السيد محمد باقر الصدر في ذكرى استشهاده

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

أقف إجلالاً في حضرة عظيم من عظماء هذه الأمة، وفي رحاب العلم والفقه والثورة والجهاد والشهادة.

ما كان الشهيد الصدر مجرد عالم مضى، مع أن جلالة العلم لا تنكر، ولا مجرد كاتب كتب وانتهى، وإنما جمع خصالاً عديدة، كل واحدة منها تكفي للدلالة على عظمته وسموه، فكيف إذا اجتمعت فيه خصلتان منهما. هذا هو حال العلماء الشهداء.

وإذا كان مداد العلماء أفضل عند الله تعالى من دماء الشهداء، فليس ذلك إلا لأن هذا المداد هو الذي يفجر تلك الدماء. فكيف إذا كتبت تلك المداد بالدماء أيضاً.

نتحدث عن الشهيد السيد محمد باقر الصدر، في ذكراه السنوية، علَّنا نقدم تحية طيبة لهذا الشهيد العظيم، محاولين إلقاء الضوء على قسط من سيرته، وفكره (قده). من أجداده آية الله العظمى السيد صدر الدين شرف الدين نور الدين الموسوي العاملي، ولد في قرية معركة من قرى جبل عامل في شهر ذي القعدة من العام 1193 هجري قمري. عاش في النجف الأشرف، وهاجر إلى أصفهان وغيرها من مواقع العلم، ثم عاد إلى النجف، وفيها توفي ودفن في العام 1264 هجري قمري. بلغ من العلم مرتبة عظيمة، قبل أن يبلغ سن التكليف، وتزوج ابنة الشيخ الأكبر صاحب كشف الغطاء،

فأولدت له السيد محمد علي فقط، وكان أحد أعمام الشهيد الصدر لأبيه.

ومن أجداده آية الله العظمى السيد إسماعيل الصدر نسبة إلى والده، بعد أن كانوا يُنْسبون إلى آل شرف الدين، وقبل ذلك إلى آل نور الدين. ولد في أصفهان سنة 1258 هجري قمري، ترك أصفهان في العام 1280 عائداً إلى النجف للدراسة عند علمائها الكبار، وقد بلغ في العلم مرتبة عظيمةً قبل أن يبلغ العشرين من عمره، وكان أحد مراجع التقليد في عصره، ثم استقر في سامراء بعد أن استدعاه أستاذه الميرزا المجدد الشيرازي، واستلم التدريس مكانه، بعد أن انشغل الأخير بمشاغل الحياة والمراجعات، ثم جاءته المرجعية بعد الميرزا الشيرازي، فلم يرغب بها فترك سامراء، وتوجه إلى كربلاء واستقر فيها، فالتحق به جملة من العلماء، مع أنه كان قد طلب منهم البقاء في سامراء، وفي العام 1334 انتقل إلى الكاظمية للعلاج من مرض ألمّ‏َ به، ثم توفي فيها. ومن طلابه الميرزا النائيني المعروف بين أهل العلم في إيران والنجف وفي كل مكان، والسيد عبدالحسين شرف الدين، وآخرين.

ووالده آية الله السيد حيدر الصدر، ولد في سامراء في جمادى الثانية من العام 1309، وهاجر إلى كربلاء مع والده سنة 1314. ثم عاد إلى الكاظمية وتوفي فيها في جمادى الثانية سنة 1356. تزوج إحدى بنات آية الله الشيخ عبدالحسين آل ياسين. خلف السيد حيدر ابنين وبنتا. وأما الابنان فهما السيد إسماعيل الصدر، وسيدنا الذي نتحدث عنه السيد محمد باقر الصدر. وأما الابنة فهي التي اشتهرت باسم بنت الهدى، الشهيدة مع أخيها، الشاهدة على أهل عصرها وبلدها، وقد درست الدراسات الحوزوية على يد أخيها الشهيد، حتى بلغت مرتبة عالية في العلم، وأشرفت على أربع مدارس دينية للبنات في الكاظمية والنجف والكوت، ولها مؤلفات عظيمة. وبهذا يتبين لنا أن الشهيد الصدر يرجع إلى السيد صدر الدين العاملي، وأمه عاملية أيضا من آل ياسين.

أما الشهيد الصدر فقد ولد في شهر ذي القعدة من العام 1353 في الكاظمية، تربى في كنف والدته بعد وفاة والده، وأشرف عليه أخوه السيد إسماعيل الصدر الذي ولد في العام 1340.

كان حاد الذكاء، وظهر ذلك عليه من أوائل عمره الشريف، وقد فاق كثيراً من أساتذته في فهم المطالب وتحليلها، حتى صار قدوة للآخرين من أترابه، على صغر سنه.

وكانت له حافظة كبيرة، وكان يلقي القصائد على المنابر الحسينية أيام عاشوراء، وكان يكفيه لحفظها أن يقرأ القصيدة خلال سيره من المدرسة إلى الصحن الشريف. احترمه كل من تعرف عليه، وأحبه كل من عاش معه. وبدا عليه الاهتمام بشؤون عصره وأحوال زمانه من حين كان فتياً، فكان يقرأ كل ما يطرحه الآخرون من أفكار وآراء تشد الشباب عن الإسلام، فيتفهمها ويعقد الاجتماعات مع طلاب العلم والشباب ويقوم بشرحها ونقدها ، مستفيدا من قراءاته الكثيرة في الماركسية، وما كتبه فيكتور هوغو، وغوته، وغيرهما من الفلاسفة المشهورين في زمانه.

لقد كان وهو في طفولته، وفتوته، يحمل أحلام الرجال، يتحلى بوقار الشيوخ. كان شغوفاً بالقراءة في شتى مناحي العلوم والحياة، من أدب أو اقتصاد أو فلسفة أو تاريخ فضلا عن العلوم الدينية. فماذا تقول فيه وقد طالع العشرات من المجلات والكتب حول الماركسية وهو في الصف الثالث الابتدائي، على ما حكاه أستاذه في تلك المدرسة، الذي بان له نبوغ عظيم في شرح الفلسفة الماركسية حتى يصرح أستاذه الذي كان يهيئ له الكتب، بأنه فهم منه ما أجمل عليه من تلك الفلسفة رغم قراءاته الكثيرة لها.

وهو مع ذلك متواضع لم يسع لإظهار تفوقه على غيره، ولا للتكبر على زملائه في المدرسة الإعدادية التي كان يدرس فيها، إضافة إلى دراساته الحوزوية في الأدب واللغة وسائر المقدمات. وكان إذا درس كتاباً قرأ ما أمكنه من كتب تتناول نفس الموضوع على صغر سنه، وهذه عادة من عادات الحوزات عموماً لكن الذين يلتزمون بها بشكل صحيح هم قلة، فكيف بمن لم يبلغ العشر سنوات من عمره. درس المنطق وله من العمر إحدى عشر سنة، وفي بداية السنة الثانية عشرة من عمره درس بعض الكتب الأصولية عند أخيه السيد إسماعيل الصدر. وفي العام 1365 هاجر من الكاظمية إلى النجف الأشرف مع أخيه السيد إسماعيل الذي توفي في العام 1388.

ودرس مع أخيه عند خاله الشيخ محمد رضا آل ياسين، والسيد الخوئي. وفي العام 1370، وبعد أن فرض نفسه في الدراسات الحوزوية، وظهر نبوغه فيها، أقر له العلماء بالاجتهاد، مع أنه قد يكون مجتهداً قبل ذلك، لأن الإقرار بصفة الاجتهاد يكون عادة بعد تحققها لا مقارنا له. ومع ذلك استمر بالدراسة عند السيد الخوئي حتى العام 1379. وكان يستثمر أغلب ساعات يومه في الدراسة والتحقيق، ولا يبقى للنوم ومتابعة سائر الشؤون إلا ثماني ساعات. ونشير هنا إلى انه تزوج من أخت الإمام السيد موسى الصدر ورزقه الله تعالى خمس بنات وإبنا واحداً اسمه جعفر.

بدأ بتدريس الأصول، على مستوى البحث الخارج في العام 1378، كما بدأ بتدريس الفقه على نفس المستوى في العام 1381. وله (قده) حكايات في الزهد والتقوى والنبوغ، لا مجال للتفصيل فيها، ويمكن لمن أراد المزيد من التفصيل الرجوع إلى الكتب المفصلة، وأهمها ما كتبه تلميذه السيد كاظم الحائري في مقدمة كتابه مباحث الأصول. وقد آن الأوان لبيان جانبين من شخصيته العظيمة: الجانب الثوري، والجانب الفكري وجملة من آرائه البارزة. وقبل الدخول في ذلك، يحلو للكثيرين أن يجروا مقارنة بين الشهيدين السيد محمد باقر الصدر من جهة، والشيخ مرتضى المطهري من جهة أخرى. وقد أطنب الكثيرون في هذه الجهة، فبرز جماعة رجحوا الأول على الثاني، وبرزت جماعة أخرى رجحت الثاني على الأول. وكنت في فترة من الزمن ميالاً للرأي الثاني، لكنني بعد التأمل، وبذل جهد في التدقيق رجحت الرأي الأول. ولا يهمني هنا الخوض في هذه القضي، فهي ليست ذات قيمة، فكلاهما شهيدان عظيمان، كان لهما الأثر الكبير في بناء الأجيال، وفي إزاحة الكثير من الشبهات عن درب الشباب في مجال العقيدة والفقه. إلا أن الظروف ظلمت الشهيد الصدر، وهو ما لم يلقه الشهيد المطهري. فالشهيد المطهري شاهد انتصار الثورة، وقد عاش كل الظروف التي تسمح للآخرين بالاطلاع على فكره، ورؤاه، وحياته السياسية. بينما الشهيد الصدر لاقى غربة لم استطع تفسيرها حتى الآن، وهو ما زال غريباً، ولم يلق الاحتفائية المطلوبة، ولا الاعتراف الصريح بمقامه الشامخ، وقدراته العظيمة، وما زال الجهد الذي بذله طلابه، ومحبوه لا يلقى التجاوب المطلوب. ولا بد أن يأتي اليوم الذي تظهر فيه عظمته لكل باحث عن العظمة، ويقر له بالفضل الذي ساهمت في عدم ظهوره كما يجب الكثير من الظروف، ومنها معاندة أهل عصره، وأهل بلده تجاه تياره، فتركوه وحيداً غريباً، يلاقي نهايته السعيدة، وهم في ذل وهوان. لقد دفع الشهيد الصدر ثمن هوان عامة قومه، على الرغم من ثلة كانت معه كما كان ، مثلما دفع الحسين (ع) ثمن ذلك الهوان مع قلة قليلة من أنصاره وأهل بيته. أيعقل أن يستشهد هذا الرجل العظيم وأخته الكبيرة وتبقى الدنيا في العراق كما كانت. لقد كان لاستشهاده الصدى الكبير في لبنان، وردود فعل عنيفة ، لكن لم يكن الأمر كذلك في العراق، والله اعلم بالأسباب، ولا نريد أن نفتح هذا الجرح الآن، وهو جرح طال تاريخنا على مدى عقود طويلة.

وإنما أردنا أن نشير إلى مظلومية الأمة بمظلومية هذا الشهيد، ومن هنا تأتي هذه المساهمة منا اعترافا بمقامه، وخضوعا لجنابه، علنا نكشف بعضا من مزاياه في الثورة والفكر. وكفاه فضلا وتواضعاً، دل على فضل ما بعده فضل، وتواضع ما بعده عظمة، أنه عندما انتصرت الثورة الإسلامية المباركة على يد الإمام الخميني، دعا أنصاره ومحبيه إلى أن يذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام. ولن يدرك قيمة هذه الدعوة إلا من عرف تزاحم النفوس على الرئاسات، وكيف يتحايلون لبقائها وبقائهم فيها.

المميزات الفكرية

كانت له انجازاته على الصعيد الأصولي والفقهي، لا يتسع المجال لبيانه، وليس الموضع أساساً موضع هذا البيان، ولكنه لن يخفى على من يراجع بحوثه في الأصول والفقه، علماً أنه لم يتسن له الوقت الكافي لإظهار مكنوناته في هذا المضمار. كان حريصاً على أن يوجه طلابه نحو الدراسات المعاصرة، وعدم الاقتصار على الدراسات الحوزوية، لقناعته بأنها لا تكفي لكي تصون العالم والناس عن الانحرافات، وبضرورة التواصل بين الحوزة والمجتمع، من خلال متابعة نتاجه الفكري، والشبهات المطروحة، فالفقيه هو الذي يسد باب الشيطان عن عوام الناس، لا الذي يركن في زاوية من زوايا البيوت، تاركاً الناس فريسة الشبهات.

كان له رأي في مفهوم الاجتهاد يختلف كثيراً عما هو متداول، ولهذا رب شخص يعترف له بالاجتهاد في المذاق الحوزوي العام لا يراه هو كذلك بحسب مفهومه هو له. فقد كان يرى أن الاجتهاد يتطلب إضافة إلى العلم والعدالة، خبرة وكفاءة. وكان يرى أن المرجعية تعني النيابة العامة عن الإمام المعصوم (ع)، وهذا النائب العام هو المجتهد المطلق العادل الأعلم الخبير بمتطلبات النيابة.

وكانت له جلسات أسبوعية مع العلماء والطلاب للتداول في الشؤون العامة للمسلمين في العراق وخارجه. وفي هذه المجالس طرح فكرته الشهيرة حول المرجعية الصالحة والرشيدة، في مواجهة مرجعية تقليدية لا تعنى بشؤون الأمة، على الرغم من احترامه وتقديره وتعظيمه للعلماء الذين استلموا المرجعية في عصره وفيما سبقه من عصور. فقد أدرك كما الإمام الخميني وغيرهما من العلماء الذين اهتموا بالحياة العامة، أن نقطة ارتكاز الأمة تكمن في مرجعيتها، وإن ضعف المرجعية لا بد وان ينعكس ضعفا في الأمة مهما كانت جهوزيتها، كما أن المرجعية القوة قوة للأمة، ويبقى على الأمة أن تحقق ما هو المطلوب منها.

وهذه المرجعية التي دعا إليها الشهيد الصدر، هي التي كانت تعرف في المصطلحات الفقهية بولاية الفقيه.

وقد عرّف المرجعية الصالحة بأنها المرجعية التي تتبنى الأهداف الحقيقية التي يجب على المرجعية أن تسعى لتحقيقها خدمة للإسلام، وتملك الآلية المحققة لتلك الأهداف والإرادة لتنفيذها، إذ لا يكفي تبني الأهداف.

فهي مرجعية ذات رؤية شاملة لا تنطلق من ردات فعل هنا وهناك في تصرفات تجزيئية غير متكاملة. فالمرجعية الصالحة صاحبة مبادرة انطلاقا من مشروعها، تسعى من خلاله لإحداث تغييرات جوهرية في وضع الأمة.

وهذه الأهداف التي يجب أن تتبناها المرجعية الصالحة تتلخص عند الشهيد الصدر في: نشر أحكام الإسلام في أوسع دائرة من المسلمين، وتربيتهم على أساسها. وإيجاد تيار فكري واسع في الأمة يحمل المفاهيم الإسلامية الأصيلة مثل أن الإسلام نظام كامل شامل قادر على إقامة حكم وإدارة الشؤون العامة للناس. والانطلاق بالإسلام إلى الواقع الميداني الاجتماعي والاقتصادي وسائر الجوانب. والإشراف على سير العاملين، وتصويب المسيرة وترشيدها وبيان مواطن الصحة والخطأ.

لقد كان مطلب المرجعية الصالحة يستدعي أن تبنى الحوزة من جديد بحيث يتمخص عنها هذه المرجعية، إذ لن يكون بالإمكان ظهور مثل هذه المرجعية في ظل الوضع الفعلي الذي كانت عليه الحوزات العلمية، إلا بشكل استثنائي غير عادي. وقد كان الشهيد الصدر استثنائياً بهذا المعنى لكنه دفع من دمه ثمناً لعدم تهيؤ الحوزة والساحة لهكذا مرجعية. وقد أدرك الإمام الخميني هذه الحقيقة أيضاً، ولهذا عندما اصطدم في بداية تحركاته بالحوزة العلمية عمل على أن يرتد بعض الشي‏ء إلى الحوزة ويعيد تأسيسها من خلال تشكيل تيار حوزوي علمائي مؤيد له وقد نجح في ذلك، بحيث كانت المرجعيات التقليدية تحرج في اتخاذ أي موقف سلبي تجاه الإمام الخميني، خوفاً من هذا التيار الكبير الذي كانت تجده أمامها، مع فارق أيضاً بين حوزة قم والنجف، أن حوزة قم كانت تتبنى عموماً فكرة ولاية الفقيه ولم يمر عليها فقيه لم يؤمن بها، سواء قبل الإمام الخميني أو بعدها، إلا بعض المرجعيات التي اتهمت افتضح أمرها بعد ذلك.

وكان يطرح فكرة وجود ضمانة في بنية الحوزة العلمية حتى لا يصل إلى سدة المرجعية فيها من لا يؤمن بأهدافها الواعية، ولا يقوم بمتطلبات النيابة، التي وللأسف انحصر دورها في العقود المتأخرة بخصوص بيان الفتوى إلا ما ندر، وتحت ضعط واقع معين. ومن هنا كان يدعو إلى مؤسسة المرجعية بحيث يموت المرجع كشخص، وتبقى المؤسسة بأهدافها ويأتي مرجع آخر ليكمل الدور. وهذا بالضبط ما سارت عليه المرجعية في إيران. وكان يرى ضرورة أن تتمركز الأمور المالية تحت سلطة تلك المرجعية الصالحة. وكل أطروحته تلك التي ذكرناها بشكل موجز، وذكرها تلميذه السيد كاظم الحائري في مقدمة تقريراته لدروس السيد الشهيد الصدر في علم الأصول، والتي عنونها ب«مباحث الأصول»، مرت بمراحل قبل أن تختمر لديه، فهو (قده) في البداية كان يرى أن أساس الحكومة الإسلامية في عصر الغيبة هي الشورى على ما حكاه السيد كاظم الحائري، وعلى هذا الأساس كان تأسيسه لحزب الدعوة،  لكنه بعد ذلك ترك هذا الرأي وتمسك بمبدأ ولاية الفقيه. وقد صرح بهذا الرأي في الفتاوى الواضحة. وبعد انتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران، وعندما رأى النظرية في معرض التطبيق، طرح في سلسلة حلقات مقترحات لدستور الجمهورية الإسلامية في إيران، نشرت باسم «لإسلام يقود الحياة» زيجاً من الشورى وولاية الفقيه، بمعنى الشورى في ظل ولاية الفقيه.

المميزات الثورية

كان واعياً لكل مخططات الصهاينة، متنبها لها، يتابعها بكل دقة، وقد ربى أبناءه على فهم هذه الأمور، وعلى النفور من الصهاينة، ورفضهم والإطلاع على مظالمهم وما يقومون به في فلسطين وضد الشعوب الإسلامية العربية. لقد شخص في زمانه، كما صرح بذلك لبعض تلامذته، أن الأمة مبتلاة بالمرض الذي كانت مبتلاة به في زمن الإمام الحسين (ع) وهو مرض فقدان الإرادة التي يجب أن تصول وتجاهد بها، ووعى الحاجة إلى معالجة الأمة من هذا المرض، وشخص أن هذا العلاج يكون بنفس العلاج الذي قدمه الإمام الحسين (ع)، وهو تضحية كبيرة تهز المشاعر أدت إلى سقوط نظام بني أمية. فعقد العزم على أن يتوجه مع ثلة من طلابه إلى الصحن الشريف في النجف الأشرف، متحالفين على أن لا يتركوا الصحن أحياء إلا أن يتحقق هدفهم أو يستشهدون دونه، فيعلن الثورة على النظام الحاكم ، لكنه كان يبحث عن شرطين لذلك:

الأول أن يكون لهذا العمل الحد الأدنى من المقبولية في الحوزة العلمية، إذ لو أطبقت الحوزة على رفضه لباء الجهد بالفشل. إذ سيكونون من أول المحاربين له، والرادين عليه، والمضرين به حتى على فرض وقوعه.

الثاني: أن يوافق على هذا العمل أحد المراجع الكبار كي يكون لهذا العمل صدقية على مستوى الأمة. وفي سياق بحثه عن مدى تحقق الشرطين أرسل بعض العلماء لجس نبض بعض المراجع، إلا انه لم يلق آذاناً صاغية. وأما عن الشرط الثاني فقد كان الشهيد الصدر، يرى أن المرجع القابل لتحقيق هذا الشرط هو الإمام الخميني، على ما صرح به بعض تلامذة الشهيد الصدر، لكن الإمام الخميني لم يشجعه على ذلك، ولم يكن الإمام الخميني يترقب الفائدة التي يتمناها الشهيد الصدر من هذا العمل. ولم يكن الإمام الخميني يتحدث عن قلة خبرة، بل يتحدث بعد تجربة زادت عن الأربعة عشرة عاما، وقد خبر علماء النجف، وجو العراق، وهو الذي كان يقول: ما أوذيت مثلما أوذيت في النجف. ولقد دلت شهادة الشهيد الصدر على صدق توقع الإمام الخميني ، إذ استشهد ولم يتحرك المتحركون، على الرغم من أن شهادته هزت المشاعر، لكنها لم تهتز بالمقدار الكافي بحيث توقظ

الإرادات.

وكان في لقاءاته مع الشخصيات الرسمية الممثلة للنظام الحاكم، جريئاً صريحاً في بيان مؤاخذاته وملاحظاته، ولم يكن في روعه أي خوف منهم، يشبه في ذلك حال الإمام الخميني في تعاطيه مع السلاطين وزبانيتهم، وفي إحدى اللقاءات مع بعض تلك الشخصيات تحدث عن دور الحوزة العلمية والعلماء في تحريك الأمة، وسرد جملة من الأحداث التاريخية مثل ثورة العشرين، ومقاومة السيد عبد الحسين شرف الدين للفرنسيين، وفتوى المجدد الشيرازي في مسألة التنباك، ثم تحدث بشي‏ء من التفاصيل حول بعض القضايا المرتبطة في ذلك الزمن، مثل محاولتهم هدف مقام الحسين بن روح أحد السفراء الأربعة، وقضايا أخرى.

وكان له ظهور على المسرح السياسي من خلال مجلة جماعة العلماء في النجف الأشرف، ثم ضيق عليه النظام الحاكم في العراق آنذاك، وعلى تلك الكتابات، فتوقف عن ذلك بعد أن ضعفت الجماعة عن مقاومة الضغوط، بل حورب من قبل جمع من تلك الجماعة، لكنهم عادوا فيما بعد وصححوا طريقهم، ولكن الشهيد الصدر لم يعد للكتابة فيها. كانت له مساهمة في تأسيس حزب الدعوة الإسلامية ثم تركه فيما بعد لأسباب اختلف في تحديدها، إلا أن أصل فكرة حزب إسلامي شكلت خرقاً لصمت مطبق في الجو المتدين عموماً، وفي الحوزة العلمية خصوصاً، إذ كان ينعت من ينتمي لحزب بالانحراف، ولم تكن الأذهان التقليدية تستأنس وجود حزب إسلامي.

ولما بدأت قدرات الشهيد الصدر تبرز على الصعيد القيادي السياسي العام من داخل الحوزة في العراق، وعلى المستوى العام، خاف منه النظام الحاكم، فكان أن اعتقله عدة مرات بلغت الأربع. وفي المرة الأولى اعتقلوه في العام 1392 هجري بينما كان في مستشفى يعالج من حالة تسمم ألمت به، فنقل إلى مستشفى السجن في الكوفة، إلا أن ضعط الناس منع من نقله إلى بغداد. وفي العام 1397 هجري اعتقل مرة أخرى بعد انتفاضة الأربعين، من خلال تسيير مواكب علنية إلى كربلاء في تحد واضع للنظام الجائر آنذاك، فشنت السلطة حملة اعتقالات، وكان الشهيد الصدر من جملة المعتقلين.

فنقل إلى بغداد وفي هذا الاعتقال عذب الشهيد الصدر وضرب، وبقيت آثار الأذى حتى ما بعد خروجه من المعتقل، ولم يدم الاعتقال أكثر من يوم واحد، وفي هذا الاعتقال هددوه بالقتل.

وفي العام 1399، وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، اعتقل مرة ثالثة وأطلق سراحه في نفس اليوم.

وقد حقق معه في هذا الاعتقال حول إيران وعلاقته بها، خصوصاً وأنه كان قد زار الإمام الخميني حينما علم أنه سيخرج من العراق بعد أن ضيقت عليه السلطات، وكان يرى أن زيارة الإمام الخميني في تلك الظروف ضرورة دينية، فذهب على الرغم من كل المخاطر التي كانت تترتب عليه. وقد كانت للشهيد الصدر مواقف بارزة على صعيد تأييد الثورة الإسلامية الإيرانية خصوصاً بعد انتصارها، وقد رأى فيها الأمل لكل المستضعفين والمعذبين في الأرض في طريق مقاومة الاستعمار والطغيان. وفي الوقوف إلى جانب الحق والعدل في القضايا الدولية وتقديم المثل الأعلى للإسلام من خلال ذلك. وكان قد أرسل الشهيد الصدر أحد تلامذته إلى الإمام الخميني في إيران ليكون حلقة وصل بينهما بغرض التنسيق ومواكبة التحركات التي كان يزمع على الانطلاق بها في العراق. وكانت له برقياته ورسائله التي كان يرسلها إلى الإمام الخميني، على الرغم من الظروف التي كان يعيشها الشهيد الصدر والتضييق عليه. وبعد سلسلة رسائل، كانت آخر برقية أرسلها الإمام الخميني للشهيد الصدر، والتي لم يستلمها بل استلمتها السلطة، لكنها أذيعت عبر راديو طهران، فاستمع إليها الشعب العراقي، وكان لها وقع عظيم عليهم. وفي هذه الرسالة يطلب الإمام الخميني من الشهيد الصدر البقاء في النجف الأشرف، وليس من الصلاح مغادرتها.

كتب ذلك بعد أن وصله أخبار عن نية الشهيد الصدر ترك العراق بسبب الظروف التي كان يمر بها. فكتب الشهيد الصدر جواباً على هذه الرسالة، يشكر فيها الإمام الخميني على أبوَّته ورعايته، وأنه يستمد من توجيهه نفحة روحية، ويحييه باسم الملايين من المسلمين في العراق، «الذي وجد في نور الإسلام الذي أشرق من جديد على يدكم ضوءاً هاديا للعالم كله، وطاقة روحية لضرب المستعمر الكافر والاستعمار الأمريكي خصوصاً، ولتحرير العالم من كل أشكاله الإجرامية، وفي مقدمتها جريمة اغتصاب أرضنا المقدسة فلسطين». فقد شكلت تلك الرسالة بالنسبة للشهيد الصدر ومؤيديه من أبناء الشعب العراقي منطلقا للثورة.

فقد انطلقت التظاهرات بعد ذلك في العراق تبايع الشهيد الصدر في حركته، وكان يخطب في كل تظاهرة تصل إليه، وقد أعلن في خطبة وقوفه إلى جانب الشعب العراقي وانه سيدافع عنه، كان مما قاله «وسأبذل آخر قطرة من دمي في سبيل الله من أجلكم». فبدأت السلطة تتعامل معه على أساس انه يقود ثورة، فاعتقلت في البداية وكلاء الشهيد الصدر من مختلف المناطق. وفي هذا الاعتقال الثالث سئل عن كل ذلك.

وفي العام نفسه وبعد أسبوع من إطلاق سراحه أي في 16 رجب بدأت السلطة بالتضييق عليه، ومنع زيارته، فقرر أن يقف بوجههم وقفة حسينية، فلم يظهر معهم أي مساومة أو مهادنة، وفي اليوم التالي، وفي ساعة متأخرة من الليل جاءه مدير الأمن على رأس قوة تتألف من مئتي شخص مدججين بالسلاح، فهاجمه الشهيد الصدر وهاجم النظام هجوماً عنيفاً. وأثناء اقتياده إلى المعتقل وقفت أخته بنت الهدى في الطريق تخاطب الذين جاؤوا لاعتقاله، فهزأتهم بعدَّتِهم وسلاحهم وأخوها وحيد فريد، وقالت لأخيها: اذهب يا أخي، الله معك، فهذا هو طريقنا وهذا هو طريق أجدادك الطاهرين». إلا أن بنت الهدى لم تهدأ بعد اعتقال أخيها، وأخذت تحرك الجماهير، واستطاعت أن تهز المشاعر فكانت التظاهرة الاحتجاجية التي اضطرت السلطة على أثرها لإطلاق سراح الشهيد الصدر.

لكنه عندما عاد إلى منزله ضيقوا عليه مجدداً وقطعوا عنه الماء والكهرباء والتلفون، وفي شهر جمادى الأولى من العام 1400 اعتقل الشهيد الصدر مجدداً، وبعد يوم من اعتقاله اعتقلوا أخته بنت الهدى، وفي اليوم التالي قتلوهما، وكان (قده) يتوقع ذلك فهيأ نفسه لها، فأقبل وأخته على ربهما مرتاحي الضمير، أبيي الضيم، شهيدين في سبيله، فجزاهما الله خير الجزاء، وجعلهما في عليين. فتحية لهما في ذكراهما العظيمة.

الشيخ مالك وهبي