الامام الشهيد الصدر.. التحديات الصعبة ومشروع الاصلاح الشامل

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

(كتاب: المرجعية الدينية)

كانت الحركة الإسلامية منذ انطلاقتها أواخر الخمسينات تعيش همَّ الإسلام وامكانات تحكيمه في الحياة، وهو هدف لم يكن يهتم به التقليديون، بل أنهم كانوا يعارضون مثل هذه التوجهات الرسالية وسرعان مايطلقون عليها تهمهم الجاهزة من قبيل الخروج عن التشيع.. لكن وضوح الأهداف والأسس التي وضعها الشهيد الصدر للحركة، جعلها تواصل نشاطها بثقة وقوة.

إن وجود الامام الشهيد والثلة الواعية من العلماء على رأس الحركة الإسلامية خلق حالة لم تكن موجودة من قبل، وهي التلاحم التاريخي بين المرجعية وبين الامة.

إن هذا التلاحم مكّن التحرك الاسلامي من الانطلاق والعمل بقوة، ووفر له الشرعية في الاسلوب والممارسة فيما يحتاجه من غطاء في ظروف العمل السياسي المعقد.

والغريب أن الحركة الإسلامية ومرجعية الامام الصدر واجهتا معاً حرباً من جبهتين:

الاولى: تمثلت بالخط التقليدي في الحوزات العلمية.

والثانية: السلطة البعثية الظالمة في العراق.

إن من المؤسف أن يلتقي الاثنان في هدف واحد ألا وهو ضرب التحرك الاسلامي ومرجعية السيد الصدر رضوان الله عليه. والمؤلم أن بعض المنتسبين للحوزة العلمية كان لايتورع في افشاء سرّ العلاقة بين الحركة الإسلامية والسيد الصدر، مع ما يترتب على ذلك من مخاطر أمنية تعرض حياة الرساليين وفي مقدمتهم السيد الصدر واخوانه العلماء الحركيين لخطر الاعتقال والاعدام.

وفي تلك الظروف الحساسة واجه الامام الصدر حملة مفتعلة تحاول الانتقاص منه ومن مرجعيته، وتعرض تلامذته إلى مضايقات عديدة من قبل التقليديين الذين كانوا يسيطرون على الرأي العام في الحوزة. وقد وصلت المضايقة حداً أن الكثير من مقلدي السيد الشهيد كانوا عندما يُسألون عن المرجع الذي يقلدونه يجيبون بأنه (أحد الأحياء).

وعندما ساهم رضوان الله عليه في تأسيس جماعة العلماء في النجف الأشرف وكان هو محور حركتها رغم عدم انتسابه لها بصورة رسمية بحكم العمر،تعرض إلى حملة قاسية عانى منها الكثير، وكان هو الذي يكتب في مجلة الأضواء الأفتتاحية المعروفة تحت اسم (رسالتنا).

كانت الحملة مشتركة بين السلطة الحاكمة وبين بعض رجال الحوزة كما يظهر ذلك بوضوح في مجموعة من الرسائل التي بعثها السيد الشهيد إلى سماحة السيد محمد باقر الحكيم نختار منها الفقرات التالية كما نشرتها مجلة الجهاد في عددها رقم (14) الصادر في جمادى الثانية 1401هـ وفيها يعبّر رضوان الله عليه عن الألم الذي يعتصر قلبه من هؤلاء وأولئك:

كتب السيد الشهيد في صفر 1380 هـ ما نصه:

(لقد كان بعدك أنباء وهنبثة،وكلام وضجيج، وحملات متعددة جنّدت كلها ضد صاحبك ـ أي السيد الصدر نفسه ـ بغية تحطيمه.

ابتدأت تلك الحملات في أوساط الجماعة التوجيهية المشرفة على الأضواء، أو بالأحرى لدى بعضهم ومن يدور في فلكهم، فأخذوا يتكلمون وينتقدون، ثم تضاعفت الحملة وإذا بجماعة تنبري من أمثال حسين الصافي ـ ولاأدري ما اذا كانت هناك علاقة سببية وارتباط بين الحملتين أو لا ـ تنبري هذه الجماعة، فتذكر عنّي وعن جماعة ممن تعرفهم شيئا كثيرا من التهم ومن الامور العجيبة)

وكتب أيضا رضوان الله عليه يقول:

(كما أن هناك زحمة من الإشكالات والاعتراضات لدى جملة من الناس أو (الآخوندية) في النجف على النشرة وخاصة (رسالتنا) باعتبار انها كيف تنسب إلى جماعة العلماء مع أنها لم توضع من قبلهم، ولم يطلعوا عليها سلفاً، وأن في ذلك هدراً لكرامة العلماء)

وكتب أيضاً عن تلك الحملة التي تعرض لها يقول:

(لاأستطيع أن أذكر تفصيلات الاسماء في مسألة جماعة العلماء وحملتها على الاضواء، ولكن أكتفي بالقول بأن بعض الجماعة كان نشيطا في زيارة أعضاء جماعة العلماء لإثارتهم على الاضواء وعلى (رسالتنا) حتّى أن الشيخ الهمداني الطيّب القلب قد شُوّهت فكرته. وهذا الذي حصل بالنسبة للشيخ الهمداني حصل بالنسبة إلى جملة من الطلبة مع الاختلاف في بعض الجهات).

وفي جانب آخر كتب (قدس سره) يقول عن حملة أخرى يبدو انها أعقبت تلك الحملة:

(وقد هدأت والحمد لله حملة جماعة العلماء عليها ـ أي مجلة الاضواء ـ بعد أن تم اشعارهم بأنهم المشرفون عليها، غير أن حملة هائلة على ما أسمع يشنّها جملة من الطلبة ومن يُسمى بأهل العلم أو يحسب عليهم، وهي حملة مخيفة وقد أدت على ما قيل إلى تشويه سمعة الاضواء في نظر بعض أكابر الحوزة، حتّى كان جملة ممن يسميهم المجتمع الآخوندي، مقدسين أو وجهاء لايتورعون عن الصاق التهم بالأضواء وكل من يكتب فيها).

إن هذه الكلمات الحارة التي يكتبها الامام الشهيد الصدر عن فترة من فترات العمل الاسلامي في حياته المباركة، تكشف عن الألم الذي كان يختزنه في قلبه الكبير وهو يشاهد أجواء التخلف تحاول أن تقف في طريق الوعي الاسلامي. وكم من مرة تمنى (رضوان الله عليه) الموت رغم صبره الطويل وقلبه الكبير الذي يتحمل الهموم والالام، لكن شدة المحن التي يتعرض لها من التقليديين كانت تجعله يفضل الموت على الحياة.

لقد أسس الشهيد حزب الدعوة الإسلامية لأنه أدرك بالعمق الذي يتمتع به وبالنظرة الشمولية الصائبة لحركة الاحداث في الساحة، أن العمل الحزبي يمثل الاسلوب القادر على مواجهة الانحراف الكبير في الساحة العراقية والساحات الإسلامية، وأن الحزب هو الذراع الذي تمكن المرجعية من تحقيق أهدافها وسط الامة. وانطلاقاً من هذه الرؤية الواضحة قام بتأسيس حزب الدعوة الإسلامية، وكتب بنفسه الأسس الفكرية للحزب ورسم الخطوط الاساسية لعمله وأطلق عليه اسم (الدعوة).. كل ذلك من أجل خدمة القضية الإسلامية ومدرسة أهل البيت عليهم السلام والحوزة العلمية والمرجعية الدينية.

لكن رغم كل ذلك فانه (قدس سره) تعرض إلى حملة شرسة من قبل الاوساط الحوزوية التقليدية، وكان هؤلاء يشهّرون بحزبيته وكأنها عمل مخالف للشريعة الإسلامية، رغم ان افشاء مثل هذه الامور يعرض حياته الشريفة وحياة علماء الدين والرساليين المنضوين في حزب الدعوة إلى مخاطر الاعدام والاعتقال، ومع ذلك لم يتورع اولئك الناس من حملتهم التشهيرية لأن الهدف عندهم هو إسقاط السيد الصدر وتدمير مرجعيته الفتية.

وننقل هنا ما كتبه الأخ الصديق الشيخ محمد رضا النعماني في كتابه (الشهيد الصدر.. سنوات المحنة وأيام الحصار):

(وحتّى تأسيس حزب الدعوة الإسلامية الذي جعله البعض حربة لطعنه، أو تشويه سمعته بين أبناء الامة، ما كان إلا من أجل حماية كيان الإسلام والامة الإسلامية، ومن الغريب أن البعض كان يسمح لأبنائه بالإنتماء إلى حزب البعث الصليبي، ويحارب السيد الشهيد لتأسيسه حزب الدعوة الإسلامية. كان البعض ينتقد العلماء أثناء فترة الاحتلال الانجليزي للعراق فيقول: إنهم حرّموا على ابنائنا دخول المدارس الانجليزية في العراق، ولم يفتحوا لهم مدارس إسلامية، واليوم أسس لهم العلماء حزبا اسلامياً ليحصّنهم من الانتماء إلى حزب البعث أو الحزب الشيوعي ومن الالحاد عموما، فإذا بهم كالبنيان المرصوص ضده. ولو انهم وقفوا عند حدود معقولة وناقشوا الأمر بروح موضوعية وتعقلوا مدى صحة هذا الاسلوب أو ذاك، لكان أمراً سائغاً ومنطقياً، أما أن يعتبروا ذلك انحرافاً ويجعلوه حربة يحملونها بيد، وتحملها السلطة باليد الاخرى، فتسفك بها الدماء وتهتك بها الأعراض وتُستحل الحرمات، فهو أمر بمكان من الخطورة جعل قلب الشهيد الصدر يتفجر دماً وروحه تفيض حزناً وألماً.

إن الجهل الذي يملأ قلوبهم، أو قل الحقد الذي أعماهم وأضلهم كان يخيل لهم أن المسألة محدودة بالشهيد الصدر فقط، ولن تتعداه إلى سواه، فإذا كان اتهامه بالحزب خير وسيلة للقضاء عليه فليكن هو الاسلوب المتبع.

وكان (رحمه الله) حينما تبلغه الاتهامات والافتراءات التي توجه اليه من قبل بعض الاطراف في الحوزة يقول: «إن السلطة ما استهدفتني من بين المراجع الآخرين إلا بسبب ظروفي وأوضاعي الخاصة، وإلا فإن هدفها أكبر وأشمل، إنها استهدفت الوجود العام كله، المرجعيات كلها، والحوزات كلها بغض النظر عن فكرة الاتهامات الحزبية وما ذريعة الحزب إلا أداة لتضليل الناس».

والغريب أن هؤلاء الذين كانوا يشكلون جبهة متراصة لحرب السيد الشهيد والقضاء عليه، والذين يعتبرون أنفسهم في طليعة المؤمنين الموالين لأهل البيت لم يرتدعوا حتّى بعد أن امتدت يد العفالقة إلى شعائر الامام الحسين عليه السلام، وقتل زواره وابادتهم في كربلاء وفي الطريق اليها في انتفاضة صفر البطولية، لقد سكتوا جميعا ولم يتخذوا إلا موقف المتفرج والدماء تسفك والأشلاء تطحن في أقبية مديريات الأمن حقدا وانتقاما على اهل البيت وانصارهم، وهم في كل صباح ومساء يلعنون قتلة الحسين عليه السلام ومن شايعهم إلى قيام يوم الدين، فما أغرب هذه المفارقة وما أبشعها) ص 175ـ 176.

هكذا كانت المواقف تصمم في بيوت التقليديين.. وهكذا كانوا لايتورعون من القيام بأي عمل من شأنه أن يضعف السيد الشهيد ويعزله عن جماهيره وقواعده التي آمنت به وشكلت ظاهرة متميزة في الحياة الاجتماعية في العراق خلال فترة قصيرة من الزمن.

ويجب التأكيد هنا أن الشهيد الصدر وأبناءه الرساليين رغم ما يرونه من مواقف مضادة من قبل التقليديين، إلا أنهم لم ينجرّوا وراء ردود الفعل ولم يمارسوا أي موقف مضاد ضد المرجعيات التقليدية وضد المشهّرين الذين يتسترون بها، بل انهم وانطلاقا من حسهم الرسالي وفهمهم للدور الاسلامي المطلوب كانوا يدعمون المرجعيات الدينية ويتصدون بقوة ومبدأية لأي محاولة تحاول النيل منها وإضعافها، لأنهم يجدون في ذلك توهينا للخط العلمائي وإضعافاً للوجود الاسلامي بأسره.

وأود أن أنقل هنا نصاً آخر من كتاب الشيخ النعماني يصوّر فيه بوضوح موقف المرجعية التقليدية من مرجعية السيد الشهيد:

(ان أحد العلماء جاء إلى بيت السيد الشهيد، وكان يتكلم بانفعال وعصبية ويحاسب السيد الشهيد على تصديه للمرجعية وطبعه للفتاوى الواضحة، وقد سجل رحمه الله نتائج تلك المحادثات من خلال رسالة بعثها إلى أحد تلامذته ـ وهو السيد كاظم الحائري ـ وهذا مقطع منها:

«عزيزي أبا جواد في الفترة الأخيرة جاء إلى الزيارة السيد… وهو شخص لنا علاقات ورفاقة طويلة الأمد معه، وقد اجتمع بي ودارت أحاديث مفصلة خلال خمسة مجالس في محاولة لتصفية العلاقات وتوثيقها بين الجهة (وهو اصطلاح يعني به مرجعيته) ومرجعية السيد…

ان السيد… كان يعترض ويقول كيف تتصدى للمرجعية في عهد السيد، وقد شرحت له كل الظروف وكل سلبيات مرجعية السيد تجاهنا والتي فرضت الاضطرار إلى موقف من هذا القبيل. وبعد أخذ ورد طويلين قلت له: ماذا تريدون قالوا: نريد أن تذكر بأن مرجعيتك طولية. قلت نعم انا ألتزم بذلك. قالوا: نريد أن تؤكد لمحبيك أن طبع الرسالة للمقلدين شيء ومزاحمة المرجعية العليا وإيجاد التفاضل في الاعلمية والتعديل عن التقليد شيء آخر. قلت: وهذا أيضاً إني أراه منذ البداية والان سوف أجدد التاكيد على أصحابي في هذا المجال…») ص 177.

كانت الأجواء التقليدية لاتتحمل أن يتصدى فقيه يتمتع بالرؤية الحركية الشمولية كالسيد الصدر لمهام المرجعية، لأنها ترى في ذلك تهديداً لها ولمصالحها، ولذلك يطلب رجالها من الشهيد الصدر صراحة أن لايسمح بأن يتحول المقلدون من (المرجعية العليا) إلى مرجعيته، وأن يعلن أن مرجعيته هي في أمتداد تلك المرجعية وليست منافسة لها. وهي مطالب غريبة في الحسابات المنطقية ولكن هكذا كان التقليديون يريدون للامور أن تجري.

ورغم أن الشهيد الصدر وافق على مطالبهم ونفذها بصدق وإخلاص وأوعز إلى تلامذته بالإلتزام بها، إلا أن المرجعية التقليدية لم توقف حملتها المعادية ضده، فقد استمرت محاولات التسقيط من قبل التقليديين، واستمرت حملات التشكيك والاتهام ضد المرجع الشهيد، كما تصاعدت محاولات عزله عن الجماهير بشتى الوسائل والطرق.

وقد استطاعت تلك الفئات أن تحقق النتائج التي تريدها في فترة من الفترات، وذلك عندما تصاعدت هذه الحملة إلى جانب الحملة الأخرى التي شنتها السلطة الظالمة على الحركة الإسلامية وعلى السيد الشهيد بصورة شرسة امتلأت فيها المعتقلات بابناء الصدر المجاهد. ففي تلك الفترة انحسر نشاط السيد الصدر على الصعيد المرجعي وتقلص عدد تلامذته بشكل ملحوظ. لكن تلك الفترة لم تطل فقد كانت الجماهير قد إستوعبت فكر قائدها وتشبعت بروحيته الرسالية وتفهمت دورها التاريخي المطلوب، فعادت للإلتفاف حوله والانضواء تحت رايته المباركة ونادت به قائداً، ومرجعاً، وزعيماً لحركتها الإسلامية الرامية إلى تحكيم اسس الإسلام الاصيل في الحياة، مهما كانت الظروف صعبة وشاقة.

عطاءات مرجعية الامام الصدر

لقد استطاعت مرجعية الامام الشهيد الصدر أن تحدث تحولا مشهودا في الساحة الإسلامية، فبعد أن كان الجو العام خاضعا للتيارات القومية والماركسية والعلمانية التي طبعت الساحة بأوساطها الطلابية، والثقافية، والاجتماعية بطابعها الخاص البعيد والمعادي للأسلام، مستغلة ابتعاد المرجعيات التقليدية عن الحياة العامة والمعترك السياسي.. بعد كل هذا، برزت المرجعية الحركية للإمام الصدر (رضوان الله عليه) الذي استطاع أن يفرض نفسه بقوة في الاوساط العلمية والثقافية من خلال النتاجات العملاقة التي طرحها، مما جعله يتحول إلى رمز فكري ومدرسة طليعية في الحياة الإسلامية تتميز بالعمق والشمولية والقدرة الفائقة على طرح الإسلام الحركي بصورته الاصيلة التي تمكنه من مواجهة التحديات.

لقد باشر الامام الصدر منهاجه التغييري عبر مجموعة من المشاريع الكبيرة في الساحة العراقية، فعلى المستوى السياسي قام بتأسيس الحركة الإسلامية المتمثلة بحزب الدعوة الإسلامية.. وعلى المستوى الاجتماعي طرح مشروع المرجعية الصالحة.. وعلى المستوى العلمي قدم نتاجاته التي أحدثت الضجة الهائلة المعروفة.وقد ركّز الشهيد الصدر في كل ذلك على جانب التغيير الفكري الشامل في المجتمع، فكانت هذه المشاريع تسير في نسق منسجم يكمل بعضها البعض الآخر.

ولم يمض وقت طويل حتّى أخذت مشاريعه تعطي ثمارها في الساحة العراقية، حيث بدأ الوعي الاسلامي الحركي يبسط وجوده أمام تراجع التيارات العلمانية والمعادية للاسلام، وأصبح واضحا للعيان أن العراق في عصر الامام الصدر يختلف تماما عما قبله من حيث التحرك الاسلامي وقوة النشاط الحركي في مختلف الطبقات والاوساط الاجتماعية، الأمر الذي أثار خوف وقلق السلطات الحاكمة والأجهزة الاستكبارية المهتمة بأمر العراق،حيث أحست بخطورة المستقبل الذي ينتظرها فيما لو استمرت هذه الحركة الإسلامية في التنامي والاتساع.

لقد استطاعت مرجعيته (رضوان الله عليه) أن تستقطب الجيل الاسلامي إلى جانب الاوساط المثقفة في الساحة، وطلبة العلوم الدينية في النجف الاشرف، وأصبح واضحا أن مرجعية السيد الصدر ستكتسح المرجعيات التقليدية في فترة قصيرة.لأن الحاجة لمرجعيته كانت تمثل التلبية الطبيعية للواقع الاسلامي ولتطلع الجماهير المثقفة التي تريد الإسلام الاصيل حياً على أرض الواقع، وليس مجرد أفكار نظرية تعيش في أذهان فئة معزولة عن الحياة والمجتمع.

ان الشهيد الصدر كان منظومة الفكر الشامل والعمل الشامل، وكان يخطط للمرجعية أن تكون شاملة كذلك، وهذا هو الذي جعله يستوعب الواقع الاسلامي بكل آفاقه وأبعاده، ويمكنه من الاحاطة الواعية بحاجاته ومشكلاته، فقدم في ضوء ذلك معالجاته وطروحاته الفريدة من خلال النظرية والتطبيق معاً. ولم يركز الامام الشهيد جهوده على حقل واحد من حقول النشاط الاسلامي، لكنه كان يتعامل مع الواقع الاسلامي برؤية شمولية واسعة مستمدة من شمولية الإسلام واتساعه لكل شؤون الحياة. لذلك قدم نتاجاته الفكرية الرائدة في مختلف المجالات، كما انه اعتمد المنهج الشمولي نفسه في التحرك المبدئي فكان هو رجل الفكر، وقائد التحرك، واستاذ الحوزة، ومرجع المسلمين.

لقد أثارت مرجعية الامام الصدر أصحاب الخط التقليدي، وشعروا أن مقاليد المرجعية ستفلت من أيديهم،إلى الخط الحركي، مما جعلهم يندفعون في مواجهة السيد الشهيد ويمارسون ضغوطهم على المراجع لمواجهته وتضييق الخناق عليه.. وبدأ هذا الخط التقليدي بشن حرب دعائية محمومة ضد القائد الصدر.. فشككوا في شيعيته، وهو الذي قدم للتشيع خدمات مشكورة يعجز عن تقديمها اولئك المناهضون له.. وشككوا في اجتهاده، وهو المرجع الكبير الذي قدم للفكر العلمي ولمدرسة أهل البيت عليهم السلام أكبر الخدمات في بحوثه الاصولية بحيث فاق أعلام الطائفة الشيعية بما اتسمت به مدرسته العلمية من عمق واتساع ولاتزال آراؤه الاصولية متقدمة في الاوساط العلمية.. واتهموه بأنه أميركي،وهو الذي أثار خوف وقلق الاجهزة الاستكبارية والاقليمية بعد أن اكتشفت خطورة تحركه على مصالحها في المنطقة، وعلى الأنظمة الحاكمة نتيجة الحالة الإسلامية الحركية التي صنعها (رضوان الله عليه).

لقد شنّوا حربهم الظالمة ضد المرجع الذي أعاد الثقة إلى النفوس، وواجه بكل شجاعة وكفاءة التيارات المعادية للاسلام، وقام بتأسيس حركة اسلامية قدمت عشرات الآلاف من الشهداء من أجل تحكيم الإسلام في المجتمع،ونهض بالبحث الاصولي والعلمي إلى مستويات رفيعة، وقدم لمدرسة أهل البيت عليهم السلام خدمات ستظل شاخصة في الوجدان الاسلامي.

اطروحة المرجعية عند الامام الصدر

كان الامام الشهيد (قدس سره) يؤمن بالأهمية القصوى للأمة ودورها المتقدم في صناعة حاضرها ومستقبلها، وكان يرى أن دور المرجعية الحقيقي ومجال عملها هو الامة كلها، لذلك كان في كل نشاطاته ومشاريعه يسير بالإتجاه الذي يخدم الامة ويعيد ثقتها بنفسها من أجل أن تمارس دورها المطلوب الذي تتطلع اليه وتسعى نحوه.

لم يشعر السيد الشهيد في يوم من الايام أنه معزول عن مجتمعه، بل أنه كان يعاني من حالة العزلة الموجودة بين المراجع التقليديين والأمة، وكان يرى أن دور المرجعية غير هذا الدور الذي درج عليه التقليديون منذ زمن طويل، فالأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية قد تغيرت كثيرا، وبرزت تحديات جديدة وحاجات جديدة تستدعي تنظيم العمل المرجعي ونقله من الحالة الفردية (الذاتية) إلى الحالة الموضوعية ـ كما عبّر عن ذلك رضوان الله عليه.

لقد أراد السيد الشهيد أن تتخلص المرجعية من الفردية لتكون خطاً شاملاً في الامة، فإذا انتهت حياة المرجع، فأن خطه يظل ممتداً متنامياً في حياة المرجع الذي يليه.

ومن أجل أن نتعرف على رؤية استاذنا وقائدنا المرجع الشهيد رضوان الله عليه في هذا المجال نورد هنا نص الأهداف التي وضعها للمرجعية في اطروحته الرائدة المعروفة بالمرجعية الصالحة وكما دوّنها استاذنا سماحة آية الله السيد الحائري مدّ ظله في مقدمة كتابه مباحث الأصول:

(يمكن تلخيص أهداف المرجعية الصالحة رغم ترابطها وتوحد روحها العامة في خمس نقاط:

1ـ نشر أحكام الإسلام على أوسع مدى ممكن بين المسلمين، والعمل على تربية كل فرد منهم تربية دينية تضمن التزامه بتلك الأحكام في سلوكه الشخصي.

2ـ إيجاد تيار فكري واسع في الامة يشتمل على المفاهيم الإسلامية الواعية من قبيل المفهوم السياسي الذي يؤكد أن الإسلام نظام كامل شامل لشتى جوانب الحياة، واتخاذ ما يمكن من أساليب لتركيز تلك المفاهيم.

3ـ إشباع الحاجات الفكرية الإسلامية للعمل الاسلامي وذلك عن طريق ايجاد البحوث الإسلامية الكافية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والمقارنات الفكرية بين الإسلام وبقية المذاهب الاجتماعية، وتوسيع نطاق الفقه الاسلامي على نحو يجعله قادراً على مدّ كل جوانب الحياة بالتشريع، وتصعيد الحوزة ككل إلى مستوى هذه المهام الكبيرة.

4ـ القيمومة على العمل الاسلامي والاشراف على مايعطيه العاملون في سبيل الإسلام في مختلف أنحاء العالم الاسلامي من مفاهيم، وتأييد ما هو حق منها واسناده وتصحيح ما هو خطأ.

5ـ إعطاء مراكز العالمية من المراجع إلى أدنى مراتب العلماء الصفة القيادية للأمة بتبني مصالحها والاهتمام بقضايا الناس ورعايتها، واحتضان العاملين في سبيل الإسلام.

ووضوح هذه الاهداف للمرجعية وتبنيها وإن كان هو الذي يحدد صلاح المرجعية ويحدث تغييراً كبيراً على سياستها ونظراتها إلى الأمور وطبيعة تعاملها مع الأمة، ولكن لايكفي مجرد وضع هذه الاهداف ووضوح ادراكها لضمان الحصول على أكبر قدر ممكن من مكاسب المرجعية الصالحة، لأن الحصول على ذلك يتوقف ـ اضافة إلى صلاح المرجع ووعيه ـ على عمل مسبق على قيام المرجعية الصالحة من ناحية، وعلى ادخال تطويرات على اسلوب المرجعية ووضعها العملي من ناحية اخرى.

أما فكرة العمل المسبق على قيام المرجعية الصالحة، فهي تعني أن بداية نشوء مرجعية صالحة تحمل الاهداف الآنفة الذكر تتطلب وجود قاعدة قد آمنت بشكل وآخر بهذه الاهداف في داخل الحوزة وفي الامة، وإعدادها فكريا وروحيا للمساهمة في خدمة الإسلام وبناء المرجعية الصالحة، وإذا لم توجد قاعدة من هذا القبيل تشارك المرجع الصالح أفكاره وتصوراته وتنظر إلى الأمور من خلال معطيات تربية ذلك الانسان الصالح لها، يصبح وجود المرجع الصالح وحده غير كاف لايجاد المرجعية الصالحة حقاً وتحقيق أهدافها في النطاق الواسع.

وبهذا كان لزاماً على من يفكر في قيادة تطوير المرجعية إلى مرجعية صالحة أن يمارس هذا العمل المسبق بدرجة ما، وعدم ممارسته هو الذي جعل جملة من العلماء الصالحين ـ بالرغم من صلاحهم ـ يشعرون عند تسلم المرجعية بالعجز الكامل عن التغيير لأنهم لم يمارسوا هذا العمل المسبق، ولم يحددوا الاهداف الرشيدة للمرجعية والقاعدة التي تؤمن بتلك الاهداف.) انتهى.

هذه هي أفكار الامام الشهيد وآراؤه بخصوص المرجعية التي تستطيع ان تؤدي رسالتها الحقيقية في الواقع الاسلامي، لكن هذه الاطروحة الرائدة لم ترق لأصحاب الخط التقليدي في المرجعية، لأنها تنهي حالة الاسترخاء والامتيازات التي يتمتع بها ثلة من المنتفعين من المرجعيات التقليدية المعزولة عن المجتمع.

ومن هنا كان هؤلاء يحاربون السيد الصدر الذي وجدوا فيه تهديدا لمصالحهم ولخطهم التقليدي المتوارث ـ كما وجدت السلطة الحاكمة فيه تهديدا لمصالحها في الحكم.

لم ترق آراء الامام الصدر الاصلاحية لأولئك، فشنوا حربهم ضده.. لقد شككوا باجتهاده وشيعيته ووصفوه بأنه عميل أميركي وغير ذلك من الاساليب الضالة.

لقد إنعكس المنهج الاصلاحي في شخصية الشهيد الصدر على كل مجالات عمله، فكان بحق شخصية إصلاحية ذات أفق شمولي كبير، قلّ نظيرها في المرجعيات التي سبقته وعاصرته، وهذا ما يمكن إكتشافه من خلال مؤلفاته ومحاضراته وتوجهاته. وسنختار هنا رؤيته لعوامل الاصلاح والتجديد من اجل بيان هذا الجانب الرائد في شخصية الامام الشهيد.

عوامل التجديد في رؤية الشّهيد الصّدر:

عندما يدرس الإمام الشّهيد رضوان الله عليه، المشاريع التجديدية فإنه يقدم رؤية موضوعية شمولية في تقييم التجربة ـ موضوع الدّراسة، وذلك لعاملين أساسيين:

الأوّل: ما تميز به الشّهيد الصّدر من قدرة عالية في كل المجالات الّتي تناولها بالبحث والدّراسة، وهذه سمة طبعت حياته العلمية بالكامل رغم قصر عمره المبارك. فهو باحث من طراز خاص، إذ إنه لا ينطلق في دراسته من محاولات تجزيئية تنحصر في جو الدّراسة، بل إنه قدس سره يجعل الدّراسة ـ كمنهج عام عنده ـ خاضعة لرؤية شمولية عامة يندرج موضوع الدّراسة ضمن سياقاتها الكلية. وعلى هذا فإنّ رؤيته للمشاريع التجديدية تستند إلى العمق الشّمولي الّذي تحتاجه مثل هذه الدّراسات عادة.

الثاني: إنّ الشّهيد الصّدر هو نفسه مجدد وصاحب حركة تجديدية مؤثرة في واقعه الثقافي والإجتماعي والسياسي، الأمر الّذي يجعل من تقييماته للتجارب التجديدية على قدر كبير من الأهمية، لأنها منطلقة من عقلية تجديدية حقيقية ومن نظرة ترصد الماضي والحاضر والمستقبل بهموم التجديد.

وسنحاول هنا أن ندرس تجربة الشّيخ الطوسي كنموذج للتجديد كما تناولها الشّهيد الصّدر رضي الله عنه.

رؤية الشّهيد الصّدر لتجربة الشيخ الطوسي:

يرى الشّهيد الصّدر إنّ مساهمة الشّيخ الطوسي في علم الاصول لم تكن مجرد استمرار للخط، بل كانت تطوراً جديداً ضمن التطور الشامل في التفكير الفقهي والعلمي الذي حققه. وقد تمثل ذلك في مجال الاصول بكتابه (العدة) وفي مجال الفقه بكتابه (المبسوط).

ومن خلال هذا الإنجاز يعتبر الشهيد الصدر إنّ الشيخ الطوسي حد فاصل بين عصرين يطلق عليهما العصر التمهيدي والعصر العلمي الكامل، (فقد وضع هذا الشّيخ الرائد حداً للعصر التمهيدي وبدأ عصر العلم الّذي أصبح الفقه والاصول فيه علماً له دقته وصناعته وذهنيته العلمية الخاصة)[1].

ثم يتناول الشّهيد الصّدر دراسة هذه التجربة التجديدية في ضوء موقعها في الترتيب الزّمني للحركة العلمية، فيعتبر إنّ البحث الفقهي الّذي سبق الشّيخ الطوسي كان يقتصر في الغالب على إستعراض المعطيات المباشرة للأحاديث والنصوص أي إصول المسائل، ويرى في كتاب المبسوط (محاولة ناجحة عظيمة في مقاييس التطور العلمي لنقل البحث الفقهي من نطاقه الضّيق المحدود في إصول المسائل إلى نطاق واسع يمارس الفقيه فيه التفريع والتفصيل والمقارنة بين الأحكام وتطبيق القواعد العامة ويتتبع أحكام مختلف الحوادث والفروض على ضوء المعطيات المباشرة للنصوص)[2].

ويؤكد الإمام الشّهيد على أهمية الترابط في مشروع التجديد الفكري مع حركة الزّمن وذلك بقوله: (إنّ التطور الّذي أنجزه الشّيخ (الطوسي) في الفكر الفقهي كان له بذوره الّتي وضعها قبله أستاذاه السيد المرتضى والشّيخ المفيد وقبلهما ابن أبي عقيل وإبن الجنيد…. وكان لتلك البذور أهميتها من الناحية العلمية حتّى نقل عن أبي جعفر بن معد الموسوي وهو متأخر عن الشّيخ الطوسي إنه وقف على كتاب ابن الجنيد الفقهي واسمه (التهذيب) فذكر إنه لم ير لأحد من الطائفة كتاباً أجود منه ولا أبلغ ولا أحسن عبارة ولا أرق معنى منه، وقد استوفى فيه الفروع والاصول وذكر الخلاف في المسائل واستدل بطريقة الإمامية وطريق مخالفيهم. فهذه الشّهادة تدل على قيمة البذور الّتي نمت حتّى آتت أكلها على يد الطوسي)[3].

ويلخص الشّهيد الصّدر رؤيته لتجربة الطوسي التجديدية في بعدها الزّمني بقوله: (ما مضى المجدد محمد بن الحسن الطوسي ـ قدس سره ـ حتّى قفز بالبحوث الإصولية وبحوث التطبيق الفقهي قفزة كبيرة وخلّف تراثاً ضخماً في الاصول يتمثل في كتاب (العُدة) وتراثاً ضخماً في التطبيق الفقهي يتمثل في كتاب (المبسوط). ولكن هذا التراث الضّخم توقف عن النمو بعد وفاة الشّيخ المجدد طيلة قرن كامل في المجالين الإصولي والفقهي على السواء).

وهذه الحقيقة بالرغم من تأكيد جملة من علمائنا لها تدعو إلى التساؤل والإستغراب، لأن الحركة الثورية الّتي قام بها الشّيخ في دنيا الفقه والاصول والمنجزات العظيمة الّتي حققها في هذه المجالات كان المفروض والمترقب أن تكون قوة دافعة للعلم وإن تفتح لمن يخلف الشّيخ من العلماء آفاقاً رحيبة للإبداع والتجديد ومواصلة السير في الطريق الّذي بدأه الشّيخ، فكيف لم تأخذ أفكار الشّيخ وتجديداته مفعولها الطبيعي في الدّفع والإغراء بمواصلة السير)[4].

ويقدم الإمام الصّدر تفسيره لهذه الظاهرة الغريبة، من خلال دراسته للظروف الزّمانية، حيث يرى إنّ هجرة الطوسي إلى النجف الأشرف فصلته عن حوزته المبدعة في بغداد، وإنه ركّز على التفاعل مع أفكاره العملاقة، فكان لابد من مرور فترة زمنية حتّى تصل إلى مستوى استيعاب أفكاره والتفاعل معها حيث كتب يقول:

(فهجرته إلى النجف وإن هيأته للقيام بدوره العلمي العظيم لما أتاحت له من تفرغ ولكنها فصلته عن حوزته الأساسية، ولهذا لم يتسرب الإبداع الفقهي العلمي من الشّيخ إلى تلك الحوزة الّتي كان ينتج ويبدع بعيداً عنها، وفرق كبير بين المبدع الّذي يمارس إبداعه العلمي داخل نطاق الحوزة ويتفاعل معها باستمرار وتواكب الحوزة إبداعه بوعي وتفتح، وبين المبدع الّذي يمارس إبداعه

خارج نطاقها وبعيداً عنها.

ولهذا كان لابد ـ لكي يتحقق ذلك التفاعل الفكري الخلاق ـ إن يشتد ساعد الحوزة الفتية الّتي نشأت حول الشّيخ في النجف حتّى تصل إلى ذلك المستوى من التفاعل من الناحية العلمية، فسادت فترة ركود ظاهري بانتظار بلوغ الحوزة الفتية ذلك المستوى، وكلّف ذلك العلم أن ينتظر قرابة مائة عام ليتحقق ذلك ولتحمل الحوزة الفتية أعباء الوراثة العلمية للشيخ حتّى تتفاعل مع آرائه وتتسرب بعد ذلك بتفكيرها المبدع الخلاق إلى الحلة)[5].

ونستطيع أن نفهم من رؤية الشّهيد الصّدر في تفسيره هذا، إنّ الشّيخ الطوسي سبق حركة الزّمن في مشروعه التجديدي العملاق، وتقدم على واقعه بمسافة زمنية طويلة، ويمكن أن نتصور حجم هذا الإنجاز بشكله الحيّ عند التأمل في المراحل الّتي تلت مرحلة الطوسي والّتي تحولت فيها النجف إلى المعقل الأوّل للفكر الشّيعي بمنجزاته العلمية الرائدة..

ويقلل الشهيد الصدر من أهمية التفسير السائد لظاهرة الجمود العلمي الذي أعقب الشيخ الطوسي والقائل بأن قداسة الشيخ الطوسي منعت الاخرين من العلماء من مناقشة آرائه. فيقدم سبباً آخر في تفسير هذه الظاهرة يسير في سياق الأول من حيث ارتباطه بعامل الزمن، وهو ان الفكر السّني في تلك الفترة قد تحجم في دائرة التقليد وأغلق باب الإجتهاد رسمياً، وبذلك انكمش الفكر الإصولي السّني ومني بالعقم ـ علي حد قول السيد الشّهيد ـ الأمر الّذي جعل التفكير العلمي لعلماء الشّيعة يفقد أحد محفزاته المحركة.

ويؤكد الشهيد الصّدر إنّ الحركة التجديدية الّتي أحدثها الشّيخ الطوسي والّتي عاشت توقفاً نسبياً بعده، عادت من جديد للتفاعل بالمستوى الّذي يتناسب مع أفكاره. وذلك على يد الفقيه المبدع محمد بن أحمد إبن إدريس (ت 598) الّذي انطلق في حركته التجديدية من تقدير دقيق للظروف الفكرية الّتي يعيشها الواقع العام والّتي اتسمت بالجمود، فقرر أن يعيد الحياة فيها من جديد، وتمكن بالفعل من إحداث نقلة نوعية في الواقع الّذي عاصره، على إنّ من المهم أن نتذكر إنّ هذه النقلة عندما حدثت فإنها أدركت حينذاك مستوى الشّيخ الطوسي، وكأنّه كان لا يزال حيّاً إلى تلك الفترة الزّمنية.

ويعود السيد الشّهيد إلى تفسير ظاهرة الإنطلاقة الجديدة للفكر الشّيعي في تجربة إبن إدريس، مستنداً على حركة الزّمن حيث يقول إنّ (الحوزة العلمية الّتي خلّفها الشّيخ الطوسي سرى فيها روح التقليد لأنها كانت حوزة فتية، فلم تستطع أن تتفاعل بسرعة مع تجديدات الشّيخ العظيمة، وكان لابد لها أن تنتظر مدة من الزّمن حتّى تستوعب تلك الأفكار وترتفع إلى مستوى التفاعل معها والتأثير فيها، فروح التقليد فيها كانت مؤقتة بطبيعتها)[6].

هذه باختصار رؤية الشّهيد الصّدر لتجربة الشّيخ الطوسي التجديدية والّتي يؤكد فيها رضوان الله عليه على أهمية عامل الزّمن في مشاريع التجديد الّتي ظهرت في تاريخ الفكر الإسلامي واستطاعت أن تفرض وجودها واستمراريتها مع حركة الزّمن، وقد اخترنا نموذج الشّيخ الطوسي في دراسة الشّهيد الصّدر باعتبار إنّ تجربته تمثل سبقاً لحركة الزّمن.

التجديد وحركة الزّمن في فكر الشّهيد الصّدر يرى الشّهيد الصّدر إنّ المشروع التجديدي يتنامى من خلال عامل الزّمن، حيث تكون كل مرحلة مقدمة للمرحلة التالية. وذلك في المجال الواحد من

مجالات التجديد، ففي التجديد الفكري وبالتحديد التجديد الإصولي، يحدد الشّهيد الصّدر العصور الثلاثة التالية:

أولاً: العصر التمهيدي، ويعتبر قدس سره إنّ هذا العصر بدأ بإبن أبي عقيل وإبن الجنيد، وفيه وضعت البذور الأساسية لعلم الاصول.

ثانياً: عصر العلم، وهو العصر الّذي بدأ بالشيخ المجدد الطوسي فكان رائده ورمزه الأكبر. وفي هذا العصر تحددت معالم الفكر الإصولي على أساس البذور الأولى. وكان من رجال هذا العصر إبن إدريس والمحقق الحلّي والعلامة الحلّي والشّهيد الأوّل.

ثالثاً: عصر الكمال العلمي، وبدأ هذا العصر على يد المجدد الوحيد البهبهاني أواخر القرن الثاني عشر الهجري، وفيه واصل رجال هذه المدرسة التجديدية مشروع البهبهاني التجديدي على امتداد فترة زمنية قاربت النصف قرن.

ويرى الشّهيد الصّدر إنّ هذا التقسيم الزّمني العام، تتفرع عنه تقسيمات زمنية فرعية حيث يقول: (ولا يمنع تقسيمنا هذا لتاريخ العلم إلى عصور ثلاثة، إمكانية تقسيم العصر الواحد من هذه العصور إلى مراحل من النمو، ولكل مرحلة رائدها وموجهها، وعلى هذا الأساس نعتبر الشّيخ الأنصاري قدّس سره المتوفى (1281) رائداً لأرقى مرحلة من مراحل العصر الثالث وهي المرحلة الّتي يتمثل فيها الفكر العلمي منذ أكثر من مائة سنة حتّى اليوم)[7].

وهكذا نرى إنّ الشّهيد الصّدر قدّس سره يؤكد على التجديد من خلال عامل الزّمن وفق ترابط دقيق في العلاقة بينهما، نستطيع أن نلخصها بالمرتكزين التاليين:

الأوّل: إنَ الحركة التجديدية إنما تنبثق نتيجة اتجاه عوامل موضوعية تفرضها طبيعة الظروف العامة في مرحلة زمنية محددة، فقد يبرز اتجاه تجديدي يسبق الزّمن كما هو الحال في تجربة الشّيخ الطوسي، وقد يبرز اتجاه تجديدي يواكب الزّمن ويمنع التخلّف عنه كما في تجربة الوحيد البهبهاني.

الثاني: إنّ الفترة الزّمنية لطول العصر العلمي إنما تتحدد في ضوء مهمة الحركة التجديدية وخصائصها المميزة مما يجعل إمكانية تقسيمه إلى مراحل زمنية متعددة كما في العصر الثالث لتطور علم الاصول.

وفي ختام هذا الفصل أوجّه الدّعوة من جديد إلى كل الإخوة والمفكرين والباحثين إلى ضرورة الإستمرار في دراسة الشّهيد الصّدر كتجربة، ومنهج، ومدرسة رائدة في التجديد المعاصر.

وأؤكد أن هذه الدعوة لا تنطلق من دافع عاطفي فلقد إستنفد الزمن العاطفة، لكنها تنطلق من إحساس بالمسؤولية للرجل الذي قدم كل شيء للاسلام، وعرض الإسلام حياً متفاعلا مع حركة التطور.. أصيلاً كما أراده أهل البيت عليهم السلام.

السيد حسين الشامي

[1] الصّدر، المعالم الجديدة للاصول، ص 56 ـ 57

[2] الصّدر، المعالم الجديدة للاصول: ص 60

[3] المصدر السابق، ص 62 ـ 63

[4] الصّدر، المعالم الجديدة للاصول، ص 62 ـ 63.

[5] الصّدر، المعالم الجديدة للاصول، ص 66

[6] الصّدر، المعالم الجديدة للاصول، ص 70

[7] الصّدر، المعالم الجديدة للاصول، ص 89