يعتبر السيّد الشهيد أحد مبدعي هذا القرن، فقد امتاز عن غيره أنه ما كتب في مجال ما إلاّ وجاء بشيء جديد فيه ولعمري هذه هي العبقرية حقاً، وسوف نتاول في مقالنا هذا أحد الجوانب التي أبدع فيها السيّد الشهيد وهي الفلسفة وذلك من خلال السفرين الجليلين اللذين خلفهما وهما «فلسفتنا» و«الاُسس المنطقية للاستقراء» ومن خلال ما نشره بعض تلامذته من آراء.
تناول السيّد في كتابه الأول المدرسة الفلسفية الأكثر شيوعاً بين أوساط فلاسفة المسلمين وهي المدرسة الأرسطية، وبنى دفاعه عن الفكر الاسلامي على أساسها، كما تناول مختلف المدارس الاُخرى، ونظرياً فإن السيّد لم يأت بجديد من الناحية الفلسفية، إلاّ أنّ ذلك لا ينقص من قيمة الكتاب أبداً، وذلك لعدة أسباب منها:
أولاً: تميز الكتاب بالاُسلوب العلمي الواضح فلم يقع السيّد في مستنقع المصطلحات الفلسفية التي لايفهمها إلاّ من قضى شطراً من حياته في مثل هذه الدراسات بل طرحه السيّد بشكل يناسب الشاب المسلم المثقف بثقافة عصره، ولهذا فلقد نال الكتاب نصيباً وافراً من الشهرة، و خاصة بين طلبة الجامعات.
ثانياً: بث السيّد الروح في الفلسفة من خلال هذا الكتاب، إذ إنّه عندما قام بطرح البحوث الفلسفية لم يطرحها كبحوث مجردة لا صلة لها إلاّ بمناقشات سادت في عصور سالفة، بل طرحها كبحوث علمية صالحة لمناقشة مواضيع تمس الواقع الحالي، فعندما تناول قانون العلّية لم يتناول اُسسه الفلسفية وحسب بل ربطه وبشكل وثيق مع ما طرح في شتى الميادين العلمية كعلم الميكانيكا والميكروفيزياء، وهكذا الحال حينما تناول مسألة الادراك فقد أشبعها بحثاً في مختلف جوانبها العلمية سواء من الناحية البيولوجية أو الفيزيائية أو الكيميائية وهذا ليس بالأمر السهل لأن ذلك يتطلب إلماماً بمختلف الميادين العلمية وهذا ما ميز السيّد عليه الرحمة والرضوان.
ثالثاً: عكس هذا الكتاب الفهم العميق للسيد الصدر لهذه المدارس الفلسفية المختلفة وخاصة المدرسة الأرسطية، فتبسيط وتحديث هذه المادة الفلسفية ليس بالأمر الهيِّن ما لم يكن المرء على إلمام ودراية كاملة بذلك.
الاّ أنّ كتاب «الاُسس المنطقية للاستقراء» يعد الكتاب الأهم من بين الكتابين والسبب في ذلك أن السيّد ضمن في هذا الكتاب خلاصة فكره الفلسفي وأخرج للعالم مدرسة فلسفية اسلامية جديدة، إلاّ أنّه ولشديد الأسف لم يقابل هذا الكتاب وخاصة في أوساط الفلاسفة المسلمين بما يستحقه، بل أهمل الكتاب و بشكل ملحوظ، أما السبب في ذلك فقد يكون لأمرين، الأول: أن السيّد وإن تناول موضوعاً فلسفياً بحتاً فقد ضمنه ببحث متكامل عن الاحتمالات والتي تناول فيها نظريات الاحتمالات بشكل عميق، ونظراً لأن لغة الاحتمالات ليست اللغة المعتادة التي يتحدث بها الفلاسفة فقد بدا البحث غريباً نوعاً ما وغامضاً للبعض.
أما السبب الثاني فهو أن الكتاب تناول المدرسة الرئيسة في الفكر الفلسفي الاسلامي وهي المدرسة الأرسطية بالنقد والتمحيص و اختلف معها اختلافاً شديداً ولهذا فلم يعر الكتاب أية أهمية لدى البعض.
تناول السيّد في كتابه مشكلة الاستقراء وما هي الاُسس العقلية التي يعتمد عليها، ويحسن بنا في البداية أن نتحدث عن نوعي الاستدلال المستخدم في الفكر البشري وهما الاستنباط والاستقراء.
يعرف الاستنباط بأنه الدليل الذي يسير من العام الى الخاص فمثلاً عندما نقول إن زيداً انسان وكل انسان يموت فهذا يعني أن زيداً سيموت.
إنّ القاعدة العقلية التي اعتمد عليها هذا النوع من الاستدلال هي قاعدة استحالة اجتماع النقيضين في موضوع واحد إذ اننا عندما قلنا بأن الانسان يموت فلابد أن نقول إن زيداً سيموت وإلاّ فانّ ذلك يعني امكان اجتماع النقيضين في موضوع واحد وهذا محال عقلاً.
أما الاستقراء فهو سير من خاص الى عام أو من الجزء الى الكل، ويقسم المذهب الأرسطي الاستقراء الى قسمين وهمااستقراء كامل وآخر ناقص، ويعرف الاستقراء الكامل بأن الاستقراء الذي يشمل جميع الأفراد، وأما الاستقراء الناقص فيشمل بعض الأفراد.
لقد آمن المذهب الأرسطي بالاستقراء الكامل وأكد قيمته العلمية، واما الاستقراء الناقص فقد أشكل عليه المذهب الأرسطي واعتبر أن نتائجه لا توصل الى اليقين يقول اليزدي: «وأما الاستقراء الناقص فهو يعني مشاهدة أفراد كثيرة لماهية معينة وملاحظة خاصة مشتركة بينهما ثم تعميم هذه الخاصة لتشمل جميع أفراد الماهية، ولكن مثل هذه الحركة الفكرية لا تؤدي الى اليقين»[1].
إلاّ انّ المذهب الأرسطي في نفس الوقت لا يستطيع أن ينفي أن هناك أموراً يؤمن العقل البشري بصحتها توصل اليها باستقراء ناقص مثل أن الماء يذهب العطش وأن قطع رقبة الانسان تؤدي به الى الهلاك، فكيف توصل العقل البشري الى صحتها؟
يؤمن المذهب الأرسطي بأن هناك نوعين من التعميمات الاُولى تعميم ظاهرة استهدفناها من استقرائنا لحالات تختلف في بعض الخصائص الملحوظة عن الحالات التي شملها الاستقراء و اُخرى تعميم ظاهرة مماثلة للحالة التي شملها الاستقراء.
يؤمن المذهب الأرسطي أن التعميم الأول غير صحيح، وأما التعميم الآخر فيؤمن المذهب الأرسطي بصحته ولكن لا على أساس مجرد التجمع العددي للأمثلة بل لأن هذه الظاهرة أمر مرتبط برابطة السببية أما كيف أن الاستقراء أوجد هذه الرابطة السببية فيرجع الى قاعدة قبلية آمن بها المذهب الأرسطي وهي «أن الصدفة لا تتكرر بشكل دائمياً أو اكثرياً» وعليه فان تكرار المشاهدات لا يمكن أن يكون محض صدفة فلابد وأن تكون هناك رابطة سبيبة.
وقد اختلف السيّد الصدر مع المذهب الأرسطي في نقطتين أساسيتين تتعلق الاُولى بالاستقراء الكامل، فالسيد يعتقد أنه من غير الصحيح أن نقول إن هناك استقراء كامل لأن الاستقراء تعميم حكم من مجموعة حالات، فهو سير من خاص الى عام والاستقراء الكامل سير من عام الى عام، وأما بالنسبة للاستقراء الناقص فقد اعترض السيّد على المذهب الأرسطي اعتراضاً شديداً وذلك لأنه وبمجرد المقارنة بين القاعدتين العقليتين والتي تبرر احدهما الدليل الاستنباطي والاُخرى الدليل الاستقرائي نجد أن بينهما بوناً شاسعاً، فالاُولى قاعدة عقلية متينة ولا يمكن لنا أن نتصور بحال من الأحوال اجتماع النقيضين، أما القاعدة الاُخرى فليست بمتانة الاُولى اذ إن العقل يستطيع أن يتصور أن تتكرر الصدفة بشكل كبير ولا يجد غضاضة في افتراض مثل هذا الامر.
نظرية السيّد الشهيد في الاستقراء:
بعد أن تناول السيّد موقف المذهب الأرسطي وأوضح عجزه عن تفسير مسألة الاستقراء تناول المذهب التجريبي وانتقده أيضاً واعتبره غير قادر على تفسير مسألة الاستقراء عرض السيّد نظريته العملاقة حول هذه المسألة وقد اعتمد في حلّه على ما يعرف بالمذهب الذاتي و قوانين الاحتمالات وخلص الى نتيجة مفادها أنه ومن خلال تطبيق قوانين الاحتمالات يتحول الاحتمال الاستقرائي الى يقين موضوعي يقول الصدر في كتابه عن التوالد الذاتي: «بالامكان أن تنشأ معرفة ويولد علم على أساس معرفة اُخرى، دون التلازم بين المعرفتين، فبينما كان المبرر لنشوء معرفة من معرفة اُخرى في حالات التوالد الموضوعي هو التلازم بين الجانبين الموضوعيين للمعرفة، وكان التلازم بين الجانبين الذاتيين للمعرفة تابعاً للتلازم بين الجانبين الموضوعيين، نجد في حالات التلازم بين الجانبين الذاتيين للمعرفة أن المبرر لنشوء معرفة من معرفة اُخرى هو التلازم بين الجانبين الذاتيين للمعرفة، وأن هذا التلازم ليس تابعاً للتلازم بين الجانبيين الموضوعيين»[2].
ومثال المعارف الثانوية المستنتجة بطريقة التوالد الذاتي: «كل التعميمات الاستقرائية المستنتجة من مجموعة أمثلة وشواهد لا يوجد أي تلازم بينها وبين ذلك التعميم، فالعلم بالتعميم ينشأ عن طريق العلم بتلك الأمثلة والشواهد على أساس التوالد الذاتي»[3].
«ولكن هذا لا يعني فسح المجال لاستنتاج أي قضية من اي قضية اُخرى على أساس التوالد الذاتي دون التقيد بالتلازم بين القضيتين»[4].
مراحل التوالد الذاتي:
«إن كل معرفة ثانوية يحصل عليها العقل على أساس التوالد الذاتي تمر بمرحلتين إذ تبدأ أولاً مرحلة التوالد الموضوعي، وفي هذه المرحلة تبدأ المعرفة احتمالية، وينمو الاحتمال باستمرار، ويسير نمو الاحتمال في هذه المرحلة بطريقة التوالد الموضوعي حتى تحظى المعرفة بدرجة كبيرة جداً من الاحتمال، غير أن طريقة التوالد الموضوعي تعجز عن تصعيد المعرفة الى درجة اليقين، وحينئذ تبدأ مرحلة التوالد الذاتي لكي تنجز ذلك وترتفع بالمعرفة الى درجة اليقين»[5].
أ ـ التوالد الموضوعي:
«يرتبط المنهج الاستنباطي الذي يتخذه الدليل الاستقرائي في المرحلة الاُولى ارتباطاً أساسياً بنظرية الاحتمال»[6].
وبعد أن يطرح نظرية الاحتمالات والتعريف الذي يتبناه، وكيف أن هذا التعريف يفي ببديهيات الاحتمالات يبدأ بطرح المرحلة الاستنباطية فيقول «الدليل الاستقرائي يمر بمرحلتين: في المرحلة الاُولى يقوم على أساس التوالد الموضوعي للفكر، وتسمى هذه المرحلة بالمرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي، لأن الدليل في هذه المرحلة يمارس عملية استنباط عقلي وفقاً لقواعد التوالد الموضوعي للفكر»[7].
بعدها يبدأ بشرح طبيعة هذه المرحلة من الدليل الاستقرائي والطريقة التي يتبناها في تفسير الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية والتي تعتمد على ما يعرف بالعلم الإجمالي ويتوصل الى نتائج في غاية الأهمية وهي: «أن المرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي تتوقف على افتراض عدم وجود مبرر قبلي لرفض علاقات السببية بمفهومها العقلي أي للاعتقاد بعدمها، وهذا لا يكلف الدليل الاستقرائي اثباتاً مسبقاً. أن الدليل الاستقرائي الذي يحتاج فقط الى افتراض عدم وجود مبرر قبلي لنفي علاقة السببية يمكن أن يثبت بنفسه علاقة السببية العدمية بمفهومها العقلي أي استحالة الصدفة»[8].
ب ـ المرحلة الذاتية:
بعدها ينتقل الى المرحلة الثانية وهي المرحلة الذاتية فيوضح أن اليقين الذي يوصل اليه الدليل الاستقرائي انما هو يقين موضوعي أي أنّه يقين تفرضه المبررات الموضوعية، وهذا اليقين يختلف عن اليقين الرياضي الذي يتولد عن الدليل الاستنباطي، ثم يشرع بشرح المرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي «كلما تجمع عدد كبير من القيم الاحتمالية في محور واحد، فحصل هذا المحور نتيجة لذلك على قيمة احتمالية كبيرة، فإن هذه القيمة الاحتمالية الكبيرة تتحول ـ ضمن شروط معينة ـ الى يقين، فكأن المعرفة البشرية مصممة بطريقة لا تتيح لها أن تحتفظ بالقيم الاحتمالية الصغيرة جداً، فأي قيمة احتمالية صغيرة تفنى لحساب القيمة الاحتمالية الكبيرة المقابلة»[9].
* آراء فلسفية اُخرى للسيد الشهيد :
ضمن السيّد في كتابه مجموعة من المبادئ الفلسفية الاُخرى والتي سوف نوردها هنا.
يعتقد السيّد بوجود معارف عقلية قبلية صراحة حيث يقول: «ونحن نؤمن بالمعرفة العقلية القبلية وفاقا للمنطق الأرسطي وعلى هذا الأساس فبامكاننا أن نتقبل افتراض وجود معارف قبلية» فما هي هذا المعارف القبلية وهل هذه المعارف القبلية يقينية أم محتملة؟
يذكر السيّد أن هناك معارف قبلية يقينية منها مبدأ عدم التناقض وبديهيات نظرية الاحتمالات، وأن هذه المعارف لايمكن اثباتها استقرائياً، أما سائر القضايا الاُخرى والتي تعتبر قضايا أولية عند المذهب الارسطي فيمكن اثباتها عن طريق الاستقراء و ان كان لا ينفي كونها قضايا أولية قبلية. «… وحينما نؤكد أن بالامكان تطبيق الاستدلال الاستقرائي على كل الأوليات الأرسطية إلاّ في حدود هذين الاستثنائين لا نعني بذلك: أن تلك القضايا استقرائية فعلاً وليست قبلية، وانما نعني: أن بالامكان نظرياً أن نفسرها على أساس الطريقة التي حددناها للاستدلال الاستقرائي، ولا ينفي هذا أن تكون قضايا أولية قبلية»[10].
أما المقياس الذي على أساسه يمكن المفارقة بين القضية الأولية والقضية الاستقرائية فيلخصها السيّد في ثلاث اُمور وهي:
1ـ عدم ازدياد الوضوح تبعاً لازدياد الأمثلة والشواهد.
2ـ عدم افتراض الانسان لتقبل احتمال أي استثناء للقضية مهما افترضنا وجود شواهد للاستثناء.
3ـ الصدق المطلق للقضية الى غير العالم الخارجي من العوالم الاُخرى المفترضة.
واذا قمنا بتطبيق هذه الاُمور الثلاثة على جملة من قضايا الرياضيات والمنطق نجد أن هذه الأمور تصدق عليها فاستحالة اجتماع النقيضين وأن الكل أكبر من الجزء هي قضايا تنطبق عليها الشروط الثلاثة، و كذلك الحال في قضايا الرياضيات، نستثني من ذلك قضية واحدة وهي العلّية فهل قانون السببية من القضايا العقلية اليقينية من وجهة نظر السيّد أم لا؟
اننا عندما نقوم بالبحث في طيات الكتاب عن رؤية السيّد نجد الآتي:
1ـ يؤكد السيّد أن السببية يمكن أن تستنتج من الاستقراء أي أن الشرط الأول من الشروط الثلاثة لا ينطبق عليها لأن استنتاجها من الاستقراء يعني أنها تزداد رسوخاً في الذهن البشري كلما زادت عدد التجارب «اننا نتفق مع الاتجاه المتقدم في ايمانه بأن قضايا السببية تستنتج من الاستقراء نفسه»[11].
2- يؤكد السيّد في الوقت نفسه بأنه يؤمن بأن قضايا العلية من القضايا العقلية القبلية «وهذا لا يعني أن نرفض المصدر العقلي القبلي لهذه القضايا» ونحن لا نختلف مع هيوم في معارضته لقبول مبدأ العلية، بوصفه قضية عقلية قبلية فقط، بل نختلف معه أيضاً في اعتقاده بأن مبدأ العلية لا يمكن الاستدلال عليه بالتجربة»[12].
و لهذا فاننا نذهب الى أن السيّد يعتقد أنها من القضايا العقلية القبلية المحتملة لأن السيّد يؤمن بأن هناك جملة من القضايا العقلية القبلية المحتملة «ليس من الضروري دائما أن تكون هذه المعرفة يقينية، بل قد تكون احتمالية»[13].
إن القول إن هناك قضايا عقلية قبلية محتملة تترسخ مع التجربة قول مهم فهو ينطوي على نقطة في غاية الاهمية وذلك لأن ذلك يعني أن التجربة أصبحت أحد الأدوات اللازمة للفلسفة اذ إنها الأداة التي سوف تثبت بعض القضايا العقلية القبلية المحتملة، وبذلك لم يعد العقل المجرد هو الوسيلة الوحيدة التي تستخدمها الفلسفة للوصول الى أهدافها بل إن التجربة أيضا كفيلة بإثبات جملة من المفاهيم الفلسفية العامة كقضايا السببية.
مصدر المعرفة البشرية:
يعتقد السيّد أن القسم الأكبر من العلوم والمعارف مستنتج من معارفنا الأولية بطريقة التوالد الذاتي لا الموضوعي فالمعارف حسب ما يذهب اليه تقسم الى ثلاثة أقسام وهي:
1- معرفة عقلية قبلية.
2- معرفة ثانوية مستنتجة من معارفنا المسبقة بطريقة التوالد الموضوعي.
3- معرفة ثانوية مستنتجة بطريقة التوالد الذاتي.
«فهناك في رأي المذهب الذاتي معارف أولية تشكل الجزء العقلي القبلي من المعرفة، وهو الأساس للمعرفة البشرية على العموم.
وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الموضوعي.
وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الذاتي»[14].
العرفان:
لم يعتن السيّد الشهيد بالمنهج العرفاني للمعرفة على الاطلاق ولم يشر في كتاباته وهو أمر ملفت للنظر، و لا ندري لِمَ لَمْ يتناوله السيّد في كتاباته حول نظرية المعرفة[15].
مسألة حدوث العالم:
يذكر السيّد الحائري في كتابه الامامة وقيادة المجتمع «…والمبدأ الثاني الذي يمكن افتراض قيام العالم على أساسه هو مبدأ القدرة والسلطنة وهذا ما اعتقده استاذنا الشهيد) مبدأً لظهور العالم فإيجاد الله سبحانه وتعالى للعالم ليس بالعلية، فان العلية أمر يستبطن استحالة الانفكاك بين العلة والمعلول وهذا بدوره يستبطن الجبر، أما الله تبارك وتعالى فهو يفعل ما يشاء وفق ارادته ووفق قدرته وسلطنته»[16].
إن النص المنقول يوضح أن السيّد اختلف كلياً مع المذهب الأرسطي إذ إنّه لا يعتبر أصلاً أن العلية هي الأساس في مسألة حدوث العالم.
مسألة العلية:
يذكر السيّد الحائري أيضا في كتابه رأياً جريئاً للسيد الصدر لكنه يورده على سبيل الاحتمال، ونحن هنا سوف ننقل النص كما ورد « اننا نفترض أن مبدأ العلية بالمعنى الفلسفي لا وجود له في العالم وهذا احتمال لا دليل لدينا يمنعنا عن ذلك أو يبطله فمن المحتمل أن كل ما نراه يعود الى مبدأ السلطنة والقدرة وارادة الله تبارك وتعالى، وحتى ما نراه من أن النار تحرق، فان التفكير الفلسفي الاعتيادي المتعارف يقول أن النار علة الاحتراق، و ان الله تعالى خلق العلة وهي النار مثلاً، أما عليتها فهي ذاتية لها، ولكن توجد الى جانب ذلك فرضية اُخرى معقولة أيضاً وهي أن تكون قد اقتضت الحكمة الربانية أن يخلق الله تعالى دائماً الاحراق متى ما تتحقق الملاقاة بالنار، وكلا هذين الامرين محتملان فالرأي الأول وهو ـ الرأي الفلسفي المعروف ـ محتمل، والاحتمال الثاني ـ الذي طرحه السيّد الشهيد الصدر ـ وهو أن لا تكون النار علة الاحراق، وانما شاءت ارادة الله تبارك وتعالى أن تخلق الاحراق متى وجدت النار وهذا محتمل أيضاً ولا ينفيه القانون الفلسفي» ان هذا التفسير قريب جداً من تفسير الغزالي والذي أورده في كتابه تهافت الفلاسفة عندما يقول «ان هذا الاقتران الذي نشاهده في الطبيعة بين ما يدعي أسباباً ومسببات ليس ضرورياً وانما هو مجرد اعتقاد»[17].
الخلاصة:
من خلال تتبعنا للفكر الفلسفي للسيد الصدر سوف نجد أن السيّد كان في صدد انشاء مدرسة فلسفية جديدة اختلفت كثيراً مع الخط العام للفلسفة الاسلامية السائدة.
ج. أ. ح
[1] اليزدي، محمد تقي مصباح، المنهج الجديد في تعليم الفلسفة 1: 105، مؤسسة النشر الاسلامي.
[2] الصدر، محمد باقر، الاُسس المنطقية للاستقراء: 125، ط 4 1982.
[15] أبو رغيف، السيّد عمار، نظرية المعرفة بين الشهيدين المطهري والصدر، الفكر الاسلامي ع، 1993.
[16] الحائري، كاظم، الامامة وقيادة المجتمع: 121 ، ط 1، 1995.