من الفكر الفلسفي عند الإمام الصدر!

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

يعتمد الامام الشهيد الصدر في محاكماته الفلسفية اسلوب الحسم، الذي يوفر على الدارس الجهد والوقت في تتبع جزئيات المدارس الفلسفية، وتفصيلاتها، انه يتناول القاعدد الرئيسية في المذهب ويسلط عليها معاول نقده الصارم، ومن البديهي ان نسف القاعدة الرئيسية في المذهب ويسلط عليها معاول نقده الصارم، و من البديهي ان نسف القاعدة يؤدي الى انهيار الصرح القائم عليها، وكتاب فلسفتنا والاسس المنطقية للاستقراء يزخران بالأمثلة على هذا النوع من الصراع الفكري الذي خاضه الامام الصدر، التطبيقية التالية:

النموذج الاوّل

فى نظرية المعرفة يستلم الفيلسوف الصدر المرتكز الاساسي في الاتجاه التجربيي، والذي قوامه التجربة هي المقايس الاساس لتمييز الحقيقة، فيتساءل عن مصدرها فان كانت هي التجربة فذاك مستحيل، لأن الشيء لا يؤكد ذاته.. انه في هذه الحالة يؤدي اى دور والدور فاسد، فليس من المعقول ان تكون التجربة برهاناً ومبرهنا عليها في آن واحد، وان كانت معرفة ضرورية فثبت المذهب العقلي[1]. ثم يردف هذا الرد بردود اخرى، كلها تصب في الكشف عن فساد هذا الرأي في تفسير مصدر «التصديق»[2]. وبهذا فان الذي يطلب الحقيقة في هذا المضمار لم يعد في حاجة ماسة الى دراسة واسعة لما جاء به التجربيون.

ان «جون لوك» و «جورج باركلي»، «دافيد هيوم»، «جون ستيورت مل».. كل هؤلاء وغيرهم بما فيهم الفلاسفة الماركسيون رفضوا المعارف السابقة على التجربة والحس، وبنوا مدارسهم الفلسفية على هذا القاعدة[3] التي نقضها العملاق الصدر.

النموذج الثاني:

المحور الذي تدور حوله فلسفة «رينيه ديكارت» مقولته الشهيرة التي استعاد اطارها العام العديد من الفلاسفة لصياغة افكارهم الاولى، تلك المقلة التي استسلم لها، بعد ان تيقن ان «بكره» حقيقة رافضة لكل اوالن الشك والمقولة هي «أنا أفكر فانا موجود»، وكل ما طرح ديكارت من رؤى وتصورات في المعرفة والمعارف والكون، تعود بعد التحليل الدقيق لهذه المقولة انها حجر الزاوية في فلسفته التي صارت علماً عليه، ولذا فان تفنيدها يزعزع المذهب الديكارتي، بل يطيح بالمدرسة الديكارتية التي أراد لها صاحبها ان تكون بديلة عن مدرسة ارسطو[4].

الامام الصدر بدأ ملاحقته لديكارت من نقطة البدء التي أدّعاها الهاماً ربانياً، فهو اذا ابتغى ان ينتقل من فكره الخاص الى وجوده الخاص فقد وقع في خطأ، لان مستهل المقولة كاف لاثبات المطلوب، وان اراد ان يستخدم الفكر المطلق للدلالة على وجوده هو، فديكارت واهم، لان المطلق لا يدل الا على وجود مطلق[5] ان رد الشهيد الصدر قد يغني عن قراءة كتاب «مقالة في المنهج» وكتاب «مبادىء الفلسفة» لرينيه ديكارت.

النموذج الثالث:

للمذهب التجريبي ثلاثة اتجاهات في تبرير «التعميم» المستند على الاستقراء الناقص بعد ان رفض طريقة ارسطو القائمة على المبدأ العقلي الاولي «الاتفاق لا يكون دائمياً ولا أكثرياً»:

أ ـ الاتجاه اليقيني: ويمثله الفيلسوف (جون ستيورت مل).

ب ـ الاتجاه الترجيحي: رائده (برتراند رسل)، ويعتبر الدكتور زكي نجيب محمود رجله الاوّل في العالم الاسلامي بكتابه «المنطق الوضعي».

ج ـ الاتجاه السايكولوجي: وقد بلوره (دافيد هيوم).

ان الاتجاه الاوّل يؤمن بحاجة الاستقراء الى «السببية» ليقرر على ضوئها وفي هديها امكان التعميم فالاستدلال بالجزئي على الكلي لا يتقدم خطوة واحدة دون هذا المبدأ الاساس، ولكن في الوقت ذاته يعتقد «جون سيتورت مل» ان السببية تعلمناها بالتجربة[6]. أي انها هي الاخرى حصيلة استقراء، هنا يلتقط الشهيد الصدر بمهارة نادرة نقطة الضعف التي تطوّح بالمذهب من أساسه، لان السببية اذا كانت هي «المبرر» للتعميم الاستقرائي، وهي ايضاً ثمرة من ثمرات الاستقراء، فهذا يعني ان الاستقراء ممكن في بعض الاحوال دون الاستناد الى مبرّره الاساس!![7].

وأمّا الاتجاه الثاني فقد بلوره الدكتور زكي نجيب محمود، فنحن نستطيع ان نطمئن بالاستدلال من حوادث الماضي على حوادث المستقبل ويتجاوز الدكتور مشكلة «المبرر» في الانتقال من الجزئي الى الكلي مع انها قائمة، ويقول في هذا الصدد: ان المقصود من ذلك ان يكون الاستدلال استنباطياً «من العام الى الخاص» حيث تكون النتيجة محتواة في المقدمة الكبرى وعندها يستحيل الخطأ!!

ولكن الدكتور زكي يسخر من هذا لانه يؤمن بان منطق العلوم يقوم على الترجيح وليس القطع، ولذا فان التساؤل عن تبرير الطفرة في الاستقراء منتف.

الامام الصدر ينقض هذا التصور من اساسه بتصحيح مفهوم الاستقراء الناقص، فانه عندما يؤدي الى التعميم، لا يعني انه يسير من العام الى الخاص أبداً، حتى يكون قد تحول الى عملية استنباطية كما توهّم الدكتور زكي، وانما يبقى الاستقراء الناقص لوناً آخر من الاستدلال محافظَ على هويته واستقلاله، ويبرر التعميم على ضوء مبدأ عقلي عند الفيلسوف ارسطو «ان الاتفاق مستحيل دائمياً وأكثرياً» وعلى ضوء «السببية» في رأي جون سيتورت مل، وعيه هناك نوع من الخلط في عرض الدكتور زكي[8].

على ان الشهيد الصدر لا يوافق ارسطو وغيره على طريقة التبرير، بل له منطقه الخاص في هذا الصدد نتعرض له لاحقاً.

واما الاتجاه الثالث، فهو يرفض الاذعان بوجود أية معرفة ضرورية، ويعتقد ان مصدر كل معارفنا التجربة، وعندما يتطرق الى «السببية» التي هي الباعث على التعيميم عند ارسطو والانسان السوي وستيورات مل ـ كل حسب طريقته ـ انما يفسرها على أساس نفسي بحت!! فنحن نؤمن بأن الحادثة (أ) سوف تعقبها الحادثة (ب) لأننا ألفنا في حياتنا الاعتيادية هذا التعاقب، وليس هناك اي مبرر منطقي لما يعرف عند الناس بـ «العليّة».

ولقد حشد الفيلسوف «هيوم» كل طاقته الفكرية لرفد هذا التصور والرأي، وقد أقام عليه صرح نظرته الى الوجود، وقد انتهت الى نفي مطلق للو اقع والعالم بأية صورة وبأية حالة!![9].

ناظر الشهيد الصدر هذا الاتجاه وتتبع كل جزئياته، ولكنه أبتدأ بضرب القاعدة الآساسية، بتناوله تفسير هيوم لمبدأ «السببية» ويورد عليه خمسة ردود متوالية تقلع هذا الوهم وتبدد هذه السفسطة، ومن جملتها ما جاة في كتاب «فلسفتنا» ان هذا يلزم ان لا نصل الى قانون العليّة الا بعد سلسلة من الحوادث والتجارب المتكررة، التي تحكم الرباط بين فكرتي العلة والمعلول في الذهن، مع انه ليس من الضروري ذلك، فان العالم الطبيعي يستطيع ان يستنتج علاقة عليّه وضرورة بين شيئين يقعان في حادثة واحدة، ولا يزداد يقينه شيئاً عما كان عليه عند مشاهدته الحادثة للمرة الاولى[10].

فضلا عن هذا ان هيوم لم يميز بين التتابع الزمني والعلاقة الرتبية فنحن نؤمن بأن حجركة اليد سبب في حركة المفتاح رغم عدم وجود فاضل زمني بين العلة والمعلول، ذلك ان الفاضل المذكور ليس ضرورياً، وانما العلاقة الرتبية هي الضرورة في هذا المقام([11])، هذا على صعيد التصديق، اما على صعيد التصور فلا يستطيع هيوم بهذه الطريقة نفي السببية حتى اذا كانت قادرة على ذلك تصديقياً، لان التصور شيء، والتصديق شيء آخر، فهب أننا لم نصدق بعليّة الاشياء المحسوسة بعضها البعض، ولم نكوّن عن مبدأ العلية فكرة تصديقية، فهل معنى ذلك اننا لا نتصور مبدأ العلية ايضاً؟ واذا كنا لا نتصوره فما الذي نفاه دافيد هيوم؟! وهل ينفي الانسان شيئاً لم يتصوره؟![12].

هذه ثلاثة نماذج سريعة سقناها لنستبين طريقة الاسلوب الحاسم عند الشهيد الصدر في محاكماته الفلسفية، وهذا لا يعني انه , لم يكن يتطرق الى جزئيات المذهب الفلسفي، فقد درس الفلسفة الماركسية واماط اللثام عن تهافت افكارها ومفاهيمها عن المعرفة والعالم، واستغرقت دراسته النقدية لهذه صفحات طويلة، ويمكن اعتبار كتاب فلسفتنا مخصصاً لهذه الغاية، كما انه لاحق «دافيد هيوم» في آرائه وأتى عليها واحدة بعد اخرى في (41) صفحة[13]. كما انه استهدف في القسم الرابع من كتابه اسس المنطق الوضعي، وكشف ببراعة علمية عملاقة، عدم اهليّته لبناء منهج متين في بناء طريقة منطقية في التفكير، ودلّل بالبراهين القاطعة ان هذا المنطق الذي يسميه اصحابه بـ «منطق العلوم» غير قادر أصلا على حل العديد من المشكلات، وانه لا يمتلك صلاحية ناجحة للتمييز والتفريق بدقة بين قضايا العلوم الطبيعية وقضايا المنطق والرياضة.

تصحيح المفاهيم والمقولات الفلسفية:

الذي يقرأ للشهيد الصدر!، يلمس قدرته الفذة على تصحيح المفاهيم والمقلات الفلسفية، فالشهيد عند مراجعته للمذاهب الفلسفية واطلاعه على الصراع القائم بينها، وجد البعض انه لا يفهم مراد خصمه فيبني موقفاً خاطئاً في الرد عليه، حيث يتصورانه سجل على المذهب المخالف مؤاخذة وضعفاً، لذلك يلجأ الشهيد الصدر الى وضع المفهوم أو المقلة في الاطار الذي يقصده صاحبه، وعندها سوف نرى ان النقد الموجه او الفكرة المأخوذة عن ذلك المفهوم وتلك المقلة مخطوء، وفي هذا الميدان نلتقي بعدة محاولات رائعة للامام الشهيد نذكر منها ما يلي:

1ـ المحاولة الاولى

الفهم الخاطىء الذي يقوم على تقسيم الفكر الفلسفي في تفسيره للوجود الى مدرستين:

أ ـ المدرسة المثالية: ويمثل ذروتها الفيلسوف الانكليزي «دافيد هيوم» بعد ان مهد له الفيلسوف الانكليزي ايضاً «جورج باركلي» فقد ذهب الأخى الى ان وجود الشيء عبارة عن وجوده في الذات المدركة ليس الا، ولم يحتفظ لنفسه الا بحقيقتين هما «الذات المدركة» و«الله او الحقيقة الخلافة لاحساساتنا» على طريقة مشروحة في كبته، اما هيوم فقد أنكر كل شيء!!

ب ـ المدرسة الماديّة: وآخر تطوراتها تمثلت بالمادية الديالكتيكية التي تؤكد وتصر على ان العالم موجود خارج أذهاننا ومشاعرنا، ولكن تضفي عليه صفة الماد ية، بل تعتبره مادة صرفاً[14].

هذا التصور الذي تورطت فيه الماركسية والرأي الذي يقول ان الفلسفة اما مادية او مثالية تبعاً للمفارقة الموضحة، خاطىء وفاسد ولا أساس له من الصحة، وقد جلى هذه الحقيقة الشهيد الصدر، والتقسيم الذي ينسجم مع الواقع هو ان هناك مدرستين:

أ ـ المثالية.

ب ـ الواقعية: وهي تؤمن بأن للعالم وجوداً خارج أذهاننا ومشاعرنا وادراكاتنا، ولكن تارة تنعته بالصفة المادية وهذه واقعية مادية، وتارة تكتفي بالاذعان به دون التورط باعطائه صفة معينة، والفلسفة الالهية على هذا المنوال[15].

2ـ المحاولة الثانية:

الفهم الخاطىء الذي تورط فيه المثاليون الفيزيائيون. فعندما اتضح للفيزياء الحديثة ان المادة الكونية بعد التحليل العلمي للذرة عبارة عن مظهر للطاقة، عقدوا علاقة ضرورية بين نفي الوجود الخارجي وصفة اللامادة، اي انهم قالوا بالمثالية، وليست الوحدات المادية الا طرقاً للتعبر عن الفكر!

الشهيد الصدر اوضح ببيان فلسفي دقيق ان هذا التفكير يعبّر عن وهم كبير، لان القضية الفلسفية التي هي محل النزاع في المقام تتعلق بـ «موضوع العالم» اي هل للعالم واقع موضوعي خارج الذهن، ام لا يوجد؟ وليس بالضرورة أن تتوقف الاجابة بـ (نعم)، على ادية العالم، فحتى لو كان طاقة.. حركة.. أثيراً[16]، فان الاجابة بـ «نعم» هي المفروضة[17]، لانها تعبر عن وجود ما في الخارج.

3ـ المحاولة الثالثة:

الفهم الخاطئ الذي يقوم على الخلط العشوائي بين المادة العلمية والمادة الفلسفية، فمن المعلوم ان المادة علمياً تمثل بـ «الذرة»، فيما المادة فلسفياً اعمق من هذا، ذلك ان للممكن علّتي وجود علتي قوام، وعلتا الوجود هما «الفاعل+الغاية»، وعلتا القوام هما «المادة+الصورة»، والمادة لا تنفك عن الصورة بهذا الاعتبار، وعندما يقولون عن الممكن انه «زوج تركيبي» فانما بالاشارة الى المادة والصورة وبينهما اتحاد تركيبي[18]. ولذلك حتى الطاقة الفيزيائية هي ممكن مركب من المادة الفلسفية والصورة، وان تجزئة الذرة لا يعني ان المادة بالمصطلح الفلسفي قد تبخرت»[19].

4ـ المحاولة الرابعة:

الفهم الخاطىء الذي يقول ان العلة تستلزم قبلها، فمن المعلوم ان هذا الفهم غير الصحيح لمبدأ العلية يؤدي الى انكار المبدأ الأعلى ـ والعياذ بالله ـ لانه يقود الى تسلسل لا نهائي في علل الوجود، ولقد التقطه الشهيد الصدر وكشف ما فيه من وهم وخلط ذلك ان اقوام السببية، ان لكل حادث سبباً، اي ان المعلول لا يمكن تصورّه، ولا يمكن ان يظهر على ساحة الوجود دون علّة او سبب، وان العلّة التامة اذا توفرت «مقتضي+عدم المانع شرط»، فان المعلول يترتب عليها بلا فاضل[20]، وهذا يعني ان العلة لا تستوجب ـ بأي حال من الاحوال ـ علة قبلها، بل تتطلب معلولا لها، وفارق كبير بين الصورتين[21].

5ـ المحاولة الخامسة:

الفهم الخاطىء الذي ينتج عن الخلط بين التصور والتصديق، فالتصور هو الادراك الساذج، وليست له اي قيمة موضوعية، لانه عبارة عن وجود الشيء في مداركنا، ولذلك لا يمتلك صلاحية، او صفة الكشف عن الواقع الخارجي، فيما تعتبر المعرفة التصديقية هي صاحبة الدور في هذا الكشف، اي ان موضوعية التصور منوطة بالتصديق، وعدم التفرقة بين المصطلحين جعل «هيوم» يرتكب خطأً فادحاً، فهو قد زعم ان المعرفة محصورة بـ «الحس» وعندما سئل عن مصدر العديد من المعارف التي لا يقع عليها الحس مثل«العلية»، «العدم» بادر الى القول انها من خداع الذهن وليس لها أي واقع موضوعي!! وكلام هيوم لا يقوم على اساس، لان بامكان الخصم ان يقول له: انا لا أسأل هل للعلية وجود خارجي ام لا، وانما أسأل عن منبع فكرة العلية، وهي في ذهني وذهنك واذهان الآخرين، أي اسأل عن مصدر التصور وليس مصدر التصديق، ولقد اختصر الشهيد الصدر هذا الرد الجذري على دافيد هيوم بسطور لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة[22].

6ـ المحاولة السادسة:

الفهم الخاطىء للتناقض الذي وقع فيه الماركسيون، فالديالكتيك الماركسي يعيب على المنطق الشكلي، لانه يؤمن بمبدأ عدم التناقض، لأن الوجود والحياة والفكر والتاريخ قائمة على صراع الاضداد ونزاع النقائض ـ حسب الزعم الماركسي ـ ولذا تورد الماركسية حشداً من الامثلة لتدلل على فساد المنطق الشكلي، باعتبار ان تلكم العينات شاهد على ان التناقض كائن في العالم وذلك مثل «السالب والموجب في الكهرباء، الفعل ورد الفعل في الفيزياء، النصر والهزيمة في الحروب، الموت والحياة في مسيرة الكائنات الحية، اليسار واليمين في الطريق[23].

والحال ان التناقض الذي ينفيه المنطق الشكلي او الصوري، هو الذي يقول بالصراع بين أضداد ونقائض مجتمعة في وحدة واحدة، وهذا مشروط بـ «تسع وحدات هي» الموضوع، المحمول، الزمكان، المكان، الشرط، الاضافة) الكل والجزء، القوة والفعل، الحمل[24].

وهذا لا يمت بصلة الى القول بوجود صراع بين الاضداد والنقائض، بل هذا ما نراه وتقره الفلسفة الميتافيزيقية، ويسستشهد الامام الصدر رحمه الله بنص من ارسطو في هذا الصدد:

«وعلى جملة من القل، ان شيئاً متجانساً يمكن ان يقبل فعلا من قبل الشيء المتجانس، والسبب ان جميع الاضداد هي في جنس واحد، وان الاضداد تفعل بعضها في بعض وتقبل بعضها من قبل البعض الآخر»[25].

فالمنطق الانساني ينكر ان يكون الالكترون سالباً من حيث هو موجب، وان يكون الموت من حيث هو موت حياة، وهكذا.

ويتابع الشهيد الصدر نقاط الضعف في الفهم الماركسي للتناقض، ويشرح كيف انها تخلط احياناً بين مفهوم الضدين ومفهوم النقيضين، فالأوّل وجودان متعاقبان على الشيء، لا يجتمعان ولكن يمكن ان يرتفعا، والثاني وجود وعدم لا يجتمعان ولا يرتفعان، ويضرب الشهيد الأمثلة على ذلك[26].

فضح المغالطات الفلسفية:

للشهيد الصدر قدرة فذة للغور الى صميم المغالطات الفلسفية لاكتشافها، وبيان زيفها، وهو امر يدل على ان الشهيد يمتلك وضوحاً شمولياً وعميقاً لقضايا الفلسفة، واي محاولة يبذلها الخصم للالتفات حول الحقيقة يستطيع الشهيد بسهولة نادرة تبديدها وتمزيق قناعها الخادع، ليتبين مضمونها الفاسد، وما تحتويه من تلاعب مفضوح بالمعاني والافكار والاساليب. ونورد هنا ثلاثة أمثلة على ذلك: ـ

1ـ المغالطة الأولى:

تلك التي حاول بها الدكتور محمد عبد الرحمن مرحبا تزييف مبدأ «عدم التناقض» فنحن اذا اخذنا السلسلة الحسابية (1،2/ 1،4/ 1،8/ 1،16/1..) فانها سوف تستمر الى ما لا نهاية.

ولكن نحن نعلم ان قليلا من علم الحساب يظهر لنا انه متناه، لان الحاصل هو العدد(2)، وهذه المغالطة يزيل السيد الصدر الوشاح عن حقيقتها بسهولة، ذلك ان السلسلة في تواليها وتتابعها غير متناهية، ولكن هذا التتابع غير الحاصل الذي هو عدد محسوب وهو (2)، وهكذا نجد ان المتناهي واللامتناهي غير مجتمعين في وحدة واحدة[27].

2 ـ المغالطة الثانية:

المحاولة التي اراد بها الدكتور الماركسي «نوري جعفر» في كتابه «فلسفة التربية» تفنيد البديهيات العقلية من رياضية ومنطقية حيث يقول «وفي ضوء ما ذكرنا نستطيع ان نقول: ان جميع القوانين العلمية قوانينى نسبية، تعمل في مجالات معينة لا تتعداها، ويصدق ما ذكرناه على قوانين الرياضيات وبعض مظاهرها التي تبدو لاول وهلة، وكأنها من الامور البديهية، التي لا تتغير بتغيّر الزمان والمكان، فحاصل جمع 2+2 لا يساوي 4 دائماً، من ذلك مثلا.. حاصل جمع الجالون من الماء مع جالون من حامض الكبريتك انفجار مرعب.

ويجيب الشهيد على هذه المغالطة:

«.. وهذا ايضاً لا يتعارض مع البديهية الرياضية في جمع الاعداد، ذلك ان 1+1 انما يساوي اثنين، اذ لم يعدم احدهما او كلاهما حال الجمع او المزج، والا لم يحصل جمع بين واحد وواحد بمعناه الحقيقي، ففي هذا المثال لم تكن الوحدتان ـ الجالونان ـ موجودتين حين اتمام العملية، عملية الجمع لينتج اثنين»[28].

قال: أرسطو، برتراند رسل، الشهيد الصدر!:

هناك تصور شبه عام يقضي بأن الفلسفة الالهية، والاسلامية منها بشكل خاص تدور في نطاق ما جاء به ارسطو، واذا كان في البين تغيير او تطوير، ففي اطار ما تركه هذا الفيلسوف، والحقيقة ان مدرسة ارسطو ظلت محافظة على اسسها وروحها العامة عند الفلاسفة الاسلاميين، «ابن سينا، ابن رشد، الكندي، الطوسي، الملا صدرا» ولقد دافع هؤلاء عن «المعلم الاول» والى الآن يوجد فلاسفة اسلاميون اوفياء الى مضمون ومنهج الفلسفة الارسطية، بل وعملوا على تعميق وتجذير مفاهيم ومقولات هذه الفلسفة، وعلى رأسهم في وقتنا الحاضر الاستاذ العلامة محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير الميزان.

الشهيد الصدر قفز بالفلسفة الاسلامية قفزة انقلابية عميقة، وهو في هذه الفقرة كان يستلهم القرآن الكريم، كما نفهم ذلك من اشارته السريعة في الخاتمة، التي أنهى بها كتابه القيم «الاسس المنطقية للاستقراء»[29] انه جاء بـ «ابداع» منطقي فسرته به الاستقراء تفسيراً جديداً يختلف فيه عن الفلسفة العقلية المتمثلة بأرسطو، باعتباره القمة في هذا المضمار، ويختلف فيه ايضاً عن الفلسفة التجريبية التي صار «برتراندرسل» علماً عليها من أواسط القرن العشرين وحتى الآن.

وطريقته أسماها بـ «المذهب الذاتي» وبعد ذلك توصل الى نتيجة رائعة مفادها ان الاستدلال على وجود العاقل الفاعل لهذا الكون بما فيه من حكمة وتدبير، نتيجة نفس الاسس التي يستند اليها العلماء الطبيعيون في اثبات قضايا العلوم الطبيعية من قبيل الحديد يتمدد بالحرارة، كل جسم اذا غمر في غاز او سائل، يفقد من وزنه بقدروزن السائل او الغاز المزاج، وهكذا «وعليه فان هناك معادلة صارمة، فاما ان يقبل الانسان بالاستدلال العلمي ككل، فتدخل القضية الالهية في ضمنه، واما ان يرفضه ككل، ولذا لا بد ان يكذب كل نتائج العلم بما فيها النتائج التي تعتبر صحيحة ومسلّمة!! وبهذا يرتبط العلم والايمان برباط لا يمكن زحزحته بأي حال من الاحوال[30].

خطوات على هدى العبقرية:

المسألة والحلول الناقصة

يقوم التبرير الذي يقدمه ارسطو للتعميم المستند على الاستقراء الناقص على ثلاث دعائم او ركائز اساسية.

الدعامة الاولى: مبدأ التلازم او السببية بين موضوع النتيجة ومحمولها.

الدعامة الثانية: عدم تكرار الصدفة النسبية لا دائمياً ولا اكثرياً.

الدعامة الثالثة: الحالات المتماثلة تؤدي الى نتائج متماثل.

وارسطو وضع هذه المبادىء، لتبرير النتيجة اولا، وتسويغ التعميم ثانياً، وتعليل الشمول المستقبلي للافراد ثالثاً. وكل مبدأ يؤدي المهمة الملقاة على عاتقه بالترتيب، وان كل مبدأ من هذه المبادىء ضرورة عقلية اولية.

الشهيد الصدر يتناول ارسطو ليناقشه في «الدعامة الثانية» ليبين انها ليست معرفة قبلية كما يظن ارسطو، ولأجل ذلك اورد الصدر سبعة اعتراضات حادة[31]. ومن المعلوم ان المبدأ الذي ينفي الصدفة المطلقة، اذا فقد صفة المعرفة القبلية، لم يعد قادراً على تبرير الانتقال من الخاص الى العام وعندها يكون المنطق الارسطي قد أخفق في هذا المضمار.

بعد ذلك ينتقل الشهيد الصدر الى المنطق التجريبي، ليفحص بدقة قدرته على تقديم تفسيرمقنع، للتعميم فيكتشف انه يعاني من نقاط ضعف تطيح به من الأساس[32]. وسبق ان استعرضنا بعض ملاحظات الشهيد في هذا الموضوع بـ «النموذج الثالث» من عنوان: من ملامح الرد الحاسم.

مذهب التوالد الذاتي

بعد ذلك يتعرض الامام الشهيد الصدر ! الى التعريف عموماً بنظريته لتفسير الاستقراء وتبرير «التعميم»، وهي النظرية التي اطلق عليها عنوان «المذهب الذاتي» وفيها يختلف عن المذهبين العقلي والتجريبي، ويستهل الشهيد عرضه للنظرية بالاشارة الى ان هناك نقطتين رئيسيتين في تفسير المعرفة وهما:

أ ـ تحديد مصدر المعرفة.

ب ـ تفسير نمو المعرفة: أي كيف تتوالد المعارف الثانوية من المعارف القبلية الاولية. والشهيد في نظريته يتفق في النقطة الاولى مع العقلين القائلين بوجود معارف سابقة على الحس والتجربة، وبالأخص مبدأ «عدم التناقض»[33] ومصادرات الدليل الاستقرائي التي يثبتها هو بما فيها[34] وبذلك يفترق عن التجربيين الذين يؤكدون ان كل معارفنا تعود بالتحليل الأخير الى التجربة بما فيها البديهيات التي يزعمها المنطق الشكلي.

امّا في الفرة (ب) فانه يجانب بصورة حادة المذهب العقلي، لانه لا يؤمن الا بطريقة واحدة في انماء المعرفة، التي يسميها «التوالد الموضوعي»، وهو يعني انه متى ما وجد تلازم بين قضية او مجموعة قضايا وقضية اخرى فاننا نستحصل على قضية جديدة، اي ان المعرفة هنا نمت وتكاثرت، وهذا هو الأساس في القياس الارسطي كما هو معلوم من مهمة «الحد الاوسط». اما الشهيد الصدر فيرى ان هناك طريقة اخرى لنمو المعرفة يدعوها بـ «التوالد الذاتي» وفيها يظفر الانسان بمعارف جديدة من التلازم بين الجانبين الذاتيين من المعرفة لا التلازم بين الجانبين الموضعيين للمعرفة كما يذهب ارسطو، وان التعميمات الاستقرائية أساسها هو «التوالد الذاتي»، وان التوالد الموضوعي يبقى طريقة في انماء المعرفة ولكن ليس في ميدان الاستقراء، فقد ثبت عجزه عن ذلك بعد أن سجل الشهيد الصدر عليه سبعة ردود حاسمة.

على ان التعميمات الاستقرائية لا يمكن ان تتخلى عن طريقة التوالد الموضوعي، ذلك انها تمر بمرحلتين:

الاولى: مرحلة التوالد الموضوعي، ولكنها لا تنفع في التعميم، اذن ما هو عملها؟! انها تؤدي الى درجة من الصدق، ولا يمكن ان تقود الى اليقين.

الثانية: مرحلة التوالد الذاتي، وفيها تتم تنمية درجة الاحتمال المستحصلة من التوالد الموضوعي للوصول بها الى اليقين[35].

المنهج الاستنباطي وحساب الاحتمالات:

يرى الشهيد الصدر ان المنهج الاستنباطي المستخدم في التعميمات الاستقرائية ان هو الا تطبيق لنظرية الاحتمال العامة، اي ان مرحلة التوالد الموضوعي التي تفيد درجة من الصدق ـ دون اليقين ـ ترتبط ارتباطاً اساسياً بنظرية الاحتمال، بل هي تطبيق لها.

ولذا تعرض الشهيد لنظرية الاحتمال في قاعدتها العامة والتي يوضحها الرياضيون في مثل حسابي مدرسي عام.

«ما هي درجة احتمال ظهور وجه الصورة او الكتابة اذا ألقينا قطعة نقود في الهواء، حيثما اتفقاننا سوف نجيب على هذا السؤال بأنه 2/1»[36]. ثم يطرح الشهيد بديهيات نظرية الاحتمالات والتي هي ستة كما يعرضها الرياضيون، ولاجل الفائدة نستعرضها هنا:

(1) ان هناك قيمة واحدة ـ لا اكثر ـ لاحتمال ح/ل اذا افترضنا (ل)، (ح).

(2) ان القيم الممكنة ل: ح/ل محصورة بين (0 ـ 1).

(3) بديهية اليقين، وتعني رياضياً: اذا كانت (ح) تستلزم (ل) فان احتمال

ح/ل= 1.

(4) بديهية الاستحالة وتعني رياضياً: «اذا كانت (ح) لا تستلزم (ل) فان احتمال ح/ل= صفر.

(5) بديهية الاتصال وتعني رياضياً ان احتمال كل من (ل) و (ك) في وقت واحد بالنسبة الى (ح) هو احتمال (ل) بالنسبة الى (ح) مضروباً باحتمال (ك) بالنسبة الى (ل) و (ح)، وهو ايضاً احتمال(ك) بالنسبة الى (ح) مضروباً باحتمال (ل) بالنسبة الى (ك) و (ح).

(6) بديهية الانفصال وتعني رياضياً: ان احتمال (ل) او (ك) بالنسبة الى (ح) هو احتمال (ل) بالنسبة الى (ح) مضافاً اليه احتمال (ك) بالنسبة الى (ح) مطروحاً منه احتمال (ل) و (ك) معاً[37].

وللبديهيات تطبيقات متعددة تسمي بـ «قواعد حساب الاحتمالات» وللفائدة ايضاً ننقلها عن كتاب مدرسي:

(1) قاعدة الجمع بين الحوادث المتنافرة او الطاردة او المعاندة، ومعادلتها الرياضية هي ج (أ1أ و أ2)= ح(أ1)+ ح(أ2) حيث أ1، أ2 حادثتان متمانعتان.

(2) قاعدة الجمع بين الحوادث غير المتمانعة ومعادلتها الرياضية هي: ـ

ح(أ1 او أ2) = ح(أ1)+ ح(أ2) ح(أ1، أ2) حيث أ1، أ2 حادثتان غير متمانعتين.

(3) قاعدة الضرب في الحوادث المستقلة ومعادلتها الرياضية هى:

ح(أ1،أ2) = ح(أ1) × ح(أ2) حيث ان أ1، أ2، حادثتان مستقلتان.

(4) قاعدة الضرب في الحوادث غير المستقلة، وهي التي تحتوي على احتمال شرطى، ومعادلتها الرياضية هي ح(أ1، أ2) = ح(أ1) × ح(أ2/أ1) حيث ان ح(أ2 / أ1) تسمى بالاحتمال الشرطي، وتعني احتمال وقوع أ2 مع العلم بان أ1 قد وقع فعلا[38].

بعد هذا يمضي السيد الشهيد جولة طويلة في التطبيقات الرياضية لهذه القاعد، حيث يتعرض في الاثناء لنظرية (برنولي) ومعالجاتها. ثم يطرق موضوع تفسير الاحتمال مبتدأ بمشكلة التعريف، وهناك تعريفان مشهوران:

التعريف الاول:

يقوم على اساس القيم الاحتمالية المتساوية، ويرى الشهيد الصدر انه تعريف ناقص لانه يفترض دائماً قيمة احتمالية سابقة. اذ يفسر الاحتمال بانه يشبه الحالات الموافقة للحادثة المطلوبة الى مجموع الحالات الترقبة، بعد افتراض ان جميع تلك الحالات متساوية[39]. ثم يورد مشكلتين اخريين في هذا الصدد[40].

التعريف الثاني:

يقوم على اساس التكرار، ويوضح بأن هناك فئتين، ولكل منهما افرادها او اعضاؤها الموجودون. وهناك فئة ثالثة مركبة من السابقتين، أي تشتمل على الاعضاء الداخلين في الفئتين، فما هي درجة احتمال الفرد الذي نختاره عشوائياً من الفئة الاولى داخلا في الفئة الثانية؟!

ويرى السيد الشهيد ان هذا التعريف ينطبق على بعض حالات الاحتمال دون بعض، ويستعرض الادلة على ذلك[41]. وهنا يقترح تعريفاً ثالثاً بعد أن يبني ذلك على «العلم الاجمالي». ولذا قدم تفسيراً اضافياً لهذا العلم كمقدمة ضرورية وبتحليل الشهيد ان العلم الاجمالي يتقوم بأربع حقائق هي:

(1) العلم بشيء غير محدد لانه ضمن اطراف متعددة «العلم الكلي».

(2) مجموعة الاطراف التي يتكون منها العلم الاجمالي.

(3) مجموعة الاحتمالات التي يطابق عددها عدد مجموع الاطراف التي يتشكل منها العلم الاجمالي.

(4) التنافي بين اعضاء مجموعة الاطراف، والتنافي يرجع لأحد سببين وهما: التمانع أو الاشتباه[42]. والتعريف الذي يضعه الشهيد بعد هذا التمهيد التوضيحي والضروري في ان واحد يلخصه بما يلي:

«ان الاحتمال الذي يمكن تحديد قيمته هو دائماً عضو في مجموعة الاحتمالات التي تتمثل في علم من العلوم الاجمالية، وقيمته تساوي دائماً ناتج قسمة رقم اليقين على عدداعضاء مجموعة الاطراف التي تتمثل في ذلك العلم الاجمالي»[43]. فالاحتمال ليس نسبة ولا تكراراً، بل هو درجة من التصديق ـ دون اليقن، وهذا التصديق قيمة رياضية مستمدة من الرياضيات وبديهيات الاحتمال، وعندها ينتهي بالنتيجة الخطيرة التالية:

«ان الاستقراء يؤدي الى الاقتراب باحتمالاتنا الى الحقيقة، ولكن هذا لا يعني ربط درجة الاحتمال بالتكرار مباشرة، بل ان الاحتمال دائماً يقوم على اساس العلم بالاجمالي، والاستقراء يقرب الاحتمال من الحقيقة عن طريق تعميم العلم الاجمالي واثرائه»[44] كل ذلك بعد ان دلل الشهيد على انسجام التعريف مع البديهيات الست وقواعد الحساب في الاحتمالات وبيّن وفاء التعريف في استيعاب كل الحالات التي عجز عنها تعريف التكرار.

ولكن الشهيد الصدر يستدرك ويقول: انّ التعريف المذكور لكي يؤدي دوره بنجاح «وفاء التعريف بالبديهيات + انسجام التعريف مع الجانب الحسابي للنظرة الاحتمالية + استيعاب التعريف للاحتمال التي لم يستطع على أساس التكرار ان يستوعبها».. لكي يؤدي هذا الدور يحتاج الى اضافة خمس بديهيات غير رياضية وهي:

البديهية الاولي: «انقسام العلم الاجمالي بالتساوي»:

ان عدد الاحتمالات المتوقعة تشكل علماً اجمالياً كلياً، لأننا بين يدي علم غير محدد أزاء مجموعة من الاطراف، الا أن هذا العلم الاجمالي الكلي موزع على اعظائه بالتساوي.

البديهية الثانية: «الضرب في العلوم الاجمالية»:

لو كان لدينا قطعة نقد، وقطعة ذات ستة أوجه مرقمة من (1 ـ 6)، فمما لا ريب فيه ان احتمال ظهور الصورة او الكتابة = 2/1، واحتمال ظهور رقم (6) = 6/1، ولكن اذا علمنا لسبب من الاسباب، ان الصورة لا تظهر الا مقترنة بالرقم (6)، فان ذلك سوف يؤدي الى انخفاض احتمال ظهور الصورة، وهذا يتأتّى من ضرب العلمين الاجماليين، حيث نحصل على علم اجمالي ثالث هو الذي يحدد القيمة الحقيقية للعضو، وهي تختلف عن القيمة التي يحددها العلم الاجمالي السابق[45].

البديهية الثالثة: «الحكومة في بعض العلوم الاجمالية»: ـ

لو توفر لدينا علم اجمالي كلي، وهذا العلم الاجمالي الكلي مقيد بصفة معينة، وترددنا بأن هذه الصفة المقيدة موجودة في شىء من الاشياء، فالواجب ان نتوجه الى هذا الشيء المشكوك بصورد مسبقة على العلم الاجمالي الاوّل، ونحاول ان نحدد قيمة الصفة فيه، وبقدر ما تتوفر من قيم احتماليةء تنفي وجود الصفة المذكورة، يضعف ان يكون ذلك الشيء هو المعلوم بالعلم الاجمالي اي ان العلم الاجمالي بالنفي يكون حاكماً على العلم الاجمالي الاول، فلا حاجة عندئذ الى الضرب، وبالتالي لا ينشأ علم اجمالي ثالث[46].

البديهية الرابعة: «الحكومة في الاسباب والمسببات»:

اذا علمت ان احد اخويك سوف يزورك فاحتمال زيارة اي منهما لك تساوي 2/1، ولنفترض انك على يقين سابق بان اي الاخوين اذا زارك يصطحب معه أحد اولاده، والاول له ولد واحد، والثاني له اربعة اولاد، فان احتمال زيارة احد الاولاد = 5/1، وهي نفسها قيمة احتمال زيارة ابن اخيك الاول ولكن يجب ان تعرف ان قيمة احتمال زيارة الاخ الاول التي هي 2/1 نفسها، تشكل قيمة احتمال زيارة ابنه لك، لانه اذا قرر زيارتك لابد ان يصحب معه ابنه، وهذا يعني ان قيمة العلم الاجمالي في الفئة الاولى حاكمة على قيمة العلم الاجمالي في الفئة الثانية، وليس العكس، اي ان العلم الاجمالي الثاني مقيد تقييداً حقيقياً بالعلم الاجمالي الاول، فيما الاول مقيد تقييدياً اصطناعياً بالعلم الاجمالي[47]. لأن ليس من الضرورة أن تكون زيارة احد الاولاد لك سبباً في زيارة الاخ.

البديهية الخامسة: «العلوم الاجمالية الشرطية والحملية».

لنفترض ان لدينا علماً اجمالياً شرطياً مثل «اذا لم يكن فلان مريضاً فسوف يزور اخاه في عشرة ايام مرة واحدة، فان هذا العلم ينطوي على شرط ثابت وهو «عدم مرض فلان» فاذا اتفق وعلمنا انه خلال الايام التسعة (1 ـ 9) لم يقم (فلان) بزيارة أخيه، وليس لدينا علم كامل عن الزيارة في اليوم العاشر، نكون قد علمنا بمرضه بنسبة (10/9)، اي ان الجزاءات غير الثابتة «والتي هي تسع حالات هنا» تنفي الشرط المنفي «عدم المرض» بمقدار ما تتمتع به من قيم احتمالية من مجموع القيم المحتملة التي يضمها العلم اولا، ومما لا ريب فيه ان العلم الاجمالي الشرطي بهذه الصورة يمتلك قابلية واضحة على تنمية الاحتمال، ولكن على شرط ان يكون الجزاء محدداً في الواقع. ولكن هناك جهل فيه ناتج عن التردد بين جملة من البدائل اما لو كان الجزاء غير محدد، فان الاحتمال هنا لا يخضع لامكان تنميته. ومثاله ان نفترض ان في الحقيبة (ن) كرة سوداء من عشرة كرات بيضاء، فيتكون لدينا علم اجمالي شرطي، هو اذا وجد في الحقيبة (ن) عشر كرات بيضاء فان كرة واحدة على الأقل سوداء، فالجزاء هنا مردد بين عشرة بدائد. ومن الطبيعي ان الجزاء في هذه القضية ينطوي على تناقض في ذات المواقع، وهو لا يتحدد على اساس النقص في خبرة الانسان وانما في الاستحالة الخارجية، ولا يمكن حتى لذات كلية العلم ان تخرج بنتيجة أبداً، ولذلك من الخطأ تطبيق نظرية الاحتمال هنا[48].

دور الاستقراء في المعرفة

يتناول الامام الصدر المرحلة الاستنباطية للدليل الاستقرائي على ضوء التعريف والبديهيات الاضافية والاصلية في نظرية الاحتمال، ويحاول ان يثبت ان الاستقراء طريق ناجح لتصعيد قيمة الاحتمال، بحيث يصل بها الى درجة عالية من التصديق دونما حاجة الى معارف قبلية، سواء على طريقة ارسطو «اذا تكررت المشاهدات على وقوع شيء، وعلم بالعقل انه ليس اتفاقاً اذا الاتفاقيات لا تكون دائمة ولا اكثرية، كانت التجربة مفيدة لليقين»[49]. او الطرق التجربية، وطريقته في ذلك ان يفترض الانسان علماً اجمالياً ذا اطراف متعددة، بحيث يكون كل طرف مستلزم للقضية الاستقرائية فتصبح القضية محوراً لعدد من القيم الاحتمالية، مساوية للاطراف التي يتشكل منها العلم الاجمالي، وينمو هذا العدد باطراد التجارب المتوالية، ويستعرض الشهيد لاثبات ذلك اربعة تطبيقات مختلفة، وذلك تبعاً للموقف من مبدأ السببية العقلي، لأن في هذا الخصوص توجد اربعة تصورات، حيث يطرح في الاثناء توضيحات مهمة عن معنى السببية بالمذهبين المتنازعين «العقلي، التجريبي» كذلك يفرق بدقة متناهية بين السببية الوجودية والسببية العدمية وهذه خلاصة لذلك بنقاط:

(1) ان السببية بالمذهب العقلي علاقة ضرورية بين مفهومين، بينما هي في التجريبي مجرد تتابع زمني بين شيئين.

(2) ان السببية الوجودية تفيد وجود المعلول عند وجود العلة، فيما الذي تفيده السببية العدمية عدم العلة علة لعدم المعلول.

(3) ان المذهب التجريبي يجيز الصدفة المطلقة على كل حال، فيما ان المذهب العقلي يجعلها مستحيلة في السببية العدمية، ولكن هذا لا ينعكس مع السببية الوجودية[50].

ان التطبيقات الاربعة التي يدرسها الشهيد الصدر تثبت النتيجة التالية: ـ

ان المنهج الاستنباطي الارسطي تطبيق لنظرية الاحتمال، وان المعرفة بهذه المرحلة لا تحتاج الي معارف سابقة، ولكنها تتوقف على افتراض عدم وجود مبرر قبلي لرفض علاقات السببية بالمفهوم العقلي، وهذا لا يكلف الدليل الاستقرائي اثباتاً مسبقاً، لأن الرفض هو الذي يحتاج الى اثبات، وأمّا عدم الرفض القبلي فمؤونته خفيفة جداً لأنها تتطلب عدم وجود شىء فحسب، وبغير ذلك يصعب على كل انسان الظفر بمعرفة استقرائية[51].

اليقين في المعرفة الاستقرائية

المرحلة الاولى من عملية الاستنباط الموضوعي ان هي الا تجميع للقيم الاحتمالية التي تصل بالقضية الى درجة عالية من التصديق، أي ان التوالد الموضوعي لا يبرهن يقياً على سببة (أ) ل ـ (ب)، وانما على درجة من التصديق بسببية (أ) ل ـ (ب)، واليقين يكون من اختصاص مرحلة التوالد الذاتي، وهذا يتطلب معرفة اليقين، والشهيد يقول هناك ثلاث معان في هذا الصدد:

(1) اليقين المنطقي او الرياضي: ويعني العلم بقضية معينة + العلم باستحالة ان لا تكون القضية المذكورة بالشكل الذي علم، وذلك وفق المنهج الارسطي بالاستنباط.

(2) اليقين الذاتي: جزم الانسان بصدق قضية ما، سواء هناك مبررات موضوعية ام لا.

(3) اليقين الموضوعي: هو التصديق بأعلى درجة ممكنة، على أن تكون هذه الدرجة متطابقة مع الدرجة التي تقرضها المببرات الموضوعية، ذلك ان كل قضية تفترض ناحيتين:

أ ـ موضوع القضية مثل «مات جارنا» ويتحدد اليقين وفيها وفق انطباقه مع الواقع.

ب ـ درجة التصديق، لأنه قد يكون الموضوع قد وقع فعلا ولكن هناك مببرات موضوعية تجعلني لا اصدق، أو هناك من المببرات ما يجعلن اصدق بدرجة معينة.

واليقين الموضوعي يتعلق بالفقرة (ب) البعيدة عن المحتوى النفسي للانسان، وواضح جداً كما ان هناك يقيناً موضوعياً، فهناك احتمال موضوعي الذي يعبر عن درجة من التصديق ـ دون اليقين[52]. ومرحلة التوالد الذاتي هي التي تتعهد مسؤولية الوصول بهذا التصديق الى اليقين. ولكن هذا اليقين الموضوعي يحتاج الى مصادرة معطاة مباشرة والمصادرة هي:

ان سير المعرفة الاستقرائية اذا أفرزت تراكم القيم الاحتمالية حول محور يمثل أحد اعضاء العلم الاجمالي، فانه سيحصل على قيمة احتمالية كبيرة، وهذه بدورها تتحول الى يقين ضمن شروط معينة. وعند ذلك سيكون مصير القيمة الاحتمالية الصغيرة الى الفناء وهذا يأتي من الطبيعة التي صممت عليها طريقة المعرفة البشرية، والفناء ليس بفعل عوامل نفسية او اجنبية، أمّا اذا اثير سؤال عن حدود تلك القيمة الاحتمالية التي تفني، فالجواب يكمن في تقدير المقابل واليقين الذي تعترضه المصادرة معطى طبيعي للانسان السوي[53]. وتطبيق المصادرة يستوجب شرطاً اساسياً وهو:

أن لا يؤدي فناء القيمة الاحتمالية الصغيرة الى فناء القيمة الاحتمالية الكبيرة، فذلك يحصل فيما اذا عندنا علم اجمالي واحد، «وجود كتاب ناقص من مجموعة عشر كتب»، ثم احتملنا أن يكون هذا الكتاب هو الناقص فانه في هذه الحالة تكون عندنا تسع وحدات تنفي عنه هذه الصفة وفي قباله احتمال ضئيل جداً (10/1)، ولكن رغم ذلك فان هذه القيمة الكبيرة لا تتحول الى يقين، وليس لها صلاحية نفي القيمة الصغيرة جداً تبعاً لافتراضه هو الناقص، لأن كل كتاب يمكن ان يكون محوراً لمثل هذا التجمع، والا فان هذا النفي سوف يدور مع العشرة واحداً واحداً، على اثر التجمع الكبير ازاء كل كتاب، وبالتالي سيفنى العلم كله!! او ان هذا يضطرنا اليالقل بأن حق النفي للقيمة الصغيرة من حق هذا المحور دون ذاك، وهو باطل، لأن كل المحاور ذات علاقة واحدة ومتساوية بالعلم الاجمالي، ولكي تكون المصادرة مقبولة، يجب ان نفترض علمين اجماليين[54]. ويستعرض الشهيد ! لتطبيق هذه المرحلة من نظريته شكلين، حيث نرى تارة ان القيمة الاحتمالية الكبيرة المستحصلة من العلم الاجمالي الثاني، تتحول الى جزم بنفيها القيمة الاحتمالية الضئيلة في العلم الاجمالي الاول، ولم يرد في العملية المحذوران السابقان، لعدم وجود التلازم بين القيمتين لتعدد العلم[55]، ونرى تارة اخرى ان القيمة الاحتمالية الكبيرة تفني القيمة الاحتمالية الصغيرة، ولكن في علم اجمالي واحد، وهذا بطبيعة الحال يتنافى وشرط المصادرة، ولكن السيد الشهيد يوضح ان العلم في هذا المقام، لا يفني نفسه ولا يؤدي الى مفارقة الترجيح بلا مرجح، لأننا افترضنا ان العلم لا يفني الا قيمة واحدة من قيمه، ولأن هذه القيمة أصغر كل القيم كمية. ولكن هذا الشكل يتطلب تدخل علم اجمالي ثاني، ليكون سبباً في تغاير قيم الاطراف في العلم الاجمالي الاوّل، ذلك اننا عرفنا في نظرية الاحتمال ان قيمه متساوية، ولهذا ستكون مهمة العلم الاصيل توزيع العلم الاول على حصصه بالتفاوت ويوضح الشهيد ذلك بمثالين[56].

القضايا اليقينية في المنطق الارسطي ست وهي:

(1) الأوليات: وهي قضايا يؤمن بها العقل لذاتها «الكل اعظم من الجزء».

(2) المحسوسات: وهي قضايا يحكم بها بواسطة الحس «الشمس مضيئة».

(3) التجريبيات: وهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة تكرر المشاهدة «الحديد يتمدد بالحرارة».

(4) المتواترات: وهي قضايا يحكم بها العقل لاخبار جماعة كثيرة يمتنع تواطؤهم على الكذب.

(5) الحدسيات: وهي قضايا يؤمن بها العقل على أساس الحدس.

(6) الفطريات: وهي قضايا مجرد أن تحضر في الذهن يصدقها «الاثنان نصف الاربعة».

وبالتحليل ترجع كل المعارف الى هذه اليقينيات الست، حيث يعتقد ارسطو انها جميعاً يقينية، والقضية التجربية تكتسب هذه الصفة اعتماداً على مبدأ نفي الصدفة المطلقة كما مرّ بنا، والقضية الحدسية ترجع الى المبدأ نفسه.

ولكن السيد الشهيد برهن على ان المبدأ المذكور هو الآخر تجريبي استقرائي، وبهذا يخفق التصور الارسطي لأنها تتحول الى معارف مستنتجة، وذات درجة من التصديق دون اليقين، والجزم فيها لا يحصل الا بتنمية هذه الدرجة التصديقية في ضوء نظرية المذهب الذاتي. والقضية المتواترة هي االخرى استقرائية لانها عبارة عن تجميع قيم احتمالية تدور حول محور واحد هو «أن واحداً من المخبرين على الأقل لم يكن لديه مصلحة شخصية للكذب، وبتطبيق قواعد المرحلة الذاتية نحصل على اليقين.

والقضية الحسية تكتسب موضوعيتها من الاستقراء ايضاً، وعندها لا يكون هناك اي معنى لنفي الواقع الموضوعي للعالم، اذ يكفي ان نفترض ان احد القضايا المحسوسة ذات واقع خارجي، ثم نمضي عبر مرحلتي الاستقراء والمذهب الذاتي لنبرهن عى ذلك، وقد أثبت الشهيد ذلك من خلال تطبيق دقيق للنظرية على ظاهرة البرق، وبعدها فان هذا يجيز لنا ان نقول ان العالم موجود، وهنا يفترق الشهيد عن ارسطو في خصوص ايمانه بوجود العالم الخارجي، لانه يعتبر ذلك قضية اولية، كما انه يختلف عن الفيلسوف المثالي لانهينكر اي قيمة موضوعية لهذا العالم خارج أذهاننا ومشاعرنا.

تبقى لدينا القضية الاولية والفطرية حيث يرى ارسطو ان القضية الاولية يثبت فيها المحمول للموضوع ثبوتاً ضرورياً «الكل اعظم من الجزء»، بمجرد تصور الطرفين، اي من غير حاجة الى سبب خارجي، ولكن الشهيد يقول: بامكاننا ان نفترض الصورتين ثم نخضع ذلك للاستقراء، والحالة الاولى تفرز علاقة مفهومية دائمة بين «الكل» و «اعظم من جزء»، فيما وجود السبب الخارجي يفرز افتراضات كثيرة جداً، وهي جميعاً تستوجب مصاحبة السبب الخارجي المتفرض الموضوع في جميع حالاته دون استثناء.

وهنا يتسطيع الدليل الاستقرائي ان يبرهن على علاقة اللزوم من استيعابه «امتصاصه» احتمالات وجود هذا السبب المزعوم، لان احتمال ان يكون البديل المفترض عن اللازم موجود مع الموضوع دائماً تشكل قيمة واحدة وهي حيادية، فيما الاحتمالات الاخرى تكشف عن ان البديل المذكور غير موجود ولو مرّة واحدة، وهذه الاحتمالات تتكرر لصالح الافتراض المضاد الذي يثبت التلازم[57].

ولكن هنا استثناءان:

الاول: ان مبدأ عدم التناقض فوق الاستقراء، ولذا يجب افتراضه معرفة قبلية، لان هذا المبدأ هو الاساس في تجميع الاحتمالات حول محور واحد، والا سيكون كل احتمال هو ولا هو في آن واحد فيستحيل التجمع المطرد.

الثاني: استثناء كل المصادرات التي يحتاجها الدليل الاستقرائي في سيره الاستدلالي بما فيها بديهيات الاحتمال.

ولذلك ان اي قضية نريد اثباتها استقرائياً يتطلب اثباتها ايماناً مسبقاً بمبدأ عدم التناقض ومصادرات الاستقراء.

وملاحظة في غاية الاهمية: ان اليقينيات الارسطية الست يمكن الاستدلال عليها استقرائياً، ولكن لا يعني هذا انها فعلا استقرائية بل الذي يعنيه السيد الشهيد انها يمكن ان تخضع للتفسير الاستقرائي، وهذا لا يتناقض مع كونها معارف قبلية[58].

ولكي تتضح هذه الفكرة يميّز الشهيد بينالقضايا الاولية والقضايا الاستقرائية في ثلاث نقاط:

(1) عدم ازدياد الوضوح بالقضايا الاولية تبعاً لازدياد الامثلة والشواهد، فيما نرى العكس بالقضايا الاستقرائية (1+1=2) «الحديد يتمدد بالحرارة».

(2) عدم استعداد الانسان لتصديق اي استثناء للقضية القبلية، فيما يكون الاستثناء ممكناً في القضايا الاستقرائية ولك ان تقارن بين معرفتين: «زيد موجود ومعدوم في آن واحد» «النار غير حارة» فمهما نقل اليك الناقلون عن وجود المعرفة الاولى سوف تصر على الرفض، فيما قد يتزحزح اعتقادك بالمعرفة الثانية اذا أخبر جمع غفير من الناس عن عكسها.

(3) القضية الاولية صدقها مطلق في كل الاحوال والعوالم، ولكن القضية الاستقرائية قد لا تمتد الى كل العوالم، ف ـ (1+1=2) في كل عالم افترضناه، ولكن قد يوجد عالم ليس فيه النار حارة[59].

ثم ينتقل الامام الشهيد لدراسة مسألة مهمة تحت عنوان «هل توجد معرفة قبلية»؟ ويشير الى أن المذهب الوضعي يعتمد الاستقراء في المعرفة، وهذا يتطلب منه الايمان المسبق، ببديهيات الاحتمال، وهذا لا ينسجم مع القاعدة الاساسية في المذهب التي تنكر كل معرفة سابقة على الحس والتجربة والا ستكون نفس بديهيات الاحتمال هي الاخرى احتمالات تحتاج الى تنمية، وهكذا دون الوصول الى نتيجة، ويعاني المذهب الوضعي في هذا الصدد من مأزق حاد، اذ لو كانت التجربة هي المصدر الوحيد، فلماذا تحصل قضايا الرياضة والمنطق على اليقين، بينما تحرم من ذلك قضايا الطبيعة؟ وهذا مما اضطر الوضعيين الى المساواة بين قضايا المنطق والرياضة وقضايا الطبيعة، وعالجوا المشكلة بالطريقة التالية:

ان القضايا الرياضية قسمان:

الاولى: الرياضة البحتة، وهي في اصولها منطقية. وعليه تتمتع بالضرورة واليقين لكونها تكرارية مثل (2+2=4) فالطرف الأيمن ذاته الطرف الأيسر.

الثاني: الرياضة التطبيقية مثل هندسة اقليدس وهي ليست مطلقة بدليل اكتشاف انواع اخرى من الهندسة، وهي قضايا اخبارية أي تحمل شيئاً جديداً.

ويقول السيد الشهيد: ان هذا لا ينفع المنطق الوضعي للخروج من المأزق، لثلاثة اسباب هي:

(1) لنفرض أن الرياضة البحتة تكرار، ولكن أليس من حقنا ان نسأل عن مصدر اليقين الذي تمتاز به على قضايا الطبيعة؟ فالمشكلة اذن ما زالت قائمة.

(2) لو افترضنا ان الرياضة التطبيقية ليست ضرورية الصدق ضرورة مطلقة، ولكن ماذا يقول هؤلاء لو تحولت بديهيات اقليدس الى قضايا شرطية؟ حيث تطالب آنذاك جماعة المنطق الوضعي بيان سبب اليقين.

(3) وهناك ملاحظة على كل التجربيين، اذ ان منطقهم ينطوي على تهافت واضح ودقيق، لأن قولهم ان التجربة هي مصدر كل معرفة، امّا معرفة اولية او ثانوية، في الحالة الاولى ينهار المذهب من أساسه، وفي الحالة الثانية فهي قضية محتملة فلماذا التعميم اذن؟ [60].

وأخيراً يبحث السيد الشهيد «هل من الضروري ان يكون للمعرفة بداية؟».. في الحقيقة لابد ان تكون هناك بداية غير مستنتجة بأية صورة من الصور، والا لو ركزت على قضية في ذهني وحاولت الاستدلال عليها بمعرفة سابقة، وهذه الاخرى اخضعتها لهذا المقياس، وهكذا دون توقف على معرفة اولية، فهذا يعني اني استغرق عمري ولم اعرف شيئاً.

ويناقش الشهيد الصدر في هذا الصدد محاولة «رايخنباخ» والتي تقوم على ثلاثة اسس:

(1) ان المعرفة الانسانية كلها احتمالية.

(2) ان هذه المعرفة الاحتمالية تفسير على أساس الاحتمال.

(3) ان يؤخذ الاحتمال في نظرية الاحتمال بمعنى التكرار، ويفترض ان نسبة التكرار في الحاضر ثابتة في المستقبل، فكل احتمال عبارة عن نسبة تخضع لاحتمالات متكررة، وهذه هي الاخرى تقوم على نسبة من الاحتمالات المتكررة دون افتراض نهاية لهذا التراجع.

وحاول «برتراند رسل» ان يبطل هذا التصور لان المراجعة قد تقود بنا الى الصفر بفعل ظروف عديدة تتحدد في وقتها، وبهذا تنعدم كل امكانية للمعرفة. وقد اعترض السيد الشهيد على ان المراجعة ليس بالضرورة ان تكون وفق تسلسل تنازلي، لان الخطأ المحتمل قد يكون في صالح الاحتمال. واستفاد في اثبات ذلك منمثل استشهد به برتراند رسل.

أمّا الشهيد الصدر فيرد على المحاولة في أن «رايخنباخ» افترض مسبقاً صحة بديهيات الاحتمال، وبهذا اعترف بمعرفة اولية[61].

غالب حسن الشابندر

[1] فلسفتنا ـ الطبعة العاشرة ص 76.

[2] نفس المصدر السابق ص 76 ـ 79.

[3] تاريخ الفلسفة الحديثة ص (144 ـ 164 ـ 173).

[4] نفس المصدر السابق ص 61.

[5] فلسفتنا ص (114 ـ 115).

[6] تاريخ الفلسفة الحديثة ص 347.

[7] الاسس المنطقية للاستقراء ص 79.

[8] نفس المصدر السابق ص 89 ـ 93.

[9] راجع تاريخ الفلسفة الحديثة ص 173 ـ 174 ـ 177 ـ 178.

[10] فلسفتنا ص 80 ـ 82.

[11] نفس المصدر السابق ص 81.

[12] نفس المصدر السابق ص 68.

[13] الاسس المنطقية للاستقراء ص 95 ـ 128.

[14] راجع كل كتب الماركسية في الفلسفة، وآخرها المادية الديالكتيكية لمجموعة من الاساتذة السوفيت، ترجمة عدنان جاموس.

[15] فلسفتنا ص 134 ـ 135.

[16] عقائد المفكرين في القرن العشرين ـ عباس محمود العقاد ص 36 ـ 38.

[17] فلسفتنا ص 131 ـ 136.

[18] بداية الحكمة، العلامة الطباطبائي ـ طبعة دار المصطفى سنة 1982، ص78 ـ 101.

[19] فلسفتنا ص 347 ـ 352.

[20] نهاية الحكمة: العلامة الطباطبائي ص 139 ـ 145.

[21] فلسفتنا ص 331.

[22] نفس المصدر السابق ص 68.

[23] المادية الديالكتيكية، الاساتذة السوفيت ترجمة عدنان جاموس.

[24] منطق المظفر ج 1.

[25] فلسفتنا ص 262.

[26] نفس المصدر السابق ص 275 ـ 276 (الهامش).

[27] نفس المصدر السابق ص 273.

[28] نفس المصدر السابق ص 198.

[29] الاسس المنطقية للاستقراء ـ الخاتمة.

[30] نفس المصدر السابق ـ الخاتمة ص 507.

[31] نفس المصدر السابق ص 31 ـ 68.

[32] نفس الصمدر السابق ص 75 ـ 128.

[33] نفس المصدر السابق ص 473.

[34] نفس المصدر السابق ص 473.

[35] نفس المصدر السابق ص 133 ـ 141.

[36] مبادئ في الرياضيات ـ دكتور عبد العزيز فهمي هيكل ص 497.

[37] الاسس المنطقية للاستقراء ص 148 ـ 149.

[38] مبادئ في الرياضيات ـ عبد العزيز فهمي ـ طبعة دار النهضة العربية في بيروت ص 500 ـ 516.

[39] الاسس المنطقية للاستقراء ص 168 ـ 169.

[40] نفس المصدر السابق ص 170 ـ 176.

[41] نفس المصدر السابق ص 176 ـ 186.

[42] نفس المصدر السابق ص 187 ـ 190.

[43] نفس المصدر السابق ص 191.

[44] نفس المصدر السابق ص 222.

[45] نفس المصدر السابق ص 223 ـ 225.

[46] نفس المصدر السابق ص 225 ـ 230.

[47])  نفس المصدر السابق ص 234 ـ 246.

[48] الاسس المنطقية للاستقراء ص 238 ـ 246.

[49] هامش الاشارات والتنبيهات ـ الجزء الاول ـ ص 217.

[50] نفس المصدر السابق ص 256 ـ 261.

[51] نفس المصدر السابق ص 262 ـ 301.

[52] نفس المصدر السابق ص 355 ـ 366.

[53] نفس المصدر السابق ص 368 ـ 370.

[54] نفس المصدر السابق ص 370 ـ 373.

[55] نفس الصمدر السابق ص 374 ـ 390.

[56] نفس المصدر السابق ص 391 ـ 410.

[57] الاسس المنطقية للاستقراء ص 421 ـ 473.

[58] نفس المصدر السابق ص 474.

[59] نفس المصدر السابق ص 474 ـ 476.

[60] نفس المصدر السابق ص 482 ـ 492.

[61] نفس المصدر السابق ص 500 ـ 503.