، وإنني أعتقد أن المادية الديالكتية الماركسية لم تجبه بمناقشات فلسفية واعية فاهمة ولم تقرع بردود علمية من قبل كتاب العرب المتفلسفين كما جبهت وكما قرعت بهذا الكتاب… أجل انه لم ينازلها فلسفياً منازل عربي أو مسلم عنيد حسب إطلاعي مثل محمد باقر الصدر.
إن المؤلف يعرض في كتابه المفاهيم الفلسفية المتصارعة في الميدان وحدودها ويقدم الإيضاحات الضرورية عنها حتى اذا تناول المذاهب المادية الديالكتية الحديثة درسها دراسة موضوعية مفصلة بكل خطوطها العريضة التي رسمها هيجل وكارل ماركس، وناقشها، واعتمد في ذلك كله على الطريقة العقلية في التفكير لأن العقل بما يملك من معارف ضرورية فوق التجربة هو المقياس الأول في التفكير البشري. وحتى التجربة التي يزعم التجربيون أنها المقياس الأول ليست في الحقيقة إلا أداة لتطبيق المقياس العقلي..
وقد عني المؤلف عناية خاصة بدرس مبدأ العلية (السببية) وقوانينها التي تسيطر على العالم وما تقدمه لنا من تفسير فلسفي شامل كما بدد عدة شكوك فلسفية نشأت في ضوء التطورات العلمية الحديثة.
وإذا ما بلغ المرحلة النهائية من مراحل الصراع بين المادية والإلهية (المادة أو الله) صاغ في بلاغة وإحكام المفهوم الإلهي للعالم في ضوء القوانين الفلسفية وفي ضوء مختلف العلوم الطبيعية والإنسانية.
هذه نظرة إجمالية للكتاب واذا أردنا مزيداً من التفصيل قسمنا الكتاب إلى ثلاثة أقسام : الأول وهو تمهيد مهم بين يدي البحوث والثاني يدور حول نظرية المعرفة والثالث يتحدث عن المفهوم الفلسفي للعالم.
ففي التمهيد يستعرض صاحبنا أهم المذاهب الاجتماعية التي يقوم بينها الصراع فيذكر النظام الدمقراطي الرأسمالي والنظام الاشتراكي والنظام الشيوعي والنظام الإسلامي، وكل من النظامين الأولين يملك كياناً سياسياً يحميه في صراعه مع الآخر، أما النظام الشيوعي فلم يجرب تجربة كاملة إذ عجزت قيادته عن تطبيقه فلاذت بالنظام الاشتراكي كخطوة نحوه وظل وجوده بالفعل فكرياً خالصاً، وأما النظام الإسلامي فمر بتجربة ناجحة ثم عصفت به العواصف بعد أن خلا من القادة المبدئيين وظل فكرة أو أملا في ذهن الأمة الإسلامية.
ويفصل المؤلف نظام الدمقراطية الرأسمالية التي تجعل مصالح المجتمع منوطة بمصالح الفرد (والدولة الصالحة هي الجهاز الذي يسخر لخدمة الفرد وحسابه.. وهذا النظام مشبع بالروح المادية الطاغية من دون أن يبني على فلسفة مادية واضحة الخطوط للحياة..) ثم يعرج على النظام الشيوعي وطابعه العام (افناء الفرد في المجتمع وجعله آلة مسخرة لتحقيق الموازين العامة التي يفترضها..)
ولا أنكر أن أستاذنا الصدر في استعراضه مآسي النظامين رغم حرصه الشديد على النزاهة وعلى الموضوعية لم يستطع أن يتخلى عن نظارته السوداء التي تبرز قتامة المذهبين ثم يتحدث عن معالجة المشكلة ويرى أن امام العالم سبيلين إلى دفع الخطر أحدهما أن يبدل الإنسان غير الإنسان وتخلق فيه طبيعة جديدة تجعله يضحي بمصالحه الخاصة وبمكاسب حياته المادية المحدودة في سبيل المجتمع ومصالحه مع إيمانه بأنه لا قيم إلا قيم تلك المصالح المادية، وهذا السبيل هو الذي يحلم أقطاب الشيوعية بتحقيقه ويرون أن توكل قيادة العالم إليهم.
وأما السبيل الثاني فهو الذي سلكه الإسلام (فلم يبتدر إلى مبدأ الملكية الخاصة ليبطله وإنما غزا المفهوم المادي عن الحياة ووضع مفهوماً جديداً وأقام على أساسه نظاماً لم يجعل فيه الفرد آلة ميكانيكية في الجهاز الإجتماعي ولا المجتمع هيئة قائمة لحساب الفرد، بل وضع لكل منهما حقوقه وكفل للفرد كرامته المعنوية والمادية معاً..) وجعله يؤمن بأن حياته منبثقة عن مبدأ مطلق للكمال ونصب له مقياساً خلقياً جديداً في كل خطواته وأدواره وهو رضاء الله تعالى.. فليس كل ما تفرضه المصلحة الشخصية فهو جائز ولا كل ما يؤدي إلى خسارة شخصية فهو حماقة.. وإنما المقياس الخلقي الذي توزن به جميع الأفعال هو مقدار ما يحصل عليه من الرضا الإلهي. (فالدين يربط بين المقياس الخلقي الذي يضعه للإنسان . حب الذات المتمركز في فطرته..)
والخط العريض في هذا النظام هو اعتبار الفرد والمجتمع معاً وتأمين الحياة الفردية والاجتماعية بشكل متوازن، فليس الفرد هو القاعدة المركزية في التشريع والحكم وليس الكائن الاجتماعي الكبير هو الشيء الوحيد الذي تنظر إليه الدولة وتشرع لحسابه.
أما القسم الثاني للكتاب وموضوعه نظرية المعروفة فانه يتحدث عن المصدر الأساسي للمعرفة ويتكلم في هذا الباب عن نظرية الاستذكار الافلاطونية والنظرية العقلية والنظرية الحسية ونظرية الانتزاع حتى إذا تحدث عن الخيوط الإولية التي نسجت منها الأحكام والعلوم والمبدأ الذي تنتهي إليه المعارف البشرية في التعليل ويعتبر مقياساً أولياً عاماً لتمييز الحقيقة عن غيرها تناول بالدرس المذهب العقلي الذي ترتكز عليه الفلسفة الإسلامية والمذهب التجريبي السائد في المدرسة الماركسية.
وقد فنّد هذا الأخير في تفصيل وقوة حجة غير منكر في الحين ذاته فضل التجربة على الإنسانية ومدى خدمتها في ميادين العلم ولكن ما حرص على توكيده وإثباته هو كونها ليست المقياس الأول والمنبع الأساسي للأفكار والمعارف الإنسانية بل المقياس الأول والمنبع الأساسي هو المعلومات الأولية العقلية التي تكتسب على ضوئها جميع المعلومات والحقائق الأخرى، حتى أن التجربة ذاتها محتاجة إلى ذلك المقياس العقلي.
ثم تناول قيمة المعرفة ومدى إمكان كشفها عن الحقيقة فاستعرض آراء اليونان وفلسفة ديكارت اليقينية وفلسفة جون لوك الممثل الأساسي للنظرية الحسية والتجربية ثم تحدث عن دور المثالية في نظرية المعرفة الإنسانية فتناول بالدرس الاتجاهات المهمة للمثالية الفلسفية والمثالية الفيزيائية والمثالية الفيزيولوجية. ثم تطرق إلى فلسفة الشك الحديثة ومذهب النسبية وحدودها في العلوم البشرية وعن اتجاهيها الرئيسيين أي نسبة (كانت) والنسبية الذاتية التي مهدت للنسبية التطورية التي تنادي بها الديالكتية.
وقد أفاض المؤلف في نقضها مبرهناً على أن الحقيقة مطلقة وغير متطورة (وان كان الواقع متطوراً ومتحركاً على الدوام) كما برهن على أن الحقيقة تتعارض تعارضاً مطلقاً مع الخطأ. وعلى أن اجراء الديالكتيك الماركسي على الحقيقة والمعرفة يحتم علينا الشك المطلق في كل حقيقة مادامت في تغير وتحرك مستمر. (بل يحكم على نفسه بالاعدام والتغير أيضاً لانه بذاته مد تلك الحقائق التي يجب أن تتغير بحكم منطقه التطوري الخاص).
أما القسم الثالث من الكتاب فقد خصصه المؤلف للمفهوم الفلسفي للعالم فاستعرض في تفصيل وعمق في مدارك الماركسية وألوان استدلالها على تطور الحقيقة والمعرفة واسهب في بيان مغالطاتها الفلسفية وعلى الأخص ما حاولته من اعتبار العلوم الطبيعية في تطورها الرائع على مر الزمن ونشاطها المتضاعف وقفزاتها الجبارة مصداقاً للحركة التطورية في الحقائق والمعارف مع أن تطور العلوم في تاريخها الطويل لا صلة بتطور الحقيقة والمعرفة بمعناه الفلسفي الذي تحاوله الماركسية (فالعلوم تتطور لا بمعنى أن حقائقها تنمو وتتكامل بل بمعنى أن حقائقها تزداد وتتكاثرو أخطاءها تقل وتتقلص…)
وامتاز هذا القسم بما أورد المؤلف من تصحيح لأخطاء شائعة مثل محاولة اعتبار الصراع بين الإلهية والمادية مظهراً من مظاهر التعارض بين المثالية والواقعية (فالواقعية ليست وقفاً على المفهوم المادي كما أن المثالية ليست الشيء الوحيد الذي يعارض المفهوم المادي على الصعيد الفلسفي بل يوجد مفهوم آخر للواقعية هو المفهوم الواقعي الإلهي الذي يعتقد بواقع خارجي للعالم والطبيعة ويرجع الروح المادة معاً إلى سبب أعمق فوقهما جميعاً). ويصحح أيضاً الخطأ القائل بأن المفهوم الإلهي يجمد مبدأ العلية (السببية) في دنيا الطبيعة.
وبعد ما استعرض المؤلف أخطاء المفهوم المثالي تناول دراسة المفهوم المادي واتجاهيه الآلي والديالكتي ونقد الديالكتيك كمنطق عام وكشف عن الأخطاء الرئيسية التي يرتكز عليها وبرهن على عجزه عن حل مشكلة العالم.
وكان المؤلف موفقاً في درسه مشكلة الادراك. وهي هدف صراع فلسفي عنيف بين المادية والميتافيزية، وفي معالجتها على ضوء مختلف العلوم ذات الصلة بالموضوع من طبيعية وفسيولوجية وسيكولوجية.
ثم كان مبدعاً بليغاً قوي الحجة حين بحث في موقف الميتافيزية من المادة والحركة ومن المادة والوجدان (فالطبيعة صورة فنية رائعة والعلوم الطبيعية هي الأدوات البشرية التي تكشف عن ألوان الابداع في هذه الصورة وترفع الستار عن أسرارها الفنية وتمون الوجدان البشري العام بالدليل تلو الدليل على وجود الخالق المدير الحكيم وعظمته وكماله).
وعن المادة والفسيولوجيا والمادة والبيولوجيا والمادة وعلم الوارثة والمادة وعلم النفس وهنا بلغ الذروة في الابداع.
انني لا أظن أن صحيفة يومية يمكن أن تتسع لأكثر مما أسلفت، ولكن الكتاب لا يزال يحتاج إلى دراسة وهو مما يجب أن يتناوله جميع المعنيين بالفلسفة بحثاً وتدقيقاً.
وانني لا محض مؤلفة المفكر كل التقدير واتطلع بشوق إلى إشراق كتابه (مجتمعنا) الذي سيكون المظهر التطبيقي لارائه في (فلسفتنا).
ان عالمنا الذي طغت عليه المادية والذي أصيب بمحل روحي وفشا فيه الجدب الإيماني سيرى في هذا الكتاب فتحاً مبيناً.
وإن المؤمنين الذين يروعهم ما يجتاح العراق اليوم من أعاصير الحادية تذهب بطمأنينته وتهدف الى القضاء على إسلاميته ويهولهم نشاط المذاهب الإلحادية المستوردة والمبادئ التي تعيش على القلق وتربو في حمأة الشك، أن هؤلاء المؤمنين سيجدون في (فلسفتنا) خيراً كثيراً و ينبوعاً إيمانياً غزيراً.