القيادة في فكر الشهيد الصدر (رض)

إطلالة على مدرسة الشهيد الصدر الفلسفية

تكتسب دراسة مفهوم القيادة في الفكر الاسلامي المعاصر اهمية استثنائية، لا من اجل ان تضاف إلى قائمة الدراسات التي تعالج ذلك المفهوم، وانما لتكون في خدمة الإسلام، وخدمة الفكر الاسلامي المعاصر.

ولعل الهجمة المعادية للاسلام وضخامتها واتساعها من جهة، وانتشار الصحوة الإسلامية وامتدادها على طول العالم وعرضه ستكون اسبابا ملحة ولازمة لوضع مفهوم القيادة وخصائصها في الإسلام، في مواجه اعداء الإسلام، وفي مواجهة التحديات والمخاطر التي تواجه الشعوب والحركات والتجمعات الإسلامية.

هذه الدراسة، هي محاولة لرسم الخطوط الرئيسية، لفكرة القيادة الإسلامية في فكر الشهيد الصدر (رض) في مفهومها العريض، وهي محاولة متواضعة، لانها تبقى قاصرة عن استيعاب فكر ثر ومعطاء كفكر الشهيد الصدر (رض)، وهي محاولة، لانها اقتربت من الخط العام وتركت التفاصيل، وهي في وجهها الآخر، محاولة مخلصة من اجل تحفيز الآخرين للكتابة في هذا الموضوع الحساس.

أهمية القيادة

لم تكن القيادة في فكر الشهيد الصدر (رض) امتيازاً لانسان، أو مجموعة من البشر، وانما كانت تكليفاً ومسؤولية، كما لم تكن ذات اهداف بشرية وضعها الإنسان، ليسعى القائد فيها بالجموع إلى الهدف، لكي يحلو ركائبهم عنده ويستريحوا!

فكرة القيادة اذن هي جزء لا يتجزء من هندسة المشروع الالهي للبشرية، منذ ان وطأت اقدام ابينا آدم (ع) الارض، وحتى اقامة دولة العدالة الالهية.

الباري عزّوجل منح الجماعة البشرية ممثلة بالنبي آدم (ع) هذه الخلافة فهي اذن ستتكفل برعاية الكون، وتدبير امر الإنسان  والسير بالبشرية في الطريق المرسوم للخلافة الربانية[1].

المشروع الالهي للبشرية، كالكائن الحي ينمو ويتطور وينضج، وتتكامل المسيرة يوماً بعد يوم، وعي البشرية ينمو، النبوة التي تعهدت بحفظ الإنسان على خط المسيرة تنمو وتتجدد هي الاخرى لتتدرج في تربية وعي الإنسان.

تطور المشروع الالهي للبشرية لم يكون على مستوى تطور فكرة التوحيد فحسب، وانما على مستوى تحمل اعباء الدعوة، فالبشرية لم تتحمل المسؤوليات الا عبر مران طويل وبمقارنة بسيطة بين امم موسى وعيسى والاُمّة الإسلامية التي حملت مسؤولية هداية البشرية، واكمال شوط المشروع الالهي للبشرية حتى نهايته[2].

كان الغرض من ذلك الاستعراض السريع التنبه إلى ان فكرة القيادة قد تطورت، ولم تكن متخلفة عن المشروع الالهي، وانما كانت تتولى تسديد البشرية وحفظها ضمن الخط العام، والظروف والتعقيدات وتعارض مصالح بني الإنسان.

قانون القيادة العام

القيادة في الكون لم تكن ظاهرة مختصة بالجماعة البشرية وانما انعكست في عوالم الطبيعة والحيوان والافلاك وغيرها، لكنها اختلفت مع بني الإنسان في شيء واحد وهو اختيار الإنسان باعتباره كائنا هادفاً[3] ترتبط مواقفه باهداف يسعى لها ويعمل من اجلها وهذا يعني انّه ليس مسيراً وفق قانون طبيعي صارم ومن اجل ان يكون كذلك لابد ان يكون حراً.

المشروع الالهي للبشرية ابتدأ حين تحمل الإنسان على مسؤولية اعباء الخلافة في الارض بوصفها امانة عظيمة اشفقت عن حملها السموات والارض والجبال قال سبحانه وتعالى:

(انا عرضنا الامانة على السموات والارض والجبال فأبين ان يحملها واشفقن منها وحملها الإنسان انّه كان ظلوماً جهولا)[4].

التكليف وتحمل الامانة يعني حرية الاختيار، ويعني ان الإنسان تعهد برعاية الكون وتدبير امر الإنسان والسير بالبشرية في الطريق المرسوم للخلافة الربانية، وافقت البشرية ممثلة بالنبي آدم (ع) على ان تحكم نفسها بنفسها، لان الله سبحانه وتعالى انابها في الحكم بوصفها خليفته في الارض، وهذه الخلافة تعني تعاقداً بين الباري عز وجل وبين خليفته الإنسان إن تعاقداً من هذا الطراز، يعني انتماء البشرية إلى المحور الالهي، وهو محور التوحيد، بدلاً من الانتماءات الاخرى.

كما يعني اقامة العلاقات الاجتماعية على اساس العبودية الخالصة لله، وتحرير الإنسان من الاستغلال والجهل والطاغوت، وهو يعني أيضاً تجسيد روح الاخوة في العلاقات الاجتماعية، فالبشر متساوون، متكافئون، لا سيادة لبعضهم على بعض، فالسيادة له سبحانه وتعالى، ولا تفاضل بين البشر، الا على اساس العمل الصالح وتحمل المسؤولية والواجب لان حمل الامانة يتطلب ذلك[5].

الخلافة وثيقة عهد، وعلى المخلوق تنفيذ ما جاء فيها من بنود، عليه ان يطبق احكام الخالق على العباد والبلاد، عليه ان يعمر الارض ويفجر خيراتها، لا ان يفسد فيها ويفسك الدماء، لا ان يَظلم ويُظلم، فذلك خارج عن العهد.

الإنسانيّة وافقت على حمل الامانة، وكان ذلك تشريفاً الهياً لها استحقت معه سجود الملائكة، وقد حملت الامانة بدون ان تنوء تحت ثقل خطيئة وبدون شعور بالذنب، الذي تفترضه بعض التفسيرات البشرية التي تريد ان تسبغ على الكدح البشري صوب الله سبحانه عقدة التخلص من ذنب قديم وخطيئة اولى.

مع الإنسانيّة العقل والاسماء كلها، ومعها النفس الامارة بالسوء التي لا يتعادل فيها الخير والشر، وانما يتصارعان، ومعها الفطرة السليمة ومعها حب الدنيا، وفي مواجهتها قوانين الكون الصارمة وظواهر الطبيعة وتعارض مصالح بني الإنسان. كيف يمكن ضمان قيادة الإنسان وخلافته على الارض وعدم انحرافه عن طريق المسيرة البشرية؟ كيف يمكن ضمان ذلك بدون قانون قاهر؟

الله سبحانه وتعالى وبلطف منه لم يترك البشرية عرضة للانواء، وانما تولى تربية هذا الإنسان الخليفة وعلّمهُ لكي يصنع قدره فوضع له قانون تكامله من خلال قيادة اخرى يمثلها خط الشهادة والذي يمثل القيادة الربانية والتوجيه الرباني على الارض من خلال شخصية الشهيد البشرية التي ترافق قيادة الإنسان للمسيرة البشرية على امتداد الزمن ممثلة بالانبياء والائمة، والفقهاء القادة الذين ينوبون عن الامام الغائب (عج) وتعتبر هذه القيادة امتداداً رشيداً للنبي والامام في خط الشهادة[6].

قانون الشهادة اذن لحماية المشروع الالهي للبشرية من الانحراف في خط سيره العام، لا حماية الإنسان ككائن فرد، فذلك يتحكم فيه استجابة الإنسان للهداية الالهية، قال سبحانه وتعالى:

(انا هدنياه السبيل اما شاكراً واما كفوراً)[7].

اما قانون الخلافة العام فيدور حول سعي البشرية لتحقيق الصفات التي تتوحد جميعها في الله عز وجل كالعدل والعلم والقدرة والرحمة والانتقام من الجبارين والرحمة بالمستضعفين، فهذه مؤشرات للسلوك واهداف للانسان يتشبه فيها باخلاق الله وصفاته، ولما كانت هذه القيم مطلقة ولا حد لها، ولما كان الإنسان كائناً محدوداً، لذا يظل الإنسان في سعي مستمر، وحركة مستمرة نحو المطلق، وكلما استطاع ان يحقق تلك الصفات والمثل ويجسدها في حياته، كلما سجل انتصاراً في المقاييس الربانية.

كيف يمكن إذن أن نصوغ قانوناً عاماً لفكرة القيادة باعتبارها فكرة الهية؟ كيف يمكن أن نصوغ هذا «القانون» باطاره العام بحيث يصلح لكل زمان ومكان مثلما يصلح لتقييم اي طرح بشري جديد خلال الظروف المعقدة والمتشابكة؟

في البداية لابد من تحديد عناصر القانون وهي:

1ـ الهدف وهو استكمال المشروع الالهي للبشرية ـ هدف مطلق.

2ـ الإنسان وسعيه.

3ـ القيادة وخططها.

وعلى ضوء تلك العناصر يمكن صياغة القانون التالي:

كل حركة بشرية لا تكون السعي للهدف المطلق سوف تتوقف، وتتوقف معها خلافة الإنسان، لذا تصبح مسؤولية القيادة هي ان توفر لهذه الحركة الدائبة كل الشروط الموضوعية وتحقق المناخ اللازم وتصوغ العلاقات الاجتماعية على اساس الركائز المتقدمة للخلافة الربانية[8].

قوانين القيادة الفرعية تأسيساً على قانون القيادة العام يمكن استنتاج القوانين الفرعية التالية:

1ـ هدف القيادة المحدود يؤدي إلى تحرك محدود.

2ـ الهدف يوفر وقود الحركة، وهو القوة التي تمتصها في حالة تحققه.

3ـ تنجح القيادة في مهمتها عندما تحول مصالح الجماعة وكل المصالح الكبرى التي تتجاوز حياة الإنسان القصيرة إلى مصالح الإنسان الفرد والجماعة على المدى الطويل.

4ـ تستطيع القيادة ان تزيد جذوة التحرك اتقاداً لدى الإنسان عندما تجعله يكتشف افاقاً جديدة في الهدف[9].

5ـ لم تنطفي جذوة التحرك في القيادة والإنسان والاُمّة طيلة المدة التي كان الله سبحانه وتعالى هو الهدف الحقيقي من التحرك.

6ـ قدرة القيادة على تحريك الإنسان باتجاه الهدف يتناسب طردياً مع حجم ايمانها به.

7ـ تفشل القيادة في تحريك الإنسان باندفاع وفعالية عندما تحول الاهداف النسبية أو المرحلية إلى اهداف مطلقة.

هذه بعض الاشتقاقات من قانون القيادة العام وقد جرى التركيز فيها على الهدف لان اي اخلال في رؤية الهدف أو تشخيصه سوف يؤدي إلى عرقلة مسيرة سعي الإنسان إلى الهدف المطلق.

لقد استخدم الشهيد الصدر (رض) تطبيقات تلك القوانين في دراسته وتحليله الشمولي لمراحل نمو البشرية وللقيادات الربانية والتاريخية ولسعي الإنسان، ولنأخذ بعض الاستنتاجات الرائعة التي توصل اليها الشهيد الصدر (رض)، فالامة تنهار امام اي غزو خارجي عندما تختار المثل الواطئة وتميل للدعة، والقادة يتحولون إلى مترفين عندما يقودون الجماة البشرية إلى هدف محدود، والإنسان يميل إلى الاهداف القريبة ويميل إلى الدعة والسكون والتراخي عندما يفقد حرارة التحرك.

القيادات المرحلية

لا نعني بالقيادة المرحلية تلك التي تقود الجماعة البشرية لتحقيق اهداف محددة اختارها بنو الإنسان، وانما نعني بها تلك القياد التي تحفظ خلافة الإنسان ضمن خط المسير العام في فترة محددة، وهذا يجعلها جزءاً من مفهوم اوسع، هو القيادة الدائمة التي ترعى المشروع الالهي للبشرية وتسدده، تلك القيادة لا يمثلها شخص بعينه وانما يمثلها خط الشهادة العام الذي يشكل كل شهيد منه قيادة مرحلية يكون امتداداً للشهيد الذي سبقه ونقطة انطلاق للشهيد الذي سيأتي بعده.

هنا يحدث نوع من التمايز بين الجزء والكل، فالقيادة مرحلية تهتم بوضع خاص وعندما تنجز مهمتها تكون قد استنفذت اغراضها، لتفسح المجال امام ظهور قيادة مرحلية جديدة.

وفي هذا الصدد نحتاج إلى بعض الامثلة فهناك قيادة مرحلية لمعالجة نقطة ضعف أو مرض فكري أو اخلاقي أو روحي يصيب المجتمعات البشرية يترفق المولى سبحانه وتعالى في انزال وحي معين لبيانه.

وهناك قيادة مرحلية تجيء لاعطاء دفق روحي جديد بعد ان يكون تراث القيادة السابقة قد تلاشى وتحول إلى مجرد رؤى تاريخية وشعار غامض!.

قيادات مرحلية اخرى وبحكم محدوديتها تختص بهموم محدودة، أو تختص بقرية أو مدينة أو قبيلة، وهذا يرتبط بمحدودية الكفاءة القيادية في المجالين الفكري والعملي اللذين يحددان نوعية الرسالة التي تحملها تلك القيادة.

واخيراً هناك قيادات مرحلية تأتي مع تطور البشرية تطور نفس المدعو لا محدودية الإنسان الداعي.

هذه الامثلة وجدت مصاديقها في تغيير وتجديد النبوة على مر العصور[10] والتي اكتمل مسارها بعد ان انجزت بشكل متدرج توعية البشرية بخط وعي التوحيد وعقيدة التوحيد، كما انجزت توعية البشرية لتحمل اعباء المسؤولية الاخلاقية لتحمل اعباء المسؤولية الاخلاقية للدعوة لحمل رسالة الإسلام العظيم. مهمة القيادات المرحلية اذن هي مهمة تربوية تعتمد على اختيار الإنسان، لتجعله منسجماً مع اهداف التخطيط الالهي لمشروع خلافة الإنسان على الارض، وهذا لن يتم بدون تربية تدريجية ذات عنصرين:

الأوّل: معرفة الإنسان الاسلوب الصحيح للسلوك.

الثاني: تطبيق تلك المعرفة في عالم الحياة.

لقد وفر الخالق جل وعلا هذين العنصرين فقد تمثلت المعرفة بالعقل اولاً وبالنبوات ثانياً، واما توفير الارادة والاخلاص فيشمل بالتجارب القاسية التي تمر بها البشرية والتي تدفعها للتطبيق الصحيح والكامل لهذه المعرفة[11].

القيادة وتوظيف الحس

هذه التجارب لا يمكن ان تتحول إلى سلوك عام دون ان تتفاعل مع الإنسان حسياً، فقد خُلق الإنسان حسياً اكثر منه عقلياً لانه حتى في حالة ايمانه بالنظريات والمفاهيم العقلية ايماناً عقلياً فان ذلك الايمان لن يهزه أو يحركه الا في حدود ضيقة جداً[12].

وعلى عكس من ذلك فان الإنسان حين يواجه قضية حسية فأنه ينفعل بها فتؤثر على روحه، ومن هذا المنطلق فقد اقترن اثبات اي دين بالمعجزة وهذه المعاجز تأتي على مستوى الحس.

من هذا يتضح ان الإنسان يتفاعل مع هذا المستوى المنخفض من المعارف اكثر من تفاعله مع النظرية المجردة. يعني ذلك ان الحس اقدر على تربية الإنسان، فهو لذلك يحتاج إلى حس يربيه يضاف إلى المدركات العقلية، حس يدرك القيم والمفاهيم ادراكاً حسياً، لا ادراكاً عقلانياً، يحس بالعدل وبالظلم ويدرك بحسه ما يدركه العقل وما لا يدركه.

هذه الامكانية موجودة كبذرة ولكنها لن تتفتق في كل انسان بل تنتظر الشروط والظروف والملابسات الموضوعية لكي تخرج إلى حيز العقل.

ولكن متى يحس الإنسان بهذه القيم والمثل احساساً واقعياً؟ ومتى تصبح كل المعقولات. محسوسات لديه؟

تلك درجة رفيعة اختص الله سبحانه بها اشخاصاً معينين هم الانبياء والرسل لانهم يتفاعلون مع الوحي تفاعلاً حسياً يستنزل القيم والاهداف والمثل العظيمة من مستواها العقلي إلى مستواها الحسي، وهنا يحدث الانفعال بهذه الاحاسيس بحيث تملأ على النبي الرسول روحه وكيانه وتصبح شغله الشاغل.

هذا الاحساس لدى النبي سيوفر حساً يتربى به الاخرون بشكل غير مباشر لان النبي يصبح كالمرآة التي تنعكس عليها المثل الإلهية والمعارف الإلهية.

على اساس هذه الحقيقة شخص الشهيد الصدر (رض) حقيقة اخرى لابد لكل قيادة ان تأخذها بعين الاعتبار.. حقيقة ان المثل والقيم والاهداف ستكون ضعيفة الجذب لدى الإنسان ما لم تتحول إلى امر محسوس وواضح اقصى درجات الوضوح. ان هذا الوضوح متدرج وعلى الإنسان ان يرتقى ولن يستطيع ذلك الا بالتسليم بالعبودية المطلقة لله سبحانه وانّه يعيش لله لا لسبب آخر.. هذا التسامي يؤجج العواطف والمشاعر بنور الرسالة الالهية وفي هذه اللحظة يقتنص الإنسان هذه الآثار المباركة يختزنها في روحه، فعملية الاختزان ستحمي الإنسان في لحظات الخور والضعف وستكون بمثابة البذرة التي تنمو في روح الإنسان وتجعله دائماً على خط الرسالة فلا يتراجع أو ينحرف لانه اعطى عهداً وبيعة للنبي (ص) أو لولي الامر الامام المهدي (عج).

انسان من هذا الطراز يجب ان يكون عوناً في هداية الآخرين يجب ان يكون تأثيره على مستوى الحس لا على مستوى المفاهيم النظرية المجردة. كيف يتأتى له ذلك دون ان يتمثل في وجوده واخلاقه وايمانه بخط الانبياء، وعندما يفعل ذلك وينزل ذلك إلى مستوى الحس فانه سوف يشع على الآخرين و«يكهربهم»[13] وبهذا يكون مجال تأثيره قد تعدى حدود التأثير النظري إلى التأثير العملي ولم يكن يستطيع ان يفعل ذلك لولا قوّة المثل والتأسي بسلوك الانبياء والاوصياء الهداة.

القيادة والوعي الحراري!

يتحول الإنسان إلى مشروع ضمن المشروع الالهي للبشرية، عندما تنجح كفاءة القيادة وقوّة المبدأ وفهم المبدأ والايمان به على تحريك الإنسان بحيث يتحول الهدف الكبير، إلى هدف يرافق سعي الإنسان على طول الطريق إلى المطلق. والقيادة تنجح في تحريك الإنسان عدما تمتلك طاقة اشعاع على الآخرين، وكلما كانت ذات طاقة ايمانية اكبر كلما زاد حجم الاشعاع المبارك وزاد تأثيره[14].

لقد استعار الشهيدالصدر (رض) فكرة التوصيل عن طريق الاشعاع من القوانين الفيزيائية، ولكنه اضاف اليها بعداً انسانياً، كيف تم ذلك؟ تزداد القيادة ايماناً عندما يتحول المعقول لديها إلى محسوس بدرجات متفاوتة، ففي النبوة يتولى الوحي الالهي تحويل الايمان العقلي إلى ايمان محسوس يبصره ويسمعه، وكلما كان الكشف الرباني واسعاً ازدادت طاقة النبي على الاشعاع وتأثيره على الاُمّة.

الطاقة الايمانية المشعة تتحول إلى طاقة اندفاع حرارية لدى المسلمين الاوائل وهذا يفسر اندفاعهم في سوح الجهاد والتضحية والشهادة، لقد اخذوا الطاقة الحرارية من النبي (ص) واختزنوها في نفوسهم فكانت القوة التي تدفعهم لتحقق اهداف الإسلام.

ولكن لهذا القانون حدوده ايضاً، فطاقة الاختزان تنضب والطاقة الحرارية تتلاشى عندما يبتعد الإنسان عن مصدر الاشعاع، وهي تنضب بمرور الزمن، اذن لابد من وجود شيء اخر يعزز الحركة الدائمة والدائبة نحو الاهداف، لابد ان تتفاعل الطاقة الحرارية مع طاقة اخرى من طراز آخر لا يؤثر فيها الزمن أو الابتعاد عن مصدر الطاقة، لابد من طاقة ايمانية ترسخ الوعي، وتعمل على تربية الإنسان، ولكن هذا لا يعني ان القيادة ستتمكن من تغطية كل مساحة الاُمّة في عملية تغيير الطاقة الحرارية إلى طاقة وعي ايمان، لان ذلك مرتبط بالقصور في ملاحقة التأثير الهائل للطاقة الحرارية التي انتقلت للامة من قيادتها، لهذا سيبرز التباين الواضح بين حجم التحرك الحراري للامة، وبين حجم وعيها.

هذه الاشكالية قد تظل مستترة طيلة الفترة التي يلتقي فيها وعي الاُمّة مع تحركها الحراري في فعاليات مشتركة، ولكن هذه الاشكالية وهذا التباين يظهران ويكتسبان خطورة شديدة في المنعطفات الحادة والكبيرة في تاريخ الاُمّة حيث يبدو الفرق واضحاً بين الوعي وبين طاقاتها الحرارية.

في تلك اللحظة يبرز التباين واضحاً وتطفو الرواسب التي لم تتقلعها التجربة الإسلامية في التغيير والاعداد لتقف في مواجهة خط الرسالة الاصيل.

القيادة في مواجهة الانحراف

يبدأ الانحراف عندما يتغير مسار التجربة، عندما تتخذ القيادة طريقاً غير الطريق الذي رسم لها، ولكن على اي صعيد يبدأ الانحراف؟

هناك امة، ومجتمع، ودولة.

الاُمّة هي الطليعة المؤمنة بالرسالة، والمجتمع هو الذي يمارس حياته على اساس تلك الرسالة، اما الدولة فهي القيادة التي تتولى قيادة التجربة.

من الذي يغير مسار التجربة غير القيادة اذن؟

وعندما يحدث هذا الامر يبتدأ التصدع ليؤدي في النهاية إلى انهيار الدولة وانهيار المجتمع الاسلامي، لان العلاقات القائمة في المجتمع الاسلامي ستتبدل بعلاقات اخرى قائمة على اساس غير الإسلام، وهذا يعني زوال المجتمع الاسلامي.

هذا الانحراف سيؤدي بالتأكيد إلى ان تتصدع الاُمّة ايضاً، رغم كونها ابطأ العناصر تصدعاً وزوالاً، هذا التصدع سيؤدي إلى تفتيت الاُمّة وانهيارها، وذلك لان الاُمّة عاشت الإسلام زمناً قصيراً ولم تستوعب من الإسلام ما يقويها ويحصنها ويحافظ على شخصيتها في مواجهة الانحراف الذي زور معالم الإسلام وبحكم هذين العاملين الكمي والكيفي تفقد الاُمّة مناعتها وتنهار وتبدأ بالتنازل عن عقيدتها وآدابها، ويفقد الإسلام مركزه في القاعدة الاساسية ويستبدل بغيره من القواعد المعادية[15].

واما هذا الانحراف الخطير يبرز الدور الفاعل لقيادة الاُمّة الإسلامية في خطين:

الاول: استلام السلطة والامساك بزمام التجربة ومحو آثار الانحراف وارجاع القيادة إلى وضعها الطبيعي من اجل عناصر التجربة الإسلامية ـ الاُمّة والمجتمع والدولة.

هذا الخط يعمل على محاولة التغيير من الاعلى إلى اسفل، من قيادة التجربة الإسلامية إلى عناصرها.

الثاني: هو خط تحصين الاُمّة ضد الانهيار لكي تبقى واقفة على قدميها بشكل راسخ وبروح مجاهدة وايمان ثابت.

وهذا الخط ليس خطاً دفاعياً محضاً، وانما يسعى إلى اعادة بناء التجربة الإسلامية من القاعدة إلى القمة.

وفي الخط الاول تواجه القيادة عدة مشاكل منها ان جهودها لاستلام زمام الحكم ربما تفسر على انها سعي للحصول على مصالح شخصية بعيدة عن مصالح الإسلام، أو ان الانحراف قد شوش على شرعية القيادة الإسلامية الحقيقية ونقل تلك الشرعية إلى سلطة الانحراف[16].

ومن الخط الثاني هناك اسلوبان امام القيادة الإسلامية لتفتيت تجربة الانحراف واثبات جدارة القيادة الإسلامية.

الاسلوب الاول: ويستخدم مع القيادة الحاكمة القابلة للتوجيه عن طريق التدخل الايجابي لمنعها عن مزيد من الانحراف عن طريق تسديدها وحل المشاكل التي لا تحسن حلها. هذا الاسلوب ليس اسلوباً تكتيكياً، وانما وضع من اجل الا تؤدي الحلول الفاشلة للمشاكل ولمعالجة الظروف المستجدة إلى فناء التجربة الإسلامية.

الاسلوب الثاني: ويستخدم مع القيادة الحاكمة التي لا تقبل التوجيه وهو اسلوب التهديد والمعارضة لايقافها عند حدها ومنعها من ممارسة المزيد من الانحراف.

هذان الاسلوبان يصبان في خط تحصين الاُمّة في مواجهة الانحراف من اجل ان تكتسب مناعة ومن اجل ان يكون لديها مثلً اعلى تقتدي به لكي تحافظ على وجودها وصلاتها كأمة[17].

ان ما يميز القيادة الشرعية الإسلامية عن غيرها من القيادات هو انها وضعت هيكلية عامة لتحركها، فكان في مقدمة اهدافها الحفاظ على بيضة الإسلام وخلق مثل اسلامي تتجه نحوه القلوب، مثلما تعمل على بناء القاعدة الاساسية في الاُمّة التي تحمل هذه المثل، ولان حدث تراجع ظاهري أو نقلة تاريخية في اسلوب عمل القيادة فهذا مرده إلى الظروف المعقدة التي تواجهها القيادة. فقد تعمد القيادة إلى بذل دمائها من اجل وقف مسيرة الانحراف واعطاء الاُمّة دفقاً حيوياً جديد أو قد تعمد إلى اقرار الصلح مع الحاكم الظالم في سبيل الحفاظ على وحدة المسلمين وفي سبيل الحفاظ على القاعدة الإسلامية، وفي كلا الاحوال كان موقف القيادة يتوقف على تحقيق النتيجة الافضل لمصلحة الإسلام.

هل يتطلب ذلك مواجهة ام هدنة؟

هل يتطلب ذلك بناء قاعدة مؤمنة ام الاسراع بتفجير الثورة؟

هذا التنوع في المواقف لا يمكن النظر إليه بشكل مجرد يجب ان ننظر إلى الظروف والمخاطر التي تمر بها الاُمّة، فهناك ظروف معقدة ومتشابكة تمنع القيادة من سلوك الطريق المباشر للوصول إلى الهدف ـ الهدف المرحلي ـ لان النتائج قد تنسف الجهود السابقة وتبعثرها. هناك ظروف تتطلب من القيادة تحركاً حاسماً وسريعاً، والا فان تلك الظروف قد تؤدي في حالة التردد في مواجهتها إلى تعريض التجربة الإسلامية برمتها إلى الخطر. قد يعتقد البعض ان القيادة الإسلامية ـ ضمن هذا التفسير ـ ستكون في موقع ردود الفعل في مواجهة الظروف، ولكن ذلك ليس صحيحاً، لان معنى القيادة لا يقتصر على اتخاذ المواقف وانما يرتبط بالبرامج الواقعة التي تقوم بتنفيذها على صعيد الاُمّة للحفاظ على صورة الإسلام الاصيل.

التحرك العام والخاص

قبل ان نتطرق إلى خلاصة اطروحة القيادة الإسلامية في فكر الشهيد الصدر (رض) في الظروف المعاصرة، لابد ان نؤكد مرة اخرى ان فكرة القيادة هي امتداد طبيعي لفكرة القيادة الالهية لمشروع خلافة الإنسان على الارض والمتمثل بخط الانبياء والائمة والفقهاء القادة وفي هذا الصدد توصل الشهيد الصدر (رض) إلى الحقائق التالية التي استند اليها في بناء اطروحته الجديدة:

* الإنسان هو المحور في اية عملية تغيير لذا يجب ان تنطلق منه وتتفاعل معه.

* ان الباري عز وجل استخدم التدريج في تربية الإنسان ورعايته وبناء وعيه.

* ان اي عملية تغيير يجب ان تستند إلى الواقع وتنطلق منه.

* التربية لا يمكن ان تبدأ من داخل الجماعة التي انحرفت مسيرتها وتمزقت وحدتها، لابد لها من تربية تتلقاها من خارج الظروف النفسية والاجتماعية التي تحيط بها.

* القيادة يجب ان تكون امتداداً لجهود القيادة السابقة وتمهيداً لانطلاق القيادة اللاحقة الجديدة.

* لن تحدث الثورة وتزول الوان الاستغلال والانحراف وتعيد المجتمع إلى وحدته الا باستئصال المشاعر التي خلفتها ظروف الاستغلال، واعتماد مشاعر واحاسيس جديدة تمثل الاحساس بالقيم الموضوعية للعدل والحق والقسط والايمان بعبودية الإنسان للباري عزّوجل[18] وهذا لا يتم الا بزوال التناقض بين مصلحة الإنسان الذاتية ومصالح الجماعة عن طريق السعي لهدف مشترك وعن طريق ايمان الإنسان بانه مشروع الهي في الارض لا ينتهي بالموت، فهناك المعاد والعقاب والثواب.

* مثلما نظم الباري عز وجل سيرة البشرية وجعلها تتعلم دوماً وتنقاد دوماً إلى الخطط الالهية، كذلك نظم قيادة البشرية من خلال خط الشهادة. فالارض لم تخل من شهيد سواء اكان نبياً أو إماماً، ام فقيهاً مرجعاً يكون امتداداً لخط الشهادة في مواصفاته لا في شخصه.

* قدم الإسلام نموذج القيادة المتكاملة التي استوعبته في موقع الخلافة البشرية الاول وفي مواقع الشهادة الممتدة عبر الزمن، وكانت الظروف المعقدة والمتشابكة التي واجهتها وشكل تحركها والمواقف التي اتخذتها وطاقات التحرك الهائلة التي تمتعت بها وقوّة اشعاعها الروحي على المجتمع جعلتها المثل الاعلى الذي يجب ان تحتذي به القيادة الإسلامية المعاصرة في انجاز الاهداف الملقاة على عاتقها.

على ضوء تلك الحقائق وضع الشهيد الصدر (رض) اطروحته في التغيير والتي تعتمد على ركيزتين كبيرتين من الفكر والعمل.

الاولى: التحرك العام في الاُمّة وتنهض به المرجعية الرشيدة أو الصالحة الجامعة لكل شرائط الفكر والوعي والتحرك.

الثانية: التحرك الخاص في الاُمّة وتنهض به الحركة الإسلامية المنضوية تحت لواء المرجعية والمتمثلة بالطلائع الواعية والطاقات الشابة لابناء الاُمّة المندفعين في حمل رسالة الإسلام والدفاع عنها في مختلف خطوط الصراع والمواجهة.

عادل الربيعي

[1] خلافة الإنسان وشهادة الانبياء، السيد محمد باقر الصدر ص10.

[2] اهل البيت تنوع ادوار ووحدة هدف، السيد محمد باقر الصدر ص41.

[3] المرسل، الرسول، الرسالة: السيد محمد باقر الصدر ص59.

[4] سورة الاحزاب آية 72.

[5] خلافة الإنسان وشهادة الانبياء، مصدر سابق، ص3.

[6] المصدر نفسه، ص16.

[7] سورة الإنسان، 3.

[8] المصدر نفسه، ص19.

[9] منابع القدرة في الدولة الإسلامية، السيد محمد باقر الصدر، ص4

[10] من اجل المزيد من التفاصيل، انظر اليوم الموعود، السيد محمد الصدر، ص417.

[11] الإسلام يقود الحياة، السيد محمد باقر الصدر، ص.

[12] اهل البيت تنوع ادوار ووحدة هدف، السيد محمد باقر الصدر، ص46.

[13] اهل البيت تنوع ادوار ووحدة هدف، مصدر سابق، ص56.

[14] اهل البيت تنوع ادوار ووحدة هدف، مصدر سابق ص77.

[15] من فكر الدعوة الإسلامية بقلم السيد محمد باقر الصدر، حلقة رقم 13، ص36.

[16] اهل البيت تنوع ادوار ووحدة هدف، مصدر سابق، مواضع متفرقة.

[17] أهل البيت.. تنوع أدوار ووحدة هدف، مصدر سابق، ص67.

[18] الإسلام يقود الحياة، السيد محمد باقر الصدر، ص157.