مذاهب الاستقراء الحديثة وموقف الصدر منها

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

يعرّف الدليل الاستقرائي عادة بأنه استدلال يعتمد على حالات خاصة قليلة لينتهي بالنتيجة الى حالة عامة، كما هو الحال في القانون الاستقرائي القائل ‹‹كل حديد يتمدد بالحرارة››، فلا شك انه ناتج عن اختبار عدد محدود من قطع الحديد بالحرارة. والحقيقة ان الاستقراء لم تقتصر وظيفته على اثبات الحالة العامة. اذ لا شك ان له دوراً آخر في اثبات الحالة الفردية من خلال ملاحظة القرائن وتجميع الاحتمالات حتى يصل بها الى درجة الاثبات او اليقين. فمثلاً كيف نعرف ان ذلك القدح مملوء بالماء لا الخمر، لولا عملية الاستقراء الكاشفة عن عدة قرائن احتمالية تتراكم لتصل الى مرحلة الجزم واليقين. ومن الواضح ان هناك مشكلة اساسية في الاستقراء، ففي مثالنا الانف الذكر ‹‹كل حديد يتمدد بالحرارة›› علمنا انه جاء نتيجة عدة اختبارات لقطع محدودة من الحديد، وبالتالي كيف جاز لنا ان نعمم النتيجة ونعتبر كل حديد يتمدد بالحرارة؟ وبعبارة اخرى: كيف نحكم بما هو شاهد على ما هو غائب؟ وكيف نحول ما هو خاص جزئي الى ما هو عام كلي؟ ومن ثم كيف نبرر عملية اليقين في التعميم، بل وكيف نبرر كذلك حالة اليقين في اثبات القضايا الفردية؟ وكيف يسوغ لنا ان نحول الاحتمال مهما بلغت قوته الى يقين جازم مطلق؟

وهكذا فان مشكلة الاستقراء في جوهرها هي مشكلة اليقين والتعميم. واذا ما علمنا ان اغلب المعارف االبشرية هي معارف استقرائية، ادركنا قيمة الجهود التي تبذل لتفسير عملية الاستقراء. فتفسير هذه العملية هو في حد ذاته تفسير لأغلب المعارف التي يتزود بها الفكر البشري. من هنا جاءت دراسة (الاسس المنطقية للاستقراء) وهي تعبّر عن هذا المعنى. فهي ليست مجرد تفسير للاستقراء بما هو استدلال فحسب، بل انها تمثل تفسيراً لاغلب معارف الفكر البشري، سواء كانت علمية او حسية او ميتافيزيقية او غير ذلك من المعارف الاخرى.

موقفان متناقضان

والمتتبع للمذاهب التي عالجت مشكلة الإستقراء، سيجد انها تفترق من الناحية الرئيسية إلى موقفين متناقضين، أحدهما قديم يمتد إلى أرسطو واتباعه من العقليين ومَن سار على شاكلتهم، والاخر حديث يبدأ من فيلسوف الشك التنويري ديفيد هيوم. فبينما كان المنطق العقلي يرى ان الإستقراء محلول أمره من أوله إلى آخره دون ان يعي أي مشكلة يمكن ان يشار اليها بالبنان؛ جاء الفكر الحديث وهو يرى ان مشكلة التعميم واليقين مستعصية، مبدياً عدم تفاؤله بأي أمل لإنقاذ المعرفة البشرية من براثن الشكوك والظنون. ووسط هذا الضباب،  بين عدم الوعي بالمشكلة والوعي بها، وبين حل القضية والتعذر عن حلها، جاء دور الصدر الريادي ليدشّن طريقاً جديدة في المعرفة البشرية. لقد وقف الصدر موقفاً مزدوجاً تجاه كل من المنطق الأرسطي والمنطق الحديث، فهو مع المنطق الأرسطي أخذ ينعى عليه حلوله الساذجة، ويكشف عما فيها من دور ومصارات ليس الإستقراء بحاجة اليها. أما موقفه مع المنطق الحديث، فهو وإن وافقه على وجود مشكلة منطقية في الإستقراء، لكنه اعتقد بالقدرة على تذليلها والقضاء عليها. فهو يتفق مع المنطق الحديث ويعي ان البرهنة على قضايا التعميم واليقين في قضايا الإستقراء إنما هو ضرب من المستحيل، لكنه مع ذلك سلك سبيلاً آخر لم يسبق له مثيل، حيث انه افترض اليقين في العملية الإستقرائية وقام بتبريره منطقياً.

من الناحية التاريخية ان أقدم المصادر التي تطلعنا على الاعتراف بوجود مشكلة في الإستقراء هي تلك التي تعود إلى جابر بن حيان الكوفي خلال القرن الثاني للهجرة، حيث انه لا يرى ما يبرر اليقين في التنبؤ بالحوادث والتعميمات الإستقرائية، ويعتبر ان الدلالة عليها لا تزيد عن محض الإحتمال. فابتداءً يرى ان اضعف حالات الدليل هو ذلك الذي لا يعول إلا على شاهد واحد، كمن يقول بأن إمرأة ما ستلد غلاماً وذلك اعتماداً على ما رآه انها قد ولدت قبل ذلك ولداً واحداً لا غير. في حين يعتبر ان أقوى حالات الإستدلال بالإستقراء هو ما كانت شواهد الوجود دالة عليه من غير مخالف، كمن يقول بأن ليلتنا هذه ستنكشف عن يوم يتبعها، استناداً إلى ما رآه من اضطراد في تتابع الليل والنهار. وبين هذه الحالة والحالة التي قبلها؛ هناك حالات أخرى تتفاوت قوة وضعفاً بحسب كثرة النظائر وقلتها. وهو في جميع الاحوال لا يرى في هذه الحالات ما يفضي إلى اليقين، بل فيها ظن وحسبان تبعاً لما يدرك من نظام وشبه ومماثلة ‹‹حتى انه لو حدث في يوم ما من السنة حادث لترجو حدوث مثل ذلك الحادث بعينه في ذلك اليوم من السنة الأخرى، فإن حدث في ذلك اليوم بعينه من هذه السنة مثل ذلك الحادث تأكد عندهم ذلك ان سيحدث مثله في السنة الثالثة، وإن حدث في السنة الثالثة أيضاً، حتى إذا حدث ذلك مثلاً عشر مرار في عشر سنين لم يشكوا البتة في حدوثه في كل سنة››. ويزداد الوقع في النفس فيما لو زاد العدد، فكيف إذا ما كان الاضطراد على وتيرة واحدة من الحدوث؟! وقد اعتبر جابر ان هذا الحال اوهم بعض رجال العلم مثل جالينوس، فمع تمكنه من العلم وتدربه في النظر فإنه حسِب مثل تلك الحالات المضطردة عقلية أولية، فقال في كتابه البرهان: ‹‹ان من المقدمات الأولية في العقل انه إذا كان الصيف يتبعه الخريف لا محالة، فإنه لم يكن إلا بعد خروج الربيع››. وهذا ما أنكره جابر، ذلك انه لا يُؤمّن ان يحدث هناك صيف لا يعقبه خريف ولم يتقدمه ربيع. وهو على العموم يرى ان علة عدم قدرتنا على التيقن من الحوادث المستقبلية جاء لسبب عدم احاطتنا بإدراك جميع الموجودات[1] .

لكن يظل ان الفضل في الكشف عن طبيعة المشكل المنطقي الذي يتضمنه الدليل الإستقرائي؛ يعود إلى الفيلسوف الانجليزي ديفيد هيوم (1711ـ1776) المعروف بنقده للمعرفة ورده على النزعة العقلية. فهو في مواقفه النقدية أثار مشاكل جديدة كان لها الاثر البالغ على نضج التفكير الفلسفي لدى الذين خلفوه؛ سواء من التجريبيين كالوضعية المنطقية، أو من العقليين كالفيلسوف عمانوئيل كانت الذي قال صراحة: ‹‹انني لاعترف صادقاً ان ما استذكرته من تعليم ديفيد هيوم كان هو على وجه التحديد العامل الذي أحدث – منذ اعوام كثيرة – اول هزة ايقظتني من سبات جمودي الاعتقادي، ووجّه أبحاثي في مجال الفلسفة التأملية وجهة جديدة››[2]. وعليه كان الهدف من كتابه الموسوم (نقد العقل المجرد) هو انقاذ المعرفة البشرية من خطر الانتقادات التي أحدثها هيوم.

وعلى العموم ان ظهور هيوم والرد عليه من قبل كانت ثم مجيء الوضعية المنطقية التي نقدت ما قبلها؛ كل ذلك قد ادى إلى بلورة المشاكل الأساسية المتعلقة بالدليل الإستقرائي.

فما من أحد يشك في ان هيوم هو اول من وجد في الإستقراء مشكلة منطقية.. هذه المشكلة التي تتحدد بمسألة وجود المبرر المنطقي للترجيح والتعميم؛ اعتماداً على فهم السببية بشكل خاص. لذلك كانت هناك مواقف مختلفة اتجاه الدليل الإستقرائي؛ بعضها ينفي المشكلة من الأساس، وبعض آخر يرى أنها ثابتة لا تزول، كما توجد هناك مواقف أخرى لا تصل إلى هذين الحدين المتطرفين، وتبتغي سبلاً متباينة من الوسط.

وقد ارتبطت بهذه المشكلة مشكلة منطقية أخرى تتعلق بمبرر اليقين في القضايا الإستقرائية؛ حتى تلك التي لا تكون لها علاقة بالتعميم؛ كمعرفتنا بوجود واقع موضوعي حولنا، وبوجود زيد وموت سقراط ونشوء الارض.. الخ.

منهج دراسة المنطق التجريبي

لقد اعتمد المفكر الصدر في دراسته للمنطق التجريبي على التصنيف القائم حسب درجة الوثوق بالدليل الاستقرائي، اذ قسّمه الى ثلاثة آراء: الاول عبارة عن الاتجاه اليقيني الذي يجعل الدليل الاستقرائي مؤهلاً لاعطاء درجة اليقين والتعميم في القضية الاستقرائية، كما هو موقف الفيلسوف الانجليزي جون ستيوارت مل (1806ـ1873). والثاني عبارة عن الاتجاه الترجيحي الذي لا يهب الدليل أكثر من امكانية الكشف عن مراتب الترجيح في القضية الاستقرائية، كما هو الحال مع الوضعية المنطقية. أما الثالث فعبارة عن الاتجاه التشكيكي الذي يشك في القيمة الموضوعية للقضية الاستقرائية، وذلك لانه يعتبر الدليل عاجزاً عن اعطاء هذه القضية أي درجة من درجات الترجيح فضلاً عن اليقين، كما يلاحظ لدى فلسفة ديفيد هيوم[i]. وهناك اتجاه آخر اعتبره المفكر الصدر امتداداً لتفسير هيوم، ويتمثل بالمدرسة السلوكية التي على رأسها العالم الامريكي جون واطسون (1878ـ1958)، حيث بلغ في تفسيره الى أن يرد الاستدلال الاستقرائي الى عملية فسيولوجية لا منطقية، كأي جانب اخر من جوانب النشاط الانساني.

ونحن في معرض دراستنا لمذاهب الاستقراء سوف لا نقوم بتوزيع الاتجاهات تبعاً للنتائج الاخيرة من تقويم الدليل الاستقرائي، بل سنعمل على توزيعها استناداً الى مواقفها من المشكلة المنطقية لهذا الدليل ونوع الحلول المرتبطة بها. ذلك ان هذه المشكلة تنطوي على نوعين من الحلول، هما الاثبات الاستدلالي والتبرير الاستقرائي، والعلاقة بينهما علاقة تضمنية او اقتضائية، ذلك ان الاثبات الاستدلالي يتضمن التبرير او يقتضيه، لكن العكس ليس صحيحاً. اي ان هذا الاخير لا يتضمن الاول ولا يقتضيه. فمثلاً كثيراً ما يعول العلم على نظرية ويرجحها على اخرى لبعض المبررات التي ليس لها علاقة بالعملية الاثباتية، ومن ذلك الاخذ بنظرية كوبرنيكوس وترجيحها على نظرية بطليموس؛ تبعاً للتبرير الخاص بمبدأ البساطة. كما ان التبرير تارة يكون منطقياً واخرى علمياً. ذلك حيث ان المبرر العلمي يجري جرياناً نفعياً (براجماتياً) وإن لم يملك المبرر المنطقي الكافي، وبالتالي فان الدليل الاستقرائي وإن كان مستخدماً في العلم بطريقة او اخرى، الا انه من الناحية المنطقية يحتاج الى تبرير اخر غير ما تقدم من النوع النفعي الانف الذكر. والحال نفسه ينطبق على مبدأ السببية، حيث ان العلماء ليس بوسعهم الاستغناء عن خدماتها، رغم ان تبريرها منطقياً هو امر اخر كالذي يتطرق اليه الفلاسفة ومناطقة العلم. وعليه كانت هناك مواقف متعددة للفلاسفة ازاء التبرير الاستقرائي، فبعضهم قام بتبريره منطقياً، وبعض اخر منع ذلك، كما ان هناك من اكتفى بالتبرير العلمي النفعي فحسب.

هكذا انقسم الفلاسفة الى عدد من الاتجاهات ازاء اثبات الدليل الاستقرائي وتبريره منطقياً. فهناك من لم يجد في الدليل الاستقرائي مشكلة منطقية، وبالتالي كان من الممكن تقديم الحل الاثباتي والتبريري، كالذي عليه المنطق الارسطي وعدد من المفكرين الغربيين كفرانسيس بيكون وجون ستيوارت مل والماركسية وغيرهم. وقريب منه الاعتقاد الذي يثق بقابلية الدليل الاستقرائي على الحل الاثباتي في الحدود الترجيحية، مع تبرير درجة اليقين، كالذي عليه المفكر الصدر. وعلى العكس من ذلك هناك من وجد في الدليل الاستقرائي مشكلة منطقية ثابتة ليس فيها مجال للحل الاثباتي ولا التبرير، بل وليس في غير الدليل الاستقرائي حل اخر يستعاض به عن ذلك، وهو الاعتقاد الذي التزم به ديفيد هيوم. وبعض اخر فعل مثلما فعل هيوم في موقفه من الدليل الاستقرائي، لكنه وجد في غيره ملاذاً للحل التبريري، وهو ما عليه فيلسوف العلم كارل بوبر. وفي قبال هؤلاء جميعاً هناك من سلّم بوجود المشكلة المنطقية واكتفى بالحل التبريري النفعي، كالذي عليه الوضعية المنطقية.

الاتجاه الافتراضي والنزعة القبلية

أول ما يواجهنا في الاتجاه الافتراضي هو المنطق الارسطي الذي لم يشكك ابداً بالقيمة الموضوعية التي يفرزها الاستقراء. اذ هو يعتقد ان هذه الاداة صالحة لبناء المعرفة طالما تخضع تحت تحكم بعض المبادئ القبلية التي تُضفي عليها صفة القياس المنطقي.

واذا كان هذا المنطق لا يجد في الاستقراء مشكلة ذاتية نابعة من طبيعته، فلا يعني ذلك انه ينفي عنه سائر المشاكل الاخرى؛ كتلك الموصوفة بجواز الوقوع في الخطأ العارض، وهي من المشاكل الواقعية. ولا شك ان لها حسابها في التوالد القياسي للأستقراء الارسطي.

لكن من الناحية المبدئية يظل الاستقراء الارسطي محكوماً باعطاء نتيجة كلية صحيحة من دون شك، طالما انها تخضع الى حكم القضايا القبلية. فضلاً عن ان مبرره لاثبات القضايا الكلية، يعود الى فهمه الخاص لعلاقات الطبيعة، إذ يراها تنطوي على الروابط الحتمية الخاصة بين ماهيات الاسباب والمسببات. وهو على الرغم من عدم إدعائه القدرة على استنتاج هذه العلاقات قبلاً بواسطة العقل؛ لكنه يسلّم مبدئياً بمحكومية تلك العلاقات ضمن اطر الاعتبارات القبلية، الامر الذي يضفي عليها النزعة العقلية؛ استناداً الى مبادئ خاصة مثل المبدأ القائل بأن الاتفاق (الصدفة) لا يتكرر أكثرياً ولا دائمياً، ومبدأ الانسجام القائل بأن الحالات المتشابهة تؤدي الى نتائج متماثلة. لذا كان اكتشاف هذه العلاقات عبر الملاحظة والتجارب لا يغيّر من الفهم الارسطي حول رد القضايا الاستقرائية الى الصور العقلية وما تتضمنه من اعتبارات الضرورة. ومن ثم فبهذا الاعتبار لا ينطوي الاستقراء على مشكلة منطقية تستحق الفحص والتأمل.

على ان نفس هذه النتيجة يمكن استخلاصها من دراسة الموقف العقلي الحديث من الاستقراء. فهو ايضاً يرى الطبيعة تتضمن الصور الحتمية من العلاقات، فلا يبقى للباحث من مهمة سوى تشخيصها واستخلاص كلياتها، أو العمل على تعميمها بسلام!

وقد بلغ الامر ببعض الفلاسفة الى ان يرد علاقات الطبيعة الى شكل من الاشكال المنطقية. فالفيلسوف الحديث لايبنتز  يرى ان من الممكن رد كل علوم الطبيعة الى الرياضة، والمعرفة التجريبية الى التفكير المنطقي المجرد؛ فيستنبط مثلاً من مفهوم (النار) انها حارة تُمدد الحديد وتغلي المياه، وكذلك من مفهوم (افلاطون) انه كان فيلسوفاً إغريقياً ترجع اليه نظرية المثل… الخ[ii]. وهو فهم يحاكي المنطق الارسطي في رؤيته الاستنباطية القائمة على ماهيات الاشياء.

يظل ان الفلاسفة العقليين اذا ما استثنينا منهم (كانت) لا يتصورون وجود مشكلة تلوح المعرفة البشرية عامة والاستقرائية منها على وجه الخصوص. وحتى (كانت) فانه يضع للمعرفة شروطاً قبلية تعمل على قبول ما يطلق عليه (الشيء لذاتنا)، جاعلاً (الشيء في ذاته) مما لا يمكن التعرف عليه بوجه ما من الوجوه. الامر الذي يجعل القضايا الاستقرائية قضايا ظاهرية تتصحح بما لدينا من مقولات قبلية هي اشبه بالمبادئ العقلية الضرورية. فهو بهذا الاعتبار لا يولي لخصوص الاستقراء مشكلة خاصة.

وليس الغريب فيما ينطوي عليه الموقف العقلي من تبرير الدليل الاستقرائي برده الى حكم القضايا القبلية، انما الغريب فيما تلجأ اليه العديد من الاتجاهات التجريبية من تبرير ينساق بدوره الى حكم المصادرة القبلية. فلو درسنا مواقف كل من بيكون ولوك ومل والماركسية؛ لوجدناها خير من يعبر عن التلبس بمثل هذه المصادرة. فمبدأ الاستقراء بحسب هذه الاتجاهات لا ينطوي على مشكلة في نتائجه وتعميماته، انما يكفي ما يلاحظ من خبرات سابقة كمبرر لتأسيس الاحكام التي صفتها التعميم عما سوف يحدث مستقبلاً.

فاذا اتينا الى بيكون سنجد انه اول من اهتم بالاستقراء كأداة وحيدة لتحصيل المعارف، الا ان الاستقراء الذي اشاد به كان يقتصر على المنهج التصنيفي، إذ فيه يعرض صفة معينة تُدرس من خلال قوائم لظواهر مختلفة، فهناك قائمة تختص بالظواهر التي تمتلك تلك الصفة، واخرى فيها ما يشابه الظواهر الاولى بوجوه محددة لكنها تخلو من الصفة، وقد تكون هناك قائمة ثالثة تظهر فيها الصفة بشكل متفاوت. وغرض بيكون في منهجه التصنيفي هو لأجل التعرف على الصور الحقيقية لصفات الاشياء، ثم تعميمها على مشابهاتها، وهو لم يعن به كمنهج لدراسة تعلّق الظواهر بعضها بالبعض الآخر[iii] 5 . كما ان هذا المنهج وإن كان مفيداً في وقته، الا ان التطورات اللاحقة التي اعقبته تجاوزت ما كان عليه من بساطة، فأولت للرياضة والفروض العلمية دوراً هاماً في البحوث الاستقرائية[iv]. أما من الناحية المنطقية فيلاحظ ان عصر بيكون لم يحن له الوقت بعدُ ليدرك ما يتخلل الدليل الاستقرائي من فجوة معرفية تحتاج الى الملاحظة والنقد.

ويمكن ان يقال نفس الشيء بالنسبة الى مذهب جون لوك الذي ايّد بيكون بسلامة ما استخدمه من الاداة الاستقرائية. لكنه مع هذا واجه مشكلة من نوع آخر إعترضته بطريق الصدفة. فبإعتقاده ان معرفتنا لخواص الاشياء محدودة بحيث لا تبلغ درجة اليقين ولا التعميم، وسبب ذلك يرجع الى ضعف طريقة الاختبار التي نمتلكها لفحص الوقائع الخارجية، فلو ان هذه الطريقة تغيرت لكان من الممكن تحقيق كامل الاستنتاجات الصحيحة للقضايا الاستقرائية. والطريقة التي تصورها لوك في كسب الاستنتاج الصحيح؛ تعتمد على معرفة الصفات الاولية للجزيئات التي تتكون منها الاشياء الخارجية، فلو ان حواس الانسان كانت قوية ونافذة الى تلك الصفات؛ لأمكن إستنتاج كل الخواص المرئية للاشياء، كإن نستنتج مثلاً ان كل قطعة من الذهب لها قابلية على الطرق [v] .

كذلك ان الماركسية هي الاخرى قد خلت من العنصر النقدي للاستقراء ولم تقدّر وجود مشكلة منطقية فيه، وموقفها من علاقات الطبيعة يشابه الموقف العقلي، حيث ترى ان هذه العلاقات يتجاذبها شكلان من الروابط، احداهما روابط حتمية، والاخرى عرضية او صدفوية، وكلاهما محكومتان بمبدأ السببية العامة. فكما تقول: ‹‹ان كافة الظواهر التي تجري في الطبيعة مشروطة سببياً، فليس هناك من عملية، من حادثة الا ولها اسبابها. لكن ليس كل ما حدث، او يحدث الان في الطبيعة ام المجتمع شيئاً ضرورياً. فالى جانب الضرورة هناك صدفة موضوعية واقعية هي شكل لتجلي الضرورة وتكميل لها… فبالنسبة الى الانسان يكون الموت مثلاً امراً طبيعياً، لكن السنة التي يموت فيها ـ ناهيك عن الساعة والدقيقة! ـ هي صدفة الى حد ما، تتوقف على عدد من الاسباب والظروف غير المشروطة على نحو محدد تماماً بالضرورة المعنية. وليس من الصدفة مثلاً ان يضغط الغاز على جدار الوعاء في درجة معينة من الحرارة، ولكن العرضي هو ان الجزيئات التي تضرب على الجدار هي هذه الجزيئات وليست تلك. كذلك فإن من الامور الحتمية ان يتحلل نصف نوعي عنصر مشع خلال نصف دور تحلله، لكن العرضي هو أية ذرات تحللت في هذه الفترة وايها لم تتحلل››[vi].

فبهذا الفهم لعلاقات الطبيعة لا توجد هناك مشكلة منطقية للاستقراء، إذ مع لحاظ توفر ذات الشروط في علاقات الطبيعة لابد ان تكون النتائج المستقبلية واحدة باضطراد. الامر الذي عليه يتأسس التنبؤ بمجرى الوقائع والاحداث[vii]. والميزة الخاصة لهذا الموقف هو انه يعود الى إتجاه لا علاقة له بالمنطق العقلي، لكنه يتلبس بمصادراته القبلية. فيكفي ان نلاحظ الإشكالين الآتيين:

1  ـ إن الاعتقاد بالسببية العامة لا دليل عليه وفق المباني التجريبية؛ باعتبارها من المبادئ الكلية غير المشروطة، وذلك لأنها تتجاوز إطار العلاقات الملحوظة في الطبيعة.

2  ـ إن الخضوع للمنطق التجريبي لا يبعث على كشف الضرورة في علاقات الطبيعة، وبالتالي فإن التعميم لا يستند الى ركيزة يقوم عليها في الدليل الاستقرائي.

ستيوارت مل ومصادرات الإستقراء

حين نتقدم لدراسة آراء جون  ستيوارت مل سنجد فيها نضجاً متكاملاً قياساً مع الآراء السابقة. فهو من ابرز الرجال الذين إهتموا بمعالجة الإستقراء وتحليله رغم عدم إكتراثه بالمشاكل الذاتية التي كشف النقاب عنها ديفيد هيوم. وهو وإن كان متأثراً بأفكار هذا الأخير لكنه يختلف معه في الموقف من الإستقراء. فلأن كان هيوم يرى الإستقراء منطوياً على عقدة ذاتية؛ فإن الأمر عند مل غير محمول على محمل الجد. ولأن كان الأول يبني تحليله للإستقراء من خلال مبدأ السببية؛ فإن الآخر يصادره إبتداءاً، وعليه يقيم استكشافه للسببية. هذا بالاضافة إلى ان فهمهما للسببية مختلف، فهي عند مل تنطوي على الضرورة، وعند هيوم مجرد تتابع زمني.

ويلاحظ في موقف مل وجود مصادرتين أساسيتين كالاتي:

الاولى ايمانه المطلق بمبدأ الإستقراء كأداة صحيحة وسليمة لكسب المعارف جميعاً دون إستثناء. فحتى العلوم التي يعتبرها المذهب العقلي اولية كعدم التناقض والعلية ومبادئ الرياضيات؛ فإنها عند مل مستمدة من التجربة والإستقراء، بل وتخضع إلى تفسير قوانين تداعي المعاني التي ادلى بها هيوم[3]. وكما يقول: ‹‹إن اصل كل العلوم، حتى تلك العلوم الإستنباطية أو البرهانية هو الإستقراء››[4].

أما المصادرة الثانية فهي انه قام بتبرير ما ينشأ لدينا من تعميمات مستقبلية طبقاً لما يلاحظ من ثبات في الوقائع المضطردة في الماضي[5]. فهذه المصادرة تعتمد على ما تنتجه المصادرة الأولى في توليد الخبرات السابقة، والتي تصبح فيها الطبيعة بمثابة الكتاب الذي يمكن ان يحكي ما فيه دون حاجة لاضافة خارجية. الأمر الذي يتطلب ان يكون المتطلع اليها مؤمناً بما تضفي عليه من حقائق، إذ لا مهمة للباحث سوى ان يصِف ما يجري فيها من غير إضافة عقلية أو ذاتية.

هكذا فبحسب المصادرة الأولى لا فرق لاداة الإستقراء من ان تكشف ما عليه الطبيعة من علاقات؛ سواء إتصفت بالخضوع إلى السببية أو كانت صدفوية عديمة النسق. أما بحسب المصادرة الثانية فإنها يمكن ان تقوم بدورها اعتماداً على ما تخلص اليه المصادرة الأولى في الكشف عن السببية، إذ تقوم بتعميم الحكم على الحالات المستقبلية؛ تبعاً لإفتراض الاضطراد الملاحظ في الخبرات السابقة. ذلك ان مل يعتبر التجربة قد علمتنا بأن علاقات الطبيعة ليست فوضوية عشوائية، بل تسير على نسق واحد مركب من عدة اطرادات جزئية تسمى قوانين الطبيعة. وكما يقول: ‹‹اذا تأملنا الاطراد في سلوك الطبيعة المفترض في كل تجربة، فمن الملاحظات الأولى التي تكشف نفسها ان الاطراد في هذه الحالة ليس إطراداً واحداً وإنما هو في الحقيقة عدة اطرادات. فالإنتظام العام ينتج عنه وجود إنتظامات جزئية، وسلوك الطبيعة على العموم ثابت، لأن سلوك كل الظواهر المختلفة تنظمها حقيقة معينة تحدث بلا تغيير عندما تتواجد ظروف معينة، ولا تحدث عندما تغيب هذه الظروف››. ويقول أيضاً: ‹‹فملاحظة الاطراد في سلوك الطبيعة، هو في حد ذاته شيء معقد، ومركب من جميع الاطرادات المتفرقة التي توجد من جهة الظاهرة الفردية. هذه الانتظامات المختلفة، هي ما نسميه في حديثنا العام بقوانين الطبيعة››[6].

وعلى العموم يعتقد مل بوجود نوعين من الاطراد، أحدهما دال على الإقتران في الوجود؛ من قبيل ملاحظة ان كل زنجي يقترن مع ظاهرة تجعد الشعر، وكل صيني يقترن مع انحراف العينين. أما الآخر فهو دال على الإقتران في التتابع، ويطلق عليه السببية، سواء كانت عامة أو خاصة[7]. فكل ظاهرة تسبق أخرى بإطراد وكانت بينهما علاقة ضرورية لا تقبل الانفكاك فإن الأولى تسمى علة والأخرى معلولاً، إذ لا تعني العلة إلا مجموعة الشروط والظروف التي متى تحققت فلابد للمعلول ان يقع بصفة مطردة. فهذه الصفة من الاطراد يمكن تعميمها بحسب المصادرة الثانية، إذ ان قانون تداعي المعاني يجعل الذاكرة تعيد الظواهر بنفس النسق الذي كنا نراه ثابتاً في الطبيعة، طبقاً للضرورة المستنتجة بواسطة الإستقراء[8].

والملاحظ في هذا التفكير انه يواجه بعض الصعوبات كالآتي:

أولاً: ان مصادرته لمبدأ الإستقراء في تحقيق القضايا المعرفية يصطدم مع ما يلاقيه من مشكلة منطقية تلوح عملية الترجيح وتحويله إلى اليقين. ذلك ان معرفة قضايا الطبيعة لا يمكن فصلها عن إعتبارات مبادئ الإحتمال واصوله. فاذا كانت جميع المعارف نتاج التجربة والإستقراء؛ فكيف نبرر الحكم على قضية إستقرائية مثل سببية الحرارة لتمدد الحديد؛ مع انها تخضع للعديد من الإحتمالات الممكنة، وهذه الإحتمالات إذا كانت مستنتجة بدورها من خلال الإستقراء فسوف نقع في دوامة من الدور والتسلسل، ولو لم تكن إستقرائية لكانت مصادرة قبلية لا تتناسب مع ما عليه مذهب مل والاتجاه التجريبي عامة. كذلك فإن الاستناد إلى منطق الإحتمالات والترجيح لا يحول القضية الإستقرائية إلى يقين، الأمر الذي يحتاج إلى منطق آخر مختلف كالذي دعا اليه المفكر الصدر على ما سنرى.

ثانياً: إن اعتقاده بأن الضرورة مستنتجة عن طريق الإستقراء لا يُقر عليه؛ إذ كل ما يمكن للإستقراء كشفه هو ثبات العلاقات الطبيعية، لكن إثبات هذا الثبات شيء وإعتباره خاضعاً للضرورة شيء آخر.

ثالثاً: إن جعل المستقبل على وتيرة الماضي إن كان يجد ما يفسره نفسياً عن طريق تداعي المعاني؛ فإنه لا يجد ما يبرره منطقياً على ما سنعرف. ويتضاعف الأمر عند التسليم بالتعميم من نوع على آخر. فمثلاً ان أنواع الظواهر التي يخضعها مل للبحث العلمي هي غير الانواع الملاحظة خلال التجارب الماضية، واذا كنا نرى في هذه الأخيرة اطراداً ثابتاً لبعض الانواع بين العلة ومعلولها؛ فكيف يحق لنا ان نفترض سلفاً نفس الثبات بالنسبة للانواع الأخرى من العلاقات؟!

موقف الصدر من إتجاه مل

وبالنسبة لموقف مذهب الصدر من اتجاه مل؛ فيمكن تقسيمه إلى جانبين؛ أحدهما فلسفي والاخر منطقي:

1ـ بخصوص الجانب الفلسفي إتفق المذهبان على ان الإستقراء ليس بحاجة لإفتراض قضايا السببية سلفاً كما هو عليه الاتجاه العقلي. لكن مؤاخذة المفكر الصدر على اتجاه مل تتحدد بأن هذا الأخير رغم انه اعتبر الإستقراء دليلاً كاشفاً عن السببية من حيث الاصل؛ إلا انه عادَ واعتبرها أساساً لبناء التعميمات الإستقرائية اللاحقة. مع انه إذا كان الإستقراء قادراً على إثبات السببية وتعميمها؛ فبإستطاعته ان يثبت ذلك مع أي قضية إستقرائية أخرى بدون حاجة إلى إفتراض قضايا السببية كمصادرات قبلية[9]. وقد يقال انه لا مانع من الاعتماد على الإستقراء بدءاً لإستنتاج السببية ثم الاتكاء عليها لاغراض علمية تفيد تسهيل البحث وتعجيل نتائجه، وهي صورة تشابه تلك التي عمل بها المفكر الصدر، إذ اعتقد انه يمكن إستنتاج القضايا الإستقرائية عن طريق مبدأ عدم التماثل ـ أو عدم تكرر الصدفة ـ الذي هو في حد ذاته نتاج الإستقراء[10]. مع هذا فما يبدو هو ان مل استند إلى قانون السببية العام كشرط في إثبات التبرير الإستقرائي[11]، مما يجعل نظريته واقعة في الدور.

كما ان للمفكر الصدر نقداً آخر ازاء موقف مل التجريبي، وهو يتعلق بخصوص طبيعة السببية. إذ يربط الصدر جميع التعميمات الإستقرائية بحالة إثبات السببية (العقلية) المتضمنة للضرورة، وهو لا يرى قدرة للترجيح والتعميم المستند إلى السببية (التجريبية) العارية عن الضرورة، بل ويرى ان هذه السببية لا تقبل الإثبات ولا الترجيح[12]. ولا شك ان هذا الاشكال يلوح الاتجاه التجريبي الذي يؤكد انكار الضرورة في العلاقة السببية. أما اتجاه مل فما يبدو انه لا ينكر مثل هذه الضرورة كما رأينا.

2ـ أما الجانب المنطقي لموقف المفكر الصدر من اتجاه مل فيمكن ابرازه بعد التعرف على الطريقة التي اعتمدها مل في بناء المنهج العلمي للإستقراء، وهي الطريقة التي تقوم على معالجة نظرية المصادفة.

يعتقد مل ان التنبؤ في القوانين العلمية الإستقرائية يعتمد على معرفة العلاقات الثابتة للسببية في عالم الطبيعة. ففي هذا العالم – كما عرفنا – هناك نوعان من العلاقات؛ أحدهما عبارة عن إرتباطات صدفوية، وهي نتاج تأثير عدد من العلل المتغيرة التي لا يمكن تحديدها. والاخر عبارة عن ارتباطات قائمة على العلية الثابتة. فمثلاً إن سقوط الحجر على الارض لا يعتبر من الارتباطات الصدفوية، وإنما هو من الارتباطات العلية الثابتة؛ بإعتبار أن هناك علاقة لزومية محددة بين سقوط الحجر وبين جاذبية الارض. في حين إن اصطدام سيارتين في طريق ما من الطرق هو إرتباط صدفوي، إذ لا توجد علاقة لزومية محددة بين حركتي السيارتين.

بهذا التفريق لروابط الطبيعة أراد مل أن يضع منهجاً للكشف عن علاقات العلية الثابتة ليتسنى له بناء صيغة علمية للإستقراء. وهنا نتساءل: ما هي الوسيلة المنطقية التي يمكن من خلالها تمييز الارتباطات الصدفوية عن غيرها من الارتباطات السببية الثابتة؟ وبعبارة أخرى، ما هو المنهج الذي يجعلنا نعتبر العلاقة صدفوية أو غير صدفوية؟

حول هذا التساؤل طرح مل في البداية منهج التكرار في الوقائع والاحداث. وخلاصته هو انه إذا كانت هناك ظاهرتان ـ أو اكثر ـ قد تكرر وقوعهما بكثرة؛ فيمكن ان نستنتج بأن بينهما علاقة سببية ثابتة، وإلا إذا لم يتكرر الوقوع على شكل متواتر فالعلاقة بينهما صدفوية. وهو منهج يعبر عن نفس الطريقة التي استخدمها أرسطو في مبدئه القائل (ان الصدفة لا تتكرر اكثرياً ودائمياً).

لكن مل ما لبث ان تنازل عن هذا المنهج ونقده. فبرأيه انه يمكن ان توجد ظواهر تتكرر بشكل متواتر رغم عدم كشفها عن وجود علاقات سببية ثابتة، لعلمنا بكونها صدفوية. كما انه على العكس قد توجد ظواهر أخرى لا تتكرر كثيراً، رغم انها تنطوي على علاقة السببية الثابتة. وبالتالي فهو يرى كما يقول: ان ‹‹المسألة ليست ما إذا كان الوقوع يتكرر كثيراً أو نادراً بالمعنى العادي لهذه الكلمات، وإنما ما إذا كان يتحقق اكثر مما تسمح المصادفة››[13].

فبهذا ان مل لا يضع اجابة تحدد مقدار التكرار الذي يمكن ان تتحقق فيه المصادفة، إذ الأمر يختلف باختلاف الحالات، فالمسألة نسبية تماماً، إذ رب تكرار مستمر لا يخضع إلى السببية الثابتة، ورب تكرار قليل لا يمكن رده إلى المصادفة.

فعن الحالة الأولى يذكر مل إنه قد تكون هناك ظاهرة ـ لنفرضها (أ) ـ موجودة دائماً، واخرى ـ لنفرضها (ب) ـ توجد بين حين وآخر، فتصبح جميع حالات (ب) متفقة في وقوعها مع (أ)، وعلى الرغم من هذا فهو يعتبرها من المصادفات العارضة. ويؤيد ذلك بمثال يضربه حول العلاقة الصدفوية بين النجوم الثوابت الموجودة منذ القدم وبين أي ظاهرة أخرى تحدث على الارض. أما عن الحالة الثانية فيضرب مل مثالاً يخص العلاقة المتغيرة بين هبوب الريح وسقوط المطر، إذ رغم أنه لا يحدث باستمرار لكنه ينطوي على علاقة السببية[14].

لكن هناك من إعترض على الحالة الأولى التي ذكرها مل، حيث انه لم يقم بتوحيد الأسس حين قارن بين إستمرار الوجود وتكرار الوقوع. إذ يفترض أن الظاهرة المتكررة الوقوع تقارن بظاهرة مثلها، وكذا الحال مع الظاهرة المستمرة الوجود[15]. وهو اعتراض يصح فيما لو لم نجد هناك علاقات سببية ثابتة بين الظواهر المختلفة الاسس، أما مع وجداننا لهذه العلاقات فإن صورة الاعتراض تكون ضعيفة الاثر. ونحن حين نستقرئ الواقع سنجد هناك الكثير من تلك العلاقات، فعلى سبيل المثال ان الهواء الذي هو مستمر الوجود له علاقة سببية ثابتة مع تكرر حياة كل فرد من أفراد الإنسان أو الحيوان أو النبات. وحتى مع غض النظر عن ذلك فهناك الكثير أيضاً من الإقترانات المستمرة الوجود أو المتكررة الوقوع والتي يمكن ان نوحد فيها الأسس دون ان نجد فيها روابط ثابتة للسببية، كما هو الحال مع وجود كل من الهواء والارض، إذ هما موجودان باستمرار، أو مع تكرر كل من الولادات والوفيات في كل لحظة. فرغم ان مثل هذه الإقترانات دائمة الوجود أو الوقوع فإن من الواضح انه لا يوجد فيها علاقة سببية لزومية.

على هذا فإن مسألة الإقتران الدائم أو المتكرر لا يبعث دائماً على إستنتاج السببية، كما ان العلل المتغيرة لا تبعث هي الأخرى على منعها. فرمي قطعة النقد – المتساوية الوجهين – باستمرار كبير يخضع إلى ظروف عشوائية وعلل متغيرة، لكن رغم ذلك فإنه يحافظ على معدل الإحتمال المقدر بنصف لكل من الوجهين، مما يجعلنا نتأكد أن هذا الاقتراب ليس مصادفة، بل يعود إلى سببية ثابتة – نسبياً – على الرغم من وجود العلل المتغيرة. لذا كان حل هذه المشكلة يعود إلى صميم نظرية الإحتمال.

وعلى العموم يمكن القول ان مل لم يصل إلى ضابط محدد في التمييز بين علاقات السببية والعلاقات الصدفوية، لكنه إكتفى بوضع عدة طرق نصح باستخدامها كأداة لاستخلاص السببية ضمن منهج الإستقراء العلمي. وهو مع ذلك حذّر الباحث من ان يقف عندها جامداً، كما اعتبرها لا تصلح للتطبيق في جميع الحالات[16]. وتنحصر قواعد كشف السببية عند مل بأربع طرق اطلق عليها: الإتفاق والاختلاف والتلازم في التغير والعوامل المتبقية.

وبحسب المفكر الصدر ان جميع هذه الطرق رغم انها تساعد على تقوية ترجيح ظاهرة السببية الخاصة؛ إلا انها تظل غير قادرة على تبرير درجة اليقين والقضاء على ما يحتمل ان تكون العلاقة المطردة هي علاقة صدفوية. ولا شك انها نقطة جديرة بالاهتمام على الصعيد المنطقي للمشكلة الإستقرائية، الأمر الذي أولاها المفكر الصدر هذه الاهمية في بنائه للدليل الإستقرائي على ما سنرى.

طرق مل الإستقرائية

طريقة الإتفاق

تتحدد هذه الطريقة بأنه لو كانت لدينا ظروف متعددة، وقد اتفق ان وقعت الظاهرة المراد تفسيرها مع ظرف محدد لكل حالة إختبارية نجريها، ففي هذه الحالة يمكن ان يكون هذا الظرف هو الوحيد الذي يعتبر السبب في وقوع الحادثة.

فمثلاً لو كانت لدينا اربع تجارب وقعت فيها الظاهرة (ب) مع بعض الظروف التالية:

(أ، ج، د، هـ، م، ن)، وذلك كالاتي:

في التجربة الأولى: ظهرت (ب) مقترنة مع (أ) و (د) و (هـ).

في التجربة الثانية: ظهرت (ب) مقترنة مع (أ) و (د) و (م) و (ن).

في التجربة الثالثة: ظهرت (ب) مقترنة مع (أ) و (ن).

في التجربة الرابعة: ظهرت (ب) مقترنة مع (أ) و (م).

وبالتعبير الرمزي تكون المواقف السابقة كالاتي:

الموقف الأول: أ + د + هـ تنتج (ب).

الموقف الثاني: أ + د + م + ن تنتج (ب).

الموقف الثالث: أ + ن تنتج (ب).

الموقف الرابع: أ + م تنتج (ب).

من هذه الصور يمكن إعتبار (أ) هي السبب في (ب)، وذلك لأنها الوحيدة التي اقترنت معها في كل التجارب المختبرة. لكن مع هذا فإن طريقة الإتفاق تواجه العديد من الصعوبات، بعضها فني والاخر منطقي. وعلى الصعيد الفني نلاحظ الصعوبات التالية:

1ـ من المسلم به ان هذه الطريقة لا تنفع كأداة شاملة للبحث العلمي.

2ـ تفترض هذه الطريقة وجود ظروف محددة يمكن تعيينها، والحال ان هذه المسألة نسبية، حيث من الصعب تحديد جميع الظروف.

3ـ كما تفترض حصر السبب في ظرف واحد حال إقترانه مع الظاهرة المراد تفسيرها، في حين إن من الصعب تحصيل ظرف منفرد في إقترانه مع الظاهرة. بل كل ظاهرة تقترن مع جملة من الظروف بشكل مستمر، ويزداد الأمر تعقيداً مع الظواهر الاجتماعية.

4ـ في أحيان معينة قد تقترن الظاهرة مع ظرف معين بشكل مستمر، ومع ذلك لا نظن ان ذلك الظرف هو سبب حدوث تلك الظاهرة. فعلى سبيل المثال كان هناك مرض مجهول هاجم في احدى السنين بعض مناطق أمريكا، وكانت ضحاياه الأولى من النساء، وحين بدأ العلماء في البحث عن سبب المرض وجدوا أن الظرف المشترك الذي اتفق وجوده مع المرض هو (الفرو الرخيص) الذى كانت تلبسه النساء المصابات. وبطبيعة الحال لا يعقل أن يأتي في بال الباحثين إعتبار الفرو سبباً لذلك المرض، بل توقعوا أن سبب ذلك يتمثل بوجود بعض الجراثيم المحمولة على الفرو. وفعلاً تحقق هذا التوقع بعد الفحص الدقيق، فكان إتفاق وجود الفرو مرشداً وليس سبباً لحدوث تلك الظاهرة من المرض[17].

اما على الصعيد المنطقي فقد ابرز المفكر الصدر اشكالاً صحيحاً مفاده: انه حتى لو لاحظنا إقتران (أ) مع (ب) دائماً فهو وإن كان يرجح لنا السببية بدرجة عالية من الإحتمال لكنه لا يبرر لنا التأكد منها بدرجة اليقين، وذلك لأن هناك إحتمالاً يظل ساري المفعول مهما كان عدد الإقترانات، وهو إحتمال ان يكون إقتران (أ) بـ (ب) صدفة.

طريقة الاختلاف

وهذه الطريقة على عكس الطريق السابقة، إذ تقر انه إذا كانت هناك ظاهرة تظهر مع مجموعة من الظروف، ثم تختفى في جميع الحالات التي يتغيب احدها، فالمتوقع ان يكون هذا الظرف هو السبب في ايجاد تلك الظاهرة. لنفترض – مثلاً – ان (ب) تظهر مع هذه المجموعة (أ، ج، د، هـ)، وانها لم تظهر مع الظروف التالية (ج، د، هـ)، فالمتوقع ان تكون (أ) هي السبب لـ (ب). فمثلاً لو كانت لدينا اربع تجارب اظهرت لنا النتائج التالية كالاتي:

أ + ج + د + هـ  تنتج (ب).

ج + د  تنتج لا شيء.

د + هـ  تنتج لا شيء.

ج + د + هـ  تنتج لا شيء.

ففي هذه الحالة نتوقع ان تكون (أ) سبباً لـ (ب). وهذه الطريقة تواجه نفس الصعوبات التي مرت على الحالة السابقة (الإتفاق)، سواء على الصعيد الفني أو المنطقي.

الطريقة المزدوجة

تتحقق هذه الطريقة من خلال ايجاد إختبارات تستند إلى كل من قاعدتي الإتفاق والاختلاف.

فمثلاً لو قمنا بستة إختبارات اظهرت لنا النتائج التالية:

أ + ج + د + هـ  تنتج (ب).

أ + ج + هـ  تنتج (ب).

أ تنتج (ب).

ج + د + هـ  تنتج لا شيء.

ج + د تنتج لا شيء.

د + هـ  تنتج لا شيء.

ففي هذه الحالة سوف نتوقع ان تكون (أ) سبباً لـ (ب).

وعلى الرغم من ان هذه الطريقة كثيراً ما يعتمد عليها في الابحاث العلمية، كتجارب باستير وما اليها، لكنها مع ذلك لم تتخلص من جميع المشاكل السابقة على الصعيد الفني، كما انها تواجه نفس المشكلة التي اثارها المفكر الصدر على الصعيد المنطقي.

طريقة التلازم في التغير

بحسب هذه الطريقة انه إذا كانت هناك ظاهرتان تقترنان معاً في حالة من التغير المنتظم؛ فمن المتوقع ان يكون بينهما شكل من السببية. فمثلاً لو كانت (أ) تظهر باشكال مثل (ج، د، هـ، م)، وكانت (ب) تظهر باشكال أخرى مثل (ل، ك، س، ص)، ولاحظنا النتائج التالية:

ج تنتج ل.

د تنتج ك.

هـ تنتج س.

م تنتج ص.

ففي هذه الحالة سنستنتج ان (أ) هي السبب لـ (ب).

وتستخدم هذه القاعدة في حالة عدم إمكان اجراء الطريقة المزدوجة. وقد طبقها مل على تفسير ظاهرة المد والجزر. فالملاحظ ان للقمر مواضع يتغير فيها من مكان إلى آخر بالنسبة للارض، ومع كل موضع يتخذه تحدث حركة في المد والجزر، إذ تحدث حركة المد العالي على جانب الارض الذي يكون اقرب إلى القمر من الجانب الآخر، وحين يتبدل موضع القمر إلى هذا الأخير، فإن المد يلاحقه، مما يعني ان القرب من هذا التابع هو السبب في المد، وذلك نتيجة الجاذبية كما هو معروف.

ومن الواضح ان هذه القاعدة لا تنحصر في حالات التناسب الطردي بين (أ) و (ب)، بل تنطبق أيضاً على حالات التناسب العكسي، كما هو الحال في تفسير ظاهرة الانتحار (الأناني) من خلال التفاوت في درجات التماسك الاجتماعي، إذ كلما زاد هذا الأخير كلما قل الانتحار، وكذلك العكس صحيح.

وفي كلا الحالتين تعتبر هذه الطريقة كفوءة – إلى حد ما – من الناحية الفنية. لكن من الناحية المنطقية تواجه نفس الاشكال الذي طرحه المفكر الصدر على الطرق السابقة، إذ لا مانع من أن يكون إقتران حالات (أ) بحالات (ب) ناتجاً عن الصدفة مهما كانت ضئيلة، لأن المعول عليه هو تبرير درجة اليقين بعد عملية الترجيح الإحتمالي.

طريقة العوامل المتبقية

قدم مل هذه الطريقة الجديدة ليضيفها إلى الطرق السابقة التي ترجع في الاصل إلى بيكون[18]. والمقصود بها انه إذا كان هناك مبدأ معتمد يفسر عدداً من الظواهر باستثناء واحدة لا يتمكن من تفسيرها إلا عند إفتراض وجود ظاهرة أخرى جديدة تؤثر عليها، فالمتوقع هو قبول هذا الإفتراض وتصديقه اتساقاً مع المبدأ السابق. وهذه الطريقة تختلف عن سابقاتها بأنها لا تستخدم لكشف علاقة السببية بين (أ) و(ب)، بل تفترض وجود هذه العلاقة، ومن خلالها يمكن اكتشاف ظواهر جديدة خاضعة لها، إذ لو لم تخضع لها لكان هناك شك في خطأ العلاقة التي افترضناها سابقاً.

ومن امثلتها حالة اكتشاف بعض الظواهر الكونية بالاستناد إلى مبدأ الجاذبية المفترض  حاكميته على مختلف العلاقات المادية. فقد لوحظ ان هناك انحرافاً في مدار الكوكب ‹‹يورانوس›› يحتاج إلى نوع من التفسير الذي يشترط ان لا يكون متعارضاً مع مبدأ الجاذبية المفترض: لذا افترض وجود كوكب آخر مجهول هو الذي يسبب حالة الانحراف في ذلك المدار، وبالفعل فإن احد علماء الفلك استطاع ان يكتشف هذا الكوكب ويحدد مكانه، وهو ما اطلق عليه كوكب نبتون. كما استخدمت هذه الطريقة في الكشف عن غاز الارجون، إذ لوحظ ان غاز الازوت الموجود في الهواء يختلف في خواصه ومن ثم في تركيبه الكيميائي عن غاز الازوت النقي، فافترض ان هناك غازاً مجهولاً يختلط به فيسبب ذلك الفارق. وفعلاً تم اكتشاف هذا الغاز الذي اطلق عليه الارجون. كذلك ان مدام كورى استطاعت ان تكتشف الراديوم عن ذلك الطريق، إذ لاحظت ان بعض المعادن تحتوي على طاقة اشعاعية اكثر منها في المعادن الأخرى، فبحثت عن الظاهرة الخفية من خلال إفتراض وجود عنصر مجهول، حتى تم لها اكتشافه[19].

ولا شك أن هذه الطريقة كفوءة، رغم أن التنبؤ من خلالها قد يكون خاطئاً في أحيان معينة؛ لسبب يعود إما إلى خطأ الفرضية المسلّم بها، أو إلى خطأ يتعلق بنوع التنبؤ ذاته بالخصوص.

أما من الناحية المنطقية فالطريقة السابقة عاجزة كغيرها عن تبرير حالة اليقين بين سببية (أ) و(ب) مهما كان بإمكانها أن تتنبأ به من ظواهر، وذلك لوجود إحتمال أن تكون هناك علل مختلفة ومجتمعة صدفة تعمل على توجيه تلك الظواهر، وهو إحتمال يتناقص بأطراد مع زيادة إكتشاف الظواهر، لكنه لا ينتفي منطقياً.

وعلى العموم فإن طرق مل لا تحل مشكلة الإستقراء في تبرير درجة اليقين؛ كما نبه عليه المفكر الصدر[20]. اضافة إلى انه من الناحية الفنية ان مل لم يعر أهمية للفروض العلمية، فظن أن لها وظائف ثانوية – كحال اعتقاد سابقيه – وذلك بحجة انها تطلق عنان الخيال فتضلل الباحث وتجعل للظاهرة الواحدة العديد من التفاسير، وهو تكرار لبعض ما كان يقوله بيكون[21].

الاتجاه النقدي والمشكلة المنطقية

قلنا سابقاً ان أول من أثار المشكلة المنطقية للإستقراء هو ديفيد هيوم؛ الذي يرجع اليه الفضل في نقد المعرفة عموماً والإستقراء خصوصاً. ويكفي أن ندرك الخطورة التي أحدثها بما شيع عنه أنه ‹‹أثار الفضيحة في الفلسفة››، حيث كثرت المحاولات للتخلص من المأزق الذي حفره ضد كل من العقليين والتجريبيين معاً. وهناك من المفكرين من يؤمن بالطريقة الإستقرائية، لكنه في الوقت ذاته يعترف بعجز الفلسفة عن ان تجد حلاً لمشكلة الإستقراء كما طرحها هيوم، وينطبق هذا الحال على كل من الاستاذين برود ووايتهيد، فهما يؤمنان بالطريقة الإستقرائية، إلا انهما مع ذلك عبرا عن المشكلة الإستقرائية تعبيراً متقارباً، وهو ان الأول اطلق عليها (فضيحة الفلسفة)، في حين وصفها الآخر بـ (بؤس الفلسفة)[22]. وقد ذكر الاستاذ كاتز Katz ان المعضلة التي جاء بها هيوم بقي مفعولها سارياً من دون مقاومة تذكر طوال مائة وثمانين سنة[23]. فمع ان بيرس Peirce قدّم الحجة البراجماتية لتبرير الإستقراء والتي ظهر انها كثيرة الشبه بما سعى اليه من بعد ريشنباخ، لكن ما قدّمه بيرس (سنة 1878) لم يكن معروفاً حتى شيوع افكار ريشنباخ وقبولها كمنافس جدي للشكية التي زرعها هيوم[24].

وطبقاً للاستاذ سالمون ان من الخطأ التصور بأن ما جاء به هيوم هو انه كشف عن فشل الإستقراء في ان يضمن لنا تحقيق النتائج الصحيحة على الدوام، كالذي توهمه الاستاذ كاتز في كتابه (مشكلة الإستقراء وحلها). فعلى رأي سالمون ان هذا الأمر كان معروفاً قبل هيوم بمدة طويلة، بل ما جاء به هذا الأخير ابعد غوراً من ذلك، وهو انه من غير الممكن باي دليل كان ان نثبت ضمان أي نتيجة ايجابية جزئية عبر المقدمات الصحيحة التي يقدمها الدليل الإستقرائي[25]. فمثلاً ليس بوسع المشاهدات الإستقرائية ان تثبت لنا ان هذه النار التي امامنا ستحرقنا إذا ما قذفنا بانفسنا فيها. مما يعني ان الدليل الإستقرائي غير منتج تماماً. بل وزاد على ذلك كاتز، معتبراً ان له محاولة مكملة، وهي انه ليس هناك إمكانية تطمح إلى تبرير الإستقراء على الاطلاق، فالإستقراء لديه لا يمكن تبريره فضلاً عن إثباته[26].

وعلى العموم نرى أن مذهب هيوم في الإستقراء يقوم على أمرين أساسيين لا بد من دراستهما معاً:

الاول: ويتقرر بأن أي محاولة للإستدلال على مبدأ الإستقراء تتعرض للدور، كما أن التعميم فيه لا يملك أي تبرير ممكن.

الثاني: ويتقرر بأن ما نسعى اليه من إستنتاجات إستقرائية وقضايا تعميمية؛ كل ذلك يقوم على فهم خاطئ للسببية. وقد استقطب هذا الجانب اهتمام المفكر الصدر في نقده لهيوم دون الأول.

1ـ محاولة إثبات الدور في الإستقراء

لعل اول من اومأ إلى وجود الدور في الدليل الإستقرائي هو جون لوك، وذلك خلال اواخر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، لكن صياغة هذا النوع من التناقض لم تنكشف بجلاء إلا عند هيوم، رغم انه لا هذا الأخير ولا سابقه لوك قد استخدم مصطلح (الإستقراء) في سياق كلامه عن ذلك التناقض[27].

لقد ادرك هيوم انه لا يوجد ما يبرر الدليل الإستقرائي، سواء لجأنا إلى القياس أو إلى الإستقراء ذاته. فمن حيث ان النتيجة في الإستقراء هي غير منتزعة من المقدمات ولا مستبطنة فيها، فهذا يجعله لا يستند إلى القياس، اما لو اعتبرناه مبرراً تبعاً لعملية النجاح الإستقرائي في الماضي، فإن ذلك يجعله واقعاً في الدور[28].

وتوضيحاً للنقطة الأخيرة، هو ان العملية الإستقرائية لا يمكن لها أن تتم بالشكل المطلوب ما لم يكن هناك إفتراض يقرر بأن العلاقات الجارية في الطبيعة هي علاقات حتمية. وحيث أن هذا الإفتراض لا يمكن البرهنة عليه؛ لذا فإن الإستقراء يظل عاجزاً عن تقديم المعرفة الجديدة. فعلى رأيه أن كل محاولة يراد لها البرهنة على صحة الإستدلال الإستقرائي لا بد أن تواجه حلقة فارغة من الدور. فقد يقال بهذا الصدد ان ملاحظاتنا السابقة للوقائع في الطبيعة هي التي علمتنا صحة الدليل الإستقرائي. فنحن نلاحظ دائماً أن الاوراق التي توضع في النار تحترق، وأن الحديد الذي نقربه من الحرارة يتمدد، وأن الشمس تشرق وتغرب كل يوم، وأن السمك يموت خارج الماء… الخ. فجميع هذه الظواهر جعلتنا نعتبر أن بالإمكان أن نعمم عليها الحالات الأخرى المشابهة لها.

لكن واقع الأمر أننا نستدل على الدليل الإستقرائي من خلال إستقراء آخر، فيتحتم علينا أن نقع في الدور. وسنبرز هذه الحجة من خلال المثال التالي:

لنفترض أنا نريد أن نستدل على القضية القائلة بأن كل نار تحرق. في هذه الحالة لا بد من توفر مقدمتين بالشكل التالي:

الاولى عبارة عن ملاحظاتنا السابقة التي كشفت عن صفة الاحراق للنار. أما الثانية فهي الاقرار بأن الأشياء المتشابهة تخضع إلى نفس الحكم. فمن هاتين المقدمتين نستنتج أن كل نار تحرق.

لكن الملاحظ أن المقدمة الثانية إما أن تكون مصادرة على الإستقراء أو مستدلة به، ولا شك أنه لا يوجد ما يبرر المصادرة. فيبقى انها عبارة عن نتاج إستقرائي، فنكون قد وقعنا بعملية فارغة من الدور. ولا فرق في ذلك فيما لو قلنا ان ما نشاهده من اطرادات منتظمة في الماضي تخول لنا ان نتوقع استمرارها في المستقبل، وما لو قلنا ان نجاح قاعدة الإستقراء في الماضي تدعونا إلى توقع نجاحها في المستقبل، فكل ذلك مما يتضمن الدور، أو إفتراض مصادرة ان الشبيه يأتي بالشبيه طبقاً للقانون الأرسطي (الحالات المتشابهة تفضي إلى نتائج متماثلة) والذي هو أيضاً نتاج العملية الإستقرائية ذاتها، مما يؤكد ما نحن فيه من الدور.

وهناك عبارات عديدة لهيوم يشير فيها إلى هذا النوع من الإفتراض المتعلق بتشابه المستقبل للماضي، ومن ذلك قوله: ‹‹كل النتائج التجريبية تقوم على إفتراض كون المستقبل سيكون وفق ما عليه الماضي››، ‹‹وان جميع الادلة المعتمدة على الخبرة تفترض أساساً كون المستقبل سيشابه الماضي››، ‹‹وان كل التفكير القائم على الخبرة يتأسس على إفتراض ان عمل الطبيعة سوف يستمر على نفس الهيئة باضطراد››[29].

فهذه الحالة من الدور هي نفسها التي لم يكترث لها ستيوارت مل فتعرض إلى نقد من جاء بعده، ومن أبرز هؤلاء النقّاد برتراند رسل الذي قال: ‹‹كان الكتاب الذي أذاع شهرته – لجون ستيوارت مل – أكثر من أي شيء آخر هو كتاب (نسق في المنطق). وكان الشيء الجديد في الكتاب بالنسبة إلى عصره هو معالجته للإستقراء الذي يقوم في رأيه على مجموعة من القواعد تذكرنا إلى حد بعيد بقواعد الارتباط السببي عند هيوم.. وكان رأي مل هو ان ما يعطي مبرراً للسير على هذا النحو – أي بالنسبة إلى تبرير البرهان الإستقرائي – هو الاطراد الملاحظ في الطبيعة، الذي هو ذاته إستقراء على أعلى مستوى. وبالطبع فإن هذا يجعل الحجة كلها حلقة مفرغة، وإن كان يبدو أنه لم يكترث بهذا الامر››[30]. وعلى شاكلة عدم الاكتراث هذا ما ذهب اليه كل من ماكس بلاك وبريثوايت، حيث اعتبرا الاطراد في الماضي ونجاح الإستقراء فيه دليل على نجاحه في المستقبل، ولم يحسبا ذلك من الدور الباطل، بل هو دور بالمعنى الذي تؤكد فيه النتيجة صحة ما سيكون عليه الأمر في الحالات التنبؤية أو المستقبلية. فهذا الدور عندهما ليس فاسداً ولا معاباً أو منافياً للحجة. وقد تعرضا على ذلك للنقد من قبل الاخرين[31].

هكذا ان هيوم يُشْكل على الدليل الإستقرائي بأنه يفشل كلياً في تأسيس المعرفة الخاصة بالتنبؤات المستقبلية وغير المشاهدة إذا ما كانت الطبيعة غير منتظمة أو مطردة، وانه لا يمكننا ان نعرف، لا قبلياً ولا بعدياً، حقيقة ما عليه الطبيعة من انتظام أو عدم انتظام. فلا يوجد سبب قبلي ولا بعدي يبرر صحة الدليل الإستقرائي، إذ القبلي لا يكشف ولا يخبر عما في الخارج، وان البعدي يعتمد على الإستقراء ذاته؛ فكيف يمكن تبرير ذاته؟!

وقد كان عدد من المفكرين يرون مبدأ انتظام الطبيعة واطرادها أساساً قبلياً لحل مشكلة الإستقراء وتبريره، فلو رأينا ظاهرتين إحداهما تتبع الأخرى على الدوام، فالنتيجة تعني انهما سيستمران على هذا النحو من التتابع في المستقبل طبقاً لذلك المبدأ. وهو مبدأ مستقل عن الزمان والمكان، فلو اننا لاحظنا ان الغاز يتمدد بالحرارة في مكان أو لحظة ما يكون فيها الضغط ثابتاً، فإن ذلك  يجعلنا نتأكد من حصول هذه النتيجة على الدوام في المستقبل، وبعض الفلاسفة فضّل صياغة هذا المبدأ بالقاعدة التي تقول: ان نفس السبب ينتج النتيجة ذاتها. أو كما يقول المنطق الأرسطي: (الحالات المتشابهة تنتج نتائج متماثلة). لكن المعترضين على هذا المبدأ هو انه وضع كتبرير لحل المشكلة الإستقرائية مع انه يحتاج إلى تبرير، ذلك انه ليس مبدأً منطقياً بحيث ان مخالفته تفضي إلى التناقض، وبالتالي فهو مستمد من التجربة، الأمر الذي يفضي به إلى الوقوع في الدور، مثلما اكد على ذلك هيوم[32]. ومع انه ليس بالضرورة ان يكون كل مبدأ قبلي قائماً على مبدأ عدم التناقض، لكن لا شك من انه لا بد ان يقوم على مبدأ الضرورة العقلية.

وعلى رأي هيوم ان خبرتنا  الماضية ليست فقط لا تبرر لنا ما سيحدث غداً على وجه اليقين، بل انها أيضاً لا تبرر ذلك على وجه الإحتمال، إذ الإحتمال على رأيه مستمد من نفس إفتراض التشابه المنزوع عن الإستقراء، فكيف نقيم الحكم عليه[33]؟!

وعلى حد قوله: ‹‹ان الإحتمال يتأسس على إفتراض المشابهة بين تلك الموضوعات التي لنا فيها خبرة وتلك التي لم نجربها بعد››[34]. فالإحتمال المتعلق بمعرفة الواقع عند هيوم ينقسم إلى قسمين: أحدهما الإحتمال التخميني الخاص بالمصادفات. والاخر الإحتمال البرهاني الخاص بالاطرادات السببية، ويتصف بأنه ينشأ في البداية على أساس الأول. إلا ان كليهما منزوعان عن الانطباعات الحسية التي تفسرها العادة بحسب كثرة الاحساس بوقوع الحوادث المتشابهة[35]. وهما على هذا عاريان عن الشكل المنطقي كما هو في ذاته[36].

مهما يكن فالملاحظ ان محاولة هيوم لإلصاق المغالطة في تبرير الدليل الإستقرائي على أساس الخبرات الماضية؛ هي صحيحة تماماً. لكن ما ابداه بخصوص تفسير الإحتمال برده إلى الانطباعات الحسية وتفريغه من الطابع المنطقي هو تفسير ساذج لا يُقر عليه.

2ـ الإستقراء وتحليل السببية

في هذا الجانب يعتمد هيوم في كشفه لطبيعة الإستقراء على تحليل السببية منطقياً ونفسياً بالصورة التي نوضحها كما يلي:

الإستقراء والتحليل المنطقي للسببية

في التحليل المنطقي يتناول هيوم بحث الارتباطات الخارجية التي تتضمن علاقة السببية ان كانت تنطوي على ضرورة موضوعية أم لا؟ فمن المعلوم ان المذهب العقلي سلّم بأن هناك ارتباطات ضرورية لعلاقات السببية الخاصة في الخارج؛ هي التي تبرر عملية التعميم في الدليل الإستقرائي. بيد ان هيوم اخضع هذا الإفتراض إلى محك النقد والتحليل، فما هو المبرر الذي يجعل علاقات الطبيعة تتصف بالحتمية والضرورة؟

ان هيوم بإعتباره فيلسوفاً حسياً ليس بوسعه ان يعوّل على المصادرات القبلية. لذا لم يبق لديه إلا البحث الخارجي من خلال الملاحظة والتجارب؛ علها تكشف لنا عن صفة الضرورة في العلاقة السببية.

وإذ يمكن ان نتساءل: هل هناك سبيل – مثلاً – لأن نستكشف العلاقة الحتمية بين تمدد الحديد وبين الحرارة حين نراهما مقترنين معاً باطراد؟ يجيب هيوم – ومن حقه ذلك – بأن كل ما نراه إنما هو وجود إقتران مطرد، فالتجربة لا تتمكن من أن تضيف لنا شيئاً آخر اكثر من ذلك. وهو يضرب لنا مثلاً على ذلك، ويقول بأن ‹‹كرة بيلياردو تتدحرج باتجاه كرة أخرى، تتصل الاثنتان ببعضهما، فتتحرك الثانية، لا يوجد هنا شيء قابل للملاحظة يمكن تسميته علاقة حتمية››[37].

بهذا يصل هيوم إلى انه لا يمكن اكتشاف الضرورة في علاقة السببية ولا إقامة الدليل عليها مهما كان حجم الاطرادات التي نراها. وهو بذلك لا يفرق إن كانت السببية خاصة أو عامة، إذ كلاهما لديه يخضعان إلى نفس الحكم. فهو يعتبر السببية العامة ليست من القضايا التحليلية التي تتصف علاقاتها بالضرورة والمنطقية كالرياضيات ومبدأ عدم التناقض؛ حيث النتائج فيها منتزعة من نفس مقدماتها، لهذا كانت لا تخبر بشيء عن الواقع الخارجي[38]. وهو إذ يعتبر مبدأ عدم التناقض أساس هذه القضايا؛ فإنه يرى ان كل قضية لا يتناقض خلافها معها فهي تحتاج إلى دليل من التجربة؛ بخلاف القضية التي تنطوي على التناقض.

فمثلاً ان القضية القائلة ‹‹ان الاعزب هو من لا زوجة له›› هي قضية تحليلية؛ بإعتبار ان خلافها ينطوي على تناقض، وذلك لأن معنى المحمول هو عين الموضوع. أما مع السببية العامة فالامر يختلف تماماً، إذ كشف هيوم – بحق – ان خلافها لا ينطوي على تناقض، إذ لا مانع منطقياً من وجود حوادث بدون اسباب، أو على حد تعبيره الخاص: ‹‹ليس ثمة شيء ينطوي على شيء آخر››[39]، مما يعني انها ليست مستنبطة من مبدأ عدم التناقض، وبالتالي فلابد ان تحتاج إلى دليل من التجربة. لكن كيف للتجربة ان تدل عليها وهي عاجزة عن كشف الضرورة؟!

بذلك التحليل يقرر هيوم ان لا سبيل إلى إثبات الضرورة ولا إلى نفيها، فهي في كل الاحوال تظل مشكوكة الوجود ابداً. والدليل الإستقرائي الذي يعتمد عليها يظل عاجزاً عن النهوض لإثبات التعميم في العلاقات الخارجية المطردة.

وقد كانت هذه المشكلة التي طرحها هيوم موضع اهتمام الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانت الذي حاول حلها بإفتراض العلاقة السببية كمقدمة لا غنى عنها، حيث اعتبر ان موضوعات احكامنا الإدراكية مبنية على تلك العلاقة، وان كل سببية خاصة تفترض اطراد الاتصال في هذه العلاقة، وبالتالي فإن اطراد الطبيعة يشمل كل العالم الظاهر القابل للإدراك. لكن هذه الفكرة لم تقنع النقاد، حيث ان نظرية كانت لم توضح وجه اللزوم العقلي الذي تحتاجه عمليات الإستقراء، ولم تبيّن لماذا مثلاً تتفوق فرضية على أخرى تبعاً لعدد ما تقدمه من ادلة وبيّنات[40].

موقف الصدر من التحليل المنطقي

هناك عدد من النقاط الأساسية التي يمكن إستنتاجها من التحليل المنطقي الذي أفاده هيوم، وهي كالاتي:

1ـ إن أساس معرفة السببية يعود إلى التجربة لا العقل، بإعتبارها لا تستنبط من مبدأ عدم التناقض.

2ـ ليست الضرورة من القضايا التي يمكن للتجربة ان تثبتها أو تنفيها.

3ـ على هذا فإن عدم إثبات الضرورة يجعل من التعميم في الدليل الإستقرائي فاقداً للتبرير المنطقي.

هذه أهم النقاط التي نستخلصها من تحليل هيوم للسببية وعلاقتها بالدليل الإستقرائي. وللمفكر الصدر مواقف نقدية متعددة ازاءها.

فبالنسبة إلى موقفه من النقطة الأولى، انه يختلف مع هيوم في تفسير أساس معرفتنا بمبدأ السببية (العامة)، ويتفق مع العقليين في كونها قبلية. لكنه مع ذلك لا يعتبرها مستنبطة من مبدأ عدم التناقض أو غيره من المبادئ القبلية، بل حسبها من القضايا الأولية المنطوية على الضرورة[41]. وهو بهذا لا يوافق على التقسيم الذي أجراه هيوم بحق القضايا، إذ كما عرفنا انها تدور لديه بين ان تكون تجريبية أو مستنبطة من مبدأ عدم التناقض، والحال ان السببية عند الصدر لا تنضم إلى أي من هذين المنبعين.

أما موقفه من النقطة الثانية، فهو على خلاف هيوم يعتقد ان بإمكان التجربة إثبات الضرورة في العلاقة السببية، سواء الخاصة منها أو العامة، مؤكداً بأنه حتى مع استبعاد الجانب القبلي للسببية العامة فإن من الممكن إثباتها بالتجربة[42]. كل ما في الأمر ان ذلك يقوم على أمرين مجتمعين معاً: ‹‹الاول: معطيات الخبرة الحسية التي تبدو فيها الحادثتان مقترنتين مرات عديدة. والاخر: الإحتمال العقلي المسبق للواقع الموضوعي للعلية، نتيجة لعجز التفكير العقلي المحض عن الإثبات والنفي.

فالخبرة + الإحتمال المسبق = الدليل على الواقع الموضوعي للعلية››[43].

أما موقفه من النقطة الأخيرة فيعتمد على ما مر قبل قليل، إذ ان التعميم لا يثبت ما لم تثبت – على الأقل – الضرورة في العلاقة السببية. لهذا رأى ان من الممكن إثبات التعميم استناداً إلى إثبات الضرورة إستقرائياً. لكن ما سيتضح لنا انه لا سبيل لإثبات الضرورة بالتجربة. وبالتالي فاذا كان من الممكن تبرير الضرورة في السببية العامة بإعتبارها قضية أولية، فإن ذلك لا يصح مع الضرورة في السببية الخاصة، حيث انها ليست من القضايا الأولية، كما انه لا يمكن إثباتها عبر التجربة. الأمر الذي ينعكس أثره على التعميم في القضية الإستقرائية، حيث طالما ان هذه الضرورة لا يمكن إثباتها، فلا مجال – اذن – لإثبات التعميم أو تبريره.

وقد نتساءل أخيرا أنه إذا كان هيوم قد شكك في قيمة الدليل الإستقرائي ونتائجه فكيف كان يتعامل مع الأشياء في حياته اليومية؟ فعلى سبيل المثال: إذا أراد أن يجهز لنفسه ابريقاً من الشاي، ألم يعتقد أنه سيحتاج إلى استخدام الحرارة والماء وما إلى ذلك من أمور؟ واذا اراد ان يرجع إلى بيته فهل كان يشك في بقاء مكانه على ما تركه؟ وعلى العموم: هل كان الشك المنطقي الذي أبداه هيوم في الدليل الإستقرائي منعكساً على طريقة حياته الخاصة؟

لنستمع إلى ما يقوله فيلسوف الشك عن نفسه وهو يجيب عن مثل تلك الأسئلة: ‹‹لو سئلت هنا عما إذا كنت اوافق بصدق على هذه الحجة التي يبدو انني أجهد نفسي من اجل دعمها، وعما إذا كنت بحق واحداً من هؤلاء الشكاكين الذين يرون ان كل شيء غير مؤكد، وان حكمنا على أي شيء لا يتم بأي قدر من الحقيقة أو البطلان؛ لأجبت ان هذا السؤال لغو في صميمه، وانني لم اكن ابداً اقول بهذا الرأي باخلاص وثبات، ولا كان أي شخص آخر يقول به. فقد حتمت علينا الطبيعة بحكم ضرورة مطلقة وقاهرة ان نصدر احكاماً مثلما نتنفس ونشعر.. أما الذي يجهد نفسه من أجل تفنيد أخطاء هذا الشك الكامل فإنه في الواقع قد دخل في نزاع ليس فيه معارض››[44].

بيد أنّا نتساءل: ما هي هذه الطبيعة القاهرة التي يمكنها أن تجعل أفكارنا العملية متسقة لا يشوبها خلل ولا شك؟ وعلى إفتراض أنها تفعل ذلك، فهل هناك علاقة بينها وبين التفكير المنطقي المجرد الذي انتهى اليه هيوم؟ وهل كان هذا الفيلسوف يعاني عقدة من التناقض بين ما يملي عليه العقل وبين ما تضفي عليه الطبيعة من أحكام مخالفة؟

هذه تساؤلات تجعلنا ندخل إلى التحليل النفسي للدليل الإستقرائي كما رسمه لنا فيلسوف الشك. فلنبحث أولاً عن الطبيعة القاهرة التي اعتبرها هيوم مصدر التفكير المنسجم مع الحياة العملية. فما هي هذه الطبيعة يا ترى؟

الإستقراء والتحليل النفسي للسببية

لم يكن أمام هيوم وهو يواجه مشكلة مستعصية غير التعويل على طريق آخر لبحث الموضوع؛ عله يجد ما يخفف عن المشكلة. فقد ترك العقل المجرد بعد ان وجده خالياً من الأدلة والمبررات، واتجه نحو ‹‹الطبيعة›› وهي تعمل بتلقائية دون اكتراث بصاحبها. فقد حاول هيوم ان يلقي ضوءً على الشروط التي تقوّم فكرة السببية، واستخدم لذلك مثاله الخاص بكرة البيلياردو، إذ كثيراً ما نعبر عن حركة الأولى بأنها سبب لحركة الثانية. وفي هذا المثال لاحظ وجود إقتران مكاني وتعاقب زماني بين الحادثتين، لكنهما مع ذلك لم يكفيا عنده ان يحققا ظرف السببية، فأقر بوجود شرط ثالث هو المعبر عنه بـ ‹‹الضرورة›› التي تجعل الحادثة الثانية واجبة الوجود حين تتحقق الحادثة الأولى.

تلك هي مقومات السببية عند هيوم الذي اعتبر الشرطين الأولين عبارة عن صفتين محسوستين بخلاف الشرط الأخير. لهذا فقد حاول ان يبحث عن مصدر صفة هذا الشرط في افكارنا، طالما ان التجربة لا يسعها الكشف عنه. فحين ننظر إلى علاقة السببية بين الحرارة وتمدد الحديد يمكن ان نتحسس بإقترانهما وتعاقبهما، لكنا لا نتحسس بضرورتهما، فكيف نفسر ما في أذهاننا من ضرورة تجعلنا نتصور أنه كلما قربنا الحديد من الحرارة فإنه يتمدد؟

لقد بحث هيوم عن مصدر هذه الفكرة، فلاحظ أنها تقترن مع صفة أخرى نطلق عليها الاطراد أو التتابع المستمر، فحيث لا يوجد اطراد، فلا ضرورة هناك، كما هو الحال مع مثال حركة كرة البيلياردو. فبهذا المفتاح أقام فيلسوفنا تفسيره لوجود الضرورة في علاقة السببية. فنحن حين نلاحظ ظاهرتين تتصفان بالإقتران والتعاقب باطراد فإنه سينشأ في مخيلتنا رباط قوي بين فكرتي الظاهرتين، بحكم العادة. فلو أنه حضرت احدى الفكرتين؛ فما على الفكرة الأخرى إلا أن تعقبها، وهو ما يبرر لنا كيفية الحكم على الأشياء الخارجية. إذ لو تحسسنا بوجود الظاهرة السابقة لكنا نحكم بضرورة وقوع الظاهرة الأخرى؛ نتيجة ما اعتدنا عليه من مشاهدات حسية جعلت أذهاننا مهيأة لافراز العلاقة القوية بين الفكرتين. فمثلاً في حياتنا اليومية نتحسس على الدوام بأن هناك تلازماً بين ظاهرتي النار والاحراق، وبحكم العادة تنشأ في مخيلتنا علاقة قوية بين فكرتي هاتين الظاهرتين، لكن بسبب هذه القوة فانا نضطر إلى أن ننزعها على الواقع ونظن أنها خارجية، بحيث كلما لاحظنا ناراً سنحكم عليها بأنها تحرق، مع أنه من الناحية المنطقية لا دليل على ذلك، رغم ما نجده من التهيؤ الذهني الحاد الذي أطلق عليه هيوم ‹‹تداعي المعاني››.

من ذلك التحليل توصل هيوم إلى ان يعرّف العلة باحدى صيغتين كالاتي: ‹‹شيء سابق ومقترن بشيء آخر، حيث تقع كل الأشياء المشابهة للأول في موقع مشابه من السبق والإقتران بالنسبة للاشياء التي تشبه الأخير››. أو انها ‹‹شيء سابق ومقترن بشي آخر ومتحد معه، بشكل يجعل فكرة الواحد منهما يدفع العقل إلى تكوين فكرة الآخر، وانطباع الواحد منهما يشكل فكرة أكثر وضوحاً عن الاخر››[45].

ومع ان هيوم يؤكد على دور العملية الذهنية في تكوين فكرة الضرورة لدى العلية[46] 3 5 ؛ إلا انه يعترف بعجزه عن تفسير هذا النشاط النفسي، فكما يقول: ‹‹ان في علاقة التداعي تناقضاً صريحاً: كيف يمكن ان يوجد مبدأ ارتباط إذا كانت إدراكاتنا منفصلة مستقلة بعضها عن بعض؟ هذه معضلة تفوق طاقة عقلي››[47].

والنتيجة التي يخرج بها هيوم من تحليله السابق هو انه لا يمانع من الناحية الواقعية ان يكون أي شيء سبباً لأي شيء آخر، أو ان تحدث الأشياء من غير اسباب، وان ما يستدل به على السببية ليس العقل بشكله القبلي، بل التجربة من خلال الاحساسات المتكررة لحالة الاطراد، مما يعني ان الاحساسات القليلة لا تبعث على خلق الضرورة في مخيلتنا الذهنية بواسطة تداعي المعاني.

تلك هي فلسفة هيوم في تحليله النفسي لعلاقة السببية. وهي فلسفة تبرر قيام الدليل الإستقرائي من الناحية النفسية، وذلك بردها إلى مركز العمليات اللا عقلية المسماة بالطبيعة القاهرة، وإن كانت تعجز عن تبريره منطقياً.

نقد التحليل النفسي للإستقراء

تتلخص النتائج التي توصل اليها هيوم في تحليله السابق إلى هاتين النقطتين:

1ـ تتعلق السببية كمفهوم نفساني بكثرة ما يتحسس به الفرد من تكرار في علاقة الإقتران بين الظاهرتين المتعاقبتين، لا انها صيغة قبلية.

2ـ يستحيل تبرير الدليل الإستقرائي من الناحية المنطقية، وإن كان يمكن تبريره نفسياً بواسطة تداعي المعاني الناشئ عن العادة، وذلك من خلال تحليل السببية بالصورة التي تُنتزع فيها الضرورة من المخيلة النفسية لتفرض على الواقع.

وبخصوص النقطة الأولى يلاحظ انها إن استطاعت ان تفسر السببية الخاصة فإنها عاجزة عن تفسير السببية العامة، فربما نحكم على حادثة معينة بالسببية وإن لم نتحسس بها إلا لمرة واحدة فقط. كذلك فإن الضرورة التي نشعر بها في هذه الحالة تختلف عما نشعر به في العلاقة الخاصة للسببية، فما أيسر التسليم بالحكم القائل ان النار قد لا تحرق لخلوّها من الضرورة، لكن ما أعسر الحكم الذي ينفي مطلق السبب عن حدوث زلزلال لم يسبق أن خبرناه من قبل؟ هكذا فمن أين حصلنا على هذه الضرورة في الحوادث الفريدة؟ وكيف نفسر عليها تداعي المعاني إذا كنّا لم نتحسس بالسبب اطلاقاً؟

على ان تفسير ‹‹الضرورة›› بواسطة تداعي المعاني يقتضي الاقرار بدءاً بالسببية. إذ لم يكتفِ هيوم بالاعتراف بالضرورة النفسية وإنما سعى ليبحث عن سبب وجودها. الأمر الذي اوقعه بالدور، ذلك انه يفسر السببية من خلال التداعي في الوقت الذي يجعل العلاقة بين التداعي والضرورة النفسية هي علاقة قائمة على السببية. أي حيث هناك تداعي معاني فهناك ضرورة، وهذا الإقتران والتعاقب بين الظاهرتين النفسيتين باطراد هو ذات البند الذي اعتبره هيوم شرطاً لتحقق ما نحسبه سببية في الواقع الموضوعي، أي ان الظاهرتين النفسيتين يخضعان إلى حكم السببية، مما يتولد عن ذلك الدور والتسلسل.

كما ان رغبة هيوم لمعرفة سبب اتخاذ العملية النفسية لإسلوب التداعي بدلاً عن إسلوب الانفصال بين الافكار؛ إنما هو دليل آخر على ما في قرارة نفسه من ايمان بالضرورة السببية، بحيث لم يحتمل قط ان تكون العلاقة بينهما صدفة مطلقة.

وعلى العموم ان التفسير النفسي لهيوم ناجح إلى الحد الذي فيه اقرار لما تتأثر به مخيلتنا من تصورات انطباعية قد تفرضها على الواقع الموضوعي، لكن ذلك يختلف عما يراد تفسيره منطقياً. لهذا نجد في العلاقة الخاصة للسببية أن الانطباع الحسي المتكرر يمكنه أن يؤثر على المخيلة كحالة نفسية تفسرها نظرية تداعي المعاني، أما من الناحية المنطقية فلا تفسير لذلك سوى الارتكاز إلى قوانين الإحتمال وحساباته، بدلالة ان أي خطأ ملحوظ يحدث في التجربة يفضي إلى تغيير طبيعة الحكم المنطقي، رغم بقاء الاثر النفسي الذي يمكن أن يؤدي اليه التداعي. فعلى سبيل المثال – وكما يقول المفكر الصدر -: ‹‹نفرض أن إنساناً حاول أن يجرب أثر استعمال مادة معينة على المصابين بالصداع، فلاحظ ان استعمال تلك المادة في أشخاص كثيرين قد اقترن بظاهرة معينة، فسوف يستنتج أن تلك المادة سبب لهذه الظاهرة. ومرد الإستنتاج – في رأي هيوم – إلى العادة الذهنية. ولنفرض ان الممارس للتجربة قد كشف، بعد ذلك، ان شريكه – االذي قدم اليه مرضاه المصابين بالصداع الذين أجرى تجاربه عليهم – كان يتعمد اختيار المريض الذي تتوفر فيه الظروف التي تؤدي إلى وجود تلك الظاهرة، لكي يضلل الممارس للتجربة في اكتشافه، فمن الطبيعي ان يزول اعتقاد الممارس بالعملية بعد هذا الاكتشاف، فلا يتوقع وجود الظاهرة في شخص بسبب استعماله لتلك المادة››[48].

أما فيما يخص النقطة الثانية، فالملاحظ ان هيوم قد جعل من الدليل الإستقرائي حالة نفسية دون ان يكون له اثر منطقي. ونحن وان كنّا لا نمنع الاثر النفسي الذي يبلغه الخيال في الاحكام الإستقرائية، لكن ذلك لا يحيل من وجود منطق خاص يقوم عليه الإستقراء، وهو منطق الإحتمال الذي لم يقتنع به هذا الفيلسوف.

وبخصوص موقف المفكر الصدر، يلاحظ ان هناك عدة اعتراضات موجهة إلى مذهب هيوم، بعضها لا علاقة له ببحثنا؛ كمناقشته لخصوص ما يعنيه بالاعتقاد والإحتمال[49]. أما البعض الآخر فمنه ما يتعلق بنقد التفسير النفسي واستبداله بالتفسير القائم طبقاً للإحتمال؛ كما مرت علينا بعض النصوص الدالة عليه[50]، وكذلك فإن منه ما يكشف عن كون المفاهيم الخاصة بهيوم تفضي بمنع اقامة أي حالة من حالات التنبؤ الإستقرائي[51]، وهو ما يتفق عليه هذا الفيلسوف من دون معارضة. اضافة إلى ذلك فإن هناك نقداً آخر يكشف عن ان هيوم قد استخدم الدليل الإستقرائي دون ان يشعر، فهو حين يفسّر منشأ الافكار ويردها جميعاً إلى الانطباعات الحسية؛ يصل إلى نتيجة عامة تقر بأن كل فكرة لا بد ان تنشأ عن نوع من الانطباع، وقد طبق هذه النتيجة العامة على فكرة السببية التي لم يجد لها انطباعاً حسياً واعتبرها كغيرها من الافكار الناشئة من الانطباعات. وهو بهذا إستنبط حكمه من التعميم السابق بشكل غير مشروع[52]. وكذا نفس الحال بالنسبة إلى تعميمه القائل ان كل انطباع هو أقوى من الفكرة التي تنبعث عنه.

هيوم بين الطبيعة والعقل

لقد أدرك هيوم المأزق الحاد الذي وصل اليه في تفسيره للمعرفة بشكل عام، حيث وقع ضحية طرفين متناقضين يتنافسان عليه، فوقف وقفة المتردد الحائر بين ما تضفيه عليه أفكاره وتأملاته، وبين ما تجذبه اليه الطبيعة من التفكير العادي كبقية الناس، أو التعامل كما تريد له الطبيعة أن يتعامل. وكأنه في ذلك يقف بين الجنة والنار؛ بين ما تفيض عليه الطبيعة من ثقة وحنان، وبين ما يهدم له العقل من تفكير.

ولعل من المفيد أن أنقل نص هيوم وهو يعبّر عن المأزق المأساوي الذي عاشه فكتب يقول: ‹‹ولكن ماذا تراني أقول هنا؟ بأن التأملات الراقية جداً والميتافيزيقية لا تؤثر فينا؟ من الصعب عليّ أن لا أتراجع عن هذا الرأي وأرفضه حين أنظر إلى شعوري وتجربتي الحاضرين. إن مظهر هذه النواقص والتناقضات الحادة والمتعددة الوجوه في العقل الإنساني قد أثّر بي كثيراً، وشوش عقلي لدرجة أصبحتُ معها مستعداً لرفض أي اعتقاد وإستدلال، ولا أستطيع القبول بأي رأي على أنه اكثر إحتمالاً من غيره. أين أنا وما أنا؟ ما هي العلة التي أشتق وجودي منها؟ والى أي شرط يجب ان أعود؟ وحظوة من يجب ان ألتمس، وغضب من يجب ان أرهب؟ وما هي المخلوقات التي تحيط بي؟ على من استطيع التأثير؟ ومن يستطيع التأثير علي؟ لقد اربكتني كل هذه الاسئلة، وبدأت اتخيل نفسي في اكثر الحالات يأساً، محاطاً بأحلك الظلمات، وقد فقدت القدرة على استعمال أية ملكة أو عضو. ولكن من حسن الحظ انه في حين يعجز العقل عن تبديد هذه الغيوم، تكفي الطبيعة نفسها لهذا الغرض وتشفيني من الكآبة والهذيان الفلسفي؛ إما باسترخاء هذا الميل العقلي أو بتذكر ما، وانطباع مشرق للحواس يمحو كل هذه الاوهام. وهكذا اتناول طعامي، والعب بالنرد، واتحادث مع الاخرين واصرح مع اصدقائي، ثم بعد ثلاث أو اربع ساعات من اللهو ارجع إلى هذه التأملات فأجدها قاحلة وسخيفة ولا أجد أية رغبة في نفسي للخوض فيها ثانية. وهكذا أجدني عازماً عزماً تاماً على الحياة والتكلم والتصرف كجميع الناس في حياتهم اليومية، ولكن على الرغم من ان ميلي الطبيعي وانفعالاتي الحيوانية تهبط إلى هذا القبول الخامل للمبادئ العامة في العالم؛ فأنا ما زلت اشعر ببقاء شيء من حالتي السابقة يجعلني ارغب في إلقاء جميع كتبي واوراقي في النار واقرر ان لا انبذ ملذات الحياة ابداً في سبيل التأمل والفلسفة؛ لأن هذا هو شعوري في ذلك المزاج الذي يسيطر علي الان، ربما استسلم، لا بل عليّ ان استسلم لتيار الطبيعة فأسلم امري لحواسي وفكري. وبهذا الاستسلام الاعمى اظهر بصورة تامة مبادئي ووضعي الريبيين. ولكن هل يعني هذا بأنه يجب عليّ ان اناضل ضد تيار الطبيعة الذي يقودني إلى الخمول والملذات؟ وان عليّ ان انزوي إلى درجة ما بعيداً عن معاملات الناس ومجتمعهم الذين يمداني بالمسرات؟ وأن عليّ ان اعذّب عقلي بدقائق وفلسفات في الوقت الذي لا استطيع فيه اقناع نفسي بمنطقية هذا العمل الشاق، ودون ان يكون لي أمل في الوصول بوساطته إلى الحقيقة واليقين؟ ما هو الواجب الذي يجعلني أسيء استعمال وقتي بهذا الشكل؟ وما الغاية التي تخدمها، سواء كان لمصلحة الإنسانية جمعاء أو لمصلحتي الشخصية؟ كلا إذا كنت سأتصرف أحمقاً مثل جميع أولئك الذين يفكرون أو يعتقدون بوجود أي شيء عن يقين فإن حماقاتي ستكون طبيعية وسارة. وحين أناضل ضد ميولي فسيكون لي سبب مقبول لمقاومتي. ولن أُقاد تائهاً في قفار موحشة، وممرات وعرة كالتي سرت فيها حتى الان..››[53].

الاتجاه الوضعي ونظرية الاحتمال

تعود الوضعية المنطقية إلى جملة من المفكرين المعاصرين أمثال شليك وفايسمان وريشنباخ وكارناب وغيرهم. وخاصيتها الأساسية هي أنها تعترف بوجود مشكلة منطقية للإستقراء كتلك التي كشف عنها هيوم، لكنها تعتقد بالقدرة على التخفيف من عبئها دون القضاء عليها.

وتعتمد الطريقة التي اتبعتها في ذلك على النظرية العامة في التمييز بين المعارف التركيبية والتحليلية، حيث لا يوجد هناك قسم آخر للمعرفة سوى ما يخص القضايا الميتافيزيقية التي تصفها بأنها لا معنى لها.

والقضايا التركيبية ما هي إلا معارف كاشفة عما يوجد في الواقع الموضوعي، لذا كانت تخبر بشيء جديد؛ بإعتبار ان نتائجها غير منزوعة عن مقدماتها، فيقتضي الإستدلال عليها بطريق الإستقراء.

اما القضايا التحليلية فهي معارف لا تخبر عن الواقع بشيء جديد؛ وذلك لأن نتائجها مستبطنة داخل مقدماتها، أو ان المحمول فيها منتزع من نفس الموضوع.

ويُعد جون لوك اول من فرق بين هذين النوعين من القضايا، فلقّب الأولى بالحقيقية، والثانية بالتافهة. ثم اتبعه في ذلك هيوم ومن بعده كانت – مع شيء من الاختلاف – وأخيرا الوضعية المنطقية[54].

وبحسب الوضعية المنطقية أنه لا يمكن استخلاص الدليل الإستقرائي من القضايا التحليلية؛ بإعتبارها لا تخبر بشيء جديد، طالما انها تستند إلى مبدأ عدم التناقض الذي يصف الواقع دون أن يضيف لنا معرفة جديدة. فحينما نقول ان (أ) هي (أ) لا نضيف معرفة إلى الموضوع، إذ المحمول هنا يمثل عين الموضوع تماماً، وهذا هو علة كونه يتصف بالضرورة واليقين. وعلى ما يقول ريشنباخ: ‹‹القول ان كل شيء في هوية مع ذاته، وأن كل جملة إما صادقة وإما كاذبة – أي (أن تكون أو لا تكون) بالمعنى المنطقي – هي مقدمات لا يتطرق اليها الشك، ولكن عيبها أنها بدورها فارغة، فهي لا تذكر شيئاً عن العالم الفيزيائي، وإنما هي قواعد نستخدمها في وصف العالم الفيزيائي، دون أن تسهم بشيء في مضمون الوصف. فهي تتحكم في صورته وحدها، أي في لغة وصفنا، واذن فمبادئ المنطق تحليلية››[55].

بهذا المنطق اعتبرت الوضعية أن القضايا التحليلية لا يمكنها أبداً أن تبرر لنا طبيعة الدليل الإستقرائي المتصف بأن نتائجه اعظم من مقدماته، وهو علة كونه يقبل التكذيب والتخطئة. فقد يأتي يوم نرى فيه الحديد لا يتمدد بالحرارة فنكتشف خطأ التعميم الذي بنيناه من غير تناقض[56]. لهذا فإن الوضعية حذرة من استخدام التعميمات واليقينات، فهي لا تتحدث عن مطلق أفراد القضية الإستقرائية، بل تكتفي ان ترى فيها فئة تقيم عليها حدود الترجيح والإحتمال دون ان تمنحها درجة التعميم واليقين.

تبرير الدليل الإستقرائي

لقد رفضت الوضعية المنطقية كل ما له صلة بالتعميم واليقين ضمن العملية الإستقرائية. ومن مفكري هذه المدرسة من رفض الحديث حتى عن الصيغ الإحتمالية للتعميم الإستقرائي، معتبراً ذلك بلا معنى. فالتعميم إما ان يعبر عن حقيقة أو كذب، لكنه لا يخضع لإعتبارات الدرجة الإحتمالية[57]. فمثلاً ان كارناب يعد إحتمال التعميم الإستقرائي صفراً، فلا امل يرجى من تأييد التعميمات والفروض الكلية، بل عنده ان التعامل يكون عالقاً بالنماذج الخاصة، شبيهاً بقاعدة ستيوارت مل التي تقر الإستنتاج من الخاصيات إلى الخاصيات. وبنظر الاستاذ باركر انه في العلم النظري قد تكون الفروض الكلية اكثر ضرورة للتوظيف والاستخدام من تلك الخاصيات، رغم انه لا يوجد شيء يمكن ان يعمل على تأييد الفرض الكلي[58].

واهم تبرير تستند اليه الوضعية المنطقية في رفضها التسليم بالتعميم واليقين، هو اعتقادها ان ذلك لا يتم إلا عند إفتراض وجود مبدأ قبلي يسيّر العملية بهذا الاتجاه، كمبدأ الإستقراء الذي اعتبره البعض ضرورة أساسية لا مناص عنه، كما جاء عن برتراند رسل (سنة 1944)، حيث رأى انه لا يمكن ان يجاب عما إذا كان المستقبل سيحدث كالماضي، ما لم نسلم سلفاً بمبدأ الإستقراء، فنحن إما ان نتقبل هذا المبدأ بصورة اولية قبلية، أو نعمل على طرح كل التبريرات والقناعات الخاصة بالتوقعات المستقبلية، ومن ثم ليس هناك ما يبرر لنا ان نتوقع ان الشمس ستشرق غداً، أو نتوقع اننا لو رمينا انفسنا من الطابق العلوي فسنسقط إلى الاسفل[59]. فحتى عندما نعلم ان المستقبل قد اصبح ماضياً وهو على نفس وتيرة الاطراد والتماثل مع الماضي، فنكون ذوي خبرة حول ما يطلق عليه المستقبليات الماضية، إلا ان ذلك لا يحل لنا المشكل المتعلق بخصوص المستقبل الذي لم يتحقق بعد، أو ما يطلق عليه مستقبليات المستقبل، إذ كيف يمكن ان نتحقق من انه على تماثل واطراد مع مستقبليات الماضي ما لم نفترض مبدأ الإستقراء سلفاً؟! فنحن لا نعرف ان المستقبل سيكون تابعاً لذات القوانين التي يخضع اليها الماضي من غير ان نكون حاملين ذلك المبدأ بشكل قبلي[60]. هكذا إذا كانت الادلة على التنبؤ بالمستقبل صحيحة، فإن الذي يجعلها كذلك هو مبدأ الإستقراء. واذا لم يكن هذا المبدأ صحيحاً فإن كل محاولة للوصول إلى القوانين العلمية العامة، عبر المشاهدات الخاصة، تكون وهماً وخداعاً، وبالتالي ليس بالإمكان الإستدلال على هذا المبدأ عبر الاطرادات المشاهدة إذا ما اردنا لانفسنا ان لا نقع في الدور. كذلك فإن التجربة عاجزة عن ان تثبت أو تنفي هذا المبدأ، وهي عاجزة أيضاً عن ان تقول لنا شيئاً بخصوص الأشياء المستقبلية وغير المشاهدة، فلا يبقى – اذن – غير ذلك المبدأ مبرراً للتنبؤ بها[61].

والملفت للنظر ان رسل يعمم تطبيق مبدأ الإستقراء حتى على قانون السببية العامة، إذ يرى ان الاعتقاد بهذا القانون ناتج عن مبدأ الإستقراء ذاته، إذ يلاحظ ان الحوادث تقترن باسبابها باستمرار، ولا يوجد مبرر لتعميم هذا الأمر إلا من حيث إفتراض مبدأ الإستقراء سلفاً[62]. مع انه في كتاب (المعرفة الإنسانية) اعتبر ان معرفتنا للعالم الطبيعي الخارجي تعتمد كلية على إفتراض وجود قوانين السببية، إذ نحن لا نتحسس بالاشياء الخارجية مباشرة، بل ان خبرتنا مقيدة باحساساتنا، وبالتالي فإن الاعتقاد بأن وراء هذه الاحساسات حقائق خارجية يتطلب الإيمان بالسببية سلفاً[63]. ولا شك ان هذا الاعتراف يجعل من الاعتقاد بقانون السببية لا يتوقف على مبدأ الإستقراء، بإعتباره قبلياً هو الآخر، بل ومتقدماً عليه.

على ان الوضعية لم تقتنع بالنتيجة السابقة التي انتهى اليها رسل، إذ ترى أنه لو كان هناك مبدأ قبلي سابق على التجربة؛ لكان لا بد أن يتصف بالضرورة الصادقة ضمن القضايا التحليلية التي لا تخبر بشيء عن الواقع الموضوعي، مع أن في مبدأ الإستقراء دلالة واقعية واضحة، وكما يقول فتجنشتاين، وهو من القريبين من الوضعية والمحسوب عليهم: ‹‹وما يسمى بقانون الإستقراء لا يمكن بأية حال أن يكون قانوناً منطقياً، إذ من الواضح أنه قضية ذات دلالة خارجية، ولذا فهو لا يمكن ان يكون قانوناً أولياً كذلك››[64] .

الا أن هذا الفيلسوف الذي رفض الأساس المنطقي للإستقراء لم يجد أمامه سوى تفسير الحالة على النحو النفسي كما صنع هيوم. فهو يقول: ‹‹وعلى أي حال فإن هذه العملية – أي عملية الإستقراء – ليس لها أساس منطقي، بل أساس نفسي فقط، فمن الواضح انه لا وجود لاسس نعتقد بناء عليها في ان أبسط مجرى للاحداث هو الذي سيحدث حقيقة››. وقد مثّل على ذلك بشروق الشمس، فاعتبر ان إفتراض كونها ستشرق غداً يتفق مع الخبرة التي الفنا فيها الشروق كل يوم باطراد[65]. ومع ذلك فإن فتجنشتاين يختلف عن هيوم في كونه يثبت النتائج المحتملة للعملية الإستقرائية، وبالتالي ينزع عليها قالباً من الشكل المنطقي. وهي نتيجة يتفق عليها كافة أقطاب المنطق الوضعي. فمثلاً أن ريشنباخ يوافق هيوم على مقولته بأن الإستقراء عادة، لكنه لا يقف عند هذا الحد، بل أقر استقلال المشكلة المنطقية التي من خلالها يُخاط ثوب المعرفة الدقيقة للقضايا الإستقرائية[66].

الإستقراء والإحتمال

تعتبر خاصية التنبؤ والإخبار عن الواقع من الخصائص الرئيسة التي تمتاز بها القضية الإحتمالية. وقد ظن الكثيرون ومنهم الوضعية المنطقية ان هذه الخاصية تبرر نفي الحكم العقلي للإحتمال وإعتباره حالة مستنتجة بالدليل الإستقرائي. يقول ريشنباج: ‹‹إن صاحب المذهب العقلي يرى ان درجة الإحتمال نتاج للعقل في حالة إنعدام الأسباب المعقولة. فاذا ألقيت قطعة نقود فهل ستظهر الصورة أم الكتابة؟ هذا أمر لا أعلم عنه أي شيء، وليس لدي من الاسباب ما يجعلني أومن بأحدى النتيجتين دون الأخرى، لذلك أنظر إلى الإمكانين على أنهما متساويان في درجة إحتمالهما، وأعزوا إلى كل منهما إحتمالاً مقداره (نصف). وهكذا ينظر إلى انعدام الاسباب المقبولة للعقل على انه سبب لإفتراض تساوي الإحتمالات. هذا هو المبدأ الذي يرتكز عليه تفسير المذهب العقلي للإحتمال. ويرى صاحب المذهب العقلي ان هذا المبدأ الذي يُعرف باسم مبدأ السوية أو مبدأ انعدام السبب الذي يبرر الموقف المضاد، هو مصادرة منطقية، وهو يبدو له واضحاً بذاته، شأنه شأن المبادئ المنطقية. غير ان الصعوبة في تفسير الإحتمال على هذا النحو هي انه يؤدي إلى التخلي عن الطابع التحليلي للمنطق ويدخل عنصراً تركيبياً قبلياً. والواقع ان القضية الإحتمالية ليست فارغة، فعندما نلقي بقطعة نقود ونقول ان إحتمال ظهور الصورة في الجانب العلوي نصف، فاننا نقول شيئاً عن حوادث مستقبلية. وربما لم يكن من السهل صياغة ما نقول، ولكن ينبغي ان تنطوي هذه القضية على اشارة معينة إلى المستقبل، مادمنا نستخدمها مرشداً للسلوك. مثال ذلك اننا نعتقد ان من المستحسن المراهنة بنسبة خمسين في المائة على ظهور الصورة، ولكنا لا ننصح احداً بأن يراهن عليها بنسبة اعلى من هذه. والواقع اننا نستخدم القضايا الإحتمالية لأنها تتعلق بحوادث مقبلة. فكل عملية تخطيطية تقتضي معرفة معينة بالمستقبل، واذا لم تكن لدينا معرفة ذات يقين مطلق، فانا نقبل استخدام المعرفة الإحتمالية بدلاً منها. ويؤدي مبدأ السوية إلى ايقاع المذهب العقلي في الصعوبات المألوفة التي عرفناها من خلال تاريخ الفلسفة، فلِمَ كان ينبغي على الطبيعة ان تسير وفقاً للعقل؟ ولِمَ كان يتعين على الحوادث ان تكون متساوية في إحتمالها، إن كانت معرفتنا بها تتساوى في كثرتها أو قلتها؟ وهل الطبيعة متطابقة مع الجهل البشري؟ ان امثال هذه الاسئلة لا يمكن الاتيان برد إيجابي عليها، وإلا لكان على الفيلسوف أن يؤمن بوجود إنسجام بين العقل والطبيعة، أي بالمعرفة التركيبية القبلية. ولقد حاول بعض الفلاسفة ان يأتوا بتفسير تحليلي لمبدأ السوية. وتبعاً لهذا التفسير لا يعني القول بأن درجة الإحتمال نصف أي شيء عن المستقبل، وإنما يعبر فقط عن أن معرفتنا عن وقوع هذا الحادث لا تزيد عن معرفتنا عن وقوع الحادث المضاد. وفي هذا التفسير يسهل بطبيعة الحال تبرير الحكم الإحتمالي، ولكنه يفقد طابعه بوصفه مرشداً للسوك. وبعبارة أخرى، صحيح أن الانتقال من الجهل المتساوي إلى الإحتمال المتساوي يكون عندئذ تحليلياً، لكن يظل علينا أن نفسر الانتقال التركيبي. فاذا كانت الإحتمالات المتساوية تعني جهلاً متساوياً، فلماذا ننظر إلى الإحتمالات المتساوية على أنها تبرر المراهنة بنسبة خمسين في المائة؟ في هذا السؤال تعود نفس المشكلة التي قصد من التفسير التحليلي لمبدأ السوية ان يتجنبها››[67].

ويلاحظ ان هذا النص يثير مشكلتين، إحداهما تخص مبرر قيام المطابقة بين العقل والطبيعة. أما الأخرى فتتعلق بنفي الصبغة العقلية للإحتمال، وذلك من خلال إثبات خاصيته التنبؤية. وهي مشكلة سنتعرض إلى مناقشتها، حيث سنعرف ان صفة الإخبار ليست منافية لخاصة الضرورة التي تمتاز بها الاحكام العقلية. ونحن نعتقد ان الإحتمال هو من القضايا التي تمتاز بهذه الخاصة، فعلى الاقل هناك صنف منه يتصف بوجود علاقة منطقية ثابتة، كما هو الحال مع الإحتمالات الثابتة لالعاب الحظ والمصادفة ذات الاشكال المنتظمة، حيث العلاقة الضرورية فيها لا تمس الجانب المنطقي فحسب؛ إنما هي أيضاً تعكس حكم الضرورة الاخباري عبر التقدير الثابت ضمن شروط محددة. أما مبدأ السوية أو ما يطلق عليه عدم التمييز فيعني انه لا يجوز ترجيح حالة على غيرها من الحالات ما لم يكن هناك سبب ما للترجيح. فالترجيح الحاصل في الحالات المتماثلة يفضي إلى عدم الاتساق، وهو بهذا المعنى يكون مستلهماً من مبدأ السببية العامة، بغض النظر عما إذا كان ذلك يدعو إلى ضرورة الحكم بتساوي الحالات، كما لو ثبت ان هناك تماثلاً بينها، أو ان الأمر لا يدعو إلى مثل هذا الحكم إلا بحسب الفرض والتقدير، وذلك فيما لو كنا نجهل طبيعة التماثل بينها.

مهما يكن فغالباً ما يتخذ الحل الوضعي للمشكلة المنطقية مسلكاً يعتمد فيه على حسابات الإحتمال المستخلصة بدورها من عملية إستقرائية سابقة تبرر تقدير القيمة الإحتمالية لقضية الإستقراء التي تواجهنا. فمثلاً يقول ريشنباخ: ‹‹الواقع أن تفسير الاحكام التنبؤية بأنها ترجيحات يحل آخر مشكلة تظل باقية في وجه الفهم التجريبي للمعرفة، وأعني بها مشكلة الإستقراء. فالتجريبية قد انهارت أمام نقد هيوم للإستقراء، لأنها لم تكن قد تحررت من مصادرة أساسية من المذهب العقلي، وأعني بها ضرورة البرهنة على صحة كل معرفة. ففي نظر هذا الرأي لا يمكن تبرير المنهج الإستقرائي، إذ لا يوجد دليل على أنه سيؤدي إلى نتائج صحيحة. ولكن الأمر يختلف عندما تعد النتيجة التنبؤية ترجيحاً. ففي ظل هذا التفسير لا تكون في حاجة إلى برهان على صحتها، وكل ما يمكن أن يطلب هو برهان على أنها ترجيح جيد أو حتى أفضل ترجيح متوافر لدينا. وهذا البرهان يمكن الاتيان به، وبذلك يمكن حل المشكلة الإستقرائية. ويقضي هذا البرهان مزيداً من البحث، فلا يمكن الاكتفاء في تقديمه بالقول ان النتيجة الإستقرائية لها درجة عالية من الإحتمال، بل انه يستلزم تحليلاً للمناهج الإحتمالية، وينبغي ان يكون مبنياً على اسس هي ذاتها مستقلة عن هذه المناهج. أي ان تبرير الإستقراء ينبغي ان يقدم خارج مجال نظرية الإحتمالات، لأن هذه النظرية الأخيرة تفترض استخدام الإستقراء››[68].

وتوضيحاً لهذه الفكرة ضرب ريشنباخ المثل التالي: ‹‹عندما نحصي التردد النسبي لحادث ما؛ نجد ان النسبة المئوية التي نتوصل اليها تختلف تبعاً لعدد الحالات الملاحظة، ولكن الاختلافات تتلاشى بازدياد العدد. مثال ذلك أن احصاءات المواليد تدل على أن 49 في المائة من كل الف من المواليد ذكور، وبزيادة عدد الحالات نجد أن الذكور يمثلون نسبة 52 في المائة بين 5000 مولود، ويمثلون 51 في المائة بين 10000 مولود. فلنفرض مؤقتاً أننا نعلم أننا لو واصلنا الزيادة فسوف نصل آخر الأمر إلى نسبة مئوية ثابتة – وهو ما يطلق عليه الرياضي اسم حد التردد – فما هي القيمة العددية التي نفترضها بالنسبة إلى هذه النسبة المئوية الثابتة؟ ان أفضل ما يمكننا عمله هو أن ننظر إلى القيمة الأخيرة التي وصلنا اليها على أنها هي القيمة الدائمة وأن نستخدمها على أنها هي الترجيح الذي نقول به. فاذا أثبتت الملاحظات التالية أن الترجيح باطل فسوف نصححه، ولكن إذا اتجهت السلسلة نحو نسبة مئوية نهائية فلابد أن نصل بمضي الوقت إلى قيم قريبة من القيمة النهائية. وهكذا يتضح أن الإستدلال الإستقرائي هو أفضل أداة للاهتداء إلى النسبة المئوية النهائية، أو درجة إحتمال الحادث إن كانت هناك مثل هذه النسبة المئوية الحدية على الاطلاق، أي إذا كانت السلسلة تتجه صوب حد››[69].

وقد سبق إلى هذه الطريقة البراجماتية الفيلسوف بيرس (سنة 1878) الذي تعتمد نظريته على ما تقدمه الإختبارات من نسبة إحتمالية لتكرر الحادثة؛ تقاس عليها النسبة التنبؤية للحوادث دون حاجة لاي إفتراض قبلي يخص مبدأ الانتظام أو التماثل والاطراد في الطبيعة كالذي عوّل عليه ستيوارت مل من قبل. ذلك ان بيرس يرى ان النسبة الإحتمالية في السلسلة الطويلة من تكرار الإختبارات تقترب من القيمة الحدية التي تقاس عليها سائر التنبؤات المستقبلية. فعنده ان الإستقراء يعد طريقاً للوصول إلى النتائج المرجاة إذا ما كانت سلسلة الإختبارات طويلة طولاً كافياً، وهي بإمكانها ان تصحح أي خطأ يتعلق بالخبرة المستقبلية التي يمكن ان ننقاد اليها[70]. وبنظر الاستاذ بريثوايت ان بيرس قد وجد بذرة تأسيسه لنظرية الإحتمال عند جون لوك، وذلك عندما تحدث الأخير بشكل عارض عن قيمة إحتمال التوصل إلى الحقيقة من خلال حجج الادلة المقدمة لهذا الغرض[71].

اذن ان ريشنباخ وغيره من اصحاب التبرير البراجماتي للإستقراء يتفقون على عدم إمكانية تبرير الإستقراء منطقياً، بإعتبار ان ذلك يحتاج إلى إفتراض مبدأ قبلي يقر انتظام الطبيعة واطرادها على الدوام، وحيث ان هذا المبدأ ليس عقلياً لذا فلا مجال للتحقق منه، وذلك لأن كل تحقيق يعتمد على الإستقراء، والإستقراء لا يمكن تبريره – منطقياً – إلا عبر هذا المبدأ، وبالتالي نكون في حلقة دور فارغة، مما يعني انه لا يوجد ما يبرر معرفة المستقبل طبقاً للملاحظات الماضية. لكن مع هذا فإن اصحاب الاتجاه البراجماتي يعتبرون انه إذا كان من الممكن معرفة المستقبل فإنه لا وسيلة لذلك بغير اداة الإستقراء، وبالتالي فهو الاداة العملية الوحيدة رغم انهم يقرون ان ذلك غير مضمون الوثوق. فحتى ان علوماً مثل التنجيم والعرافة والالهامات وغيرها من العلوم غير العادية التي تتحدث عن المستقبل، لا يمكن قبولها ما لم تكن تنبؤاتها صحيحة عن حوادث المستقبل على الدوام، مع ان الطريقة الوحيدة التي نستكشف فيها قيمة ما تقدمه هذه الطرق من تنبؤات مستقبلية؛ هي الإستقراء لا غير. وبالتالي فليس هناك من طريقة للتأكد من الوثوق المعرفي غير اداة الإستقراء ذاتها. لكن رغم ان نجاح العلم هو دليل إستقرائي موثوق لمعرفة المستقبل، وهذا ما قد يجعل منه مبرراً منطقياً للإستقراء، إلا ان اصحاب التبرير البراجماتي يرفضون مثل هذا المبرر كلياً[72].

ومن حيث المقارنة بين اداة الإستقراء وبين أي طريقة أخرى غيره، قام ريشنباخ برسم جدول بياني لتصوير الأمر ضمن حالتي إفتراض الانتظام وعدم الانتظام للطبيعة، وأوضح ان الدليل الإستقرائي يمكن ان ينجح في تأسيس المعرفة للحوادث المستقبلية وغير المشاهدة إذا ما كانت الطبيعة منتظمة أو مطردة، لكنه يفشل إذا ما كانت هذه الطبيعة غير منتظمة. في حين انه في الطرق الأخرى غير طريقة الإستقراء لا يوجد ضمان لنجاحها في إنتاج المعرفة فيما لو كانت الطبيعة منتظمة، وانه ستفشل حتماً فيما لو كانت هذه الطبيعة غير منتظمة. وهنا يكون من الواضح ما يمتاز به الإستقراء عن غيره من الطرق الأخرى، حيث انه ينجح في حالة انتظام الطبيعة وتماثلها، بينما ليس من المضمون ان ينجح غيره عند هذا الشرط. فهذا هو المكسب بلا خسارة الذي يعول عليه ريشنباخ في استخدام الإستقراء دون غيره من الطرق الأخرى[73].

وقد قدّم ريشنباخ تشبيهاً دقيقاً لهذا الغرض، فهو يعتبر ان من يقوم بالإستدلال الإستقرائي أشبه ما يكون بالصياد الذي يضطر لإختبار جانب محدد من البحر كي يلقي شباكه، رغم أنه لا يعلم إن كان سيصطاد أم لا، لكنه يعرف أنه لو كان هناك سمك فما عليه إلا أن يلقي ما عنده في البحر[74]. وكما قال نوفاليس: «الفرضيات شباك من يرمي بها يجني ثمارها»[75]. فكذا الحال مع التنبؤ الإستقرائي، إذ ما هو إلا عبارة عن رمي الشباك في بحر الحوادث الطبيعية دون أن نعلم يقيناً إن كنا سنكسب صيداً من الحدود الترددية، مما يعني أنه لا دليل على حد التردد والتكرار، فكل ما يبنى من إستدلال يفترض أنه لو كان هناك حد لأمكن التوصل اليه بالإستقراء، وهي عملية تقوم على أساس العادة بشهود الخبرات الماضية التي تجعل الدليل الإستقرائي يفترض وجود حد التردد والتكرار مؤقتاً دون أن يبرهن عليه أو يصادره سلفاً[76].

موقف الصدر من الاتجاه الوضعي

قبل مناقشة الاتجاه الوضعي سنعرض الموقف الذي اتخذه المفكر الصدر من تفسيره للدليل الإستقرائي، رغم ما اقتصر عليه من بحث يتعلق بقضية المصادرة القبلية للإستقراء وعلاقتها بدرجة التصديق النهائية. ويتحدد هذا الموقف من خلال المقارنة التالية:

أولاً: اتفق الجانبان على أن الدليل الإستقرائي ليس بحاجة لأي مصادرات عقلية، لكنهما اختلفا في النتيجة. فهي لدى الجانب الوضعي لا يمكنها أن تكون يقينة وإلا فسنضطر لإفتراض وجود تلك المصادرات القبلية التي تبرر ذلك من خلال تحويل الإستقراء إلى عملية قياسية يتحكم فيها العام بالخاص. أما لدى المذهب الذاتي فإن الإستقراء يمكنه أن يحقق درجة اليقين في النهاية من غير اقتضاء للاشكال السابق، حيث تظل العملية إستقرائية لا تتحول إلى شكل القياس، ولا هي بحاجة إلى إفتراض المصادرات العقلية. لكن حالة تحقيق اليقين لا تتم عن طريق البرهان، وإنما تتم عبر إفتراض مصادرة قابلة للتبرير ضمن شروط مناسبة، والتي منها عدم وجود ما يبرهن على تبرير ثبات الإحتمال المضاد لليقين المفترض[77].

ويمتاز هذا اليقين بحالة خاصة تجعله لا يستمد قوته من منطق الضرورة والحتمية، وإنما يستمدها من ذات الطبيعة التي جُبل عليها الإنسان بتنمية معارفه آلياً. فاليقين بهذا الإعتبار ليس إلا شكلاً عملياً بوجه ما من الوجوه. وهو من هذه الناحية يتشابه مع اليقين الذي اقرت به الوضعية كصيغة عملية، رغم ما بينهما من اختلاف أساس. إذ يمثل اليقين الوضعي استجابة عملية تنبعث من مركز السلوك النفسي المتمثل بالعادة، وهو لهذا لا علاقة له بالشكل المنطقي من المبررات، بخلاف ما عليه اليقين ‹‹العملي›› لدى المفكر الصدر، حيث يتصف بكونه مشدوداً إلى المبررات التي تفرضها عليه حسابات الإحتمال رغم طبيعته الالية.

ثانياً: اتفق الجانبان كذلك على ان الإستقراء ليس مستقلاً عن مبادئ الإحتمالات، لكنهما اختلفا في مصدر وقيمة هذه المبادئ. فهي لدى المفكر الصدر صحيحة ومفترضة قبل الإستقراء، إلا انها لدى المنطق الوضعي ليست مفترضة، بل مستدل عليها بإستقراء سابق يمنحها قيمة مرجحة تقبل التغيير بحسب ما تكشف عنه الخبرات الإستقرائية اللاحقة.

وهذه النتيجة جعلت من المذهب الوضعي يقر بعدم إفتراض بداية محددة للمعرفة. إذ كل معرفة لها مبررات إحتمالية تنشأ عن إستقراء سابق تبرره إحتمالات أخرى، وهكذا إلى ما لا بداية له. وهي نتيجة لم يوافق عليها المفكر الصدر، حيث اعتبر ان عدم تحديد المعرفة ببداية يفضي إلى احالتها من الاصل[78].

ومع ذلك فهما يتفقان على ان الإحتمال الذي يقوم عليه الإستقراء لا يمكنه ان يبرر وجود اليقين في القضية الإستقرائية.

ثالثاً: اختلف الجانبان حول وجهة النظر المتعلقة بالعلاقات السببية؛ فأفضى الأمر إلى اختلافهما حول تبرير الدليل الإستقرائي. فالاتجاه الوضعي يرى ان السببية العامة فيها من الشمول ما يعجز الإستقراء عن ترجيحها، وهو في جميع الاحوال ينفي ان تكون لها دور مفيد للعملية الإستقرائية، بل اكثر من ذلك انه لا يعلق المعرفة التنبؤية على مطلق السببية سواء كانت عامة أو خاصة[79]، وإنما ينظر اليها كأي قضية واقعية أخرى[80]، فهي – على رأيه – لا تتضمن الضرورة التي هي من شأن القضايا التحليلية. في حين ان المفكر الصدر – وكما عرفنا – علّق المعرفة التنبؤية على إثبات المعطى الموضوعي للسببية العقلية المتضمنة للضرورة.

نقد الإستقراء الوضعي

يمكن تلخيص النتائج التي انتهت اليها الوضعية في تفسيرها للدليل الإستقرائي كالاتي:

1ـ ان الدليل الإستقرائي يستحيل عليه ان يبلغ رتبة اليقين والتعميم مادام لا يرتكز على أي مصادرة قبلية كمبدأ الإستقراء.

2ـ ان حسابات الإحتمال هي التي تعطي للقضية الإستقرائية درجتها الترجيحية، رغم انها بدورها تستمد من عملية إستقرائية سابقة، وهكذا يتوالى التراجع في الاسناد والمرجعية إلى ما لا بداية له.

3ـ تتصف النتيجة في الدليل الإستقرائي بأنها قائمة على أساس القدر النسبي من حد التردد والتكرار الذي يمكن التوصل اليه خلال العملية الإستقرائية.

ولمناقشة هذه الحصيلة من النتاج الوضعي نتبع النقاط التالية:

الإستقراء والقيمة التصديقية

لقد سبق ان عرفنا ان جوهر المشكلة الإستقرائية هي تبرير اليقين والتنبؤ بالحالات المستقبلية أو الجديدة. فقد اصبح من المسلّم به في الفكر الغربي ان أي محاولة ترمي إلى إثبات الحالات المستقبلية هي إما ان تقع في الدور، أو انها تصادر بعض المبادئ القبلية دون حق؛ كمبدأ الإستقراء.

وعلى الضد من هذا التوجه سعى المفكر الصدر إلى تحقيق الغرض السابق دون استناد إلى المصادرات العقلية المعروفة، بل كل ما اخذه على عاتقه هو مصادرة مبادئ الإحتمال دون ان يفضي الدليل الإستقرائي ـ عنده ـ إلى التلبس بالشكل القياسي؛ كالذي آلت اليه المحاولات الأخرى لاستنادها إلى المصادرات القبلية.

ومن الناحية المبدئية نرى سلامة ما عليه هذا الموقف في تبريره لدرجة اليقين في القضية الإستقرائية ضمن شروط، وبالتحديد لا بد من التمييز بين القضايا الإستقرائية، حيث يمكن تبرير اليقين في بعضها دون البعض الآخر، أي اننا نواجه اكثر من صنف للقضايا الإستقرائية لا بد من التعامل معها بشكل مختلف.

الإستقراء ومبادئ الإحتمال

في الإستقراء الوضعي عرفنا أن النتائج تتخذ على الدوام قيماً إحتمالية، وذلك بإعتبارها تعتمد على حد التردد الذي يستخلص من العملية الإستقرائية القائمة بدورها على حد تردد سابق، وهكذا إلى ما لا بداية له.

فعلى ضوء المثال الذي ذكره ريشنباخ – كما عرضناه سابقاً -، نفترض أننا قد حددنا نسبة الذكور بـ (60%) خلال إستقراء شمل مائة الف مولود. فهذا الحد الذي يبرر لنا قيمة التنبؤ في الدليل الإستقرائي هو في حد ذاته محتمل، وذلك لأنه يقوم على إحتمال يرجح صحة العملية الإستقرائية طالما لا يوجد لدينا دليل يؤكد عدم خطئنا في اجراء العد وحساب الترددات الخاصة بالذكور، واذا أردنا أن نحدد قيمة إحتمال صوابنا فسنعتمد على القيام باحصاء آخر يواجه مثل المشاكل السابقة، وهكذا نتراجع إلى ما لا بداية له.

ومن الواضح أن هذه العملية لو حللناها بدقة فسوف نرى أنها تفضي إلى ان تقترب قيمة صدق النسبة المشار اليها (60%) من الصفر، وذلك لأن صدق هذه النسبة تتوقف على صدق العمليات الاحصائية السابقة لها. ومهما افترضنا أن نمنح تلك العمليات من قيم عالية فإنه يستحيل أن نتخلص من التنازل الصفري، إذ ما دام بعضها يعتمد على البعض الآخر فلابد من اجراء الضرب، وحيث أن عوامل الضرب لا نهائية فيتحتم أن تقترب النتيجة من الصفر، وعندها نقطع ان النسبة المذكورة (60%) خاطئة تماماً، الأمر الذي يفضي إلى بطلان المعرفة الإستقرائية قاطبة. وهي نتيجة قد توصل اليها رسل في نقده لريشنباخ، لكنها لم تقنع المفكر الصدر فاعترض عليها وقال في تعليقه على بعض الامثلة: ‹‹نفترض أن قيمة إحتمال وفاة الانجليزي في سن الستين: 1\2  على أساس نسبة تكرر الوفاة في أبناء الستين في الاحصاءات الرسمية، فاذا رجعنا بعد ذلك إلى الاحصاءات الرسمية ووجدنا في احصاء آخر: أن نسبة الخطأ في الاحصاءات الرسمية هي: 1\10، فهذا يعني أن النسبة السابقة وهي 1\2 من المحتمل بدرجة 1\10 أن تكون خطأ، وذلك إما بأن تكون النسبة السابقة أكبر من النصف، وإما بأن تكون أصغر منه. فإحتمال الخطأ يعبر – اذن – عن إمكانيتين متعادلتين: إحداهما تخفض والأخرى ترفع، وبذلك تبقى قيمة إحتمال وفاة الانجليزي البالغ ستين سنة: 1\2 ، لا 1\2 × 1\10››[81].

ما من شك ان الصيغة الرياضية الأخيرة في النص ليست دقيقة للتعبير عن الفكرة المطلوبة. كما ان النتيجة ليست صحيحة. ذلك ان درجة إحتمال الخطأ في النسبة المقدرة بـ (1\2) تظل (1\10) سواء كانت رافعة أو خافضة، أي ان قيمة صدق تلك النسبة هي (9\10)، وحيث اننا قد نخطئ في هذه المراجعة أيضاً، ولنفرض ان نسبة الخطأ هي نفس النسبة لكل مراجعة، وكذا نسبة الصواب، فإن ذلك يعني ان صدق نسبة التقدير الأولية (1\2) تعتمد على صدق النسب في المراجعات؛ لتوقفها عليها جميعاً. وبالتالي لا بد من اجراء عملية الضرب بين المراجعات ليتحدد من خلالها القيمة النهائية لصدق النسبة الأولية (1\2). وبالضرب تتنازل القيمة إلى ما يقارب الصفر، أو ان تصديقنا بتلك النسبة (1\2) يصبح صفراً عند اللا نهاية من المراجعات. الأمر الذي يعني ان هذه النسبة هي نسبة نقطع بخطئها تماماً، وليس بوسعنا ان نضع أي نسبة أخرى بديلة، بإعتبارها ستلقى نفس المصير، مما يعني ان العملية الإستقرائية تفشل في ان تؤدي دورها لتحديد أي قيمة إحتمالية.

وللايضاح اكثر، لو فرضنا ان قيمة إحتمال وفاة الانجليزي في سن الستين هي (80%)، وان بالمراجعة تبين لنا ان نسبة الخطأ في تحديد ذلك التقدير كانت كبيرة جداً، ولنفترض ان هذه النسبة في المراجعة الأولى كانت عبارة عن (99%)، أي ان إحتمالنا لوفاة الانجليزي بـ (80%) هو إحتمال في غاية الضآلة، وقيمته (1%). فهل يعقل ان نعتبر قيمة إحتمال الوفاة تظل ثابتة لا تزول بحجة اننا نجهل إن كانت المراجعة لصالح الرفع أو الخفض؟ ذلك انه لو فعلنا ذلك لكنا على شبه يقين بأننا على خطأ. بل لو تبين لنا بالمراجعة أننا متيقنون بالخطأ (100%)؛ فهل يعقل ان نظل متمسكين بتلك القيمة من الإحتمال للوفاة، وبنفس الحجة من اننا لم نعرف إن كان الخطأ لصالح عملية الرفع أو الخفض؟!

الإستقراء وحد التردد

كما علمنا ان حد التردد والتكرار لدى الوضعية يتوقف على قدر ما نقوم به من احصاء، وبالتالي فهو مؤقت وقابل للتغيير. لكن ما لذي يؤكد لنا هذه الفكرة وما هو مصدر الاعتقاد بها؟ صحيح ان ريشنباخ لا يصادر هذه الفكرة، وبالتالي فهو يعتبر انه لو كانت صادقة لأمكن الإستقراء ان يدلنا عليها[82]. لكن ما يلاحظ انه ليس لدى ريشنباخ دليل على ما استنتجه سوى العادة المستمدة من الإستقراءات السابقة، وبهذا نعود مرة أخرى إلى التفسير النفسي دون ان نملك مبرراً منطقياً ينقذنا من المصادرة على المطلوب، فاننا لم نفعل شيئاً سوى ان جعلنا أساس الدليل على القضية الإستقرائية مستلهماً من الإستقراءات السابقة.

وهناك نقد آخر، وهو ما الذي يجعلنا نثق في اكتشاف الحد حتى مع فرض وجوده، إذ ليس كل ما هو موجود قابل للاكتشاف بالضرورة. وهنا لا تصح القاعدة الاصولية التي يقرها مناطقة الفقه: (لو كان لبان). بل على العكس يصح القول: (الوجود لا يدل على الوجدان)، وذلك على شاكلة القاعدة الصحيحة: (عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود). هكذا تصبح نظرية ريشنباخ مركبة على فرضين محتملين ومصادرين سلفاً، هما فرض الوجود والاكتشاف. يضاف إلى ان نظرية ريشنباخ لا تتقوم إلا بإفتراض نوع من الإحتمال القبلي ليتحدد به الإحتمال الخاص بالحد.

كذلك فإن هناك من الغربيين من نقد ريشنباخ وسالمون حول قاعدة حد التردد والتكرار، وهي انه إذا كان يمكن تطبيقها على التنبؤات في السلسلة الطويلة فإنه لا يمكن فعل نفس الشيء في السلسلة القصيرة المعول عليها في المجالات العلمية والحياتية. فمثلاً ان سالمون اعتبر انه إذا كان هناك قانون طبيعي مثل القول بأن (50%) من ذرات (الكاربون 14) تتحلل خلال مدة (5600 سنة)، فإن ذلك القانون سوف لا يكون بصدد أي عدد محدود من ذرات الكاربون التي يمكن ان تتحلل، وإنما هو بصدد التكرار الحدي في السلسلة الطويلة. والحال ان هذا الذي يذكره سالمون لا يتناسب مع التعامل العلمي والحياتي في الكثير من القضايا التي تخص المسائل المحدودة أو ذات السلسلة القصيرة[83]. وقد نُقد ريشنباخ على ذلك، بل واتهم بأنه يقيد الكشوفات التنبؤية بحدود السلاسل الطويلة أو الكبيرة، كالذي ذهب اليه الاستاذان لينز وكاتز[84]. وكان البعض قد استخدم عبارة كينز في نقد ريشنباخ، والتي تقول: ‹‹نحن خلال السلسلة من الجري الطويل نكون قد متنا جميعاً››[85]. مع ان ريشنباخ لا يمانع من تطبيق قاعدته الإحتمالية على القضايا الفردية والمحدودة، مثل تقدير إحتمال كيفية ما سيكون عليه الطقس ليوم غد، معتبراً ذلك من الإحتمالات التقريبية، لكنه رغم ذلك واجه نقداً حتى من رفاقه المنظرين لنظرية الحد التكراري الذين رفضوا الحديث عن الحالات الفردية والتقريبية، معتبرين اياها بأنها صياغات بلا معنى[86]. يضاف إلى ان قاعدته الإستقرائية ينافسها عدد غير محدد من القواعد الإستقرائية التي تتجه باتجاه حد التردد والتكرار، وقد لاقى مشكلة في تبرير ترجيحها على غيرها، واعتمد على مبدأ البساطة في الترجيح، معتبراً قاعدته مستقيمة بخلاف غيرها التي اطلق عليها القواعد الملتوية[87].

مع القضايا التحليلية

تنقسم القضايا التحليلية لدى الوضعية إلى قضايا منطقية واخرى رياضية، بإعتبارها تمتاز بطبيعة تكرارية خالية من المضمون الواقعي للمعرفة، مما يجعلها يقينة وضرورية[88].

ولو رمزنا إلى القضية التحليلية بـ (ح)، والتكرارية بـ (ت)، والضرورية بـ (ض)، واللا اخبارية بـ (لا)؛ فإن تعبير المذهب الوضعي عن تلك العلاقات يصبح كالاتي:

ح = ت = ض = لا

لكن يلاحظ ان المساواة التامة بين هذه القضايا ليس سليماً. صحيح ان القضية التحليلية إذا سلمنا كونها تكرارية – إذ المحمول فيها منتزع عن الموضوع – لا بد ان تكون ضرورية، لكن هذا لا يعني ان القضية الضرورية لا تخبر عن الواقع بشيء، كما لا يعني انه يتحتم عليها ان تكون تكرارية على الدوام، فضلاً عن ان القضية اللا اخبارية هي ليست دائماً تكرارية. ولأجل تبيان هذه الأمور علينا ان نتبع ما يلي:

1ـ هناك من المبادئ ما لها طبيعة اخبارية وتتصف بالضرورة كما هو الحال مع مبدأ السببية القائل بأن لكل حادثة لا بد من سبب، وان الشيء الواحد لا يمكن ان يكون في أكثر من مكان في نفس الوقت، وكذا لا يمكن ان يكون شيئان في ذات المكان الواحد بنفس الوقت، فإن الضرورة التي تتضمنها مثل هذه القضايا ليست منطقية كما عليه القضايا التحليلية.

ومن الواضح ان اعتراض الوضعية على القضايا الضرورية وإعتبارها ليست إخبارية، هو لكونها غير قابلة للتكذيب بأي شكل من الاشكال، أو انها تكون صادقة مهما كان عليه الواقع الموضوعي، وبالتالي فإنها بهذا لا تقدم معرفة جديدة ولا أنها تقبل التكذيب. لكن يلاحظ ان هناك فرقاً بين القضايا التي تتصف بعدم التكذيب منطقياً، وبين القضايا التي تتحدانا في أن نجد شاهداً يكذبها، ونحن نعتبر ان مثل هذه القضايا تتصف بالجدة والاخبارية وانها ليست عديمة الفائدة كتلك التي لا تقبل التكذيب بالمعنى المنطقي. فكل ما في الأمر ان عقلنا يستبعد تماماً ان يكون هناك ما يعد شاهداً على تكذيبها، والامر يقبل التحقيق لمن يجد شكاً يراوده، بخلاف القضايا المنطقية التي لا تقبل مثل هذا التحقيق والشك، وبالتالي فإن الضرورة فيها تتصف باللا اخبارية دون شك. فالفارق بين الصنفين من القضايا هو ان الصنف الأول يتميز بالضرورة الوجدانية، وأن اللابدية فيه هي لابدية تحدّية، في حين ان الضرورة في الصنف الآخر هي ضرورة منطقية، وأن اللابدية فيه لا تقبل التحدي مطلقاً.

لهذا فإن من صفة القضايا الاخبارية الضرورية هو ان مخالفتها لا تفضي إلى التناقض. ويصدق هذا الأمر حتى مع مبدأ عدم التناقض الوجودي، حيث ان من يعتقد بأن حوادث الوجود ينتابها التناقض لا يمكن أن يدان بأن قراره هذا يفضي في حد ذاته إلى التناقض، بخلاف ما لو اعتبر التناقض شاملاً للفكر والمعرفة، أو انه يصيب القضايا ذاتها وليس مجرد الحوادث، حيث ان ذلك يفضي في حد ذاته إلى التناقض، وبه تستحيل المعرفة. أو يقال ان هذا الحكم لا يصح ما لم يشترط على الأقل أن يكون مسلّماً بمبدأ عدم التناقض، كي لا يتناقض الحكم مع ذاته، وعندها يثبت هذا المبدأ أو تستحيل المعرفة بتسلسل التناقضات.

مع هذا قد يعترض البعض على كلامنا السابق حول صفة القضايا الاخبارية الضرورية، إذ كيف يمكن ان نختبر مثل هذه القضايا، فمثلاً بخصوص السببية العامة، انه حتى لو لم تظهر لنا الاسباب فإن عقولنا تفترضها موجودة، وهذا الأمر يجعل منها غير قابلة للتحدي ولا للفحص العلمي. واكبر شاهد على ذلك حركة الالكترون العشوائية في العالم الجزيئي. إذ قد يقال ان لهذه الظاهرة اسبابها المجهولة، مع انه يقال أيضاً ان هذه الحركة تجري من غير اسباب. وهكذا يمكن ان يُكرر هذا القول مع أي ظاهرة لم تتكشف لنا اسبابها.

لكن يجاب على ذلك ان بعملية الفحص الإستقرائي والاحصائي يتوضح اكثر فاكثر ان للظواهر اسباباً حتى ولو لم نعرفها بالضبط والدقة، وان ذلك يضعف من إحتمال عدم خضوع الظواهر (المعاندة) – وهي قليلة بطبيعة الحال – لهذا النظام باضطراد. أما العكس فهو وإن لم يدل على خرق السببية وإمكان وقوع الحوادث من غير سبب مطلقاً، إلا انه يبرر إعتبار هذا المبدأ عديم الفائدة والجدوى في الكشف المعرفي والعلمي. وهذا هو المقصود بالتحدي.

2ـ من المعلوم انه في الضرورة الوجدانية لو كان هناك شاهد واحد يعارضها، لانتفت هذه الضرورة، لكن المشكلة هي كيف نثبت وجود الشاهد المعارض؟ فمثلاً كيف نأتي بشاهد يعارض مبدأ السببية العامة؟ فحتى لو اعتمدنا على وجهة النظر التجريبي، فاننا لا نجد ما يقطع بوجود شاهد معارض، حيث عدم وجدان السبب الذي يمكن ان يكون مؤثراً على الظاهرة لا يدل على نفيه تماماً، فكيف والعقل يشهد بالميل الغريزي والوجداني على تلك الضرورة التي يتضمنها المبدأ؟!

فمثلاً على الرغم من أن مبدأ (اللا تحدد)، الكفيل بدراسة حركة الالكترون العشوائية، لا يتمكن من تحديد الاسباب التي تؤثر على تلك الظاهرة، فإنه – في الوقت نفسه – غير قادر على نفي مطلق الاسباب، خلاف ما ظنه ريشنباخ من ان ذلك العلم (الجزيئي) لا يخضع إلى حكم تلك السببية. وهذا يعني انه حتى لو احتملنا خطأ مبدأ السببية، فإن غريزة العقل لا يسعها ان تتخلى عنه بخلاف تعاملها مع غيره من المعارف، كقبولها جواز قابلية النار لعدم الاحراق، أو بقاء الحياة عند جز الرقبة، إلى غير ذلك مما لم يحظ بالفتنا. فحتى لو لم تدرك أسباب الظاهرة كلياً، كان من السهل على تلك الغريزة أن تنسب الأمر إلى وجود أسباب خفية، كقضية ممكنة لا دليل على نفيها. وبالتالي فإن هذا المبدأ يختلف عن غيره من المعارف المتعلقة بارتباطات الطبيعة.

وقد يقال استناداً إلى هيوم ان الميل الغريزي ازاء مبدأ السببية ناتج عن الاحساسات الانطباعية المكثفة تبعاً لكون اطراد هذا المبدأ اعم من اطراد أي ظاهرة أخرى، الأمر الذي يجعل تأثيره النفسي أقوى من غيره، وهو ما يفسر ذلك الميل نحوه.

وبالفعل لولا وجود بعض الظواهر التي لها عمومية مثلما هي للسببية، لكان من الصعب أن نجد ما يمكن ان ندفع به التبرير السابق. فظاهرة الحركة هي من الظواهر العامة التي لا تخلو منها أي علاقة طبيعية في الواقع، ومع هذا فإنها ليست مما تتضمن حكم الضرورة الوجداني. وهذا إن دل على شيء فانما يدل على ان الحكم الوجداني لذلك المبدأ لم يكن مكتسباً، بقدر ما له أصل غريزي وشهود عياني كالذي يقوله العرفاء.

3ـ كما ان من القضايا الضرورية ما تتصف بكونها غير تكرارية ولا إخبارية، مثلما هو الحال مع قسم الرياضيات التطبيقية التي طوتها الوضعية ضمن القضايا التحليلية رغم ما تتصف به من حالة تركيبية بالنسبة لعلاقة المحمول بالموضوع.

فمثلاً يقول الدكتور زكي نجيب محمود: ‹‹ضمن تعريف المثلث في هندسة اقليدس بأنه سطح مستو محاط بثلاثة خطوط مستقيمة، تترتب نتيجة خاصة بمقدار زواياه، وهي أن تلك الزوايا تساوي مائة وثمانون درجة، وقد تظن أن هذه النتيجة علم جديد لم يكن في التعريف، وهو علم يزودنا بخبر عن المثلث المرسوم في الطبيعة الخارجية، ولو كان الأمر كذلك لصح قول القائلين: القضية الرياضية قبلية واخبارية في آن معاً، لكن حقيقة الموقف غير ذلك››[89].

ويقول ريشنباخ: ان ‹‹القضايا الهندسية التي يقول بها الرياضي تتخذ صورة (اذا كانت البديهيات صحيحة، كانت النظريات صحيحة). غير ان علاقات اللزوم هذه تحليلية، تتحقق صحتها بواسطة المنطق الإستنباطي. وعلى ذلك فإن هندسة الرياضي ذات طبيعة تحليلية. ولا تؤدي الهندسة إلى قضايا تركيبية إلا عندما تفكك علاقات اللزوم، وتؤكد البديهيات والنظريات على حده. وعندئذ تقتضي البديهيات تفسيراً بواسطة تعريفات احداثية، وبذلك تصبح قضايا عن موضوعات فيزيائية، وعلى هذا النحو تصبح الهندسة نسقاً يصف العالم الفيزيائي. غير انها في هذا المعنى لا تكون قبلية، بل تكون طبيعتها تجريبية. فليس ثمة عنصر تركيبي قبلي في الهندسة، إذ ان الهندسة إما ان تكون قبلية، وعندئذ تكون هندسة رياضية وتحليلية، وإما ان تكون تركيبية، وعندئذ تكون هندسة فيزيائية وتجريبية››[90].

والملاحظ من النصين السابقين ان سبب جعل الرياضيات التطبيقية ضمن القضايا التحليلية؛ إما لكونها لا تخبر بشيء عن الواقع الموضوعي كما في النص الأول، أو لكون اتصافها بالضرورة واللزوم كما في النص الثاني، ومع هذا لم توضح الكيفية التي تكون فيها هذه القضايا تكرارية. وهي مصادرة لسنا مضطرين اليها، إذ من الواضح ان هناك اضافة جديدة للنتيجة، رغم انها لا تتحدث ولا تخبر بشيء عن الواقع الموضوعي. فمثلاً ان المحمول الذي يحدد لنا درجة زوايا المثلث لا يمكن إعتباره منتزعاً من نفس حقيقة السطح المستوي المحاط بالخطوط الثلاثة المستقيمة كما يحصل مع حالة انتزاع معنى غير المتزوج من الأعزب، وانتزاع النتيجة في الرياضيات الحسابية من مقدماتها – كانتزاع معنى العدد (2) من العدد المكرر لـ (1) -، بدلالة ان الدرجة المحددة بمائة وثمانين ليس لها خصوصية بزوايا المثلث. فدرجة السطح المستوي من غير مثلث ولا اضلاع هي ذات هذه القيمة، كما قد يكون السطح المنحني بنفس تلك الدرجة رغم انه لا يعد مثلثاً. وبالتالي فإن هذه القيمة ليست منتزعة من المعنى الحاصل للمثلث. هكذا فإن مثل تلك القضايا هي قضايا ضرورية تركيبية، في الوقت الذي تكون فيه غير اخبارية بالنسبة للواقع الموضوعي.

وعلى العموم فإن العلاقات بين القضايا القبلية لا يمكنها ان تكون متساوية؛ بل فيها من الاختلاف ما يمكن توضيحه بالشكل الرمزي التالي:

ض > لا > ت = ح

أي أن القضية الضرورية هي أعم وأكبر من القضية اللا اخبارية، وهذه أعم وأكبر من التكرارية التي تعبّر عن نفس القضية التحليلية.

صفة المعنى في القضايا

تنقسم القضايا عند الوضعية إلى ثلاثة أقسام، فهي إما أن تكون تحليلية أو تركيبية أو قضايا ليس لها معنى. وتمتاز هذه الأخيرة بأنها تتحدث عن مواضيع خارجية يعجز الإستقراء والتجربة عن إثباتها أو نفيها. ولهذا وضع مبدأ ‹‹التحقق›› كي يميزها عن القضايا ذات المعنى المختصة بالواقع الفيزيقي، بإعتبارها تنفرد بصفتي الصدق والكذب.

وهناك من الوضعيين من أضاف إلى الوصفين السابقين – في القضايا ذات المعنى – صفة اللا تحدد. فمثلاً أن ريشنباخ لا يشترط أن تكون القضية صادقة أو كاذبة، فهناك صفة اللا تحدد التي تبرر حالة ما إذا كنا نقوم بدراسة عالم آخر من موقع عالمنا الخاص، كما هو الحال مع دارسة عالم الجزيئات الدقيقة التي تمتاز بكونها مواضيع واقعية يمكن اخضاعها للبحث التجريبي[91].

وقد واجهت الوضعية عدة اعتراضات حول تمييزها السابق، منها ما يخص مبدأ ‹‹التحقق››، حيث انه لا ينتمي إلى كل من القضايا التحليلية والتركيبية؛ مع ان اليه يسند التمييز بين القضايا التي لها معنى عن تلك التي ليس لها معنى، مما أثار الاتهام القائل: (ان الوضعية ترفض قضايا الميتافيزيق بمبدأ ميتافيزيقي)!

لهذا كانت هناك بعض المحاولات الرامية للخلاص من هذا المأزق. فمثلاً ان الاستاذ آير يعتبر ذلك المبدأ وضع كتعريف لا كتقرير تجريبي للواقع[92]. وشبيه به ما ذكره الاستاذ زكي نجيب محمود من ان هذه القضية ترجع إلى احكام منطقية ذات مستوى اعلى من تلك التي يمكن ان تتصف بالصدق والكذب[93].

في حين لا يُشك ان ذلك المبدأ مستمد من الواقع عبر الخبرات والملاحظات الإستقرائية الماضية، فلولا هذه الخبرات ما كان بالإمكان ان تُعرف لهذا المبدأ فائدة تذكر، وحين يوضع للتحقيق في القضايا الواقعية فإنه لا يتناقض مع كونه تقريراً، ذلك ان له وظيفة علمية لتسهيل البحث في القضايا اللاحقة. ويصدق ذات الأمر على مبدأ اللا تحدد، حيث انه أيضاً جاء نتيجة المعرفة المستمدة من الواقع الموضوعي، وصيغ بالشكل الذي يناظر ما عليه مبدأ التحقيق.

وللوضعية ان تختار لنفسها ما تشاء في ترتيب أنماط القضايا؛ طالما لا يؤثر ذلك على مصادرة الموقف اتجاه غيرها من المذاهب. وقد حاول بعض الاساتذة الوضعيين ان يصل إلى هذا المدلول في توجيه تلك المدرسة، إذ اعتبرها منهجاً للنظر العلمي وليست مذهباً كسائر المذاهب الأخرى[94]. مع انه لو صدق هذا التوجيه لكان من الحق ان لا تتهم المذاهب الميتافيزيقية بأنها تبحث عن قضايا لا معنى لها، مما يدل على انها اتخذت اتجاهاً ينافس غيرها من الاتجاهات، أو انها نزعت نزعة مذهبية لا منهجية.

وعلى العموم فإن الاعتراضات التي تواجهها الوضعية بهذا الصدد يمكن ان تكون كالاتي:

1ـ هناك بعض الإدراكات المعرفية المباشرة التي لا تنتمي إلى قائمة القضايا التحليلية ولا الإستقرائية ولا الميتافيزيقية، كإدراكنا المباشر لوجودنا، ولو على نحو الاجمال. وهو إدراك يحكم عليه بنوع من الضرورة نطلق عليها الضرورة الحضورية التي تجعل التصديق به تصديقاً أولياً ولازماً دون ان يخضع إلى أي دليل مهما كان نوعه وشكله.

2ـ لو كان مبدأ التحقيق لا يتصف بالصدق والكذب كما يعلن بذلك بعض الوضعيين؛ لاقتضى ان يكون هناك قسم آخر يضاف إلى أقسام القضايا، مما يحتاج إلى عملية تفسير توضح منشأ معرفته وعلة عدم اتصافه بتلك الصفة.

3ـ لا يملك مبدأ التحقيق القابلية على التطبيق لكافة قضايا الواقع ذات المعنى، وهذا ما شعر به ريشنباخ فأضاف اليه مبدأ اللا تحدد ليتناول المسائل الخاصة بالعلم الجزيئي. لكن المسألة لم تنته بعد، إذ هناك قضايا أخرى يُعترف بأن لها معنى، وهي مع ذلك لا تخضع إلى إعتبارات كل من التحقيق واللا تحدد؛ كما هو الحال مع قضية وجود الواقع الموضوعي الذي يعجز الدليل الإستقرائي عن ترجيحه أو إثباته، على ما سنعرف.

4ـ من المعلوم أنه عند الوضعية لا يشترط في القضية التي لها معنى أن ينالها مبدأ التحقيق مباشرة؛ كمعرفة أن النار حارة والشمس طالعة، إذ يمكنه التطبيق ولو لم يستمد من الخبرة مباشرة، وذلك بالاستناد إلى منطق الإحتمالات أو ما على شاكلته، من قبيل إعتبار المادة مؤلفة من ذرات، والاعتقاد بوجود كائنات قد سبقت الإنسان، والتسليم بقانون الجاذبية في جميع العلاقات المادية… الخ[95].

لكن الملاحظ أن هذه الصورة من التطبيقات غير المباشرة هي في حد ذاتها تتسق مع إثبات بعض القضايا الميتافيزيقية، كالمسألة الإلهية التي تفسر وجود النظام في الكون، فهي تخضع لنفس دواعي المنطق العلمي المستند إلى إعتبارات نظرية الإحتمال أو ما على شاكلتها، فإما أن نفسر النظام في علاقات الطبيعة بأنه ناتج عن المصادفات العشوائية، أو نفسره بأنه نتاج عقل حكيم. ولا شك أن العمل باجراء الحساب الإحتمالي لا يُبقي للفرض الأول أي قيمة يعد لها الإعتبار، بل تنسحب أغلب القيم الإحتمالية لصالح محور إثبات تلك القضية، حتى مع عدم إفتراض أي مصادرة قبلية ترفضها الوضعية في مجال بناء الدليل الإستقرائي.

هكذا فليس هناك ما يدعو لتعميم الحكم القائل بأن قضايا الميتافيزيقا خالية من المعنى، طالما ان بإمكان مبدأ ‹‹التحقيق›› وما شاكله ان يثبت بعضاً منها. وبالتالي فنحن بين أمرين: إما ان نقبل تطبيق المبدأ الإستقرائي على أمثال القضية الإلهية السابقة ومختلف القضايا العلمية غير المباشرة معاً، أو نمنع تطبيقه على الجميع، وليس بين الأمرين ثالث يتسق إعتباره. وهي نتيجة سبق ان توصل اليها المفكر الصدر، إذ اعتبر الإنسان الوضعي مضطراً لأن يتبنى موقفاً بين أمرين: فهو إما ان يرفض العلم وقضية وجود الله معاً، أو يتقبلهما سوية، إذ الاخذ بأحدهما دون الآخر يعد تناقضاً؛ مادام انهما يرتكزان على محور الدليل الإستقرائي[96]. ويكفينا شاهد على ذلك ما وُصفت به بعض المبادئ العلمية من صفات ‹‹ميتافيزيقية›› بحيث فُسرت بشكل يتسق تماماً مع ما كان يُنظر إلى القضايا الميتافيزيقية ومنها المسألة الإلهية. فمثلاً يقول فيلسوف العلم المعاصر فيليب فرانك: ‹‹من الواضح على وجه التأكيد أن مبدأي الثبات والنسبية اللذين يؤلفان العمود الفقري لنظرية النسبية لاينشتاين لا يمكن إستنباطهما من الحقائق المكتسبة من خبرتنا، أو حتى من التجارب التي يعدها ويجريها علماء الفيزياء. ومع ذلك، إذا وصفنا هذه المبادئ بأنها عقائد فإن علينا أيضاً ان نصف مبدأ القصور الذاتي بأنه (عقيدة). فعندما قدم جاليلو ونيوتن هذا المبدأ كان أيضاً مخالفاً جداً لخبرة الفطرة السليمة ولم يكن ليقبل إلا لأن الإستنتاجات المستخلصة منه كانت متفقة مع المشاهدات الواقعية››[97] .

ويزداد الأمر اتساقاً عند لحاظ ما ابداه بعض المؤلفين من ان التفسيرات الشمولية هي تفسيرات غير ذات معنى بإعتبارها تتضمن نصوصاً لا يمكن تدقيقها بالمشاهدة والخبرة التجريبية[98].

وهنا نصل إلى ان مثل هذه التفسيرات تصطف مع الكشف الخاص عن المسألة الإلهية، فهل نردّ كلاً من التفسيرات العلمية الشمولية والمسائل الميتافيزيقية إلى القضايا الخالية من المعنى، الأمر الذي يوصد الباب أمام التقدم العلمي؟ أو نعتبر كلا المجموعتين مبررتين بمصدر واحد مشترك؟ فما سبق ان وُصفت به بعض المبادئ العلمية هو أمر يتفق تماماً مع لحاظ المسألة الإلهية، بإعتبارها ليست مكتسبة من الخبرة مباشرة ولا قابلة لتحضيرها تجريبياً، لكن ما يترتب عليها يتفق مع المشاهدات الواقعية. ذلك ان أهم ما يستنتج من الاعتقاد بها هو شمولية النظام وغائيته. فاذا كنا نعتبرها مستخلصة من لحاظ عدد من الأنظمة الكونية، فإن ما يستنتج منها هو تعميم النظام في الكون والاعتقاد بالغائية الوظيفية. ولا يعني ذلك ان المسألة الإلهية تصبح مسألة علمية كسائر المسائل العلمية الأخرى، إنما يعني ان إستنتاجها لا يختلف عن إستنتاج النظريات العلمية من حيث النظر إلى وحدة الأساس، بل تفوق غيرها بكسبها ما لا يحصى من القرائن الدالة عليها دون منافس، طالما لا توجد ظواهر مضادة تعمل على تكذيبها. كما تتصف الأطراف فيها بأنها مغلقة وضيقة للغاية، خلافاً للنظريات العلمية المفتوحة. فأي نظرية علمية تُتخذ للتفسير يمكن استبدالها بأخرى تفوقها، وهكذا من غير حدود. فهناك إختلاف في القيمة المعرفية التي تترتب على الفارق الذي حددناه حول القضية العلمية والمسألة الإلهية. فالنظام العلمي المفتوح لا يبعث على القطع في القضايا غير المدركة مباشرة، وهو خلاف النظام المغلق لوجود الحصر، خصوصاً عند لحاظنا بأن تاريخ العلم – كما في الفيزياء – يشهد بأنه تاريخ لإبطال النظريات. وهو ما لا ينطبق على المسألة الإلهية بإعتبارها تتضمن طرفين فحسب؛ أحدهما لصالح هذه القضية، والآخر لصالح المصادفات العشوائية المحضة، وبالتالي إذا كانت القرائن متجهة نحو إثبات القضية فذلك يعني دحضاً للطرف الآخر، إذ ليس هناك طرف ثالث منافس في هذه المعادلة. ويمكن القول أنه لا توجد قضية خارجية يمكن أن تحظى بتأييد معرفي مثلما هو الحال مع هذه المسألة، فحتى القضايا الحسية رغم أننا نتعامل معها بحسب القطع واليقين، لكنها من حيث التحليل لا تصل إلى درجة ما تختزنه تلك المسألة، وذلك لكثرة ما تحظى به من قرائن لا تقبل الحصر والحدود.

المنطق الاستنباطي ورفض الدليل الاستقرائي

شاعت اليوم نظرية جديدة حاولت أن تضع منهجاً للقضايا العلمية بعيداً عن الدليل الإستقرائي، تلك هي نظرية فيلسوف العلم المعاصر كارل بوبر. فهل وُفقت لذلك بالفعل؟

لقد ظهرت هذه النظرية كرد فعل على تيار الوضعية المنطقية برفض التعويل على الدليل الإستقرائي في بناء القضايا العلمية. إذ وضع بوبر منهجاً عدّه ليس من الدليل الإستقرائي بشيء، واطلق عليه المذهب الإستنباطي، وذلك ليتخلص من الشبهة الهيومية في الدور والارتداد اللا نهائي كما تقتضيه العملية الإستقرائية بوصفها عادة نفسية تقوم على التشابه المستند بدوره إلى الإستقراء، وهكذا، معتبراً ان ما سلكته الوضعية المنطقية من جعل الارتباط قائماً بين الإستقراء والإحتمال لا يغير من النتيجة شيئاً حيث الوقوع في الارتداد اللا نهائي[99]. الأمر الذي جعله يغير هذا المنحى بمنهج جديد لا يمت إلى العملية الإستقرائية. فهو يبتدئ بوضع فرض معين ذهنياً، وهو فرض مؤقت لا تقتضيه تلك العملية، لكنه يقبل الإختبار، وهو في حالة الإختبار لا يلجأ إلى مبدأ التأييد بالشواهد كما تقتضيها العملية الإستقرائية، إذ أي عدد يمكن إستقراءه فإنه لا يكفي للبرهنة على صحة القضية الكلية. فمثلاً مهما رأينا من الحالات التي تظهر ان البجع أبيض فإن ذلك لا يخولنا ان نعتبر كل بجع أبيض[100]، ولقد ظل الاوروبيون قروناً عديدة لا يرون غير البجع الأبيض، مما جعلهم يتصورون ان كل بجع أبيض، حتى اكتشفوا – في يوم ما – البجع الأسود في استراليا، وبالتالي فقد أدى الإستدلال الإستقرائي إلى نتيجة زائفة[101].

على هذا فقد لجأ بوبر إلى مبدأ التكذيب والبحث عن الحالة التي تظهر الجانب السلبي من الإفتراض المطروح، فحيث ان الفرض لا يجد ما يدفع إلى تكذيبه فإنه يصمد بقاءً، والعكس بالعكس. فالفارق بين مذهبه ومذهب الوضعية المنطقية، كما يؤكد، هو ان الصورة المنطقية للقضايا الكلية في مذهبه ليست مستمدة من القضايا الشخصية في الواقع الموضوعي، مع هذا فإنه يمكن مناقضة القضايا الأولى بالاخيرة (الشخصية)، أي ان من الممكن البرهنة من صدق القضايا الشخصية على كذب القضايا الكلية، بفعل عملية الإختبار من التكذيب. في حين ان مذهب الوضعية يعتمد على تكوين القضايا الكلية من القضايا الشخصية، وان التحقيق لديه عبارة عن التبرير والأخذ بمسلك التأييد[102]. وعليه اعتبر بوبر ان النظريات العلمية لا تقبل التبرير أو التحقيق، وإنما تقبل الإختبار، فحيث انها تصمد أمام الإختبارات الشاقة والتفصيلية فإنه تثبت جدارتها بالتعزيز عن طريق الخبرة[103]، وهو ما يفسر النمو العلمي وقلب النظريات. فمثلاً ان نظرية ديكارت للجاذبية استبدلت بنظرية نيوتن عند معرفة ان الكواكب تتحرك اهليجياً وليس دائرياً. كما ان نظرية نيوتن استبدلت بنظرية اينشتاين للشذوذ الملاحظ في مدار كوكب عطارد[104].

ومع ان بوبر لا يعد مسلكه يرتد إلى المنهج الإستقرائي، إلا انه ـ كما نعتقد ـ يمارس عملاً إستقرائياً، سواء في البدء أو في المنتهى. ففي البدء انه من العبث ان يضع الباحث فرضاً ذهنياً وهو معزول مطلقاً عن النظر إلى الواقع والقرائن المتعلقة به، بشهادة سيرة كل من الناس وعلماء الطبيعة. فليس هناك فرض يمكن عزله عن السوابق من الملاحظات الخاصة بالقرائن التي تؤيد الفرض، سواء بوعي أو بغير وعي.

أما في المنتهى فمن غير المعقول ان يقال بأن التأييد ليس له تأثير على قوة الفرض، ذلك انه من منطق الحساب الإحتمالي ان إعتبار القرينة التأييدية لا بد ان تقوي من قيمة إحتمال الفرض. وبوبر لا ينكر هذا الأمر، لكنه اعتبر ذلك ليس بقوة ما تفعله القرينة التكذيبية، بل حسِب ان القرار المؤيد إنما يؤيد النظرية فقط من الناحية الزمنية، بإعتبار ان أي قرار سلبي لاحق يمكنه ان يؤدي إلى طرح النظرية[105]، وانه لا يوجد برهان حاسم لأي نظرية علمية ‹‹لأنه من الممكن دائماً ان نقول ان النتائج التجريبية لا يوثق بها››[106]، وبالتالي فهي قابلة للتكذيب. وقد يقال أليس هذا الحكم حكماً تعميمياً لا يجد تبريراً له من غير ملاحظة ما سبق أن تعرضت له النظريات، فكيف جاز هذا التعميم القائم بدوره على الإستقراء، وما هو مدى صدقه على أرض الواقع؟

مع هذا قد يقال ان حكم بوبر السابق يرتد إلى موقف ميتافيزيقي ليس بذي أثر على ما نحى اليه من تأسيس للمنهج العلمي، وذلك مثل موقفه من مبدأ السببية العامة واطراد قوانين الطبيعة. إذ كان حريصاً كل الحرص ان يبعد هذه القضايا عن مجال العلم ويعتبرها ميتافيزيقية طالما انها لا تقبل التكذيب. وبالتالي فإن القضية العلمية لديه هي تلك التي تقبل التكذيب فحسب. لكنه مع هذا يجعل تفكيك القضايا عائداً إلى اختياراتنا ومواضعاتنا الذاتية، بالرغم من أنها قضايا معرفية ترتد إلى الواقع الموضوعي. فاذا كان الأمر مجرد ترتيب اجرائي فله أن يفعل ما يشاء، لكنه حين ينطلق من منطلقات فلسفية ويُشْكل على الدليل الإستقرائي ومن ثم يتمسك بالشبهة الهيومية، ولم يقتنع بالحل الوضعي في معالجة الإستقراء؛ كل ذلك يجعلنا ندرك ان عمله التفكيكي ليس قائماً على مجرد الحمل الاجرائي، ويظل الاشكال وارداً: بأي حق نعتبر مثل تلك القضايا التعميمية قضايا ميتافيزيقية؟ وكيف يمكن التثبت من كونها لا تخطأ ولا تقبل التكذيب؟ واذا كان من الواضح انها لم تتأسس إلا بفعل الدليل الإستقرائي، فكيف يلجأ اليه بوبر وهو قد رفضه جملة؟!

أما بصدد مناقشة بوبر على صعيد المنهج العلمي فيلاحظ ان عملية التكذيب وإن كانت تعبر عن قضية مضادة للتأييد، إلا انها أيضاً ـ مثلها مثل التأييد ـ تستند في تضادها مع الفرض انطلاقاً من العملية الإحتمالية وتقوم بدورها على مسند إستقرائي يثبت كونها تكذيبية بالفعل. وابرز مثال على ذلك ما يتعلق باكتشاف كوكب نبتون طبقاً لنظرية الجاذبية. ففي البداية عُد الانحراف في مدار كوكب (يورانوس) شاهداً سلبياً بالنسبة إلى الجاذبية، لكن ذلك لم يطرح النظرية كلياً، وإنما أضعف من مصداقيتها، طالما كان من الممكن توجيه الشاهد بشكل لا يخرج فيه عن فحوى النظرية، وهو ما حصل فعلاً من قبل بعض أتباعها، حيث وجهوا الشاهد بالشكل الذي لا يكون فيه مناقضاً لمبدأ الجاذبية، فافترضوا وجود كوكب آخر مجهول هو الذي يسبب حالة الانحراف في ذلك المدار. وبالفعل ان احد علماء الفلك استطاع ان يكتشف هذا الكوكب ويحدد مكانه، وهو ما اطلق عليه كوكب نبتون، الأمر الذي قوّى من مصداقية النظرية أكثر.

على ان الذي يستفاد من هذا المثال هو ان شاهد انحراف (يورانوس) لا يمكن ان يعدّ – في بادئ الأمر –  شاهداً تكذيبياً، بدلالة انه كان من الممكن توجيهه توجيهاً يتفق فيه مع نظرية الجاذبية، ويظل البحث فيما لو كان التوجيه سيجد تأييداً في الاكتشافات المقبلة أو انه سيلقى التكذيب، وهو الأمر الذي يجعل من التأييد والتكذيب كلاهما يعتمدان على ما تفضي اليه العملية الإستقرائية من كشف ميداني. ففي مثالنا السابق تحدد الكشف بما يخص البحث عن ذلك الكوكب الذي يحتمل ان يكون هو السبب في انحراف مدار (يورانوس). فلو ثبت وجود هذا الكوكب لكان تأييداً لها، أما لو ثبت عدم وجوده تماماً لكان تكذيباً للنظرية، وفي كلا الحالين ان المرجع في ذلك هو البحث الإستقرائي ودلالته الإحتمالية. كما انه بكلا الحالين لا يمكن إعتبار التأييد والتكذيب تامين ومطلقين، إذ يظل إحتمال وجود عناصر أخرى لم يُلتفت لها هي التي تؤثر على ظاهرة الانحراف في مدار (يورانوس)، فعدم وجود كوكب قريب مؤثر مثل نبتون لا يعني بالضرورة انه لا يوجد هناك شيء آخر مؤثر يمكن ان يتسق مع جاذبية نيوتن، كذلك فإن اكتشاف نبتون لا يعني بالضرورة انه يؤكد صحة النظرية صحة تامة ومطلقة.

وعليه لا يكفي أن يقال بأن التكذيب إنما يحصل بما يمكن ان تطرحه النظرية من تنبؤات وإستنتاجات لا يدل الكشف عنها. فقد تكون المشكلة ليست بالنظرية ذاتها وإنما بما يستنتج عنها ويعد تقريراً تنبؤياً. ففي مثالنا السابق ان من الطبيعي بادئ الأمر ان يكون التنبؤ الذي ينبغي ان تتخذه نظرية الجاذبية هو ان المدارات التي تسير فيها الكواكب هي مدارات لا يلوحها انحراف، وذلك عند لحاظ عدد منها، فقد لا يلوح في البال ان يكون هناك انحراف في بعض المدارات، لكن حين كُشف عن الانحراف في أحدها، فإن ذلك لا يعد شاهداً مكذباً للنظرية طالما أمكن توجيهه الوجهة المناسبة.

كذلك في حالات كثيرة يلاحظ ان النظريات العلمية تتنافس فيما بينها بحسب ما تستند اليه من مرجعيات متضادة؛ رغم ان الشواهد قابلة لأن تُفسر بأي من هذه المرجعيات بلا تأييد ولا تكذيب، ولعل أقرب صورة لهذا الشكل ما أكد عليه فلاسفة العلم الإصطلاحيون من أمثال بوانكاريه من انه يستحيل معرفة شكل الهندسة الكونية إن كانت اقليدية أو غير اقليدية، فمن الممكن تفسير الظواهر الكونية طبقاً للفرضين بإعتبارات مختلفة، وبالتالي فليس بإمكاننا ان نجعل من الشواهد مكذبة لأحد الفرضين، الأمر الذي لا يتسق مع المنهجة التي عليها نظرية بوبر، إذ سوف لا تكون هذه القضية من القضايا العلمية طالما انها لا تخضع للتكذيب. أي ليس من القضايا العلمية أن يقال بأن الهندسة الكونية قد تكون اقليدية أو غير اقليدية، طالما ليس هناك قابلية على التكذيب لأيّ من الفرضين، فمثلما يمكن تفسير انحناء الأشعة الضوئية طبقاً لانحناء الكون، وبالتالي فإن الهندسة ليست اقليدية، كذلك فإنه يمكن تفسيرها بإعتبار آخر قائم على أساس الجذب، استناداً إلى الهندسة الاقليدية وان الفضاء ليس بمنحن، وبالتالي فإن الاشعة التي تسير فيه تكون مستقيمة لولا ظاهرة الجذب التي تسببها الكتل المادية في الفضاء فتجعلها منحنية.

من جانب آخر قد يقال ان دلالة التكذيب تفوق دلالة التأييد، إذ ان التأييد لا يحتم صحة النظرية، حيث كل ما يمكن ان يقال هو انها تتسق مع الشاهد التأييدي أكثر فأكثر، ولا يعني انها صحيحة فعلاً، بدلالة انه من الممكن ان تكون هناك نظرية منافسة غيرها باستطاعتها ان تتفق مع جميع الشواهد التي اتفقت مع النظرية الأولى، وبالتالي فلا يتحتم صدق هذه النظرية بالتأييد. في حين ان الشاهد المكذب يمكنه ان يبطل النظرية تماماً ويسقطها من الحساب.

والجواب على ذلك هو ان الأمر يتوقف على الفروض المطروحة إن كانت تسمح بالتصديق بالنظرية عند الشاهد المؤيد، أو ابطالها عند الشاهد المكذب. فليس بالضرورة ان يكون الشاهد المكذب مبطلاً للنظرية إلا بالقدر الذي يثبت عدم قدرتها على ايجاد مخرج من التوجيه. مثلما ليس بالضرورة ان يثبت التصديق بصحة النظرية إلا بالقدر الذي تثبت جدارتها بعدم افساح المجال لقيام نظريات أخرى منافسة في قبالها. ويظل ان لطبيعة الشواهد من التأييد والتكذيب دخلاً كبيراً في تحديد القيم الموجهة للنظرية، فطبيعة الاختلاف في الشواهد يجعلها تختلف فيما تحمله من قيم إحتمالية اتجاه صدق النظرية، فبعض الشواهد يحمل من القيمة ما يفوق البعض الآخر، وينطبق هذا الأمر سواء على الشواهد التأييدية أو التكذيبية. ومثلما قد يكون الشاهد المكذب أقوى دلالة من الشاهد المؤيد؛ فإن العكس يحصل كذلك، إذ لو فرضنا ان هناك عدداً قوياً من الشواهد المؤيدة للنظرية في قبال شاهد يبدو عليه التكذيب؛ فإنه ليس من السهل التضحية بالشواهد المؤيدة لحساب ذلك المكذب، بل قد يقتضي الأمر تأويل الشاهد وتوجيهه بالشكل الذي لا يناقض النظرية؛ ما لم تكن هناك نظرية أخرى باستطاعتها ان تستوعب جميع تلك الشواهد وتفسرها.

وعلى العموم يمكن القول ان النظرية العلمية تقوم على قابلية كل من التأييد والتكذيب، وان العلم لا يلتزم بواحد من هذين الطرفين، فضلاً عن وجود عناصر أخرى يستند اليها في قبول النظرية العلمية. ورغم ان بوبر كان يحصر دفاعه عن مبدأ التكذيب عند ظهور كتابه (منطق الكشف العلمي) سنة 4 3 9 1 ، لكنه بعد ثلاثين سنة تقريباً، أي بعد اعادة طباعة الكتاب (سنة 3 6 9 1)، اعاد النظر في دفاعه عن ذلك الأساس التجريبي المحض، واخذ يطعّم مذهبه بعناصر أخرى مثل مبدأ البساطة وجدة النظرية وقوة الربط بين الأشياء وتوحيدها، وكذا ما تحمله من مفاهيم جديدة. وقد اعترف بوبر بأنه لا يمكن ارجاع مبدأ البساطة إلى منطق التكذيب، كما كان يفعل من قبل[107].

أخيراً نشير إلى ان بوبر يرى بأن القابلية على الإختبار للقضايا العلمية لا تنتهي بحد معين. فانساق النظريات تختبر عن طريق إستنباط قضايا أخرى ذات مستوى أقل عمومية. وهذه يجب ان تكون قابلة للإختبار بنفس الإسلوب، وهكذا من غير حد ولا نهاية. مع هذا فإن بوبر لا يرى هذه العملية تفضي إلى الوقوع في دائرة الارتداد اللا نهائي الذي سبق ان نقد فيه المنهج الإستقرائي. صحيح انه يعتبر القضية العلمية يجب ان تكون قابلة للإختبار دون توقف، لكنه لا يطلب ان تكون كل قضية علمية قد اختبرت في الواقع قبل قبولها، فالإختبارات لا يمكن تنفيذها إلى ما لا نهاية، حيث لا بد ان نتوقف آجلاً أو عاجلاً، إنما الذي يطالب به هو ان تكون القضية قابلة للإختبار لا غير. وبالتالي فهو يرفض وجهة النظر القائلة بوجود قضايا في العلم يجب علينا قبولها والموافقة على صدقها بحجة استحالة إختبارها لاسباب منطقية[108].

مع هذا فإن نظرية بوبر في تأسيس القضايا العلمية لا تتخلص من شبهة الوقوع في الارتداد الصفري، طالما انه لا يعتقد بإمكانية الحصول على اليقين في الاطار العلمي[109]، أو ان القضايا العلمية عنده هي قضايا إحتمالية. وبالتالي إذا كان بعضها يتوقف على البعض الآخر، فلا فرق عندئذ، سواء تعرضت كلها للإختبار – وهو أمر مستحيل للارتداد اللا نهائي -، أو تعرض بعضها لذلك، فإنه في كلا الحالين ان أي قضية يراد تقدير قيمتها الإحتمالية فسوف تؤدي إلى الاقتراب من المستوى الصفري، مثلما لاحظنا الحال مع الوضعية المنطقية.

يحيى محمد

[1]  مختار رسائل جابر بن حيان، تصحيح كراوس، مكتبة الخانجي، 1354هـ، ص419ـ421.

[2] زكي نجيب محمود: ديفيد هيوم، دار المعارف، 1958م، ص13.

[3] توفيق الطويل: جون ستيوارت مل، دار المعارف بمصر، ص141.

[4] السيد نفادي: الضرورة والإحتمال، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 1983م، ص75.

[5] J.S. Mill, ‘Of The Ground of Induction’, in: Madden, The structure of Scientific Thought, Great Britian,1968, p.294.

[6] الضرورة والإحتمال، ص76.

[7] محمود قاسم: المنطق الحديث ومناهج البحث، دار المعارف بمصر، الطبعة السادسة، 1970م، ص245.

[8] جون ستيوارت مل، ص142ـ143.

[9] لاحظ، ص78ـ79.

[10] لاحظ، ص398ـ399 و410.

[11] D.C. Stove, The Rationality of Induction, Clarendon Press, Oxford, 1986, p.45.

[12] لاحظ، ص79ـ80.

[13] محمود أمين العالم: فلسفة المصادفة، دار المعارف، 1970م، ص145.

[14] المصدر السابق، ص146.

[15] نفس المصدر، ص147.

[16] أحمد بدر: اصول البحث العلمي ومناهجه، نشر وكالة المطبوعات في الكويت، الطبعة الخامسة، 1979م، ص263.

[17] اصول البحث العلمي ومناهجه، ص263.

[18] جون ستيوارت مل، ص145ـ148. والمنطق الحديث ومناهج البحث، ص262 .

[19] المنطق الحديث ومناهج البحث، ص228ـ229.

[20] لاحظ، ص87.

[21] جون ستيوارت مل، ص144ـ145.

[22] I. Hacking, The Emergency of Probability, Cambridge University Press, 1975, p.31. And see also: J. Katz, The Problem of Induction and its Solution, The University of Chicago Press, Chicago, 1962, p.17.

[23] وعلى رأي ستوف انه لم يخالف هيوم احد من الفلاسفة على المأزق الذي طرحه طيلة مائتين وخمسين سنة (Stove; p.14).

[24] Katz; p.45.

[25] C. Wesley Salmon, ‘The Concept of Inductive Evidence’, in: Swinburne, Intruduction; The Justification of Induction, Oxford University Press, 1974, p.49.

[26] Katz; p.99. .

[27] L. Jonathan Cohen, An Introduction to the Philosophy of Induction and Probability, Oxford University Press, New York, 1989, p. 176ـ177. .

[28] Katz; p.43. .

[29] Stove; p.8.

[30] برتراند رسل: حكمة الغرب، ترجمة فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، عدد (72)، 1983م، ج2 ، ص219.

[31] Richard Swinburne, Introduction; The Justification of Induction. edited by Swinburne, Oxford University Press, 1974, p.13. .

[32] Madden, ‘Introduction; The Riddle of Induction’, in: The Structure of Scientific Thought, Great Britian, 1968, p.288ـ289.

[33] عصر التنوير، ص243ـ244. كذلك:

John Hospers, An Introduction to Philosophical Analysis, 3rd. ed. London, p.199. .

[34] Stove; p.8.

[35] ديفيد هيوم، ص79ـ80.

[36] فرّق هيوم بين الإحتمال المنطقي والإحتمال التخميني من خلال مثال عرض فيه علة ترجيحنا للعدد المكرر على اربعة جوانب دون العدد المكرر مرتين في قطعة زهر خاصة؛ فاعتبر الحكم المنطقي يقضي بتساوي الإحتمالات في الجوانب الستة جميعاً، لكن الحكم الذي رجح العدد الأول يرجع إلى تبرير نفسي، إذ على رأيه ان الخيال حين يمر على الجوانب الستة مراً سريعاً؛ يجعل الصورة الذهنية للعدد المكرر اربع مرات أوضح وانصع من الصورة الذهنية للعدد الآخر المكرر مرتين، وذلك بسبب فارق الزيادة للانطباع الحسي (ديفيد هيوم ص80ـ81).

[37] عصر التنوير، ص240. كذلك: ديفيد هيوم، ص71ـ72 و86.

[38] نشأة الفلسفة العلمية، ص85.

[39] عصر التنوير، ص239.

[40] Cohen; 1989; p.178ـ179. .

[41] لاحظ، ص111و114.

[42] لاحظ، ص78ـ79.

[43]  ما يبدو في هذا النص انه يناسب إثبات السببية الخاصة دون العامة، وذلك لتضمنه القول بعجز التفكير العقلي المحض عن إثبات العلية أو نفيها، ولو كان المراد منه السببية العامة لما صحّ هذا الكلام، كما ان مناسبة ذكره اقترنت بمناقشة هيوم حول السببية الخاصة، لكن في جميع الاحوال ان مفاد النص ينطبق على كلا السببيتين (لاحظ، ص117).

[44] حكمة الغرب، ج2 ، ص140ـ141.

[45] عصر التنوير، ص275.

[46] اصبح من المعروف ان تحليل هيوم يشابه ـ إلى حد كبير ـ ما نصّ عليه الغزالي في تفسيره لعلاقة السببية الخاصة؛ رغم ما بينهما من اختلاف مذهبي كبير. فمثلاً يقول الغزالي: ‹‹الإقتران بين ما يعتقد في العادة سبباً ليس ضرورياً عندنا، بل كل شيئين، ليس هذا ذاك، ولا ذاك هذا، ولا إثبات أحدهما متضمناً لإثبات الآخر، ولا نفيه متضمناً لنفي الآخر، فليس من ضرورة وجود أحدهما وجود الآخر، ولا من ضرورة عدم أحدهما عدم الآخر، مثل الري والشرب، والشبع والاكل، والاحتراق ولقاء النار، والنور وطلوع الشمس، والموت وجز الرقبة، والشفاء وشرب الدواء، واسهال البطن واستعمال المسهل.. الخ››(الغزالي: تهافت الفلاسفة، تحقيق سليمان دنيا، دار المعارف، الطبعة الخامسة، ص239).

[47] يوسف كرم: الطبيعة وما بعد الطبيعة، دار المعارف بمصر، ص121.

[48] لاحظ، ص123.

[49] لاحظ، ص103ـ109 و124ـ126.

[50] لاحظ، ص22ـ124.

[51] لاحظ، ص120 ـ122.

[52] لاحظ، ص118ـ119.

[53] عصر التنوير، ص325ـ327.

[54] يختلف مذهب كانت عن غيره من المذاهب هو انه يعد الاحكام الرياضية بجميع اشكالها من القضايا التركيبية لا التحليلية (كانت: نقد العقل المجرد، ترجمة احمد الشيباني، دار اليقظة العربية، بيروت، ص214 و957).

[55] نشأة الفلسفة العلمية، ص45ـ46.

[56] المصدر السابق، ص53.

[57] Henry E. Jr. Kyburg, Probability and Inductive, Printed in the U.S.A, 1970, p.84ـ85.

[58] S. F. Barker, Induction and Hypothesis, Cornell University Press, First Published 1975, Third Printing 1967, New York, p.87ـ89. .

[59] Bertrand Russell, ‘On Induction’, in: The Justification of Induction, ed. by Swinburne, Oxford University Press, 1974, p.24.

[60] Ibid; p.21ـ22.

[61] Bertrand Russell, ‘NonـDemonstrative Inference and Induction’, in: Madden; p.322ـ323. See also: Paul Edwards, ‘Russellصs Doubts About Induction’ in: Swinburne, Intruduction; The Justification of Induction, Oxford University Press, p.41.

[62] Russell; 1974; p.24.

[63] Russell, Human Knowledge, London, 1948, p.328ـ329.

[64] عزمي اسلام: لوفيج فتجنشتين، سلسلة نوابغ الفكر الغربي (19)، ص305.

[65] المصدر السابق، ص305.

[66] نشأة الفلسفة العلمية، ص88 و212.

[67] نشأة الفلسفة العلمية، ص206ـ207.

[68] نشأة الفلسفة العلمية، ص212.

 [69] المصدر السابق، ص215. وانظر كذلك:

Lenz, ‘The Pragmatic Justification of Induction’, in: Madden; p.299.

[70] S. Charles Peirce, ‘Induction as Experimental and SelfـCorrective’, in: Madden; p.297.

[71] R. B. Braithwaite, ‘The Predictionist Justification of Induction’, in: Swinburne, Introduction; The Justification of Induction, Oxford University Press, 1974, p.102.

[72] Madden, زIntroduction; The Riddle of Inductionس, p.289ـ290. .

[73] C. Wesley, Salmon, ‘The Pragmatic Justification of Induction’, in: Swinburne, Intruduction; The Justification of Induction, Oxford University Press, 1974, p.86. .

[74] نشأة الفلسفة العلمية، ص215. انظر كذلك:

Katz; p.59. .

[75]  كارل بوبر: منطق البحث العلمي، ترجمة وتقديم محمد البغدادي، المنظمة العربية للترجمة، بدعم من مؤسسة الفكر العربي، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة العاشرة.

[76] Madden, ‘Introduction; The Riddle of Induction’, p.320. See also: Lenz, ‘The Pragmatic Justification of Induction’, in: Madden; p.301.

[77] لاحظ، ص91ـ92.

[78] لاحظ، ص503.

[79] نشأة الفلسفة العلمية، ص106.

[80] يلاحظ ان المفكر الصدر ناقش الاتجاه الوضعي حول ربط القضية الإستقرائية بالسببية التجريبية، مع ان هذا الاتجاه لا يعلّق تلك القضية بشيء من ذلك (لاحظ، ص93ـ94).

[81] لاحظ، ص502.

[82] نشأة الفلسفة العلمية، ص215.

[83] Salmon, ‘The Concept of Inductive Evidence’, in: Swinburne; p.14ـ15.

[84] Lenz, ‘The Pragmatic Justification of Induction’, in: Madden; p.300. And: Katz; p.61ـ62.

[85] Katz; p.53.

[86]  Kyburg; 1970; p.48ـ49.

[87] Lenz, ‘The Pragmatic Justification of Induction’, in: Madden; p.98ـ99.

[88] نشأة الفلسفة العلمية، ص196.

[89] زكي نجيب محمود: نحو فلسفة علمية، ص176.

[90] نشأة الفلسفة العلمية، ص128ـ129.

[91] نشأة الفلسفة العلمية، ص227.

[92] لوفيج فتجنشتين، ص358.

[93] من زاوية فلسفية، ص54ـ65.

[94] زكي نجيب محمود: قصة عقل، ص94.

[95] نشأة الفلسفة العلمية، ص226.

[96] لاحظ، ص507. يعد الإنسان الوضعي ابرز من ينطبق عليه الحكم المذكور، وذلك بإعتباره لا يعير اهمية لسائر الادلة الأخرى كالادلة الفلسفية، بخلاف الإنسان المقتنع بجدوى هذه الادلة، إذ ليس من التناقض الإيمان بوجود الله مع رفض العلم، وذلك عبر رفض الدليل الإستقرائي مع الاحتفاظ بالادلة الفلسفية التي من شأنها إثبات وجود الله.

[97] فيليب فرانك: فلسفة العلم، ترجمة علي علي ناصف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 1983، ص233ـ234.

[98] فلسفة العلم، ص283.

[99] كارل بوبر: منطق الكشف العلمي، ترجمة ماهر عبد القادر، دار النهضة العربية، ص66ـ67.

[100] منطق الكشف العلمي، ص64.

[101] فلسفة العلم، ص388.

[102] منطق الكشف العلمي، ص78.

[103] المصدر، ص70 و81.

[104] Imre Lakatos, ‘Falsification and the Methodology of Scientific Research programmes’, 1969, in: The Methodology of Scientific Research Programmes. Philosophical Papers, volume 1. edited by Worrall and Currie, Cambridge University Press, reprinted 1984, p.13ـ14.

[105] المصدر، ص70.

[106] منطق الكشف العلمي، ص88.

[107] Nicholas Maxwell, The Comprehensibility of the Universe, Clarendon Press, Oxford, 1998, p.37ـ38.

[108] منطق الكشف العلمي، ص84.

[109] المصدر، ص119.

[i] الاسس المنطقية للاستقراء، ص74.

[ii] ريشنباخ: نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، 1979م، ص102.

[iii]  يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف بمصر، الطبعة الرابعة، 1966م، ص50.

[iv] نشأة الفلسفة العلمية، ص83.

[v] ايسايا بيرلين: عصر التنوير، ترجمة فؤاد شعبان، منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي في دمشق، 1980م، ص137ـ139.

[vi] لينين: المادية ومذهب نقد التجربة، سلسلة اضواء على الفكر الماركسي الكلاسيكي، العدد الاول، اعداد توفيق سلوم، ص174ـ175.

[vii] المصدر السابق، ص167.