مجلّة المنهاج / 17
لم يكن السَّيِّد محمد باقر الصدر(قده) مرجعاً دينيَّاً تقليديَّاً اهتم بمسائل العبادات والمعاملات وحسب، بل كان إنساناً عالماً مطَّلعاً على مسائل العصر بمختلف أنواعها، فكتب في الفلسفة والمنطق ومنهجيَّة العلوم الاجتماعيَّة، كما كتب في الفكر السِّياسي والاجتماعي والاقتصادي، وفي علم المصارف والعلم الدستوري، فكان موسوعيَّاً متعمِّقاً بحق.
وإذا كانت جوانب فكره لا تزال تدرس، وستبقى كذلك إلى مدى زمني بعيد، فإنه يصبح من واجبنا الإسهام في إعطاء هذا الرَّجل الكبير حقَّه، وسنتناول، في الأسطر التالية، فكره في المجال السياسي والدُّستوري محاولين إلقاء نظرة متواضعة عليه.
تناول السَّيد الصَّدر هذه المسائل في فتوى أصدرها بناءً على طلب عدد من الأشخاص، كما بثّها في ثنايا كتاباته الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، فتحدَّث في الدَّولة وفي السِّياسة، والدُّستور عموماً والسُّلطات والنِّظام السِّياسي، وفي العلاقة بين السُّلطات، وفي المبادى الاقتصاديَّة السِّياسيَّة. وسنتناول هذه الجوانب في ما يأتي:
في الدَّولة ونشوئها
حاول الفكر السياسي، منذ وقت مبكّر، أن يدرس ظاهرة نشوء الدَّولة، وانقسم في هذا الموضوع انقساماً لا رأب له.
فقد ذهب ابن خلدون إلى أنَّ الملك يقوم على القهر والغلبة، حيث تتمكَّن عصبيَّة، في صراع العصبيَّات، من إخضاع عصبيَّات أخرى، فتقيم دولتها على أنقاض سلطات تلك العصبيَّات. وهو بهذا يحاول تعميم الدَّولة القبليَّة على المكان والزمان. ولا يخفى ما في هذا الأمر من تعسّف في الاستنتاج. ذلك أنه إذا كان الكثير من الدُّول قد قام على هذا النَّحو، خصوصاً في الماضي، فإنَّ الدُّول القائمة اليوم لا تقوم غالباً على هذا الأساس.
كما ذهب عدد من المفكِّرين الأوروبيِّين إلى أنَّ الدَّولة قامت على أساس العقد الاجتماعي بين المجموعات البشريَّة التي تضمُّها، بحيث تخلَّى كل إنسان ممَّن كان يعيش في حالة الطَّبيعة عن جزء من سيادته لصالح سلطة تحكم الجميع باسم الجميع. غير أنَّ هذا الزَّعم لا يمكن البرهنة على صحته، بل حتَّى أنَّ أصحابه، وفي مقدَّمهم جان جاك روسُّو، يرون أن هذا الحلَّ هو حلٌّ منطقي وإن لم يجد له أمثلة عبر التَّاريخ.
وذهبت الماركسيَّة إلى أنَّ الدَّولة أقامتها الطَّبقة المسيطرة المستغِلَّة بعدما انقسم المجتمع إلى طبقات إحداها مهيمنة والأخرى مغلوبة مستغلَّة.
وقد نشأ انقسام المجتمع إلى طبقات، حسب وجهة النَّظر الماركسيَّة، في المرحلة التي حلّت فيها أدوات الإنتاج المعدنيَّة مكان الأدوات الحجريَّة والخشبيَّة؛ وذلك في حفر الأرض وفي الصَّيد، الأمر الذي أدَّى إلى زيادة في الإنتاج، فحصل فائض ولو محدود عن حاجة المنتجين، الأمر الذي سمح بانتزاعه، وقد انتزعه أفراد أقوياء مادِّياً أو معنويَّاً، وشكّلوا طبقة مستغِلَّة وحوّلوا المنتجين العاملين إلى طبقة مستغَلَّة.
ولمَّا كانت الطَّبقة المستغِلَّة لا تستطيع إدامة سيطرتها إلاّ بتنظيمها على أساس سند من القوَّة، فقد أنشأت الدَّولة بجهازها القمعي من شرطة ومحاكم وسجون لتنظيم قمع الطَّبقة الدُّنيا واستغلاله.
غير أنَّ ما تذهب إليه الماركسية، وإن كان مبنيَّاً بشكل منطقي ظاهريَّاً، إلاّ أنَّه لا يستند إلى وقائع يمكن إثباتها من النَّاحية التَّاريخيَّة.
ولمَّا كانت جميع هذه النظريَّات متهافتة إذا ما حاولنا تعميمها، فإن السَّيد الشَّهيد يدحضها جميعاً، ويرى أن الدَّولة قامت على أساس ديني، ولكن ليس بالطَّريقة التي كانت تعرضها الكنيسة في أوروبا عندما كانت تدعم الملكيَّة الاستبداديَّة التي تقوم على الحقِّ الإلهي، وتعدّ الملك ظلَّ اللَّه على الأرض، وأنه بالضَّرورة مفوَّض من اللَّه عزّ وجلّ، كما تدعم النِّظام الإقطاعي، بل على أساس من استقراء التَّاريخ.
يقول السَّيد الشَّهيد: «فمن ناحية تكوّن الدَّولة ونشوئها تاريخياً، نرفض إسلاميَّاً نظريَّة القوَّة والتغلُّب، ونظرية التفويض الإلهي الإجباري، ونظرية العقد الاجتماعي، ونظرية تطوُّر الدَّولة عن العائلة، ونؤمن بأنَّ الدَّولة ظاهرة نبويَّة، وهي تصعيد للعمل النَّبوي بدأت في مرحلة معيَّنة من حياة البشريَّة»[2].
فالنَّبي موسى(عليه السلام) الذي قاد بني إسرائيل من مصر أسّس لهم دولة. والنَّبي محمد(صلي الله عليه و آله و سلم) أسّس دولة في المدينة المنوّرة، وكانت الدَّولتان أساساً لقيام دول لمدَّة طويلة من الزَّمن، ولعلّه لو كشف المزيد من أسرار التاريخ لاتّضحت هذه المسألة أكثر فأكثر. إذ إن المعروف اليوم أنَّ الأمبراطوريات وسائر الدُّول التي كانت قائمة في العهود الغابرة، من مصر إلى بلاد الرَّافدين إلى اليونان، كانت دولاً قائمة على الدِّين والسِّحر؛ الأمر الذي ـ يسمح بعدم استبعاد أساس ديني حقيقي لها قبل أن تؤول إلى ما آلت إليه؛ وذلك بناءً على النَّظريَّة الدِّينية القائلة إنه لم يخلُ زمان من نبي ورسالة سماوية، عملت فيها أيادي التَّحريف بعد وفاة الرَّسول.
السُّلطة والدَّولة
ترى النَّظريَّات السِّياسيَّة الحديثة أنَّ السُّلطة في الدَّولة مستمدَّة من البشر سواء بوصفهم أمماً أو شعوباً. فمن يأخذ بنظرية سيادة الأمَّة يرى أنَّ السُّلطة للأمَّة بوجودها التَّاريخي الممتدّ من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، وبهذا يمكن أن تتجسَّد في ملك أو رئيس أو امبراطور.. دونما فرق.
أمّا من يأخذ بنظريَّة الشَّعب فيرى أنَّ السُّلطة للأجيال الحاضرة من دون السَّابقة، فيخلّصها من أثقال الماضي، ويتطلّع حسب زعمه إلى المستقبل.
إلاّ أنَّ النَّظريَّتين تُسْتَخدمان لتسويغ أنظمة حكم معينة، سواء منها الاستبداديَّة أم الديمقراطيَّة، ولا تعنيان أبداً التزاماً حرفياً بمقتضياتهما. إذ نادراً ما نرى الشَّعب يمارس سلطة، فهو يكتفي بالمظاهر الشكليَّة لتفويض السُّلطة، في الانتخابات، ذلك التفويض الذي هو في الحقيقة عقد بين القوى الفاعلة من التروستات الماليَّة والصناعيَّة والعسكريَّة وبين الحكَّام الذين هم في الواقع وكلاء لهذه القوى. ألم يقل إيزنهاور، بعد مغادرته البيت الأبيض سنة 1960، إنه اكتشف أنَّ أميركا يحكمها مركّب عسكري ـ صناعي؟
أمّا في الإسلام، فإنَّ مصطلحي الأمَّة والشَّعب لا يحملان المعاني نفسها التي حُدِّدت لهما في الغرب، وعندما نتحدَّث عن الأمَّة، نعني المجموعة الإسلاميَّة؛ والأمَّة، بهذا المعنى، تعني الشَّعب، كما هو مستخدم في الغرب، ولا يمكن أن تستخدم سيادة الأمَّة مسوّغاً لحكم استبدادي ولا سيادة الشعب للتَّدليل على نظام حكم مختلف.
أمَّا الكنيسة فقد كانت، في القرون الأوروبية الوسطى، تؤمن بأنَّ مصدر السُّلطة هو العناية الإلهيَّة، ولكنَّها كانت تزعم أنها مفوّضة إلى الملوك الاستبداديين، الذين يشكِّلون قدراً بالنِّسبة إلى الشُّعوب، فإن كان الواحد منهم صالحاً فهو رحمة من اللَّه، وإن كان ظالماً فهو عقوبة ينزلها اللَّه بهم لسوء سلوكهم.
أمَّا السيّد محمَّد باقر الصَّدر فيرى أنَّ الإسلام يقضي بأن يكون مصدر السُّلطة إلهياً، ولكن السُّلطة تؤول إلى الشعب، وهكذا فهو يؤكِّد:
أنَّ اللَّه، سبحانه وتعالى، هو مصدر السُّلطات جميع.
وهذه الحقيقة الكبرى، تعدّ أعظم ثورة أعلنها الأنبياء ومارسوها في معركتهم من أجل تحرير الإنسان[3] وهذه السِّيادة للَّه، تعالى، التي دعا إليها الأنبياء تحت شعار: «لا إله إلاّ اللَّه» تختلف اختلافاً أساسياً عن الحقِّ الإلهي الذي استغلّه الطُّغاة والملوك والجبابرة قروناً من الزَّمن للتحكّم والسَّيطرة على الآخرين، فإنَّ هؤلاء نسبوا السيادة إسمياً للَّه لكي يحتكروها واقعيَّاً وينصّبوا من أنفسهم خلفاء للَّه على الأرض[4].
أمَّا في الإسلام فإنَّ اللَّه أسند ممارسة السُّلطة، وهي منبثقة من السِّيادة، إلى الأمَّة؛ وذلك في المجالين: التَّشريعي والتَّنفيذي، وأن السُّلطتين: التَّشريعيَّة والتَّنفيذيَّة قد أسندت ممارستهما إلى الأمَّة، فالأمَّة هي صاحبة الحق في ممارسة هاتين السلطتين… وهذا الحقُّ حق استخلاف ورعاية مستمدّ من مصدر السلطات الحقيقي، وهو اللَّه تعالى[5].
وحقُّ الاستخلاف هذا يجعل الأمَّة مسؤولة عن إنفاذ حكم اللَّه تعالى ونشر العدل والقسط. وهذا ما يبيّنه السَّيد الشَّهيد بقوله: أمَّا «حكم الجماعة القائم على أساس الاستخلاف فإنَّه حكم مسؤول، والجماعة فيه ملزمة بتطبيق الحقّ والعدل ورفض الظُّلم والطُّغيان، وليست مخيّرة بين هذا وذاك»[6].
ومن هنا فعليها تطبيق الشَّريعة الإسلاميَّة السمحة، سواء في الدُّستور أم في سائر القوانين. إذاً هي ليست مطلقة الصلاحية في هذا المجال، بحيث تستطيع اعتماد ما تشاء من قوانين؛ لأن اللَّه تعالى يكون في هذه الحالة قد أصبح حيادياً، وهو الذي يريد أن يتمَّ نوره. من هنا كان على الأمَّة أن تمارس الصَّلاحيَّة في ظلِّ الدُّستور، وهذا الدُّستور يجب أن يستمدّ من الشَّريعة الإسلاميَّة كما سائر القوانين. يقول السَّيد الشَّهيد: «وما دام اللَّه تعالى هو مصدر السلطات، وكانت الشَّريعة هي التعبير الموضوعي المحدّد عن اللَّه تعالى، فمن الطبيعي أن تحدّد الطريقة التي تمارس بها هذه السلطات عن طريق الشريعة الإسلاميَّة».
إنَّ الشَّريعة الإسلاميَّة هي مصدر التشريع بمعنى أنها هي المصدر الذي يستمدُّ منه الدُّستور وتشرَّع على ضوئه القوانين في الجمهوريَّة الإسلاميَّة[7].
غير أنَّ أحكام الشَّريعة ليست موضع اتفاق في جميع الأمور، ولا سيّما في الجوانب التَّفصيليَّة للمسائل، فما هو الموقف عندما تكون السُّلطة الحاكمة حيال موضوع من هذا النوع؟
يميّز السَّيد الصَّدر هنا بين ثلاث حالات للشَّريعة، فيرى أنَّ هناك أحكاماً ثابتة واضحة لا يمكن إلاّ الالتزام بها حرفيَّاً، وهناك أحكام يختلف حولها الفقهاء، كما أنَّ هناك حالات لم تُسْتَخرج أحكامها بعد، ولكلٍّ من هذه الحالات يحدّد السَّيد الشَّهيد موقفاً، فهو يرى:
أولاً: إنَّ أحكام الشَّريعة الثَّابتة بوضوح فقهي مطلق تعدّ، بقدر صلتها بالحياة الاجتماعية، جزءاً ثابتاً في الدُّستور، سواء نصَّ عليه صريحاً في وثيقة الدُّستور أم ل.
ثانياً: إنَّ أيَّ موقف للشَّريعة يحتوي على غير اجتهاد، يعدُّ في نطاق البدائل المتعدِّدة من الاجتهاد المشروع دستورياً، ويظل اختيار البديل المعيّن من هذه البدائل موكولاً إلى السُّلطة التَّشريعيَّة التي تمارسها الأمَّة على ضوء المصلحة العامة.
ثالثاً: في حالات عدم وجود موقف حاسم للشَّريعة، من تحريم أو إيجاب، يكون للسُّلطة التشريعيَّة التي تمثِّل الأمَّة أن تسنّ من القوانين ما تراه صالحاً[8] .
وإذا كان ظاهر الفقرتين: ثانياً وثالثاً إنَّما يقصر الأمر على القانون العادي، فإنَّنا لا نرى مانعاً من أن ينطبق على القانون الدُّستوري أيضاً، بل لعلَّ هذا ما أراده أيضاً السَّيد الشَّهيد، لأنه في الفقرة أولاً عدّ الأحكام الشرعيَّة الثابتة جزءاً من الدُّستور، فمن أين يؤتى بالجزء الثَّاني؟ والحل هو في ثانياً وثالث.
الشَّعب والحكَّام
إذا كان اللَّه، تعالى، قد أوكل السُّلطة إلى الأمَّة، فإنَّ الأمَّة لا بدّ لها من تكليف أعضاء منها بممارسة السُّلطات، وهؤلاء الأعضاء سيكونون الحاكمين. ولمّا كان الحاكم عادةً يجنح إلى المبالغة في التسلُّط، الأمر الذي يجرّ القمع والاستبداد، كان لا بدّ هنا من الاحتياط حفاظاً على ملكيَّة الأمَّة للسِّيادة المفوّضة إليها من اللَّه تعالى.
في الأنظمة الوضعيَّة، عانت الشعوب من التسلّط والقهر آلافاً من السنين حتَّى توصّلت إلى شيءٍ من الحلول.
– في السَّابق، كان الحكّام، من الملوك أو الأباطرة أو السَّلاطين، يمارسون سلطة مطلقة مدّعين الألوهيَّة أو النِّيابة عن الإله، الأمر الذي يسمح لهم بالتحكّم بالأرواح والحرِّيات والأرزاق، تشهد بذلك معطيات التاريخ من جهة والآثار العمرانيَّة الضخمة من جهة ثانية، فالقلاع والمعابد، من قلعة بعلبك إلى أهرام مصر إلى أكروبول اليونان…، تدلُّ دلالة واضحة، وهي التي استنفدت مجهودات مئات الآلاف من البشر بالضَّرورة، نظراً لبدائيَّة الوسائل، على تملّك الحكام لمجهودات الناس وقوّة عملهم، الأمر الذي أدّى إلى استعبادهم ودفعهم إلى أعمال السّخرة، إضافة إلى الأرواح التي كانت تزهق في الحروب الخاصَّة التي كانت تثيرها المطامح والمطامع، تلك الحروب التي كانت تلتهم في ما تلتهم ثروات الشُّعوب من أموال خاصَّة وعامَّة.
ومنذ ذلك الوقت، والشُّعوب تناضل للخلاص من النِّير ولم تحقّق نتائج معقولة إلاّ في العصور الحديثة؛ حيث أخذت تختار ممثِّليها ليناقشوا الضَّرائب التي تفرض عليها وليشرّعوا لها في عمليَّة حدٍّ من سلطات الملوك والسلاطين. وهكذا فقد جرى تبنّي إعلانات ومواثيق تتعلّق بحقوق الإنسان منذ نهايات القرن الثامن عشر حتى أيَّامنا هذه.
أمّا الإسلام فقد قيّد سلطة الحاكم من الأساس بحيث يحكم بما أنزل اللَّه، فحمى حياة الإنسان منه كما حمى حرِّيته وماله. وفي ما يخصّ الحرِّيات المعروفة اليوم تقليدياً، فإنَّ السيِّد محمَّد باقر الصَّدر، وبخلاف العديد من الفقهاء المسلمين، يرى واجب منح الإنسان المسلم حقوقاً واسعة في مجال حماية بدنه وحريَّة حركته وإبداء رأيه وعمله السياسي كما في مجال المساواة وتأمين لقمة العيش.
ينطلق السَّيد محمَّد باقر الصَّدر، على هذا الصَّعيد، من كون العبوديَّة هي للَّه وكون عبادة الأشخاص محرّمة مطلقاً، فعمليَّة الاستخلاف، كما يرى السَّيد الصَّدر «تعني، أوَّلاً، انتماء الجماعة البشريَّة إلى محور واحد وهو المستخلف، أي اللَّه سبحانه وتعالى الذي استخلفها على الأرض بدلاً من كلِّ الانتماءات الأخرى، والإيمان بسيّد واحد ومالك واحد للكون وكل ما فيه»[9].
ومن هنا فإنَّ العلاقات الاجتماعيَّة لا بدّ من أن تقوم، على أساس العبوديَّة المخلصة للَّه وتحرير الإنسان من عبوديَّة الأسماء التي تمثِّل ألوان الاستغلال والجهل والطَّاغوت»[10].
وهذا التَّحرير لا بدَّ من أن يتمظهر، في ما يتمظهر به، في حريَّات يمثّل عليها السَّيد الشَّهيد بالمساواة وحرية الفكر وحرية إبداء الرأي وممارسة الشعائر الدينيَّة والعمل السياسي للمسلمين ولغير المسلمين، – في هذا يقول السَّيد الصَّدر: «وتعني هذه الحقيقة (كون اللَّه مصدر السُّلطات) أنَّ الإنسان حرّ ولا سيادة لإنسان على إنسان آخر، ولا لطبقة أو لأيِّ مجموعة بشرية عليه، وإنَّما السِّيادة للَّه وحده، وبهذا يوضع حد نهائي لكل ألوان التحكّم وأشكال الاستغلال وسيطرة الإنسان على الإنسان»[11]. ويؤكِّد الشَّهيد الصَّدر الحرِّية في معرضٍ آخر، فيقول: «إنَّ الأمَّة.. هي صاحبة الحقِّ في الرعاية وحمل الأمانة وأفرادها جميعاً متساوون في هذا الحق أمام القانون، ولكلٍّ منهم التعبير من خلال ممارسة هذا الحق عن آرائه وأفكاره وممارسة العمل السياسي بمختلف أشكاله، كما أن لهم جميعاً حق ممارسة شعائرهم الدِّينيَّة والمذهبيَّة».
ويضيف السيّد الشهيد: «وتتعهَّد الدَّولة بتوفير ذلك لغير المسلمين من مواطنيها الذين يؤمنون بالانتماء السياسي إليها وإلى إطارها العقائدي، ولو كانوا ينتسبون دينياً إلى أديان أخرى»[12].
أمَّا ما يتعلّق بالحرِّيات البدنيَّة، ومنها الحق بالحياة وحرمة المنزل والمراسلات فالشريعة كفيلة بحمايته.
أمَّا ما عرف، بعد الحرب العالميَّة الأولى خصوصاً، من حرِّيات اقتصاديَّة واجتماعيَّة كحقّ العمل والضمان الاجتماعي ومجانيَّة التعليم، فقد تجاوزه الإسلام كما يؤكِّد السَّيد محمَّد باقر الصَّدر، فهو يرى:
أنَّ الدَّولة يجب أن تلتزم «بتوفير العمل في القطاع العام لكلِّ مواطن وبإعالة كل فرد غير قادر على العمل أو لم تتوفر له فرصة العمل. وتقوم بجباية الزَّكاة لتوفير صندوق للضَّمان الاجتماعي، كما أنها تخصِّص خمس عائدات النفط وغيره من الثروات المعدنيَّة للضمان الاجتماعي وبناء دور سكن للمواطنين وفق تنظيم تضعه الدَّولة».
وتلتزم الدَّولة بالإنفاق من واردات القطاع العام على التعليم مجاناً وفي جميع مراحله وعلى الخدمات الصِّحية مجاناً وبجميع أشكالها على نحو يوفر لكلِّ مواطن القدرة على الاستفادة من المجال التعليمي والصحّي من دون مقابل وفقاً لنظام معيَّن تقرّره الدولة.[13]
على أنَّ السَّيد الصَّدر يرى، إضافةً إلى ذلك، ضرورة إلغاء الفوارق الفاحشة بين مستويات المعيشة للمواطنين، فهو يرى:
«أنَّ مستوى معيشة الفرد يجب أن لا يتجاوز بصورة حادة مستوى الرخاء العام للجميع، وللدولة تقدير ذلك والقيام بما يكفل عدم الإسراف»[14]
والرَّخاء العام الذي يرى السَّيِّد الصَّدر ضرورة تأمينه هو ذلك الذي يرتفع بدخل الفرد من الطَّبقات الدُّنيا إلى المستوى الذي يستغني به، ويستشهد على ذلك بحديث جاء على لسان الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) يقول فيه: «إن الوالي يأخذ المال فيوجِّهه الوجه الذي وجّهه اللَّه له على ثمانية أسهم للفقراء والمساكين يقسمها بينهم بقدر ما يستغنون في سنتهم بلا ضيق ولا تقية…»[15].
نظام الحكم الإسلامي
يتفرّد نظام الحكم الإسلامي، كما يرى الشَّهيد الصَّدر، من أنظمة الحكم الأخرى، بأنَّه لا تنطبق عليه المواصفات التقليديَّة المتعارف عليها، فلا هو حكم ليبرالي يؤمِّن مصالح الفرد حتَّى ولو على حساب مصالح الجماعة، تاركاً الحبل على الغارب للمنافسة التي يسحق فيها القويُّ الضَّعيف وتدمِّر المؤسسة الكبرى المؤسَّسات الصَّغيرة، ويعترف للفرد بحرِّيات لا يستطيع ممارستها إلاّ الأقوياء المتموِّلون. ولا هو اشتراكي يحرم العامل من ثمرة عمله بحيث تكون جميع وسائل الإنتاج مملوكة للمجتمع وفي الواقع للدَّولة، فيصبح كل إنسان مجرّد موظّف ينال الأجر نفسه سواء عمل بجدّ وإخلاص أم تهاون وتكاسل أو تهرَّب.
ولا هو بالطَّبع نظام فاشي يصادر الحرِّيات ويتجاهل الجمهور العريض من المواطنين، ويزعم أنَّ هناك نخبة تتميّز تكوينيَّاً عن الناس الذين يأتون في مرتبة وسطى بينها وبين الحيوانات.
وهكذا فنظام الحكم الإسلامي ليس فردانياً ولا مكيانياً (توتاليتاريَّة)، بل هو نظام الموازنة بين الفرد والمجتمع الذي لا تقوم فيه مصلحة المجتمع بمواجهة مصلحة الفرد؛ بل إنَّ مصلحة المجتمع هي مجموع مصالح الأفراد. يقول السَّيِّد الشَّهيد:
«ومن ناحية وظيفة الدَّولة نرفض إسلاميَّاً المذهب الفردي أو مذهب عدم التدخُّل المطلق (للدَّولة) (أصالة الفرد) والمذهب الاشتراكي أو أصالة المجتمع، ونؤمن بأنَّ وظيفتها تطبيق شريعة السماء التي وازنت بين الفرد والمجتمع وحمت المجتمع، لا بوصفه وجوداً هيغلياً مقابلاً للفرد، بل بقدر ما يعبّر عن أفراد وما يضم من جماهير تتطلّب الحماية والرعاية[16].
وهكذا فإنَّ النِّظام الاقتصادي الإسلامي يقوم على قطاع عامّ أساسي إلى جانب القطاع الخاصّ. فالقطاع العام يشمل «جميع مصادر الثروة الطبيعيَّة» بينما «يكتسب الأفراد الحقوق الخاصَّة بالانتفاع بها على أساس العمل»[17]. وهكذا فإنَّ الملكيَّة الخاصَّة تقوم على أساس العمل. «إنَّ الثروة المنتجة ملك العامل المنتج، وهذه الملكيَّة تقوم على أساس العمل»[18] وبهذا يتميّز النِّظام الاقتصادي الإسلامي من النِّظام الرأسمالي الذي تصبح فيه الثروة المنتجة ملكاً لصاحب رأس المال ومن النظام الاشتراكي الذي تصبح فيه الثروة المنتجة ملكاً للمجتمع.
كما يتميَّز النِّظام الإسلامي في الاقتصاد بوضع حدّ لهيمنة المال وللإثراء بوساطة المضاربات الماليَّة التي تستشري اليوم في ظلِّ العولمة، بحيث يتم إحراز الثروات الخياليَّة بوساطة تجارة المال، فالنّظام الإسلامي «يمنع ادّخار النقد واكتنازه»[19] كما أنَّ العمل يتجه «لمنع أيّ كسب تولّده الأثمان الاحتكاريَّة للنقد بما في ذلك الفوائد الربويَّة»[20].
أمَّا أسلوب ممارسة الأمَّة لمسؤولياتها واتخاذها القرارات والمواقف ترجمة لخلافتها الصَّادرة من اللَّه، فهو يقوم على أساس الشُّورى والولاية، فهي تمارس «أمورها عن طريق الشُّورى ما لم يرد نصٌّ خاص على خلاف ذلك»، والشُّورى تعتمد «جميع النقاط الإيجابيَّة في النظام الديمقراطي مع فوارق تزيد الشكل موضوعيَّة وضماناً لعدم الانحراف»[21]. ومن هنا فهي لا يمكن أن تتطابق مع أيٍّ من النُّظم التي تدّعي الديمقراطية وإن تمسَّكت بالنقاط الإيجابية فيها كما يرى السَّيد الشَّهيد.
أمّا الولاية فيراد بها «تولِّي (كل مؤمن) أموره بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر عليها، والنَّصُّ ظاهر في سريان الولاية بين كل المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية»[22]
وحدة السلطات أم فصلها
رأينا أنَّ النَّظريَّات المتعلّقة بالسُّلطة، في العصر الحديث، ترى أنَّ مصدر السُّلطة بشري، الأمة أو الشعب، وأنها تفوّض بطريقتين:
1ـ إمَّا مجزَّأة بحيث يتولّى رئيس الدَّولة والحكومة سلطة التنفيذ بما هي تطبيق للقوانين وتفصيل لها وإدارة البلاد. ويتولّى البرلمان سلطة التَّشريع بما هي وضع للقواعد الحقوقية العامّة والشاملة، فيما تتولّى المحاكم سلطة القضاء التي تعني تطبيق الأحكام القانونية على النزاعات بين المواطنين بعضهم مع بعض أو مع السلطة نفسه.
2ـ وإمَّا موحّدة بحيث تختار الأمة مجلس النُّوَّاب وتفوّض إليه السلطات جميعاً، ثم يختار هذا المجلس الهيئة التنفيذية ويفوّض إليها جزءاً من الصَّلاحية، كما ينتخب الدرجة العليا من الجهاز القضائي ويفوّض إليه الصلاحية القضائيَّة.
بالطَّريقة الأولى يجري إنشاء نظامين سياسيَّين:
الأوَّل: النِّظام النِّيابي الذي يقيم توازناً بين السُّلطة التَّشريعيَّة والسُّلطة التنفيذيَّة فيما هما منفصلتان، ويقيم توازناً بينهما من طريق وسائل ضغط تمتلكها كل سلطةٍ في مواجهة الأخرى. فمجلس النوَّاب يسحب الثقة من الحكومة فيسقطها، والسلطة التنفيذية تستطيع بالمقابل حلَّه لاستبداله بوساطة الاقتراع الشعبي بمجلس جديد.
الثاني: النِّظام الرئاسي الذي يقوم على فصل مشدّد للسلطات، بحيث تلتزم كل منها صلاحيات خاصة، دونما وسائل للضغط على الأخرى من مثيل تلك الموجودة في النظام النِّيابي.
وبين النِّظام النِّيابي والرئاسي يقوم نظام يعرف بالنِّظام «شبه الرِّئاسي»، وهو نظام نيابي ينتخب فيه رئيس الدولة من الشعب مباشرة ويمارس صلاحيات حقيقية في حين أن الرئيس في النظام النِّيابي ينتخب من قبل النواب ولا يمارس إلاّ صلاحيات بروتوكولية. ويختلف هذا النظام عن النظام الرئاسي بوجود أساليب التعاون ووسائل الضغط بين السلطات على غرار النظام النِّيابي.
وبالطريقة الثَّانية يقوم النِّظام النِّيابي بنسختيه: الليبراليَّة والاشتراكيَّة.
أمَّا النِّظام الإسلامي، كما يحدّده السَّيد الشَّهيد، فيقوم على بناء مختلف عن كلِّ ما سبق، وهو بناء متفرّد لم تعرف البشرية نسخة منه في تاريخه.
فالسُّلطة في هذا النِّظام يمتلكها اللَّه تعالى، وهو يكلّف الأمَّة بممارستها في ظلِّ شريعة إلزاميَّة على الأمَّة التَّقيُّد بها، أي أنَّ اللَّه تعالى يفوّض إلى الأمَّة سلطة جزئية هي سلطة إقامة حكمه في الأرض. فالأمَّة «ليست هي صاحبة السلطان وإنما هي المسؤولة أمام اللَّه سبحانه وتعالى عن حمل الأمانة وأدائها»[23]، وهي تمارس السُّلطتين: التشريعيَّة والتنفيذيَّة بالطريقة التي يعيّنها الدستور[24] والدُّستور مستمدّ من الشريعة الإسلامية[25] فالأمَّة إذاً مقيّدة بالشَّريعة.
والأمّة تفرز بالاختيار الطَّبيعي قيادتها بعد النبي والأئمة(عليهم السلام) المتمثّلة بالمرجعيَّة، فالمرجعيَّة «حقيقة اجتماعية موضوعية في الأمَّة تقوم على أساس الموازين الشَّرعيَّة العامَّة»[26].
وإذا كانت الأمَّة هي صاحبة الحقِّ في الرِّعاية وحمل الأمانة، فإنَّ المرجعيَّة الرَّشيدة هي المعبّر الشرعي عن الإسلام، والمرجع هو النائب العام عن الإمام من الناحية الشَّرعيَّة[27].
وبغية صيانة الإنسان من الانحراف وضع اللَّه، سبحانه وتعالى، «إلى جانب خطِّ الخلافة فخلافة الإنسان على الأرض- (وهي المفوّضة إلى الأمَّة) -خطَّ الشَّهادة الذي يمثّل التدخُّل الرَّبَّاني من أجل صيانة الإنسان الخليفة من الانحراف وتوجيهه نحو أهداف الخلافة الرَّشيدة»[28]، وخطُّ «الشَّهادة يتحمَّل مسؤوليَّته المرجع على أساس أنَّ المرجعيَّة امتداد للنبوَّة والإمامة على هذا الخط»[29].
ومن هنا فإنَّ الأمَّة تمارس مسؤوليَّاتها تحت رقابة المرجع وترشيده، بحيث يصبح الخطَّان قطبي النِّظام السياسي.
وإذا كان هناك من شبيه لهذه الحالة فهو ما يقوم في النُّظم المجلسيَّة الاشتراكيَّة؛ حيث يتولَّى الحزب دور المرشد، ولكن قيادة الحزب تمارس عملها على ضوء عقيدتها، وهي عقيدة وضعيَّة. وهكذا يمسي دور الأمَّة الاختيار وتفويض الصلاحيَّة ودور القائد المراقبة والتَّسديد.
أمّا اختيار القائد فيتمّ بناءً على تزكية الجهات الفاعلة فقهياً واجتماعياً وفكرياً، فإذا حاز التزكية عدد من الأشخاص، ممّن يحملون المواصفات، يعود عندئذٍ الاختيار للأمَّة، يقول السيد الشهيد: يجب «أن يرشِّحه أكثرية أعضاء مجلس المرجعية (الذي سنتحدَّث عنه في ما بعد) ويؤيّد الترشيح من قبل عدد كبير من العاملين في الحقول الدينية -يحدّد دستورياً- كعلماء وطلبة في الحوزة وعلماء وكلاء وأئمَّة مساجد وخطباء ومؤلِّفين ومفكِّرين إسلاميين.
وفي حال تعدّد المرجعيَّات المتكافئة من ناحية هذه الشروط يعود إلى الأمَّة أمر التعيين من خلال استفتاء شعبي عام»[30].
المؤسَّسات المنبثقة من الأمَّة
تشكّل الأمَّة ناخباً احتياطياً للمرجع، أي أنَّها تختاره عند تعدّد من تتوفر فيهم الصِّفات. وإلى هذا فإنَّ الأمَّة تختار رئيس السُّلطة التَّنفيذيَّة وكذلك تختار أعضاء السُّلطة التَّشريعيَّة.
رئيس السُّلطة التَّنفيذيَّة: يتمُّ اختياره بالانتخاب من قبل الأمَّة بناءً على ترشيح من المرجعيَّة يؤكّد انسجام سلوكه مع المعايير الدستورية ويعطيه توكيلاً مشروطاً بفوزه بأصوات النَّاخبين[31].
وبعد انتخابه يختار أعضاء حكومته. [32]وهذا يقتضي منطقيَّاً أن يكونوا مساعدين له، كما يحصل في النِّظام الرئاسي، حيث لا يشكِّل مجلس الوزراء هيئة ذات شخصيَّة معنويَّة، بل مجرّد «سكرتيرين» (أمناء) للرئيس الذي تناط به السُّلطة التنفيذية، وبهذا يقول السيد الشهيد: «تقترب الدولة الإسلاميَّة من النظام الرئاسي ولكن مع فوارق كبيرة»[33].
مجلس أهل الحلّ والعقد: وهو المجلس الذي يتولّى السُّلطة التشريعية، فيلتزم بالأحكام الثَّابتة ويختار من البدائل حين توفرها ويملأ منطقة الفراغ مع التزامه بالدستور كما رأين.
يعيّن أعضاء هذا المجلس بالانتخاب الشَّعبي المباشر.
أمّا صلاحيَّات هذا المجلس فهي، إلى جانب التشريع، كما بيّناه، «الإشراف على سير تطبيق الدُّستور والقوانين، ومراقبة السلطة التنفيذية ومناقشتها»[34].
المؤسّسات المعيّنة من المرجع
يعيِّن القائد مجلس المئة، ويقيم المحكمة العليا وديوان المظالم.
مجلس المئة: هو مجلس يعيّنه المرجع ليمارس مرجعيته بوساطته، وهو «يشتمل على عددٍ من أفاضل العلماء في الحوزة، وعددٍ من أفاضل العلماء الوكلاء، وعددٍ من أفاضل الخطباء والمؤلِّفين والمفكِّرين الإسلاميين، على أن يضمّ ما لا يقل عن عشرة من المجتهدين»[35].
المحكمة وديوان المظالم: ينشى المرجع محكمة عليا للمحاسبة في المجالات الدُّستوريَّة ودستوريَّة القوانين، كما ينشى ديواناً للمظالم في كلِّ البلاد لدراسة لوائح الشكاوى والمتظلمين وإجراء المناسب بشأنها[36].
وهكذا فإنَّ الأمَّة تختار مؤسَّستي السُّلطة التشريعية والتنفيذية فيما يعيِّن المرجع السلطة القضائية العلي.
وفيما يتولّى مجلس أهل الحل والعقد الأمور التشريعية يتولّى المرجع الأمور التأسيسية (أي المتعلِّقة بالدستور).
العلاقة بين السلطات
بقيت مسألة العلاقة بين السُّلطات من دون تفصيل عند الشَّهيد الصَّدر، وقد كان كلُّ عرضه موجزاً أساساً، وقد أشار إلى أنَّ هذه العلاقات تقرّب النِّظام السِّياسي الإسلامي من النِّظام الرئاسي وإن كان يختلف عنه اختلافاً أساسياً في مسألة الفصل بين السلطة التنفيذيَّة والسلطة التشريعيَّة. يقول السَّيِّد الشَّهيد: «ومن ناحية تحديد العلاقات بين السُّلطات تقترب الدَّولة الإسلاميَّة من النظام الرئاسي، ولكن مع فوارق كبيرة عن الأنظمة الرئاسيَّة في الدُّول الرأسماليَّة الديمقراطيَّة التي تقوم على أساس الفصل بين السُّلطة التَّنفيذيَّة والسُّلطة التَّشريعيَّة»[37].
ولعلَّ ما يقصده الشَّهيد الصَّدر بقوله هو أنَّ تركيب النِّظام وصلاحيَّات مؤسَّساته تقرِّبه من النِّظام الرئاسي؛ وذلك بسبب انتخاب الرئيس من الشعب كما رأينا سابقاً؛ الأمر الذي يجعله ممثِّلاً للدَّولة مستمدّاً شرعيَّة من دستورها أو من الأمَّة، وهذا ما يوضِّحه السَّيد الشَّهيد بالقول: «وكان التطبيق العملي للحياة الإسلاميَّة دائماً يفترض الدَّولة ممثّلة في رئيس يستمدّ شرعيَّة تمثيله من الدستور -النص الشرعي- أو من الأمَّة -الانتخاب المباشر- أو منهما جميعاً»[38].
وإذا كان السَّيد الصَّدر يذهب إلى هذا المعنى في تعبيره: «العلاقات بين السُّلطات»، فإنَّ العلم الدُّستوري اليوم يذهب إلى معنى آخر، وهو طبيعة الوسائل التي تمتلكها أيُّ سلطة في مواجهة السلطة الأخرى. فهذه العلاقة تقوم في النِّظام النِّيابي على التعاون والتوازن في وسائل الضَّغط، بينما تقوم في النِّظام الرئاسي، وكما يؤكِّد السيد الشهيد، على الفصل الحاد بين السُّلطات وعلى استقلاليتها، فيقوم بينها توازن سلبي، بحيث يمتنع على السلطة التشريعيَّة والسلطة التنفيذيَّة أن تتدخل أي منهما في شؤون الأخرى وتحرم كل منهما من وسائل الضغط السياسية تجاه الثانية. وهذا التوازن السلبي ناتج عن لعبة «الكبح والتوازن Checks and balance».
أمَّا في النِّظام الذي يطرحه السَّيد الصَّدر فإنَّ العلاقة، وبالمفهوم الدستوري الحديث، تختلف عن تلك القائمة في النظام الرئاسي، لأنه يعطي السُّلطة التشريعية المتمثّلة بمجلس أهل الحلّ والعقد صلاحية مراقبة السلطة التنفيذية. فمن بين الصَّلاحيات التي يرى أن مجلس أهل الحل والعقد يجب أن يتمتع بها:
«الإشراف على سير تطبيق الدُّستور والقوانين (وهذا التَّطبيق من صلاحيَّة السلطة التنفيذية) ومراقبة السلطة التنفيذية ومناقشتها»[39].
ولكن هل هذا يقرّب النظام الإسلامي من النظام النِّيابي؟
إنَّ النظام النِّيابي لا يكتفي بمنح السلطة التشريعية صلاحية مراقبة السلطة التنفيذية ومناقشتها، بل يتعدّى ذلك إلى حقّ محاسبتها وإسقاطها، تماماً كما يمنح السلطة التنفيذيَّة حقَّ الخلاص من مجلس النوَّاب والدعوة إلى انتخابات جديدة.
أمَّا النظام الذي يسمح بالمحاسبة والمناقشة من دون إسقاط للسلطة التنفيذيَّة فهو النظام المجلسي، ومن هنا فإنَّ نمط العلاقات بين السلطات بالمعنى الذي قصدناه هو نمط مجلسي على غرار ما هو معمول به في سويسرا حيث تمتلك الجمعيَّة الفيدراليَّة (البرلمان) حق المحاسبة Motion وطلب الإيضاحات Postulatبمواجهة المجلس الفيدرالي (السلطة التنفيذيَّة). كما تستطيع الجمعيَّة الفيدراليَّة أن تعبّر للمجلس في استجواب عن عدم ثقتها بنهجه، ولكن هذا لا يعني إجباره على الاستقالة، بل إلزامه بتغيير نهجه.
ضبط النظام La rgulation
يرى مونتسكيو أنَّ السُّلطة لا تحدّها إلاّ السُّلطة، فكلُّ سلطة لا تجد ما يردعها تتمادى متجاوزة الحدود، أي تقوم بما يسمَّى تجاوز حدّ السُّلطة، أو هي تجنح إلى الاستبداد والديكتاتورية. من هنا جهدت الأنظمة الوضعيَّة لإيجاد الوسائل الرَّادعة للسلطة، فكان فصل السُّلطات الذي يضع السُّلطة في مواجهة السُّلطة الأخرى سواء في النظام النِّيابي أم في النظام الرئاسي، أو هو يعتمد على المراقبة الشعبيَّة أو الحزبيَّة.
ولكنَّ الرَّدع في جميع هذه الحالات لا يقوم إلاّ على أسباب مصلحيَّة غالباً، بحيث لا تتحرّك السلطة عندما تتجاوز السلطة الأخرى صلاحياتها، بل تتحرَّك عندما يؤدِّي تجاوزها صلاحياتها إلى الإضرار بمصالحها أو بمصالح الجهات الفاعلة فيه.
أمَّا الاعتماد على المحكمة فدونه صعوبات. فالمحكمة تحاسب على خرق القانون بالمعنى الضيّق، ولا تحاسب على التجاوزات السياسيَّة. ثم إنَّ الحاكم الذي يجنح إلى الديكتاتوريَّة يمكنه أن يعطّل المحاكم. أمّا في النظام الإسلامي، فإنَّ الأمَّة ترى نفسها ملزمةً بتأدية رسالة تقوم على نشر حكم اللَّه من خلال شريعته ومبادئه ومفاهيمه. وهذا ما يوضحه السَّيد الشَّهيد بقوله:
«للجمهوريَّة الإسلاميَّة… أهداف تاريخيَّة بحكم رسالتها ومسؤوليتها العظيمة، وهي أهداف تقوم على أساسها خطوطها السياسيَّة ومناهجها في مختلف المجالات»[40].
أمّا عن كيفيَّة قيام الأمَّة بهذه المهمة القائمة على استخلاف اللَّه لها فإنَّ السَّيد الصَّدر يرى أنَّ سياسات الأمَّة ومناهجها تستهدف:
في الدَّاخل:
«تطبيق الإسلام في مختلف مجالات الحياة»[41].
«تثقيف المواطنين على الإسلام تثقيفاً واعياً وبناء الشَّخصيَّة الإسلاميَّة العقائديَّة في كل مواطن لتتكوَّن القاعدة الفكرية الراسخة…»[42]
في الخارج:
«حمل نور الإسلام ومشعل هذه الرِّسالة العظيمة إلى العالم كلّه.
الوقوف إلى جانب الحقِّ والعدل في القضايا الدَّوليَّة…
مساعدة كلّ المستضعفين والمعذّبين في الأرض ومقاومة الاستعمار والطُّغيان وبخاصَّة في العالم الإسلامي»[43].
وهكذا فإنَّ الأمَّة الإسلاميَّة لا تحرّكها المصالح الضيّقة الخاصة بل القضايا العامّة الدَّوليَّة التي تضعها في مواجهة الاستكبار والطَّاغوتيَّة.
«وحتَّى تتمكّن الأمَّة الإسلاميَّة من القيام بهذا الدَّور فإنَّها تعتمد على الإسلام الذي يغمرها بفكره وثقافته وشريعته، والذي يحفظه ويرشدها على خطّة المرجع الذي يجب أن يبلغ درجة الاجتهاد المطلق، وأن يكون خطُّه الفكري واضحاً في الإيمان بالدولة الإسلاميَّة وضرورة حمايتها»[44]وكي تتمكن الأمَّة من اختيار شخص يتحلّى بهذه المواصفات، فإنَّ الجهات التي تتولّى التَّرشيح مؤهَّلة لاكتشافها في العلماء وتشخيصها بحيث لا ترشِّح إلاّ من ترى أنَّها محقّقة فيه.
والجهات المرشِّحة هي الجهات الحريصة على الإسلام والعاملة على إقامة حكمه على الأرض، فهي تتكوَّن:
أوّلاً: من أكثريَّة أعضاء مجلس المرجعيَّة، وهو المجلس الذي يعيّنه المرجع السابق من أفاضل علماء الحوزة ومن أفاضل العلماء الوكلاء وعدد من أفاضل الخطباء والمؤلِّفين والمفكِّرين الإسلاميين على أن يضمّ ما لا يقل عن عشرة مجتهدين.
ثانياً: من عدد كبير من العاملين في الحقول الدِّينية[45].
الدكتور محمد طي[1]
[1] أستاذ في الجامعة اللبنانية
[2] محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، دار التعارف للمطبوعات، بيروت 1990، ص 23.
[3] المرجع نفسه، ص 17.
[4] المرجع نفسه، ص 18.
[5] المرجع نفسه، ص 19.
[6] المرجع نفسه، ص 126.
[7] المرجع نفسه، ص 18.
[8] المرجع نفسه، ص 18
[9] المرجع نفسه، ص 124
[10] المرجع نفسه، ص 125
[11] المرجع نفسه، ص 17
[12] المرجع نفسه، ص 21.
[13] المرجع نفسه، ص 54
[14] المرجع نفسه، ص 106.
[15] المرجع نفسه، ص 110
[16] المرجع نفسه، ص 23.
[17] المرجع نفسه، ص 82.
[18] المرجع نفسه، ص 90.
[19] المرجع نفسه، ص 103
[20] المرجع نفسه، ص 104.
[21] المرجع نفسه، ص 24
[22] إشارة إلى الآية الكريمة والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر {التوبة/71} المرجع نفسه، ص 153 .
[23] المرجع نفسه، ص 19
[24] المرجع نفسه.
[25] المرجع نفسه، ص 18
[26] المرجع نفسه، ص 20.
[27] المرجع نفسه، ص 20
[28] المرجع نفسه، ص 131.
[29] المرجع نفسه، ص 152.
[30] المرجع نفسه، ص 21.
[31] راجع: المرجع نفسه، ص 19 و20.
[32] المرجع نفسه.
[33] المرجع نفسه، ص 24.
[34] المرجع نفسه، ص 19 و20
[35] المرجع نفسه، ص 20.
[36] المرجع نفسه، ص 20
[37] المرجع نفسه، ص 24
[38] المرجع نفسه.
[39] المرجع نفسه، ص 19 و20.
[40] المرجع نفسه، ص 21
[41] المرجع نفسه.
[42] المرجع نفسه
[43] المرجع نفسه، ص 22 و126.
[44] المرجع نفسه، ص 21
[45] المرجع نفسه، ص 21.