الدليل الاستقرائي لدى الشهيد الصدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

هناك عدد من الجوانب الأساسية التي تتميز بها اطروحة المفكر الصدر مقارنة بغيرها من النظريات المعرفية التي سبقتها، كالذي سنكشف عنه عبر النقاط التالية:

1ـ قلنا ان نظرية المعرفة يتجاذبها اتجاهان متعاكسان لمذهبين ظلا على خلاف تاريخي قائم إلى يومنا هذا، أحدهما هو المذهب العقلي وخير من يمثله أرسطو واتباعه من المناطقة والفلاسفة، والاخر هو المذهب التجريبي، وخير من يمثله التيارات الوضعية والتجريبية الحديثة. وقد عرفنا ان المعرفة لدى المذهب العقلي قائمة أساساً على مبادئ اولية عقلية ليست مستمدة من التجربة والحس، لذا كان الإنتاج المعرفي لدى هذا المذهب قياسياً يتجه مما هو عام وكلي إلى ما هو خاص وجزئي. فحتى الإستقراء ذاته يصبح منطوياً على قياس خفي لكونه يرتكز على بعض المبادئ العقلية التي تبرر له مشروعية الاتجاه من العام إلى الخاص. أما لدى المذهب التجريبي فعلى العكس ان المعرفة الأساسية لديه قائمة بطريقة إستقرائية على التجربة، وبالتالي فإن عملية إنتاج المعرفة تتجه – في الأساس – من الخاص إلى العام وليس العكس. وكانت مهمة الصدر قبال هاتين النزعتين المتعارضتين هو الجمع بينهما حتى في العملية الواحدة، كما هو الحال في الإستقراء ذاته، إذ الإستقراء لديه ينطوي على عمليتين معاً، حيث يبدأ على شكل قياس باتجاه الفكر من العام إلى الخاص، وذلك بتجميع قيم الإحتمالات الرياضية إلى أقوى درجة ممكنة من الإحتمال لصالح القضية المستقرأة؛ اعتماداً على مبادئ الإحتمال ومصادراته التي تبرر الشكل القياسي من العملية الإستقرائية. ولم يتوقف عند هذه العملية التي اطلق عليها (المرحلة الإستنباطية)، بل اضاف اليها عملية أخرى غاية في الاهمية، وهي التي اطلق عليها (المرحلة الذاتية). فبعد ان تنتهي المرحلة الإستنباطية باتجاه الفكر من العام إلى الخاص، يأتي دور المرحلة الذاتية بقلب الاتجاه المعرفي؛ حيث السير مما هو محتمل وخاص إلى ما هو يقين وعام، وبذلك يتحقق تعميم القضية الإستقرائية ويقينها.

ان هذه التشكيلة من الجمع بين عمليتي تنقّل الفكر البشري في القضية الواحدة، من العام إلى الخاص، ومن الخاص إلى العام، هي الطريقة الجديدة التي صاغها المفكر الصدر ليفسر من خلالها غالب المعرفة البشرية. فمن المعلوم ان العملية القياسية في إنتاج المعرفة هي عملية منطقية بحتة. الأمر الذي يعني ان الدليل الإستقرائي في مرحلته الإستنباطية الأولى، حينما يقوم أساساً على مبادىء الإحتمال، إنما ينطلق طبقاً لعملية منطقية خالصة ليس للذهن البشري فيها أي دور من ادوار التدخل الذاتي. لكن المشكلة تتحدد في العملية المعاكسة، إذ الإستقراء في مرحلته الثانية أو الأخيرة لا يعتمد على الطريقة القياسية، بل يتجه مما هو خاص إلى ما هو عام، أو مما هو محتمل إلى ما هو يقين. فاذا كان من الواضح ان هذه العملية ليست قياسية كما هو الحال مع الأولى، فكيف يمكن تبرير مثل هذا التحول والانتقال؟ وكيف يمكن تفسير مثل هذه العملية؟ وهل يا ترى ان لهذه العملية منطقاً خاصاً أم لا؟

حقيقة الأمر ان دور الصدر يبدأ من هذه النقطة بالذات، فهو يرى ان عملية الانتقال مما هو خاص إلى ما هو عام، ومما هو إحتمال إلى ما هو يقين، يتم عبر طريقة خاصة في المعرفة هي تلك التي اطلق عليها التلازم الذاتي. فتوليد المعرفة لا يتم هنا عبر شكل منطقي كما هو الحال مع القياس، بل يتم ذاتياً من معرفة أخرى تلازمها. فحين تتراكم القرائن الإحتمالية في الذهن البشري باتجاه محور قضية ما؛ تحصل للذهن حالة اذعان للتسليم ‹‹ذاتياً›› بصحة هذه القضية، ويخلع عليها لباس اليقين. فمثلاً ان الإختبارات الناجحة التي تُظهر دائماً ان قطع الحديد تتمدد بالحرارة؛ تجعل الذهن يخضع للتسليم بأن الحرارة هي علة تمدد ذلك الحديد. فهذا اليقين نابع من وجود قرائن كثيرة تراكمت لدى الذهن في وعيه الباطن أو اللاشعور. لذلك فإنه سرعان ما يسلم بالتعميم القائل ‹‹كل حديد يتمدد بالحرارة››؛ رغم ان القطع التي اخضعت للإختبارات كانت محدودة لا تشكل كل قطع العالم من الحديد. والملاحظ في هذه العملية أنها تنطوي على عملية ذاتية، لا بالمعنى الفردي، وإنما بالمعنى النوعي، أي انها لا تتعلق بذاتية زيد أو عمر من الناس، بل تتعلق بذاتية الذهن البشري عموماً. وعلى الرغم من ذلك فإن الصدر لم يتوقف عند الجانب السايكولوجي من هذه العملية المعرفية، بل استهدف إلباس الخاصية الذاتية بالمنطق.

لقد كان الصدر حريصاً على اضفاء الطابع المنطقي على الحالة الذاتية، وذلك كي لا يجعل عملية الإستقراء والمعرفة البشرية تتبخر وسط الاوهام والاحلام النفسية، الأمر الذي حدا به إلى وضع شروط منطقية هي التي تصحح قبول نتيجة الإستقراء. وبعبارة أخرى، ان طريقته وإن كانت تعي حقيقة الغريزة الذاتية للذهن البشري، لكنها في الوقت نفسه لا ترى حرجاً من ان تجعلها ‹‹تتمنطق›› بصورة واعية وذلك باخضاعها إلى شروط منطقية بعيدة عن الاثر النفسي وحاكمة عليه.

2ـ طبقاً لما سبق يمكن إعتبار اطروحة المفكر الصدر تبتدئ من حيث تنتهي نظرية الوضعية المنطقية. فقد عرفنا ان هذه النظرية لا تتجاوز حدود الترجيح الإحتمالي في تقييمها للقضية الإستقرائية، خاصة وأنها ترفض الاعتراف بالمبادئ القبلية التي تتحكم في سير الدليل الإستقرائي. والميزة التي اضافتها اطروحة الصدر بعد الموافقة على عدم الحاجة للمبادئ القبلية؛ هو بناء المرحلة الذاتية وتحويل الترجيح الإحتمالي إلى اليقين.

بل يمكن القول ان محاولة الصدر تشبه محاولة دعاة المنطق الوضعي وعلى رأسهم ريشنباخ في كتابه (نشأة الفلسفة العلمية)، والذي اكد فيه على ان الإستقراء عبارة عن عادة نفسية، لكنه مع ذلك ادخل هذه العادة لمنطق حسابات الإحتمال، أو قل لحساب منطق الإحتمالات، فخلع بذلك على البعد النفسي لباساً منطقياً اكسبه قوة ومتانة. بالفعل ان ما حاوله الصدر يشابه إلى حد كبير ما قام به الوضعيون المنطقيون، لكن مع فرق، هو ان هؤلاء لم تكن لديهم ‹‹الشجاعة›› للاقتراب من التعميم واليقين. فالإستقراء لديهم هو دائماً إحتمالي النتيجة، وان اليقين والتعميم هو صفة غريزية تعود إلى الطبيعة البشرية في تعاملها مع الأمور الحياتية. أما الصدر فقد تجرأ بالفعل على التحرش بتلك المعضلة المستعصية التي ادركها المفكرون منذ العاصفة التي أثارها ديفيد هيوم خلال القرن الثامن عشر والى يومنا هذا.

وكما سبق ان قلنا، ان المحاولة الجديدة للصدر لم تقترب من البرهنة على نتيجة الإستقراء، فهذا ما كان يدركه بأنه ضرب من المحال، إلا ان محاولته اتخذت سلوكاً آخر لانقاذ المعرفة البشرية التي سبق ان هزها فيلسوف التمرد ديفيد هيوم. فقد وضع مصادرة تنص على تحول القيمة الإحتمالية الكبيرة جداً إلى اليقين، ووضع الشروط اللازمة لتفسير هذه المصادرة كي تجنبها السقوط في ‹‹الهوى›› وتحصرها ضمن صيغة ‹‹الجامع المانع››.

وتعتبر هذه الصياغة جريئة في تحديد المبرر الذي يجعلنا نرضخ عملياً – بعيداً عن الذات  والهوى – لقبول اليقين في العملية الإستقرائية. ذلك انه لما كان اليقين يسبقه تراكم إحتمالي كبير جداً، اصبح الخطأ محدداً في موضع ضئيل جداً لا يعتد به من الناحية العملية، فهو بمثابة الصفر لضآلة قيمته. لهذا كانت ‹‹المرحلة الذاتية›› من قيام الإستقراء هي إفتراض افناء تلك القيمة الضئيلة جداً، ثم العمل على توفير الشروط الكافية التي تحصر النتيجة ضمن حدودها اللازمة. وبالتالي فإن ما كان يعتبر طبيعة سايكولوجية للذهن البشري في تعامله مع أمور الحياة على أساس اليقين، اصبح مصاغاً علمياً بطريقة لها مبررها في ان تفترض عملياً تحويل ما هو غاية في قوة الإحتمال إلى ما هو يقين. فما قام به الصدر في مرحلته الذاتية هو انه افنى القيمة المتضائلة عملياً كما هي منتفاة نفسياً لدى عموم الذهن البشري. لكنه مع افنائه اياها عملياً طبع عليها طابعاً منطقياً، وذلك لضمان سلامة الإستقراء كي يظل حاملاً لما هو ‹‹جامع مانع›› من خلال وضع الشروط المنطقية اللازمة، والتي على رأسها شرط التراكم الإحتمالي بشكل مطرد دون شذوذ.

وبذلك يقول المفكر الصدر: ان اليقين الإستقرائي ناشئ ‹‹من تجمع إحتمالات كثيرة ثابتة فعلاً في محور واحد فهو ليس يقيناً ثابتاً بالشيء على تقدير إفتراض ان إحتمالاً معيناً أو اكثر من تلك الإحتمالات كاذب، لأن هذا التقدير يتضمن زوال بعض تلك القيم الإحتمالية المتجمعة في المحور والتي ساهمت في تكوين ذلك اليقين، فاليقين الناشئ من تجمع الإحتمالات في محور واحد لا يمكن ان يعيش إلا مرتبطاً بتلك الإحتمالات، وأي إفتراض لزوال بعض هذه الإحتمالات هو في نفس الوقت إفتراض لزوال اليقين››[1].

بهذا فإن الدور الرائد للمفكر الصدر هو ليس البرهنة على اليقين والتعميم في القضية الإستقرائية، وإنما هو تبرير الصفة السايكولوجية لعملية التلازم المعرفي الذاتي بطريقة منطقية. فهو بذلك اراد ان يجعل للطبيعة منطقاً لا يتناقض مع كونها لا تقوم على أساس منطقي.

ان اضفاء الصفة المنطقية على الجانب الذاتي من المعرفة يجعلنا ندرك علة تقسيمه اليقين إلى ثلاثة أنواع، أحدها اليقين المنطقي القياسي، وهو الناتج بطريقة القياس، واليقين الذاتي الخالص، وهو ناتج عن عملية نفسية تعجز عن ان تخضع إلى التبريرات العلمية والموضوعية، كما هو الحال عند بعض الناس الذين يتيقنون بقدوم الشر حين يسمعون نعقة الغراب. ويضاف إلى ذلك ما اطلق عليه الصدر اليقين الموضوعي، وهذا هو المراد من اليقين الإستقرائي. فعلى الرغم من انه اعتبر هذا اليقين هو أيضاً فيه مسحة ذاتية، أي انه يقين ذاتي، لكنه يختلف عن الأول بإعتباره يخضع إلى الشروط والتبريرات المنطقية الكافية. فهو مشروط بالأساس بمنطق تراكم الإحتمال إلى اعظم درجة ممكنة، وهذا التراكم ناتج أساساً بشكل منطقي خالص عن طريق القياس، وبالتالي فإن اليقين الموضوعي هو عبارة عن يقين ذاتي، لكنه محاط بدوائر منطقية من المبررات والشروط. وهذا ما يبرر إعتبار الإستقراء ذا اسس منطقية كما جاء في عنوان الكتاب، فلولاها لكان لا يختلف عن المعرفة التي تنتج اليقين الذاتي المحض.

وبعبارة أخرى ان محاولة الصدر التي طمحت إلى اضفاء الصبغة المنطقية على حالة اليقين في الإستقراء هي أهم ما في الموضوع والكتاب. إذ فرض عليه هذا العمل إلى مزاوجة الجانب المنطقي بالجانب الذاتي من المعرفة البشرية، فخرج بالنتيجة إلى ان يكون اليقين مزيجاً بكليهما معاً، فلا هو منطقي بحت كما لدى الاتجاه الأرسطي، ولا هو ذاتي خالص كما لدى التيار الحديث. فمن الواضح ان عنوان الكتاب (الأسس المنطقية للإستقراء) يشير إلى اضفاء الصبغة المنطقية على الإستقراء، في الوقت الذي يوحي عنوان المذهب الذي أسسه للإستقراء إلى ملامح النزعة الذاتية، إذ اطلق عليه سمة ‹‹المذهب الذاتي››.

ذلك هو أهم ما في مشروع المفكر الصدر من ابداع، إذ لم يحصل لأحد ان منطق اليقين الإستقرائي، مع ما فيه من نزعة ذاتية، بعيداً عن المصادرات العقلية. ولا شك ان هذا الازدواج يبعث على التساؤل: إذ كيف يجوز الخلط بين ما هو ذاتي وبين ما هو منطقي؟ والواقع ان الصلة التي أقامها الصدر بين ما هو منطقي وبين ما هو ذاتي هي أهم محاور الابداع فيما كتبه حول الموضوع. ذلك انه لما جعل المرحلة الذاتية من الدليل الإستقرائي مؤسسة على المرحلة الإستنباطية (المنطقية)، فهذا يعني ان اليقين السايكولوجي الحاصل عن المرحلة الذاتية لا بد ان يكون مشبعاً بالمحتوى المنطقي.

3ـ ان المحاولة المبتكرة للمفكر الصدر أرادت ان تمد جسراً منطقياً بين عالم الشهادة وعالم الغيب، فاعتبرت الإستقراء كفيلاً بحل القضية الميتافيزيقية المعبّر عنها بالمسألة الإلهية. وهو أمر لم يسبق للمذاهب الفلسفية أن طرقته، بل عُدّ مستحيلاً لدى الفكر الحديث ومنه التيار العلمي. فقد توصل المفكر الصدر من خلال محاولته الرامية لتأسيس الدليل الإستقرائي إلى إثبات المسألة الإلهية بنفس القدر الذي تثبت فيه أي قضية علمية أخرى. فكما سبق أن عرفنا بأن هناك أساساً مشتركاً لإثبات كل من العلوم الطبيعية والمسألة الإلهية، وانه ليس أمام الإنسان ان يختار إلا طريقاً بين طريقين لا ثالث لهما، فاما الإيمان بالعلم والمسألة الإلهية، أو الكفر بهما معاً، وأي سبيل آخر فهو بلا ريب متناقض، إذ الشروط التي تثبت القضية العلمية هي ذاتها التي تثبت القضية الإلهية بلا فرق، مشيراً إلى الدور الذي مارسه القرآن الكريم في التنبيه إلى فحوى الدليل الإستقرائي للكشف عن الأصل العقائدي من خلال النظر إلى الخلق والعالم لاستكشاف ما يبديه من قصد وحكمة.

علماً بأن هذا الأساس المشترك الذي يربط قضية إثبات العلم بقضية عقائدية مثل مسألة وجود الله؛ نجد له إشارة مجملة لدى ابن القيم الجوزية الذي يقول: ‹‹تأمل حال العالم كله، علويه وسفليه بجميع أجزائه، تجده شاهداً بإثبات صانعه وفاطره ومليكه، فانكار صانعه وجاحده في العقول والفطر بمنزلة انكار العلم وجحده، لا فرق بينهما.. ومعلوم ان وجود الرب تعالى أظهر للعقول والفطر من وجود النهار، ومن لم يرَ ذلك في عقله وفطرته فليتهمهما››[2].

المراحل المعرفية للمذهب الذاتي

اولاً: المرحلة الاستنباطية

لدى المذهب الذاتي هناك مرحلة استنباطية يتم من خلالها تنمية احتمال القضية الاستقرائية. وهذه المرحلة تتخذ شكلين، في احدهما يتم تنمية احتمال وجود ظاهرة ما نرمز اليها بـ (أ) حين تُعلم سببيتها لظاهرة اخرى نرمز اليها بـ (ب)، أما الاخر فيختص بتنمية احتمال السببية بين (أ) و(ب) حين يعلم اقترانهما مع بعض وجوداً وعدماً. وبعبارة اخرى ان احد هذين الشكلين يتكفل العمل على ترجيح وجود الشيء، في حين يختص الثاني بترجيح علاقته السببية بالاخر.

وهناك عدة حالات لاثبات وجود السبب لدى المفكر الصدر في مذهبه الذاتي، لكنا سنقتصر على ذكر حالتين كالتالي[i]:

في هذه الحالة يعمل الدليل الإستقرائي على تنمية قيمة إحتمال وجود السبب (أ) من خلال علم اجمالي يضعف من قيمة إحتمال وجود سبب آخر نرمز اليه بـ (ت). فمثلاً إذا فرضنا وقوع حادثة (ب)، وكان لدينا علم اجمالي قبلي بوجود سببين لـ (ب) أحدهما (أ) والاخر (ت)، وكانت هذه الأخيرة تمثل عدة عناصر كإن تكون ثلاثة هي (ج، د، هـ)، بحيث لن توجد إلا بوجود هذه العناصر مجتمعة، ونفترض ان إحتمال وقوع كل واحد من هذه العناصر مساوي للاخر، ويساوي في الوقت نفسه إحتمال وقوع (أ) الذي قيمته (1\2)، فبذلك سيتكون لدينا علم اجمالي مؤلف من أربعة عناصر؛ إحتمال كل منها هو (1\2)، وعن هذا العلم سيتولد لدينا علم اجمالي بعدي يمثل إحتمالات الوقوع كالاتي:

1ـ عدم وقوع أي من (ج، د، هـ).

2ـ وقوع (ج).

3ـ وقوع (د).

4ـ وقوع (هـ).

5ـ وقوع (ج، هـ).

6ـ وقوع (ج، د).

7ـ وقوع (د، هـ).

8ـ وقوع (ج، د، هـ).

وهذه الإحتمالات الثمانية تشير السبعة الأولى منها لصالح وجود (أ) دون (ت)، لأن وجود (ت) لا يصح حسب إفتراضنا السابق إلا بوجود جميع عناصره الثلاثة. أما الإحتمال الأخير فهو حيادي، بإعتبار أن وجود (ت) لا ينفي وجود (أ)، فقد تكون (أ) موجودة رغم وجود (ت)، وبطريقة الجمع تصبح قيمة إحتمال وجود (أ) مساوية لـ (15 \16).

وهذه ليست النتيجة النهائية لدى المذهب الذاتي، وذلك بإعتبار ان تلك القيمة ليست حاكمة على نفي مصداقية (ت) للكلي المعلوم بالعلم الاجمالي القبلي، وعليه لا بد من الضرب الذي فيه تتكون لدينا (16) حالة كالاتي:

1ـ وقوع (ت) عند عدم وجود (ج، د، هـ).

2ـ وقوع (ت) بوجود (ج) فقط.

3ـ وقوع (ت) بوجود (د) فقط.

4ـ وقوع (ت) بوجود (هـ) فقط.

5ـ وقوع (ت) بوجود (ج، د).

6ـ وقوع (ت) بوجود (ج، هـ).

7ـ وقوع (ت) بوجود (د، هـ).

8ـ وقوع (ت) بوجود (ج، د، هـ).

9 ـ وقوع (أ) بوجود (ج، د، هـ).

10ـ وقوع (أ) بوجود (ج) فقط.

11ـ وقوع (أ) بوجود (د) فقط.

12ـ وقوع (أ) بوجود (هـ) فقط.

13ـ وقوع (أ) بوجود (ج، د).

14ـ وقوع (أ) بوجود (ج، هـ).

15ـ وقوع (أ) بوجود (د، هـ).

16ـ  وقوع (أ) بوجود (ج، د، هـ).

ونلاحظ من هذه الحالات الست عشرة ان السبع الأولى منها مستحيلة؛ لأنها تفترض وقوع (ت) بعدم اجتماع عناصرها جميعاً، وهو خلاف الفرض السابق، ولهذا تظل تسع حالات؛ ثمان منها لصالح وجود (أ)، وحالة واحدة فقط لصالح (ت)، وهي الحالة الثامنة، لذا فقيمة إحتمال وقوع (أ) تساوي (8\9)، وهذه النسبة وإن كانت أقل مما كانت عليه في العلم الاجمالي البعدي، إلا أنها كبيرة على أي حال.

الحالة الثانية:

في هذه الحالة يعمل الدليل الإستقرائي على تنمية إحتمال وجود (أ) من خلال علم اجمالي يضعف من قيمة إحتمال سببية (ت). فمثلاً إذا كنا نعلم بوجود علاقة سببية بين (أ) و(ب) ونحتمل وجود علاقة سببية أخرى بين (ت) و(ب)، فعلى هذا الأساس اننا كلما وجدنا (ب) فاننا نجد ثمة عاملاً ينمي من قيمة إحتمال وجود (أ)، وهذا العامل يتمثل بقيمة الإحتمال القبلية لسببية (ت) لـ (ب)، لأن إحتمال نفي هذه السببية يستلزم وجود (أ) مادامت (ب) واقعة. ففي حالة تساوي القيمة القبلية لإحتمال سببية (ت) لـ (ب) مع قيمة إحتمال نفيها، فسيتكون لدينا علم اجمالي آخر ينمي من قيمة إحتمال وجود (أ) إلى ما يساوي (1\4)، لأن إحتمال نفي السببية بين (ت) و(ب) يستلزم سببية (أ) وبالتالي وجودها، وقيمة هذا الإحتمال تساوي (1\2)، يضاف اليه نصف قيمة إحتمال سببية (ت)، بإعتبارها محايدة بالنسبة لوجود (أ)، وبذلك تصبح تلك القيمة مساوية لـ (3\4). وهذه القيمة تعتبر لدى المذهب الذاتي حاكمة على القيمة التي يحددها العلم الاجمالي القبلي، وذلك لأن هذا العلم ينفي بدرجة نصف سببية (ت) لـ (ب)، ومن ثم ينفي بنفس الدرجة مصداقية (ت) للمعلوم الكلي بالعلم الاجمالي القبلي.

وفائدة هذا الشكل من الدليل الإستقرائي هو أنه يعمل على تنمية قيمة إحتمال العلة التي تمتلك صفة الاشتراك في تفسير الحوادث  المختلفة، وذلك من خلال استبعاد التفسير القائم على أساس وجود علل مختلفة تجتمع بالصدفة. لذا تقع على عاتق هذا الشكل مسؤولية إثبات كثير من القضايا الهامة، كقضية وجود المنظم الحكيم، أو المسألة الإلهية، والتواتر والإفتراضات العلمية المختلفة[3].

أما الشكل الثاني من المرحلة الاستنباطية فيتعلق بترجيح السببية بين (أ) و(ب)، وذلك ليتسنى اثباتها على نحو اليقين في المرحلة الذاتية. ففي المرحلة الاستنباطية ان الدليل الاستقرائي لا يؤدي دوره في اثبات اليقين والتعميم الا بعد احراز محورين اساسيين كالآتي:

1ـ الكشف عن السببية في القضية الاستقرائية وترجيح الضرورة فيها، ليتسنى بعد ذلك اثباتها.

2ـ اثبات الوحدة المفهومية لدى كل طرف من طرفي العلاقة السببية في القضية الاستقرائية.

فالقضية الاستقرائية التي يراد لها التعميم تنطوي على ثلاث مشاكل تستدعي الحل والعلاج. وهذه المشاكل تتعلق باثبات السببية العامة والخاصة وكذلك التعميم. او قل انها مرهونة باثبات كل من الضرورة في العلاقة السببية والوحدة المفهومية ليتسنى التعميم.

فقد أشرط المفكر الصدر ان تحلّ المشكلتان الأوليتان طبقاً لاثبات هذين المحورين، حيث في الاول يتم اثبات الضرورة في العلاقة السببية، سواء تلك المناطة بالمشكلة الاولى (السببية العامة)، او التي تتعلق بالمشكلة الثانية (السببية الخاصة). فالقضية الاستقرائية بنظره ليست قابلة للتيقن ما لم تترجح وتثبت السببية الضرورية لكلا العلاقتين العامة والخاصة، وذلك اعتماداً على اقامة التجارب والحساب الاحتمالي لها. والأمر لا يتوقف عند هذا الحد، وانما يعتمد على اثبات محور آخر هو المطلق عليه الوحدة المفهومية لكل من السبب والمسبب. وتعني هذه الوحدة بأن التعامل مع السبب او مع المسبب لا يتم مع مشخصاتهما الفردية؛ فلا يكون التعامل مع هذه الالف مستقلاً عن تلك الالف – مثلاً -، وانما يكون مع الصفة العامة للالفات، وكذا الحال مع الباءات. فعندئذ يمكن حل المشكلتين الاولى والثانية بالتجربة والاستقراء، كما تتطلبها المرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي، ويتهيأ الأمر الى الدخول في حل المشكلة الثالثة وتبرير مسألة التعميم واثبات اليقين، وذلك استناداً الى ما تقوم به المرحلة الذاتية من الدليل الاستقرائي.

تلك هي اجمالاً الركائز الأساسية لاطروحة المذهب الذاتي في حلّه لمشكلة الترجيح في الدليل الإستقرائي. وسينصب تحليلنا ونقدنا على المحورين السابقين الذين يقوّمان المرحلة الإستنباطية، ونتساءل: كيف أمكن للمذهب الذاتي ان يحقق حله للمشاكل الثلاث المناطة بإثبات المحورين الآنفي الذكر إستقرائياً؟ فأولاً كيف استطاع ان ينمّي الضرورة في العلاقة السببية؟ ثم كيف تمكن من إثبات الوحدة المفهومية لاطراف العلاقة السببية؟

1ـ تنمية احتمال الضرورة السببية

تمتاز السببية التي تفترض الضرورة كما يعوّل عليها المذهب العقلي بنوعين من العلاقات، احداهما وجودية، وهي تعني انه كلما وجد السبب (أ) حدثت (ب)، والاخرى عدمية لأنها تعني انه كلما انعدم وجود (أ) فان (ب) تنعدم تبعاً له، مما يقتضي أن يكون وجود (ب) من دون (أ) مستحيلاً، وهو عبارة عن نفي الصدفة المطلقة التي تتضمن استحالة وجود المسبب من دون سبب. وبحسب المفكر الصدر انه لكي نثبت صحة الدليل الاستقرائي في سيره المعرفي من الخاص الى العام لابد من اثبات هذين النمطين من السببية الضرورية، فهما يعبران عن السببيتين الخاصة والعامة.

فبخصوص اثبات السببية الضرورية الخاصة، تارة يُفترض ان هناك مبرراً للاعتقاد باستحالة الصدفة المطلقة، واخرى يفترض عدم وجود مثل هذا المبرر، اي ان من الجائز حدوث مثل هذه الصدفة، فسواء بهذا او بذاك ان من الممكن تنمية احتمال هذه السببية بين (أ) و(ب).

ففي الحالة الاولى انه اذا كانت (أ) موجودة ووجدت معها (ب)؛ فإما أن يكون وجود (أ) هو السبب في حدوث (ب)، او أنه لا علاقة له بذلك، لكن حيث انه بحسب الفرض يستحيل ان يكون وجود (ب) من غير سبب؛ لذا يحتمل بادئ الامر ان يكون السبب في وجودها هو عنصر آخر غير (أ)، ولنفترض انه (ت). على ان من الواضح انه لو لم تكن (ت) موجودة لتحتمت سببية (أ) لـ (ب)، لكن احتمال وجودها قد يعطيها بعض القيمة الاحتمالية لأن تكون هي السبب لـ (ب)، ولا شك أن هذه القيمة تظل ضئيلة بالقياس الى قيمة احتمال سببية (أ)، وذلك لأن اخراج قيمة احتمال سببيتها يفرض علينا ضرب احتمال كونها موجودة في احتمال كونها هي السبب على افتراض وجودها، وبعملية الضرب تتضاءل القيمة.

وهذه التقديرات تظل كما هي في حالة اجراء أي عدد ممكن من التجارب. الا أنه مع زيادة التجارب يلاحظ أن قيمة احتمال سببية (أ) تزداد، في الوقت الذي تتضاءل فيه احتمال سببية (ت). فمثلاً في حالة اجراء تجربتين – تظهر فيهما (ب) كلما وجدت (أ) – سنحصل على علم اجمالي بعدي ذي أربعة أطراف محتملة، وهي تتعلق باحتمالات وجود (ت) خلال التجربتين، وذلك كالاتي:

1ـ وجود (ت) في كلا التجربتين.

2ـ عدم وجود (ت) خلال التجربتين.

3ـ وجود (ت) خلال التجربة الاولى فقط.

4ـ وجود (ت) خلال التجربة الثانية فقط.

هذه أربعة اطراف متكاملة بتساويها للاحتمال، حيث كل واحد منها يحظى بقيمة قدرها (1\4). لذا فقيمة احتمال سببية (أ) لـ (ب) ستشمل حصص الحالات الثلاث الاخيرة مع نصف حصة الحالة الاولى باعتبارها محايدة، اذ ان افتراض وجود (ت) في التجربتين معاً، يحتمل له أن يكون السبب لـ (ب) بنفس القيمة المحتملة لـ (أ). وبهذا تكون القيمة الاحتمالية لسببية (ت) هي (1\8)، ولسببية (أ) هي (7\8).

ولو كانت هناك ثلاث تجارب؛ فان قيمة احتمال سببية (أ) لـ (ب) ستزداد وتصل الى (15\16)، وكلما ضاعفنا التجارب تضاعفت قيمة احتمال سببية (أ) لـ (ب)، وتضاءلت بالمقابل سببية (ت) حتى تقترب الى الصفر، لكنها – من الناحية المنطقية – لا يمكنها أن تصل اليه، رغم أنه من الممكن اهمالها طبقاً لمقررات المرحلة الذاتية.

هذه هي قيمة الاحتمال التي يحددها العلم الاجمالي البعدي والتي تمثل القيمة الحقيقية للسببية الخاصة. ومن حيث وجهة نظر المفكر الصدر فان ما يمنع اجراء عملية ضرب هذا العلم الاجمالي بالعلم الاجمالي القبلي؛ يعود الى أن العلم البعدي يعتبر حاكماً على ما يتضمنه العلم القبلي، وذلك من خلال ما تؤثر به القيمة الاحتمالية التي تنفي وجود (ت) خلال تجربتين على تلك القيمة المحددة من قبل. فلولا هذا المانع لصحت عملية الضرب عنده، وهي العملية التي انهاها ضمن صياغة رياضية محددة[ii]. لكنا نعتقد انه لا يصح استخدام الضرب مع العلم القبلي مطلقاً، وذلك باعتباره ليس علماً حقيقياً، بل هو اجراء منهجي نضطر اليه كبداية في التسوية بين الاحتمالات، وذلك حين نفقد مبررات الترجيح تبعاً لمبدأ عدم التمييز، خاصة وان علاقة الضرب المستقل تجري في حالات التأثير – غير الموجه – بين الاطراف المختلفة، وهو ما لا ينطبق على ذلك العلم القبلي، كما لا ينطبق عليه الضرب المشروط.

أما في الحالة الاخرى التي نفترض فيها ما يسوغ لنا الاعتقاد بجواز حدوث الصدفة المطلقة، فان من الممكن ايضاً تنمية احتمال سببية (أ) لـ (ب) باطراد، وذلك عن طريق القضية الشرطية التالية: اذا كان صحيح أن (أ) هي السبب في وجود (ب) فلابد أن يقترنا مع بعض في جميع التجارب المختبرة. وبالعكس فيما لو لم تكن (أ) هي السبب لـ (ب). وفي هذه الحالة اذا افترضنا أن (أ) ليست سبباً لوجود (ب)؛ فسوف تكون لدينا بعض الاحتمالات التي تتعلق بظهور (ب) حين ايجاد (أ). فلو أننا طبقنا هذه الاحتمالات على ما نتنبأ به خلال تجربتين لكانت الاطراف المحتملة كالاتي:

1ـ احتمال عدم ظهور (ب) في التجربتين معاً.

2ـ احتمال عدم ظهور (ب) في التجربة الاولى فقط.

3ـ احتمال عدم ظهور (ب) في التجربة الثانية فقط.

4ـ احتمال ظهور (ب) في التجربتين معاً.

فلو أن (أ) ليست سبباً لـ (ب) لكنا نتوقع عدم تحقق الطرف الاخير من الاحتمالات السابقة، وذلك باعتبار أن جميع الاطراف الاخرى تنسجم مع هذا الافتراض. الا أنه لو كشفت لنا التجربتان نجاحهما في ظهور (أ) مع (ب)؛ فان المسألة ستنعكس لصالح السببية بين هذين العاملين، اذ ستكسب جميع قيم الاطراف الثلاثة الاولى التي لم يحالفها حظ التحقق، مع نصف قيمة الطرف الاخير؛ باعتبار أن اقتران (أ) مع (ب) خلال التجربتين يحتمل له أن يكون صدفة كما يحتمل له أن يكون لزوماً، وبهذا تصبح قيمة احتمال السببية مساوية لـ (1\4 + 1\4 + 1\4 + 1\8 = 7\8).

وهذه القيمة ليست النهائية لدى المفكر الصدر. اذ يعتقد أن من الضروري اجراء عملية الضرب بين اطراف العلم السابق وما يتضمنه العلم القبلي الذي يحتوي على طرفين محتملين أحدهما لصالح تلك السببية الوجودية والاخر لصالح نفيها. وبعملية الضرب تظهر لدينا الاطراف التالية:

1ـ احتمال عدم ظهور (ب) في التجربتين معاً في حالة افتراض عدم سببية (أ) لـ (ب).

2ـ احتمال عدم ظهور (ب) في التجربة الاولى في حالة افتراض عدم سببية (أ) لـ (ب).

3ـ احتمال عدم ظهور (ب) في التجربة الثانية في حالة افتراض عدم سببية (أ) لـ (ب).

4ـ احتمال ظهور (ب) في التجربتين معاً في حالة افتراض عدم سببية (أ) لـ (ب).

5ـ احتمال عدم ظهور (ب) في التجربتين معاً في حالة افتراض سببية (أ) لـ (ب).

6ـ احتمال عدم ظهور (ب) في التجربة الاولى في حالة افتراض سببية (أ) لـ (ب).

7ـ احتمال عدم ظهور (ب) في التجربة الثانية في حالة افتراض سببية (أ) لـ (ب).

8ـ احتمال ظهور (ب) في التجربتين معاً في حالة افتراض سببية (أ) لـ (ب).

هذه ثمانية اطراف؛ نلاحظ أن الخامس والسادس والسابع منها مستحيل؛ لوجود التنافي بين عدم ظهور (ب) في تجربة على الاقل وبين افتراض سببية (أ) لها. أما بقية الاطراف فأغلبها لصالح السببية الوجودية، اذ تحظى على قيم كل من الطرف الاول والثاني والثالث والثامن، وتكون محصلتها مساوية لـ (4\5). أما نفي تلك السببية فلا تحظى الا على قيمة الطرف الرابع؛ مما يجعل قيمتها مساوية لـ (1\5). لكن مع زيادة التجارب الناجحة ستزداد القيمة الاحتمالية للسببية الوجودية باطراد مستمر، في الوقت الذي تتضاءل فيه القيمة الاحتمالية لنفيها.

والذي دعا المذهب الذاتي لأن يقيم عملية الضرب بدل الحكومة هو انه لم يحصل على علم اجمالي ينفي مصداقية احد الطرفين للكلي المعلوم بالعلم القبلي، بل حصل على علم شرطي يعمل على تثبيت مصداقية الطرف الاخر المتمثل بالسببية[iii]. لكن عرفنا سابقاً موضع الاشكال. وسنشهد ان المفكر الصدر – ذاته – يعتقد بان حالة الضرب بين العلمين الاجماليين وتكوين علم ثالث لا يجعل للمرحلة الذاتية امكانية القيام بدورها في تحقيق درجة اليقين. مما يعني ان حالة الضرب التي تقام هنا هي غير معتمدة هناك، وبالتالي لا جدوى لها.

كان ذلك فيما يتعلق باثبات علاقة السببية الضرورية الخاصة. أما بخصوص اثبات السببية الضرورية العامة، فيتعلق الامر هنا باثبات استحالة الصدفة المطلقة، فلو افترضنا ان (أ) هي الوحيدة المحتملة لسببية (ب) فان بالامكان تنمية احتمال السببية العدمية التي تتضمن نفي الصدفة المطلقة، وذلك من خلال ايجاد التجارب الناجحة التي تكشف عن اختفاء (ب) حين انعدام (أ). فاذا اردنا ان نتنبأ باحتمال ظهور (ب) خلال تجربتين حين نفترض نفي العلاقة السببية بين عدم (أ) وعدم (ب)؛ لابد من  ملاحظة الاطراف المحتملة التالية:

1ـ ظهور (ب) في كلتا التجربتين معاً.

2ـ ظهور (ب) في التجربة الاولى فقط.

3ـ ظهور (ب) في التجربة الثانية فقط.

4ـ عدم ظهور (ب) في التجربتين معاً.

والمتوقع ان يثبت أحد الاطراف الثلاثة الاولى فيما لو صدق افتراض نفي السببية العدمية. لكنه اذا ثبت الطرف الاخير فان من الطبيعي ان تحظى السببية العدمية على جميع قيم الاطراف الثلاثة الاولى مع نصف قيمة الطرف الاخير؛ باعتبار ان الاقتران بين عدم (أ) وعدم (ب) خلال التجربتين قد يكون صدفة كما قد يكون لزوماً، وبهذا تقدر قيمة هذه السببية بـ (7\8).

لكن ليست هذه القيمة نهائية عند المفكر الصدر، حيث اكد على ضرورة اقامة عملية الضرب بين ذلك العلم الشرطي وبين العلم القبلي.

وعلى العموم انه كلما ازدادت التجارب الناجحة فسوف تزداد بذلك اطراف العلم الاجمالي الشرطي، وبه تزداد قيمة احتمال العلاقة السببية العدمية، في الوقت الذي تتضاءل فيه قيمة احتمال الصدفة المطلقة.

ومن الواضح انه لو صحت هذه الطريقة لكان يعني ان من الممكن البرهنة استقرائياً على نقطة تعد في غاية الاهمية، ألا وهي استحالة الصدفة المطلقة التي تمثل جوهر السببية العامة، وبالتالي فان ذلك يعني انه لا حاجة للدليل الاستقرائي الى أي مصادرة قبلية تتعلق بالسببية.

لكن ما يلاحظ هو ان المحاولات السابقة للتنمية الاحتمالية تصلح لاثبات السببية عموماً في قبال الصدفة، لكنها تفشل في البرهنة على اثبات الضرورة التي تتضمنها علاقة السببية. فمن الواضح ان الاقتران بين ظاهرتين خاصتين إما ان يعبر عن ضرورة محضة او عن صدفة محضة او عن علاقة مشدودة تقبل الانفكاك. ومع كثرة التجارب ومشاهدة التكرار في الاقتران يمكننا بطريقة الاحتمال ان نضعّف من قيمة احتمال الصدفة ومن ثم نفيها عملياً، لكن يظل لدينا افتراضان احدهما لصالح الضرورة والاخر لصالح علاقة الشد. ومن المعلوم ان كثرة التجارب لا اثر لها في تأييد أي فرض من الفرضين السابقين ما لم يتدخل عامل آخر جديد، كالعامل الفلسفي او الشرعي، مثلما نبّه عليه الصدر في كتابه (بحث حول المهدي). فالتجارب المتكررة بامكانها ان تساعد على تنمية احتمال نفي الصدفة المطلقة، لكنها لا تساعد على تنمية احتمال استحالتها؛ للفارق بين نفي الشيء ونفي استحالته، او لأن اثبات علاقات الشد لا يدل على استحالة فكّها.

محاولة نفي السببية التجريبية

ان الفارق الاساس الذي حدده المذهب الذاتي بين السببية التجريبية والسببية العقلية هو ان الاولى لا تتضمن الضرورة بخلاف الثانية، وهي ايضاً لا تتعامل مع الافراد بوصفها ترجع الى ماهية لها صفة مشتركة عليها يعول تحديد العلاقة السببية بالنسبة الى الكل، كما هو الحال مع السببية العقلية.

وقد كان لهذا التحديد دوره الهام في اتهام الطريقة التجريبية بعجزها عن اثبات او ترجيح السببية، فحيث ان السببية ليست بين ماهيتين وانما هي عبارة عن لون من التتابع بين الافراد التي تعود الى فئتي (أ) و(ب)، لذا فان سببية الفرد ‹‹1›› من (أ) الذي يقترن بالفرد ‹‹1›› من (ب) لا علاقة له بسببية الفرد ‹‹2›› من (أ) المقترن مع الفرد ‹‹2›› من (ب)… الخ. وعليه فبحسب المفكر الصدر انه لما كانت الافراد مستقلة عن بعضها في تلك العلاقة، فان قيمة احتمالها القبلي ستساوي قيمة احتمال سببية الفرد الاول من (أ) مع (ب) مضروبة بقيمة احتمال سببية الفرد الثاني، وهكذا مع الثالث الى آخر الافراد، فاذا كانت لدينا افراد كبيرة جداً فان قيمة الاحتمال القبلي ستقترب من الصفر باطراد، مما يعني عدم قابلية تلك الطريقة لاعطاء نتيجة عملية في الواقع.

اضافة الى ذلك فان تلك الطريقة – كما يراها المفكر الصدر – عاجزة عن ترجيح السببية بما هو اكثر من النصف، مهما كان لدينا من التجارب الناجحة. فنجاح اي تجربة سوف لا يعمل الا ان يزيل عاملاً من عوامل الضرب. فمثلاً اذا كانت علاقة (أ) مع (ب) تعبر عن عشر حوادث للافراد، وكان احتمال وقوع الحادثة – اياً كانت – يساوي نصفاً، ففي هذه الحالة ان الاحتمال القبلي لاقتران (أ) بـ (ب) سيكون مساوياً لقيمة ضرب العوامل العشرة مع بعضها، وهي تساوي (1\2) مضروبة في نفسها عشر مرات. واذا تأكدنا من نجاح جميع الحوادث باستثناء واحدة منها لم نجربها بعد؛ فان عوامل الضرب التسعة ستزول، لكن الحادثة الاخيرة تظل على ما هي عليه، وبالتالي فان القيمة الاحتمالية لاقتران (أ) بـ (ب) ستكون:

(1)9 × 1\2 = 1\2

ومن ثم فان زيادة التجارب الناجحة لا تنمي احتمال تلك العلاقة باكثر من نصف مهما امتد بنا الاستقراء، اذ كل حادثة جديدة لما كانت تتضمن الضرورة ولا علاقة لها بالحوادث التي قبلها؛ فان امكان وجودها يظل مساوياً لامكان عدمها دائماً.

والذي جعل المفكر الصدر يرتب هذه النتيجة الخطيرة هو انه اعتبر حقيقة السببية التجريبية تنطوي على الصدفة المطلقة لكونها لا تقر بالضرورة واللزوم في تك العلاقة[iv].

ونشير اخيراً الى انه لو كانت السببية العامة مفترضة قبلياً او انها مثبتة بالطريقة الاستقرائية، فكل ذلك سيؤثر على كشف الاسباب الخاصة لعلاقات الطبيعة، بخلاف ما اعتقده فيلسوف العلم ريشنباخ[v]، وذلك لان قيمة احتماله القبلية ستؤثر على حساب قيمة احتمال سببية (أ) لـ (ب). فلو كنا نحتمل أن سبب (ب) هو إما (أ) او (ت)، وافترضنا التساوي في الاحتمالات القبلية، لكانت القيمة القبلية لكل منهما هي (1\2). لكن لو كان هناك احتمال آخر ينفي السببية مطلقاً، لتحولت القيم لكل من هذه الاعضاء القبلية الى (1\3)، ومع ادخال هذه القيمة القبلية قي المعادلة العددية التي تعين سببية (أ) فان قيمتها ستتضاءل كثيراً عما كانت عليه دون ذلك العضو الجديد.

2ـ اثبات الوحدة المفهومية

ان فهم العلاقة السببية طبقاً للمفهوم الماهوي يعود بنا الى المنطق الارسطي. فالعلاقة الضرورية بين السبب والمسبب لدى هذا المنطق قائمة على أخذ اعتبار الماهية في طرفي هذه العلاقة، او ان الضرورة المعتبرة هي تلك التي تقوم بين ماهية السبب وماهية المسبب. أما العلاقة الخارجية للسببية فقد تتأثر بعض مشخصاتها أحياناً بما يطرأ عليها من بعض العوارض ويجعلها غير محتمة الحدوث، أي ان العلاقة بوصفها الشخصي لا يتحتم فيها الارتباط الضروري على الدوام؛ طالما انها قد تتأثر بعوامل أخرى طارئة على ذاتيتي السبب والمسبب، الامر الذي يجعل العقل البشري عاجزاً عن كشفها بدقة. وهذا الفصل بين الماهية او المفهوم الكلي من جانب، وبين الواقع الموضوعي للعلاقة السببية من جانب آخر، جعل المنطق الارسطي لا يحتم مسألة التعميم ولا يعيرها أهمية كمشكلة في بناء الدليل الاستقرائي. فما يهم هذا المنطق هو الكشف عن المفهوم الكلي (الماهوي) من العلاقة السببية، ولا يضيره شيء إن أفضت القضية الاستقرائية الى عدم تحقيق الأمر الدائم (التعميم) وانتابها بعض الشذوذ والمستثنيات نتيجة التعقد الحاصل بين الظواهر في الواقع الموضوعي. وبالتالي فان ما يكفيه هو ان يتحقق الاقتران الاكثري او الغالب ليعد الدليل الاستقرائي – او ما يسميه التجربة – صحيحاً في نهجه. وقد وضع لذلك مبدءاً قبلياً كاشفاً عن هذا المعنى بما يتسق مع الاعتبارات الماهوية الكلية وما تفرضه من طبائع الامور في الواقع الموضوعي، وهو المبدأ القائل: ‹‹ان الاتفاق لا يتكرر أكثرياً ولا دائمياً››. فبهذا المبدأ تتعين السببية، دون ان يشترط للكشف عنها الدوام في الاقتران بين الظاهرتين، كما انه لم يشترط الكشف عن ماهية السبب بذاته وانما يكفي على الأقل ما يقترن معه بالطبع. وبالتالي فان صحة هذا الدليل لا تتوقف على سلامة التعميم، طبقاً للمبدأ المشار اليه، انما يكفي احراز المعنى الكلي من العلاقة السببية.

بهذا يتخذ المنطق الأرسطي مسلكاً مزدوجاً، فهو من جانب يعتقد بامكانية الكشف عن السببية الضرورية المؤطرة ضمن الاطار الكلي الماهوي، لكنه من جانب آخر لا يجعل ذلك مبرراً للتعميم، بل يكفي تحقق الاقتران الأكثري بين السبب والمسبب ليستكشف منه صبغتهما الطبعية في التحقق، حتى لو لم يؤد ذلك الى الاقتران الدائم، طالما ان هذه الظاهرة قد تتلبس بعوامل متعددة تمنعها من ان تتحقق وتعبّر عن كامل شكلها الكلي من الماهية.

وهذا الامر يختلف تماماً عما لجأ اليه الاتجاه التجريبي الذي رفض المصادرات القبلية. ذلك ان هذا الاتجاه لا يتجاوز النظر الى العلاقة المحسوسة بين وقائع الظاهرتين المتعاقبتين، وهما من حيث ذلك لا يدلان على الضرورة بين السبب والمسبب، كما لا يدلان على المفهوم الماهوي للعلاقة بينهما، وبالتالي فان التعامل معهما يظل ضمن الاطار الشخصي من العلاقة لا المفهومي او الكلي. وكلا الأمرين يجعلانه لا يجد ما يبرر حالة التعميم. وهو من حيث لا يعترف بالأمر الكلي او الماهوي من العلاقة السببية فانه يعد شذوذ الشاهد الواحد مما يبطل الدليل الاستقرائي، مثلما يؤكد على ذلك الفيلسوف المعاصر كارل بوبر، الامر الذي دعاه الى رفض الاعتماد على الاستقراء واللجوء الى المذهب الاستنباطي القائم على أساس التكذيب، اي السعي وراء اكتشاف شاهد مضاد يكفي ان يكذب القضية الكلية المفترضة. وعليه فان جوهر المشكلة الاستقرائية لدى الفكر التجريبي هو التنبؤ بالحوادث الجديدة، وهذا ما جعله ينظر الى الدليل الاستقرائي بما يحمل هذه الخاصية التنبؤية، على الرغم من ان بعض اشكال هذا الدليل ليس له علاقة بالتنبؤ والتعميم، مثل دوره في تفسير الظواهر الطبيعية واثبات وجودها. في حين أن ما يهم المنطق الارسطي هو تحديد ماهية العلاقة السببية وطبيعتها.

أما المفكر الصدر فواقع الأمر انه سلك سلوكاً جامعاً بين ما أراده المذهبين العقلي الارسطي والتجريبي الغربي. فهو من جانب يعوّل على الطابع الماهوي للعلاقة السببية، لكنه من جانب آخر سعى نحو إفادة الدقة في الوصول الى التعميم، أي انه لم يعتمد على مجرد الأمر الكلي مثلما هو الحال لدى المنطق الأرسطي، وانما سلّم باعتبار طابع الوقائع الخارجية، حيث أخذ يدقق في فئة محددة من الطابع الماهوي ليستعين بها في أمر التعميم، فأكد على ضرورة ان يأخذ المستقرئ في عين الاعتبار ما يمكن ملاحظته من تمييز بين فئات الالفات – مثلاً -، حتى لا يعمم الحكم على جميعها، بل يكتفي بخصوص الفئة التي جرّب علاقتها بالسببية – والتي أطلق عليها خاصية الوحدة المفهومية – رغم انها تشترك مع غيرها بخاصة الوحدة النوعية او الماهية[vi]. ورغم عدم نجاح هذه المحاولة كالذي كشفنا عنه في دراسة مستقلة؛ الا ان الغرض منها هو اسناد المرحلة الاستنباطية وتبرير التعميم بلا شذوذ ولا استثناء. وبذلك فانه يختلف عن المنطق العقلي الأرسطي في عدم اخذه بالاستقراء القائم على الحد الأكثري وتجويز الشذوذ. كما انه يختلف عن المنطق التجريبي لكونه آخذ بالمفهوم الماهوي للعلاقة السببية، كما وانه يعتبر ان من الممكن تحقيق حالة اليقين والتعميم في القضية الاستقرائية حتى مع عدم الأخذ بالمصادرات القبلية. وهو موقف جديد لم يسبق اليه احد.

ثانياً: المرحلة الذاتية

تتحدد وظيفة هذه المرحلة برفع درجة الاحتمال الممكنة الى رتبة اليقين المسمى بالموضوعي، تمييزاً له عن اليقين المنطقي (الضروري) واليقين الذاتي (الشخصي). فقد قام المذهب الذاتي بتقسيم اليقين الى ثلاثة انواع مختلفة، احدها اليقين المنطقي او الرياضي؛ كالذي ينتج في القياسات المنطقية والقضايا التضمنية، فمثلاً لو تيقنا بالقضية التي تقول: (زيد انسان عالم) فان القضية الثانية التي تقول: (زيد انسان) هي يقينة تبعاً لعلاقتها بالاولى. وثاني الانواع هو اليقين الذاتي او السايكولوجي، وهو قائم على الاعتبارات الذاتية والنفسية المحضة، مثلما يحصل لدى الكثير من الناس من يقين تبعاً لحالات التفاؤل والتشاؤم، وإن يعوزها المبررات الموضوعية الكافية. أما النوع الثالث فهو اليقين الموضوعي الذي هو نتاج المبررات الموضوعية الخاصة بتراكم الحسابات الاحتمالية تبعاً للدليل الاستقرائي. وبلا شك انه يقين يجمع ما بين الاعتبارات المنطقية كالنوع الاول، وذلك باعتباره لا ينشأ الا وفق المرحلة الاستنباطية للقياسات المنطقية للحسابات الاحتمالية، وبين الاعتبارات الذاتية لكونه يقيناً غير مبرهن او مستدل عليه. وبعبارة اخرى ان لليقين الموضوعي خاصتين، احداهما انه يعبر عن عملية سايكولوجية تحتم على الذهن – لا شعوراً – ان يحول المعرفة الياً وذاتياً من مرحلة الاحتمال الى اليقين، اما الاخرى فهو انه يخضع الى المبررات الموضوعية التي تضفي عليه الطابع المنطقي[vii].

وهذا التقسيم لليقين شبيه بالذي افاده برتراند رسل في كتابه (المعرفة الانسانية)، ذلك انه ميّز بين ثلاثة انواع لليقين، احدها اطلق عليه اليقين المنطقي او الرياضي، وذلك عندما تتضمن قضية او دالة قضية اخرى غيرها، فتكون هذه الاخيرة يقينة بالنسبة الى الاولى. فمثلاً لو صدقنا بان: (س هي حيوان عاقل) فان الدالة التي تقول: (س هي حيوان) تعد صادقة من حيث علاقتها بالاولى. والنوع الثاني من اليقين هو عندما يكون للقضية اعلى درجة من التصديق، سواء كان مبرهناً عليه او انه اولي ذاتي، واطلق عليه اليقين المعرفي الابستمولوجي، وهو موظف للدليل الاستقرائي. اما النوع الاخير فعرفه بانه يقين ذاتي، اذ هو عبارة عن تصور سايكولوجي، بخلاف سابقه الذي يحمل في جانب منه مسحة منطقية[viii].

وبحسب طريقة المذهب الذاتي عرفنا ان زيادة التجارب الناجحة في المرحلة السابقة تعمل على تنمية قيمة احتمال السببية الى اقوى درجة ممكنة دون اليقين. لذلك كان لا بد من خطوة اخرى تفي بالغرض الاخير من تبرير الدليل الاستقرائي، وهي ما تتكفل به المرحلة المرحلة الذاتية التي منها كان اشتقاق تسمية ‹‹المذهب الذاتي››، وذلك لما تتضمنه من ابداع مبتكر لتفسير بعض انواع المعرفة البشرية. فدور المرحلة الذاتية يختلف عما عليه في سابقتها. فهي لا تقوم بأي عمل استقرائي وتجريبي، ولا تبني أي حساب احتمالي، وانما تحوّل هذه الانجازات الى شكل آخر من المعرفة هي المعرفة الذاتية التي فيها يثبت اليقين والتعميم، فتُحل بذلك المشكلة الأخيرة من مشاكل الاستقراء. والركيزة الاساسية في هذه المرحلة هي المصادرة الموضوعة التي غرضها تبرير النقلة من الترجيح الاحتمالي في المرحلة الاستنباطية الى حالة اليقين (الموضوعي)، فزيادة التجارب الناجحة في المرحلة الاستنباطية تعمل على تنمية قيمة احتمال السببية الى أقوى درجة ممكنة من الترجيح، وعندها يبدأ دور المرحلة الذاتية في ايصال الدليل الاستقرائي الى درجة اليقين.

فمن الواضح ان اليقين الاستقرائي لدى المنطق الارسطي بعيد عن الصواب. في حين ان المنطق التجريبي لم يعط دلالة كافية لتبريره، اذ كل ما قيل هو ان القيمة الاحتمالية الكبيرة يمكن ان تفضي الى ايجاد ما يسمى باليقين العملي كالذي عليه الوضعية المنطقية، وهو يقين سايكولوجي منفصل عن مبرراته الموضوعية، باعتبار ان مردّه من حيث التحليل الى العادة النفسية. أما المذهب الذاتي فقد انفرد في تحليل تلك المسألة الجوهرية. فابتداءاً انه نفى ان تكون هناك امكانية للبرهنة على اثبات اليقين، واكتفى بافتراض مصادرة تبرر تحقيق تلك المرتبة النهائية، وهي تقر الشكل التالي: ‹‹كلما تجمع عدد كبير من القيم الاحتمالية في محور واحد، فحصل هذا المحور نتيجة لذلك على قيمة احتمالية كبيرة، فإن هذه القيمة الاحتمالية الكبيرة تتحول – ضمن شروط معينة – الى يقين››، في الوقت الذي تتحول فيه القيمة المضادة الى درجة الصفر[ix].

هذه هي مصادرة المرحلة الذاتية التي أُحيطت بشروط خاصة تحدد دائرة الوظيفة التي تقوم بها. فهناك نوعان من التجمع في القيم الاحتمالية الكبيرة على محور معين. النوع الاول يتصف بأنه تجمع لا يؤدي الى اليقين مهما كثرت القيم الاحتمالية بجانب معين، وذلك لوجود قيمة احتمالية ضئيلة لا يمكن افناءها ابداً. والنوع الاخر يتصف بأنه تجمع يؤدي الى اليقين من خلال افناء القيمة الاحتمالية بجعلها تساوي صفراً.

فمثلاً على النوع الاول: اذا علمنا اجمالاً ان مريضاً واحداً قد توفي من بين مجموعة مرضى عددهم (1000) شخص، فسيتألف لدينا علم اجمالي من (1000) طرف، كل واحد منها له قيمة احتمالية قدرها (1\1000)، وذلك فيما لو لم تكن لدينا اي معلومات عن ظروف المرضى. واذا اخترنا اسم شخص معين منهم – زيد مثلاً -؛ فان قيمة احتمال وفاته هي (1\1000)، وقيمة احتمال بقائه على قيد الحياة هي (999\1000)، وهذه القيمة تعتبر كبيرة جداً بالقياس الى القيمة المضادة لها، لكنها لا تبرر افناءها، اذ لو فعلنا ذلك لكان من الضروري افناء جميع القيم التي تماثلها في بقية الاطراف الاخرى، وهذا افناء للعلم الاجمالي بكامله، حيث ينتفي ان يكون هناك شخص معلوم الوفاة[x].

لذا كان من الضروري ابراز بعض الشروط التي تفي بقضية افناء القيم الضئيلة وتحويل القيم العظيمة الى رقم اليقين (واحد)، دون ان يفضي ذلك الى زوال العلم الاجمالي كما حصل مع النوع السابق في تجمع القيم الاحتمالية. وعليه اعتبر المذهب الذاتي أنه لابد من افتراض وجود علمين اجماليين بدلاً من العلم الواحد الذي لا يحقق شرط المرحلة الذاتية من الدليل الاستقرائي، فكان هناك شكلان لتطبيق مصادرة هذه المرحلة، وهما يُعدان المجال الصالح لاثبات السببية عن طريق تكرار التعاقب بين (أ) و(ب).

الشكل الاول

يتم الشكل الاول لتطبيق المصادرة بواسطة وجود علمين اجماليين، يضم أحدهما جميع الاطراف الاصلية، فيصبح كل طرف محوراً لتجمع القيم الاحتمالية المثبتة او النافية. أما العلم الاخر فلا يملك محاور لتجمع القيم، وانما يضم نفس هذا التجمع من القيم، حيث بتعاظمها الكبير تحقق درجة اليقين في أحد محاور العلم الاول، مع افناء القيم الاحتمالية الخاصة ببقية المحاور الاخرى.

فمثلاً في تفسيرنا لاثبات سببية (أ) لـ (ب)، علمنا انه حين نقوم بمجموعة من التجارب الناجحة التي تكشف عن اقتران وجود (ب) بـ (أ)؛ فان القيمة الاحتمالية المتجمعة نحو محور سببية (أ) تزداد باطراد، في الوقت الذي تتضاءل فيه بقية المحاور الاخرى. فعند ذلك يوجد ما يبرر تحول قيمة سببية (أ) الى درجة اليقين، وذلك بافناء قيم سائر المحاور الاخرى الضئيلة. إذ في هذه الحالة سوف لن نواجه مشكلة افناء العلم لنفسه، وذلك لأن تجمع القيم الاحتمالية يرجع الى العلم الاجمالي البعدي، في حين ان انتفاء القيم يعود الى العلم القبلي.

ومع ذلك فهناك شرطان لاستخدام هذا الشكل، كما جاء عن المذهب الذاتي كالاتي:

الشرط الاول: وينص على ان لا تكون القضية التي يراد افناء قيمتها الاحتمالية تلازم أحد أطراف العلم الاجمالي الثاني، لأنها ان لازمت احد اطرافه اعتبرت طرفاً ايضاً لهذا العلم الأخير. فمثلاً لا يتحقق شرط هذا الشكل اذا كان نفي سببية (أ) ملازماً لوجود (ت) في جميع التجارب الناجحة، اي نعلم بان (ت) اذا كانت موجودة في كل التجارب فان (أ) سوف لا تكون سبباً لـ (ب) حتماً، فعندئذ سيكون تطبيق المصادرة متعذراً، حيث ان نفي سببية (أ) لـ (ب) سيصبح بنفسه طرفاً من اطراف العلم الاجمالي الثاني، باعتباره ملازماً لاحد اطرافه، وملازم الطرف طرف مثله. فاذا ادى التجمع المنتمي الى العلم الثاني الى افناء القيمة الاحتمالية لنفي السببية فانه سوف يفني في الوقت ذاته القيمة الاحتمالية لوجود (ت) في جميع التجارب؛ للتلازم بينهما، وبذلك يصبح العلم سبباً في افناء قيمة من قيمه الاحتمالية المتساوية، مما يعني ان هذا الشكل سيواجه مشكلة افناء العلم لبعض قيمه المتساوية دون مبرر، او انه يواجه مشكلة افناء جميع القيم، وبالتالي افناء العلم لنفسه

وعليه فلاجل انجاح تطبيق المصادرة يجب افتراض ان لا تكون القضية التي يراد افناء قيمتها الاحتمالية ملازمة لاحد اطراف العلم الثاني، وهو الواقع فعلاً، حيث ان نفي سببية (أ) لـ (ب) ليس ملازماً لوجود (ت) في جميع التجارب، اذ قد تكون (ت) موجودة في كل التجارب ومع هذا تكون (أ) سبباً لـ (ب)، وبالتالي فان افناء القيمة الاحتمالية لنفي السببية لا يعني افناء لاحدى قيمه المتساوية التي يمثلها[xi].

الشرط الثاني: يجب ان يكون محور التجمع حقيقياً غير مصطنع. والمحور الحقيقي عبارة عن اتجاه جميع القيم الاحتمالية نحو قضية معينة واثباتها بصورة مباشرة. أما المحور المصطنع فهو عبارة عن تجمع القيم الاحتمالية باتجاه قضيتين لا علاقة بينهما، اذ تتكون منهما قضية ثالثة تنتزع من تشتت تلك القيم بغية الوصول الى حالة اليقين.

فمثلاً اذا كان هناك مريض يحتمل له ان يتوفى بقيمة قدرها (9\10)، فهذه النسبة الكبيرة لا يمكنها ان تزيل القيمة المضادة لها؛ باعتبارهما ينتميان الى علم واحد. وهنا يمكن ان يأتي دور المحور المصطنع فيخلق قضية اخرى لا علاقة لها بالاولى، فيدمجهما معاً لتتألف منهما قضية ثالثة منتزعة، كإن يبتدع قضية مفادها احتمال مقتل ذلك المريض. وبطبيعة الحال ان النسبة الضئيلة لنفي الوفاة بالمرض (1\10) محايدة اتجاه احتمال القتل، الا انه مع عملية التلفيق وتكوين المحور المصطنع تتألف القضية الثالثة التي مفادها ان الشخص إما ان يتوفى او يقتل، مع ان تحليل هذه القضية يجعلها ترد الى قضيتين كالاتي:

الاولى: إما أن يتوفى المريض نتيجة الاصابة او يقتل.

الثانية: إما أن يتوفى المريض نتيجة الاصابة او لا يقتل.

واذا كان احتمال القتل يساوي نصفاً، فان القضيتين السابقتين تصبحان متساويتين في القيمة الاحتمالية[xii]. لذا لو أننا رفعنا درجة احتمال واحدة منهما الى اليقين لكان ترجيحاً بلا مرجح، ولو اخلعنا اليقين عليهما معاً لخالفنا فرض اعتبار الوفاة مقدرة بـ (9 \10).

الشكل الثاني

عرفنا في الشكل الاول ان احد العلمين يعمل على افناء القيمة الاحتمالية للطرف المضاد، وذلك بواسطة علم اجمالي آخر عندما تتجمع القيم الاحتمالية نحو محور واحد. فبذلك لا يحصل التناقض من افناء العلم لاحدى قيمه المتساوية. وفي الشكل الاخر تتحدد العملية من خلال افناء العلم لأقل قيمة يمتاز بها بعض أطرافه الخاصة، وذلك عندما يكون لدينا علم آخر يسبب عدم التساوي في قيم العلم الاول. وهناك طريقتان ذكرهما المذهب الذاتي لتوضيح فكرة هذا الشكل، لكنه اقتنع بالثانية منهما ورفض الاولى لكونها تواجه بعد الاشكالات التي تخل بمصادرة المرحلة الذاتية[xiii].

ويمكن توضيح الطريقة الثانية المعتمدة من خلال المثال التالي: لو كانت لدينا قطعة نقد نريد رميها عشر مرات مثلاً، فسنواجه من الناحية القبلية (1024) حالة توافيقية تتوزع بشكل متساو ضمن علم اجمالي محدد حسب ضرب عدد امكانات الحادثة في نفسها عشر مرات، ومن هذه الحالات ظهور وجه الكتابة – او الصورة – في المرات جميعاً، حيث انه يساوي قيمة احتمال اي حالة توافيقية اخرى. وعلى الرغم من هذا التساوي فقد اعتبر المذهب الذاتي ان ظهور تلك الحالة تثير الاستغراب في نفوسنا بما لا تثيره اي حالة توافيقية اخرى . وعزا هذه الظاهرة الى وجود عامل آخر يقوم بدور تضعيف قيمة احتمال تلك الحالة الى اقل درجة ممكنة قياساًَ مع غيرها من الحالات الاخرى، فيحقق بذلك ما يبرر للمصادرة ان تمارس دورها في افناء اقل القيم الموجودة في العلم الاجمالي. والعامل المؤثر في ذلك عبارة عن كثرة اختلاف الظروف والملابسات التي تؤثر على ظهور اي واقعة من الوقائع، بحيث يصبح من الصعب ان نجد تماثلاً في ظهور الواقعة لعدة مرات، وذلك لان الثبات والاشتراك في تلك الظروف والملابسات يعتبر ضئيلاً جداً قياساً مع التباين والاختلاف. ومن الممكن تشكيل علم اجمالي آخر لتلك الظروف، وذلك من خلال ضرب عدد اطراف ظروف الرمية الاولى بعدد اطراف ظروف الرمية الثانية، وهكذا الى الرمية العاشرة، حتى يتألف لدينا عدد كبير جداً من الاطراف اغلبه لصالح عدم تكرر ظهور احد الوجهين في جميع المرات؛ لضآلة اشتراك وثبات الظروف.

وبهذا يصل المذهب الذاتي الى تفسيره الجديد لمبدأ (عدم تكرر االصدفة) الارسطي، او ما اطلق عليه قاعدة عدم التماثل، وهي تسمية تستند الى ما توصل اليه من استبعاد تأثير الجزء الثابت والمشترك على تكرار وقوع الحادثة بشكل متماثل[xiv].

ولا شك ان هذا التفسير يواجه بعض الاعتراضات كالاتي:

أولاً: قد تبين لنا في السابق ان قاعدة عدم التماثل هي قاعدة عقلية لِما تنطوي عليه من عنصر الضرورة وليست قاعدة استقرائية.

ثانياً: لو فرضنا ان هذه القاعدة مستنتجة بالاستقراء، فمع ذلك ان عملية الاستنتاج لا تتحقق عبر شرط اللزوم والضرورة بين (أ) و(ب)، ولا من خلال شرط الوحدة المفهومية لكل منهما. فالظروف والملابسات المتحركة والمؤثرة على ظهور (ب) في احيان دون اخرى؛ لا تتصف باللزوم والضرورة في علاقتها مع (ب)، كما انها ليست من نوع محدد ومفهوم مشترك الا اذا حملنا الامر على نحو المجاز.

ثالثاً: لقد طبّق المذهب الذاتي طريقته على نوعين من الامثلة يختلف احدهما عن الاخر بعض الشيء، فاحدهما يتعلق برمي قطعة النقد الذي يمكن ان نعلم فيه بشكل قبلي القيم الثابتة للاحتمالات التي تعود اليه، وذلك عندما نعلم بانتظام القطعة وتماثل وجهيها، والثاني يتعلق بحالة أخرى لا تملك مثل تلك القيم الثابتة من الناحية القبلية. اي ان قيم احتمالات النوع الاول موضوعية لا تقبل التغيير بالعلم البعدي، في حين ان قيم احتمالات النوع الثاني ذاتية تتقبل التغيير بذلك العلم، والمثال المطروح حول هذا النوع الاخير هو كالاتي: لو ‹‹أنّا أقمنا دعوة لخمسين شخصاً من الاصدقاء، وحاولنا مسبقاً ان نتنبأ بلون الملابس التي سوف يرتدونها عند مجيئهم الى الدعوة؛ فسوف نجد ان قيمة احتمال ان يجيء الجميع صدفة بلون واحد ضئيلة جداً.. فان اختيار كل واحد من الخمسين للون ملابسه يرتبط عادة بمجموعة من الظروف والملابسات، ونحن نعلم الاختلاف الشديد بين هؤلاء الخمسين في ظروفهم وملابساتهم، وعدم وجود اشتراك في الظروف والملابسات بينهم الا بقدر ضئيل جداً››[xv].

فلو اعتمدنا على النوع الاول الذي اولاه المذهب الذاتي اهتماماً اكثر من الاخر، فسنجد أن العلم الاجمالي الثاني لا يسعه ان يعطينا نتيجة تختلف عن نتيجة العلم الاول، وذلك لانه على الرغم من كثرة اختلاف الظروف وعدم ثباتها؛ الا أن محصلتها تظل محايدة اتجاه التأثير على ظهور الواقعة وعدم ظهورها. فلو حللنا تلك الظروف الى عناصر شتى، سنجد انها متناصفة التأثير على كل من الظهور والعدم، حيث نصف منها يكون لصالح ظهور الواقعة، والنصف الاخر لصالح العدم. وعليه لو اردنا ان نعرف قيمة احتمال ظهور الكتابة في جميع الرميات، وضربنا الظروف ببعضها، فسوف نحصل على نفس العلم الاول، وذلك طبقاً للتحليل التالي:

نفرض ان مطلق الظروف التي لصالح ظهور الكتابة عبارة عن (ن)، وان الظروف الخاصة بالرمية الاولى عبارة عن (ن1)، وبالرمية الثانية (ن2).. وبالرمية العاشرة (ن.1). وكذا نفرض نفس الشيء مع الظروف التي لصالح ظهور الصورة بـ (م). وحيث أن الظروف جميعاً متناصفة لعدم ترجيح بعضها على البعض الاخر، فان:

ن = م، ن1 = م1 … ن10 = م10

وأيضاً: ن1 = ن2 … = ن10

واذا كان (ح) يعبر عن الاحتمال فان:

ح ن = ح م، ح ن1  = ح م1  … ح ن10= ح م10

وأيضاً ح ن1 = ح ن2 … = ح ن10= 1\2

إذن ح ن = ح ن1 × ح ن2 ×… ح ن10

ح ن = (1\2)10 = 1\1024

وهو مطابق للقيمة التي يحددها العلم الاول استناداً الى معادلة برنولي كالاتي:

10!

ـــــــــــــــ × (1\2)10 × 1 = 1\1024

10! × 1

من هنا نعرف أنه لا زيادة في اطراف العلم الثاني على الاول، ولا نقصان لقيمة احتمال ظهور الواقعة في جميع المرات.

لكن ما هو السبب في نشوء الاستغراب النفسي عند تكرر الحالة المتماثلة اذا ما كانت جميع الحالات متساوية تبعاً للتحليل السابق؟

وبعبارة اخرى، نحن نشعر من الغرابة فعلاً ان تظهر الواقعة في جميع المرات بخلاف بقية الحالات الاخرى، مع أن القيم الاحتمالية للجميع متساوية وثابتة في العلم الاول، اذ كل منها يقدر بـ (1\1024)، ولا وجود لعامل اخر يضعّف من قيمة احتمال تكرار الواقعة لجميع المرات.

لكن هذه الحالة ليست الوحيدة التي تفضي الى ظاهرة الاستغراب. بل لو جعلنا اي حالة من الحالات التوافيقية – وهي 1024 حالة – محلاً للنظر والتنبؤ قبل اجراء الاختبار، وصادف ان ظهرت الحالة المشخصة، لاصابتنا – ايضاً – دهشة كبيرة. فلا فرق في الدهشة بين هذه الحالة والحالة الاولى التي تظهر فيها الواقعة في جميع المرات، وكذا الحال فيما لو ظهرت الواقعة على التناوب ابتداءاً من الاولى وحتى العاشرة… الخ.

مع هذا انه عند عدم النظر المسبق الى الحالات؛ فان الذي يثيرنا دهشة هي حالات قليلة كتلك التي يتكرر وقوع الحادثة فيها على الدوام خلاف غيرها. والسبب في ذلك يعود الى كون الطبيعة الانسانية تميل عادة الى التأثر بظاهرة الرتابة وترجيحها على غيرها من الظواهر الاخرى المكافئة لها. لهذا لا فرق يعتد به في الدهشة بين ان يُشاهد التكرار في جميع المرات او يُرى على التناوب. وهذه الظاهرة يمكنها ان تفسر لنا لماذا تتأثر نفوسنا – في الغالب – بالاعداد الحدية للاشياء، وهي مواضعات اصطلاحية قد الفناها، كإن تكون عشرة او عشرين او ثلاثين او مائة او الف، فنحاول عزوها الى سبب ما بخلاف ما لو كانت غير حدية، كتسعة او اربعة عشر او ثلاثة وخمسين… الخ[xvi].

هذا هو الطرح الاول الذي فيه نعلم بالعلم القبلي الثابت، أن حتمال ظهور الواقعة في كل مرة يقدر بقيمة (1\2). وقد عرفنا أن هذا العلم لا يتغير ولا يتأثر بظهور الواقعة في جميع المرات؛ ما لم يكن تقديرنا القبلي خاطئاً.

أما الطرح الثاني الخاص بلون ملابس المدعوين الخمسين، فتارة يكون لنا علم مسبق بالظروف العشوائية التي تتعلق بكل واحد منهم بشكل مستقل كلياً عن الاخر، وهو امر صعب التحقق منه تماماً مثلما يحصل فيه الحال مع قطعة النقد، لهذا لو اننا افترضنا الاستقلالية بين الافراد تامة، وان الحيادية في خيار لون الملابس لكل منهم تامة هي الاخرى، فان المثال عند ذلك يكون على شاكلة مثال قطعة النقد، وان كان الامر من الناحية الواقعية غير ذلك تماماً. وعليه لو اخذنا الواقع بعين الاعتبار مع جهلنا بالظروف المحيطة بالافراد المدعويين، فليس لنا ان نفعل شيئاً يمكن تحديده من الناحية القبلية سوى افتراض القيمة الاحتمالية الذاتية التي نقدرها للحادثة. ولتسهيل المطلب، لو كان لون الملابس متردداً بين الاسود والابيض، فسنفترض قبلياً انهما متساويا الاحتمال طبقاً لمبدأ عدم التمييز، وبالتالي فكل فرد يحتمل ان تكون ملابسه بيضاء بقيمة قدرها (1\2)، وذلك لجهلنا بالظروف الموضوعية التي تساعدنا على تحديد القيمة الحقيقية للاحتمال.

ويختلف هذا الطرح عن سابقه، بأنه لو ظهرت الواقعة في جميع المرات لكنا نتوقع وجود سبب مشترك خلف هذا الحدوث الشامل، ومع حضور هذا التوقع فانه تنتفي الدهشة والاستغراب، وكما يقول المثل: (اذا عُرف السبب بطل العجب)، وعلة ذلك هو ان الاحتمالات القبلية لدى هذا الطرح ليست موضوعية ثابتة مثلما هو الحال في سابقه. وعليه فسيواجه مشكلة اخرى كالاتي:

من الواضح انه ليس في استطاعتنا تحديد التزايد في اطراف العلم الثاني على اطراف العلم الاول ما لم نعلم بالظروف المنحازة، إذ لو كانت محايدة لظهرت نتيجة العلم الثاني مكافئة للعلم الاول – كما مر معنا في الطرح السابق-. ولو أننا عرفنا الانحياز، وقدرنا الاطراف، لكان معنى ذلك أننا قمنا بعملية استقرائية كشفت لنا عن بعض القيم التي ترجح ظهور الحادثة او عدمها، وبهذا تتغير القيم الاحتمالية، وبالتالي يمكن لبعض الحالات – ولنفترض انها حالة التكرر في جميع المرات – ان تأخذ اصغر القيم الممكنة. لكن المشكلة انه سنجد انفسنا قد دخلنا نفس الصورة التى تمتاز بها الطريقة الاولى. اذ هي ايضاً تأخذ احتمال الترجيح عن طريق الاستقراء وتتعامل مع العلم الاول بنفس التعامل الذي يكون في حالة الطريقة الثانية. مع ان الاولى رغم انها قد وفقت في اعطاء مزيد من القيم والاطراف من خلال العلم الثاني، الا انها مع ذلك لم تكن مقبولة لدى المذهب الذاتي.

فالمثال الذي استعرضه لهذه الطريقة، انه لو كانت لدينا ثلاثة اخبار محتملة للصدق والكذب، واردنا ان نعرف ما يقدره العلم الاول، سنلاحظ انه يعطينا ثمانية اطراف متساوية الاحتمال حسب ضرب امكانات الحادثة في نفسها في ثلاثة، فاحتمال كل طرف منها هو (1\8). لكن لو علمنا بواسطة الاستقراء ان قيمة احتمال صدق اي واحد منها هو (2\3)، ففي هذه الحالة ستزداد الاطراف الى (27) طرفاً، منها الطرف القائل بكذب الاخبار جميعاً، حيث يساوي (1 \27) طبقاً لمعادلة برنولي. وتعتبر هذه القيمة اضعف من القيمة التي يحدها العلم الاول. ولو تزايدت الاخبار لادى ذلك الى زيادة ضعف قيمة ذلك الطرف حتى يهيء للمصادرة ان تمارس دورها في افنائها من قبل العلم الاول. وعلى الرغم من ذلك فليست هذه الطريقة صحيحة برأي المذهب الذاتي. اذ هو يعتبر انه لو كنا نعلم بوجود الف خبر كاذب من المجموع الكلي المقدر عشرة آلاف خبر، واخترنا منها عشوائياً ألفاً، فانه اذا نفينا كلياً ان تكون هذه الالف كلها كاذبة من دون بقية الالاف الممكنة فهو ترجيح بلا مرجح، واذا عممنا هذه الصورة مع جميع الالاف الممكنة فسوف ننفي العلم الاجمالي بوجود الف خبر كاذب، حيث سنتعامل وكأنه لا يوجد لدينا اخبار كاذبة.

وهذه النتيجة صحيحة، لكنها لا تصدق على الطريقة الاولى فحسب، بل تشمل الثانية ايضاً. فالترجيح الذي نصل اليه بالاستقراء ونقدر فيه قيمة احتمال الحادثة هو ايضاً مما تعمل بعض القوانين الرياضية على استخراج اطرافه الممكنة المتساوية، والتي منها طرف قيمة التكرر في جميع المرات. فلو افنيناه من العلم الاول لكنا قد افنينا العلم الذي يحدد لنا تحقق ذلك الطرف، وذلك باعتبار ان العلم الثاني سيحل محل العلم الاول، لا انه يعمل على تغيير قيمه الاحتمالية فحسب.

فمثلاً لو أننا أردنا أن نحدد قيم احتمالات حادثة على أساس العلم الاول خلال تجربتين فقط، وقدرنا ان هناك اربعة اطراف محتملة، حيث ان الحادثة إما ان تظهر في التجربة الاولى، او في الثانية، او في كلاهما، او انها لا تظهر ابداً، وحيث اننا لا نعلم عنها شيئاً فان هذه الاطراف تكون متساوية تبعاً لمبدأ عدم التمييز. لكن لو ظهر لنا بالاستقراء أن قيمة احتمال ظهور الحادثة هي (2\3)، فان العلم الثاني سيعطينا تسعة أطراف متساوية الاحتمال، ويمكن تحديدها بالشكل التالي:

نفترض أن هناك عاملين لصالح الظهور هما (أ) و(ب) مقابل عامل واحد لصالح العدم هو (ج)، وعليه تكون الاطراف كالاتي:

1ـ ظهور الحادثة في المرة الاولى بسبب العامل (أ).

2ـ ظهور الحادثة في المرة الاولى بسبب العامل (ب).

3ـ ظهور الحادثة في المرة الثانية بسبب العامل (أ).

4ـ ظهور الحادثة في المرة الثانية بسبب العامل (ب).

5ـ ظهور الحادثة في المرتين بسبب العامل (أ).

6ـ ظهور الحادثة في المرتين بسبب العامل (ب).

7ـ عدم ظهور الحادثة في المرة الاولى بسبب العامل (ج).

8ـ عدم ظهور الحادثة في المرة الثانية بسبب العامل (ج).

9ـ عدم ظهور الحادثة في المرتين بسبب العامل (ج).

وبهذه الاطراف المتساوية تتغير قيم اطراف العلم الاول كالاتي:

1ـ احتمال ظهور الحادثة في المرة الاولى حسب العلم الاول يساوي (1\4)، وحسب العلم الثاني (2\9).

2ـ وكذا نفس الشيء في المرة الثانية.

3ـ احتمال ظهور الحادثة في المرتين حسب العلم الاول هو (1\4)، وحسب العلم الثاني (4\9).

4ـ احتمال عدم ظهور الحادثة في المرتين حسب العلم الاول هو (1\4)، وحسب العلم الثاني (1\9).

وتبعاً لذلك انه حين نأخذ الطرف الاخير ونجعله محوراً للمقارنة بين العلم الاول والثاني فسنرى ان قيمته في العلم الثاني تساوي قيمة اي طرف اخر من الاطراف التسعة، لكن قيمته في العلم الجديد تصبح اضعف القيم المحتملة مقارنة مع العلم الاول، ولا شك ان المصادرة لا تبرر افناءها عن طريق العلم الاول. او انه لا يمكن للعلم الاول ان يفني هذه القيمة الضئيلة، لان ما حصل عندنا هو تبديل العلم الاول بالعلم الثاني، وذلك من خلال ادخال جميع القيم التي يحددها هذا الاخير. لهذا اصبح العلم الاول بعد عملية التغيير يعبر عن صيغ احتمالية قائمة على الامكانات التسعة بدل الاربعة (2\9 ، 2\9 ، 4\9 ، 1\9).

اذن ان القيمة الاحتمالية لعدم الظهور في المرتين والمقدرة بـ (1\9)؛ لها شيء من الحضور، حيث تعني ان هذه الحادثة من المتوقع لها ان تقع مرة واحدة كل تسع مرات. ولو أن المصادرة قامت بافنائها لكان يعني أن الحادثة لا يسعها ان تظهر خلال المرات التسع، وهو عبارة عن افناء للعلم الذي علمنا فيه ان الحادثة يمكنها ان تظهر مرة واحدة خلال تلك المرات.

وبذلك نصل الى نفس نتيجة الطريقة الاولى التي رفضها المذهب الذاتي، حيث أن افناء احدى القيم يعني نفياً للعلم الذي يقرر تحقق مرة واحدة خلال عدد من الاختبارات طبقاً لما يحدده علم التوافيق.

ننتهي مما سبق الى النتائج والملاحظات التالية:

1ـ عرفنا أن تطبيق المصادرة ينجح ويتم وفق الشكل الاول لا الثاني. ذلك ان هذا الاخير يواجه صعوبات، سواء في حالة الطريقة الاولى التي رفضها المذهب الذاتي، او في حالة الطريقة الثانية كالذي عرفناه انفاً.

2ـ تارة يكون تطبيق المصادرة لاثبات السببية، واخرى لاثبات الحوادث الجديدة. وفي الحالة الاخيرة لا مبرر لافناء الطرف الضئيل القيمة، حيث انه قابل للتحقق وذلك فيما لو فرضنا اجراء العدد الكبير من الاختبارات. أما مع اثبات السببية الخاصة فالامر يختلف، اذ المطلوب هو افناء احتمال وجود (ت)، وحيث اننا لا نعلم بحقيقة وجودها فان زيادة التجارب تضعف من احتمال هذا الوجود، وبالتالي يمكنها ان تعمل على افنائه.

3ـ يلاحظ مما سبق انه لا يوجد في المرحلة الذاتية من الدليل الاستقرائي غير العلمين الاجماليين الاول والثاني، والسبب الذي دعا المذهب الذاتي الى ان يحذف العلم الثالث الناتج عن ضرب العلمين السابقين؛ هو لانه يتضمن طرفاً عبارة عن احتمال عدم سبببية (أ) لـ (ب)، فعلى الرغم من ضآلة القيمة الاحتمالية لهذا الطرف في قبال السببية، الا انه لا يوجد مبرر منطقي لافنائه وتحويل القضية الاستقرائية الى اليقين. لهذا فقد اكتفى هذا المذهب بالقيم الاحتمالية المتجمعة في العلم الاجمالي الثاني، وهي قيم مضادة لاحتمال عدم سببية (أ) لـ (ب) وتعمل على افنائه[xvii].

تظل هناك نقطة هامة نشير اليها كالاتي:

من الواضح ان اليقين الموضوعي (الاستقرائي) لما كان متوقفاً على القيم المتجمعة باتجاه محور محدد؛ فان ظهور اي خطأ في تجمع هذه القيم، او اي زوال لبعضها، سيفضي بالنتيجة الى زوال ذلك اليقين كالذي اكد عليه المذهب الذاتي[xviii].  مما يعني ان لهذا اليقين اعتبارين مختلفين، فهو من حيث المنظومة ذاتها يكون يقيناً ذا صبغة منطقية لارتباطه بالمبررات الموضوعية، لذلك نطلق عليه اليقين النظري، لكنه من حيث الواقع عبارة عن يقين عملي تتجلى فيه الصبغة السايكولوجية. ولا شك ان هذا الاختلاف بين الحالين يقتضي وجود مصادرة تعمل على انزال اليقين الموضوعي من رتبته النظرية الى الصورة العملية. فهما مختلفان، واذا ما حصل خطأ في الاول المعتمد على المبررات الموضوعية، وكان هذا الخطأ غير ملحوظ، فانه سوف لا يفضي الى زوال الثاني، حيث زواله مرتهن بحالة كشف الخطأ في الاول. مما يعني ان قيمة اليقين الثاني نابعة من الثقة بالاول، ولو زالت هذه الثقة لاي خطأ ممكن، فانها ستفضي الى زوال الاخر، فاليقين العملي لا قيمة له من حيث ذاته، وانه لا يدل على الاول. لذلك فالمصادرة المطلوبة تنص على لزوم ان يكون صدق اليقين العملي قائماً على التقدير؛ استناداً الى افتراض كون اليقين النظري صادقاً.

المذهب الذاتي وتفسير المعرفة البشرية

لقد عمل المفكر الصدر على اعادة تفسير قضايا المعرفة البشرية على ضوء التصنيف الارسطي الذي صنف المبادئ المعرفية الى مجموعتين: احداهما يقينة، وهي تشكل اساس جميع البراهين المنطقية، وتنقسم الى ستة اصناف هي: الاوليات والفطريات والمحسوسات والتجربيات والحدسيات والمتواترات. في حين ان الاخرى ليست يقينة وتنقسم الى سبعة اصناف هي: المظنونات والمشهورات والمسلّمات والمقبولات والوهميات والمشبهات والمخيلات[xix]. وتعد المجموعة الثانية ليست مستغنية في وجودها واستنتاجها عن الاولى. وسنتعرف على المجموعة الاولى لاهميتها كالاتي:

1ـ الاوليات: وهي قضايا يصدّق بها العقل لذاتها من دون اي سبب خارجي، فبمجرد تصور طرفي القضية والنسبة بينهما يكفي للحكم بصدقها. مثال عليها: النقيضان لا يجتمعان، والكل اكبر من الجزء، ولكل حادثة لابد من سبب.

2ـ الفطريات: وهي قضايا لا يكفي تصور طرفيها لتصديق العقل بها كالاوليات، بل لابد لها من وسط يدركه العقل، مثل حكمنا بأن (الاثنين نصف الاربعة) لان الاربعة تنقسم الى اثنين مرتين، وكل ما ينقسم الى شيء مرتين، فهذا الشيء يكون نصفه، لذا فالاثنان نصف الاربعة.

3ـ المحسوسات: وهي قضايا يحكم بها العقل جازماً بواسطة الحس دون ان يكفي فيها تصور الطرفين. والحس إما ان يكون ظاهراً فتسمى قضاياه بالحسيات؛ كمعرفة ان الشمس موجودة، وهذا الكتاب جديد، وتلك النار مستعرة… الخ. او يكون (الحس) باطناً فتسمى قضاياه بالوجدانيات؛ كمعرفة ان لنا فكراً ولذة والماً، وغير ذلك من المشاعر المباشرة..

4ـ التجربيات: وهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة تكرر المشاهدة منا في احساسنا، فيحصل بتكرر المشاهدة ما يوجب ان يرسخ في النفس حكم لا شك فيه، كالحكم بان كل نار حارة، وان كل حديد يتمدد بالحرارة، وان كل انسان يجوع.

5ـ الحدسيات: وهي قضايا يحكم بها العقل على اساس حدس قوي من النفس يزول معه الشك، مثل حكمنا بان نور القمر مستفاد من نور نسبته من الشمس قرباً وبعداً.

6ـ المتواترات: وهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة اخبار عدد كبير يمتنع تواطؤهم على الكذب، كالعلم بوجود البلاد البعيدة التي لم نشاهدها، وبالامم التي لم نعاصرها.

هذه هي مبادئ المعرفة اليقينة لدى المنطق الارسطي، والغالب فيها ان بعضها مستنتج من البعض الاخر. فالفطريات مستنتجة من الاوليات، وكذا ان التجربيات مستنتجة من بعض الاوليات كمبدأ السببية ومبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار. والحدسيات تجري مجرى التجربيات، كالذي اطلعنا عليه من قبل. والحال نفسه مع المتواترات، لانها تستنتج من مبدأ قبلي يقول ان الشهادات الكثيرة يمتنع وقوعها على سبيل الاتفاق والتواطؤ على الكذب، وهذا المبدأ مشتق عن مبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار.

لكن يظل هناك صنفان ليسا مشتقين لدى المنطق الارسطي عن الغير، ويعدان اساس استنتاج غيرهما من قضايا المعرفة، هما الاوليات والحسيات، رغم أن هذه الاخيرة مشروط صدقها بالتوقف على الاولى دون عكس. لكن من حيث انهما مصدر سائر المعارف الاخرى، فانه يصح اعتبارهما مبادئ اولية للمعرفة قاطبة.

وفي جميع الاحوال يمكن اعتبار جميع المعارف تعتمد في وجودها على الاوليات، ولا يعني ذلك انها مستنتجة عنها بالضرورة، فعندما نقرر حقيقة ان ما نراه هو هذا الماء، فان قرارنا هذا مشروط بالتسليم سلفاً بمبدأ عدم التناقض، ولا يعني انه مستنتج منه، وذلك لان المبدأ المذكور لا يولد مثل هذه المعرفة، لكنه شرط ضروري لها.

المذهب الذاتي ومبادئ المعرفة

يمكن ان نستعرض باختصار موقف المذهب الذاتي من مبادئ المعرفة اليقينة حسب التصنيف الارسطي. فقد اعتبر قضايا التجربيات والحدسيات والمتواترات مستنتجة بالاستقراء. اذ ان مبرر جعلها عقلية هو انها ترتكز على مبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار الذي اثبت انه غير عقلي خلاف الزعم الارسطي.

أما موقفه من الحسيات، فهو انه ميّز بين القضايا المحسوسة بالحس الباطن (الوجدانيات)، وتلك المحسوسة بالحس الظاهر، حيث اعتبر الاولى من القضيا الاولية غير المستنتجة، وفيها يوافق المنطق الارسطي، بينما اعتبر الثانية قضايا مستدلاً عليها بالاستقراء، وبالتالي فانه يختلف فيها مع ذلك المنطق[xx]. وقد انتهت نظريته الى اعتبار تصديقنا بالواقع الموضوعي للعالم يمثل محض المعرفة الاستقرائية. اذ لديه انه لو ثبت بالاستقراء وجود بعض القضايا المحسوسة في الخارج؛ لكان يعني وجود واقع موضوعي منفصل عنا على نحو الاجمال. وهو يعني ان التوصل الى الكشف عن وجود الواقع الموضوعي المجمل انما يتم عبر اثبات القضايا الجزئية للمحسوسات[xxi].

لكن هذه الطريقة في الكشف عن الواقع الموضوعي العام تتنافى مع حقيقة وجود احتمال يستحيل نفيه بأي دليل كان، سواء من حيث العقل او الاستقراء، وهو افتراض ان تكون الحياة عبارة عن حلم دائم لا ينتهي[xxii].

لا يقال ان الحلم يختلف عن الواقع من جهة افتقاره للانسجام والاتساق والوضوح، وذلك لان من الاحلام ما يحمل مثل هذه الصفات التي يمتاز بها الواقع. بل من الناحية المنطقية ليس هناك ما يمنع افتراض كون واقعنا عبارة عن حلم متسق طويل يتضمن احلاماً متقطعة تتصف بكلا الحالين من الاتساق وعدمه.

فتصور حالك وانت في حالة المنام كيف تتعامل مع الاشياء وكأنها حقائق موضوعية خارجية، وربما تسأل نفسك – وانت في المنام – عن حقيقة الامر إن كان حلماً او واقعاً، وقد تجيب عن ذلك بانه واقع، بدليل كذا وكذا.. ولكن سرعان ما يتبدد هذا الظن حيث تفاجأ بحقيقة اخرى منافية، وتشعر بان ما جرى عليك ليس الا رؤيا في المنام. وربما تشعر بحالك ولا تدري إن كنت في حلم او واقع. كما قد تشك في امرك وانت في اليقظة حين المفاجآت، وتخشى ان يكون حلماً إن كانت سارة، او تتمنى ان تكون حالماً إن كانت المفاجآت تبعث على الحزن والاسى. وقد تطرأ عليك حالة ربما تتوهم انك في حلم لا واقع، ولو افترضنا استمرار هذه الحالة لكنتَ تظن انك هائم في عالم الرؤيا، ويصبح حالك حال من يحلم ويتوهم انه يقظان!

اذن الدليل الذي يستهدف اثبات الوقائع الجزئية لا ينجح ما لم يفترض سلفاً الاعتقاد بالواقع المجمل العام. وهو خلاف ما قام به المذهب الذاتي، حيث انه سعى لاثبات الاخير من خلال تلك الوقائع. والادلة التي قدمها بهذا الشأن تعتمد على التمايز في الاتساق والنظام بين الواقع والحالة الذاتية، فهو ينمي القيمة الاحتمالية للواقع عبر لحاظ الثبات الذي يمكن تفسيره بقوة تبعاً للواقع مقارنة مع الحالة الذاتية، او عبر ما نتحسس به من نسق وانتظام في اقتران حادثتين مع بعض[xxiii]. لكن تظل هذه التنمية تفترض بعض القضايا المصادرة سلفاً ليتم نجاحها. واذا كنا لا نميز عادة بين اليقظة والمنام الا من هذه الناحية، فان ذلك – في حد ذاته – لا يدل على اثبات الوقائع الجزئية. فقد يفترض البعض عكس ما نريد اثباته، وهو ان ما نراه مناماً يراه واقعاً، وما نراه واقعاً يراه مناماً، وان الثبات والاتساق الملحوظ هو ثبات واتساق في المنام لا الواقع. فهذا الافتراض لا يمكن الاستدلال على نفيه او ضده، كذلك لا يمكن الاستدلال على نفي الافتراض الذي يرى ان كلاً من الاتساق وعدمه هما من حالات الرؤيا الدائمة، وبالتالي فان التمييز بين ما يعد من عالم الرؤيا وما يعد من عالم اليقظة لا يفيد في المسألة المطروحة. بل وان الطريق الذي اتخذه المذهب الذاتي في اثبات الواقع المجمل عبر الوقائع الجزئية هو طريق غير صحيح، ذلك لان هذه الاخيرة لا تثبت ما لم يفترض الاول سلفاً.

هكذا فاعتقادنا بوجود الواقع الموضوعي مفعم بآثار الانطباعات النفسية، ذلك لاننا نجده اطول مدة واشد اتساقاً ووضوحاً من الحلم. وقد لفتت هذه المشكلة انظار الكثير من المفكرين، القدماء منهم والمحدثين. وهناك فقرة مفعمة بالشك استشهد بها بعض مفكري الصين القدماء كالاتي:

‹‹لقد حلم تشوانغ تسو (369ـ286 ق.م) ذات يوم بأنه كان فراشة تحوم طائرة، هنا وهناك، كما لو كانت حقاً فراشة واعية في اتباعها لميولها. هذه الفراشة كانت تجهل أنها كانت تشوانغ تسو. وفجأة استيقظت، ومنذ ذلك اصبح بديهياً بأنها كانت تشوانغ تسو. ولكنه لا يعرف الان اذا كان تشوانغ تسو هو الذي حلم بانه صار فراشة او ان الفراشة قد حلمت بانها اصبحت تشوانغ تسو››[xxiv].

وكان باسكال يرى انه ليس بوسع الانسان ان يعرف إن كان في حلم او يقظة، طالما ان ما يحدث في الحلم من احساس هو مثل الذي يحدث في اليقظة، وبالتالي لا مانع من ان نكون في حلم لا نستيقظ منه الا عند الموت. كذلك كان برتراند رسل لا يرى مانعاً من افتراض اننا في حلم دائم، حيث يقول: ‹‹انا لا اعتقد باني الان احلم او غير يقظ، لكن في الوقت ذاته ليس بوسعي ان اثبت انني لست حالماً. فانا على يقين تماماً باني احمل خبرات معينة، لكن لا اعلم إن كانت عبارة عن تلك التي تعود الى الحلم او انها تعود الى اليقظة››[xxv].

وقد كان فيلسوف المثالية جورج باركلي يقول: ‹‹فما يحدث في الاحلام يدل على أن من الممكن أن نتأثر بجميع الافكار التي لدينا الان دون أن تكون هناك اجسام تشابهها. وعلى ذلك فمن الواضح ان افتراض الاجسام الخارجية ليس ضرورياً لاحداث افكارنا، مادام من المعترف به ان هذه الافكار قد تحدث احياناً وربما كانت تحدث دائماً، بنفس الترتيب الذي نراه به حالياً، دون وجود الاجسام الخارجية››[xxvi]. وكان العالم هلمولتز يقول: ‹‹لست أدري كيف تفنيد المذهب المثالي الذي يذهب الى حد القول أن الحياة لا تنطوي الا على احلام››[xxvii].

ومن منطلق صوفي اعتبر محي الدين بن عربي ان الحياة الدنيا محض منام، وانها جعلت عبرة او جسراً يعبر منها الانسان كما يتم العبور من الرؤيا التي يراها النائم الى ما تعنيه في عالم اليقظة كالذي تنص عليه الاية: ‹‹يا ايها الملأ افتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعْبُرون›› يوسف/43، وهو يستشهد على ذلك بالحديث النبوي: (الناس نيام فاذا ماتوا انتبهوا)[xxviii]. وان تفسيره لخلق السماوات والارض جاء على نحو احتجاب الحق في الخلق، اي اننا في هذه الدنيا قد خفي عنا الحق باحتجابه في الخلق، الامر الذي يتسق مع اعتقاده بان ادراكاتنا لا تسعفنا في مشاهدة الحق على ما هو عليه، وهو المقصود من كوننا نياماً لا نرى الحقائق كما هي. وقد صوّر لنا ذلك بمثل ما يحدث في ادراك الشعلة الجوالة، حيث تحدث في عين الرائي دائرة، ومع ان ما يبصره الرائي هو هذه الدائرة النارية، الا انه لا يشك في كونها غير موجودة، فهناك ادراك دائرة مع انها ليست بدائرة حقيقة، وذلك عين الصورة المخلوقة الظاهرة لادراك العين، فيُحكم عليها بانها خلق، وبالعلم والكشف يظهر انها حق مخلوق به، اما ما يظهر للعين فهو عدم في عين وجود[xxix].

ويعد ديكارت من ابرز الذين اعترفوا بعجزهم عن ايجاد السبيل للاستدلال على الواقع الموضوعي، الامر الذي اضطره الى الاستعانة بالثقة بالله المدبر، حيث اعتبر يقينه الذاتي بالله كافياً للاطمئنان بواقعية العالم الخارجي، وذلك بعد ان يأس من التمييز بين عالمي اليقظة والرؤيا. فحاله حال الامام الغزالي الذي انتهى به الاعتقاد والتسليم بان هناك ما هو فوق الدليل والعقل، وهو الثقة بالله تعالى، حيث هو القائل: ‹‹من ظنّ ان الكشف موقوف على الادلة المحررة فقد ضيّق رحمة الله الواسعة››[xxx].

هكذا نرى ان الاستدلال على الواقع الموضوعي مستحيل، رغم اننا على يقين به وجداناً، مثلما نكون على يقين من ضرورة بعض المبادئ العقلية غير المنطقية؛ كمبدأ السببية العامة، وكون الشيء الواحد لا يمكن ان يكون في أكثر من مكان في الوقت نفسه، او ان يكون شيئان في ذات المكان الواحد في الان نفسه، ذلك انه ليس لدينا من الدليل ما يؤكدها غير الشعور والكشف. الا ان مثل هذه المبادئ تختلف عن مسألة واقعية العالم، وذلك اننا نستمد يقيننا من الاولى بضرورتها الوجدانية، في حين ليس هناك احساس بضرورة تلك المسألة، فلا مانع عقلياً من ان تكون حقيقة الامر خلاف ما نتحسس به وجداناً، رغم ان شعورنا الذاتي لا يحتمل هذا المعنى. ونحمد الله على هذه الالفة والغريزة التي لم تدع مجالاً لعقول الناس ان يبثوا فيها روح التردد والتشكيك، او ان يعاملوها على مستوى ما يعاملون به القضايا الاخرى. ولو فعل بعضهم ذلك لارتد خاسئاً وهو حسير!

الاستقراء وتشابه الصورة مع الواقع

على رأي المذهب الذاتي هناك امكانية للاستقراء لاثبات التشابه بين الصورة الذهنية ومصداقها الخارجي في الواقع. وهو وإن كان لا يريد ان يحذو حذو المذهب الارسطي ليثبت المطابقة التامة، لكنه سعى لاثبات القدر الكبير من التشابه ضمن الشروط الموضوعية للاحساس والتي تتوقف على سلامة الجهاز النفسي (السايكولوجي) والعضوي الوظيفي (الفسيولوجي) بما في ذلك الحواس. فعلى رأيه ان الشيء الذي نتحسس باستدارته وثبت بالاستقراء كونه مستديراً، فمعنى ذلك انه مستدير حقاً او قريب من الاستدارة؛ الى الدرجة التي لا تجعل منه مثلثاً او مربعاً او غير ذلك من الاشكال الهندسية الاخرى[xxxi].

وحقيقة الامر ان عملية الاستدلال بالاستقراء متوقفة على سلامة الجهازين العضوي والنفسي. وهناك احتمال جاد وقوي يجعل الاستدارة التي نراها او اي وضع اخر للشيء رهين طبيعة هذين الجهازين، فلو اننا جُبلنا على جهاز عضوي او نفسي اخر لكان لا يمنع ذلك من ان نرى الاستدارة تربيعاً او تثليثاً او اي شكل هندسي اخر. ومما يقرب هذه الفكرة ان بعض الحيوانات تتحسس باشياء خلاف ما نتحسس بها، مما يعني نسبية احساساتنا، وذلك شبيه بالصياغة التي اكدها عمانوئيل كانت في تفرقته بين (الشيء في ذاته) و(الشيء لذاتنا). فالذهن البشري ولاسباب عضوية ونفسية يرى الاشياء بصور قد لا تكون حقيقة على ما تبدو لنا. وهذا الوهم اشبه بالوهم الذي ابدته النتائج العلمية من ان الصفات المرئية للمادة هي غير ما عليه واقع الحال، بحيث ترتد علاقاتها الجزيئية والموجية الى حقيقة واحدة تتجلى بمظاهر واشكال مختلفة على شاكلة النغمة التي يرددها العرفاء في وحدة الوجود الصوفية[xxxii].

المذهب الذاتي والقضايا الضرورية

وافق المذهب الذاتي على أن الاوليات والفطريات هي من القضايا التي يصدقها العقل دون حاجة للاستدلال عليها من الخارج. ومع هذا اعتقد أن من الممكن البرهنة عليها بالاستقراء، وذلك خلافاً لما اعتقده المنطق الارسطي. لكنه استثنى من ذلك بعض القضايا كمبدأ عدم التناقض وجميع المصادرات التي يحتاجها الدليل الاستقرائي في سيره المعرفي[xxxiii].

والحقيقة انه يمكن النظر الى (عدم التناقض) تارة بأخذه كمبدأ منطقي يخص القضايا ولا يخبر بشيء عن الواقع، واخرى ينظر اليه كقانون واقعي يخص الموضوعات الخارجية، فيكون بذلك من القضايا الاخبارية، مثل اخباره بأن هذا الشيء يستحيل أن يكون شجرة ولا شجرة في الوقت نفسه. حيث في الحالة الاولى ان المبدأ لا يقبل البرهنة ولا النقض، وذلك لأن أي عملية من هذا القبيل تقتضي التسليم به سلفاً، وان اي دعوى لنقضه تتضمن التناقض. أما في الحالة الثانية فالامر يختلف تماماً، ذلك ان دعوى التناقض الواقعي لا يعكس تناقضاً في الحكم، الامر الذي يجعله لا ينطوي على ضرورة منطقية، وذلك مثلما هو الحال مع مبدأ السببية العامة.

وليس الغرض من ذلك تجريد هذين القانونين عن مطلق الضرورة. فالوجدان البشري يدرك ان لهما ضرورة خاصة يهتدي من خلالها لمعرفة الاشياء والكشف عنها، مع انه لا سبيل للبرهنة عليها بأي شكل من الاشكال. لكنا سنواجه مشكلة كتلك التي اثارها ريشنباخ بوجه عمانوئيل كانت، اذ اعتبر ان اعتقاده بوجود قضايا قبلية اخبارية هو في حد ذاته ينطوي على شك ضامر، وذلك لعدم وجود ما يمكن البرهنة عليها[xxxiv]. فنحن  نعلم ان اعتقاداتنا رهينة التصورات التي نحملها وبالخاصية الذهنية التي فُطرنا عليها، مما يعني انه لو زُودنا بخاصية ذهنية اخرى لكانت اعتقاداتنا غير ما هي عليه الان.

والواقع ان هذا التشكيك لا يمس القضايا العقلية (الاخبارية) فحسب، بل يعم اغلب المعارف البشرية، وبالتحديد جميع احكام القضايا غير المباشرة. ونحن نعترف انه لا يوجد عندنا ما يمكن ان نلزم به من يشكك بالقضايا غير المباشرة، لكنا نقول ان ادراكنا لضرورة بعض القضايا دون البعض الاخر هي مسألة لا يمكن التنازل عنها من الناحية الوجدانية، بخلاف سائر القضايا الاخرى. فمن السهل أن نتصور النار لا تحرق والشمس لا تطلع والانسان لا يموت، لكن من الصعب جداً أن نتصور وجود حوادث من دون أسباب، او أشياء موجودة ومعدومة في الوقت نفسه.

المذهب الذاتي وبداية المعرفة

من المعروف ان المنطق الارسطي يعتقد بان للمعارف بداية تمثل الاساس الاول للبناء المعرفي قاطبة، وتتمثل بالمبادئ العقلية الاساسية كمبدأ عدم التناقض والسببية وغيرهما. وعنده ان هذه المبادئ لا تحتاج الى اي لون من الوان الاستدلال، وذلك لوضوح صدقها بذاتها، فضلاً عن ان اي استدلال عليها لابد ان يستند اليها؛ فيصبح دوراً باطلاً ومستحيلاً. ومع ان المذهب الذاتي يتفق مع هذا المنطق على وجود بداية للمعرفة وانها تتمثل بالقضايا العقلية غير المستنتجة من قضايا اخرى كمبدأ عدم التناقض، الا انه اختلف معه في نقطتين كالاتي:

1ـ رغم ان المذهب الذاتي يعتبر القضايا العقلية غير المستنتجة هي من بدايات المعرفة التي لا تحتاج الى اي لون من الاستدلال، لكنه مع ذلك اعتقد ان من الممكن الاستدلال عليها بطريقة الاستقراء والتجربة كما مر معنا في السابق، واستثنى من ذلك مبدأ عدم التناقض وجميع المصادرات التي يحتاجها الدليل الاستقرائي، كتلك المتعلقة بنظرية الاحتمال، اذ لا يمكن الاستدلال عليها استقرائياً باعتبار ان ذلك يفضي الى الدور الباطل.

2ـ اعتبر المذهب الذاتي ان بداية المعرفة لا تتحدد فقط بالقضايا العقلية غير المستنتجة كما يرى المنطق الارسطي، بل اضاف اليها قضايا اخرى عائدة الى الخبرة الحسية. فمثلاً قد نشاهد مشهداً معيناً كالشمس، ففي هذه القضية لدينا معرفتان، الاولى هي المعرفة التصديقية بوجود الشمس، والاخرى هي معرفتنا بالمشاهدة ذاتها، وهي تختلف عن المعرفة الاولى التي تتعلق بشيء خارج عن ذاتيتنا، اذ المعرفة تتعلق هنا بالعملية الادراكية الحاصلة وهي المشاهدة. وقد اعتبر المذهب الذاتي هذه المعرفة المتعلقة بعملية الادراك الحسي من المعارف الاولية. ولهذا فان بداية المعرفة تتمثل بها، كما تتمثل بالقضايا العقلية غير المستنتجة، والقضايا التي تفترضها بديهيات نظرية الاحتمال.

وقد اجاز هذا المذهب ان تكون بداية المعرفة احتمالية لا يقينة، سواء تلك المتعلقة بالقضايا العقلية، او المتعلقة بعملية الادراك الحسي. وكما يرى انه ‹‹اذا كان لابد للمعرفة من بداية، وكانت هذه البداية تمثل معرفة اولية غير مستدلة، فليس من الضروري دائماً ان تكون هذه المعرفة يقينية، بل قد تكون احتمالية››، سواء كان ذلك على صعيد الخبرة الحسية، او على صعيد القضايا العقلية الاولية. فعلى الصعيد الاول قد يتفق ان تكون المعرفة محتملة، اذ الانسان كثيراً ما لا يشك في ان يسمع صوتاً او يرى شبحاً، وذلك في حالات وضوح الصوت او الشبح، ولكن قد يتفق احياناً ان يخفت الصوت الى درجة يصبح سماعه محتملاً لا مؤكداً، وقد يبتعد الشبح الى مسافة تصبح رؤيته محتملة لا يقينة. اما على الصعيد الثاني فان ادراك القضايا العقلية الاولية كما يمكن ان يكون متمثلاً باعلى درجات التصديق فكذلك قد يتمثل في درجات احتمالية متفاوتة[xxxv].

وقد نتساءل عن معنى القضايا الاولية للمعرفة، اذ قد يراد بها تارة تلك التي لا تتوقف على غيرها باي نحو من الانحاء، كمبدأ عدم التناقض. واخرى يمكن ان يراد بها تلك التي لم يستدل عليها من غيرها، وإن كانت قد تعتمد على الغير كشرط معرفي. فمثلاً ان الادراكات المباشرة الحسية لا يستدل عليها من غيرها، لكن يتوقف صدقها على التسليم سلفاً بمبدأ عدم التناقض.

وما قصده المذهب الذاتي من القضايا الاولية للمعرفة هو المعنى الثاني لا الاول. حيث انه يبحث بخصوص القضايا التي لا تستنتج من غيرها بطرق الاستدلال. لذلك كانت القضايا العقلية غير المستنتجة هي من القضايا الاولية، وكذا مثلها الخبرة الحسية، على ان نعد هذه الخبرة لا تقتصر على الحس الظاهر بل والباطن ايضاً.

اما المعنى الاول للقضايا الاولية فتارة ينظر اليه من زاوية منطقية شرطية، واخرى محض واقعية.

فمن حيث الزاوية المنطقية تتمثل القضايا الاولية ببعض القضايا العقلية التي بدونها تستحيل المعرفة كلياً، فلولا ايماننا بمبدأ عدم التناقض، لما كان بوسعنا ان نشكل اي معرفة مهما كانت بسيطة. وهنا تكون معرفتنا بالخبرة الحسية ليست اولية بحسب هذا المعنى، وذلك لكونها تعتمد بدورها على التسليم بمبدأ عدم التناقض. اما من حيث الواقع، فهذا يعني ان نتعرف على الركائز المعرفية لدى الناس، وحالها يتبين لنا ان اغلبهم يدركون الحقائق الثابتة والمبادئ المعرفية الواضحة، لكن ذلك يتم عبر مراحل تدريجية، تبتدئ اولاً بالافكار الناشئة تبعاً للانطباعات الحسية، وهي تشتمل على مختلف المعارف بما فيها تلك التي تعد فيما بعد عقلية ضرورية.

وهذا يعني ان التصديق بالقضايا العقلية يمر بمرحلتين، أولاهما واقعية والأخرى منطقية. حيث تبدأ المرحلة الواقعية عند الصغر، فتنشأ لدينا بفعل العادة انطباعات نفسية في مختلف المعارف العقلية والحسية. فالطفل منا يولد وهو يرى الأشياء على ما هي عليه وأنها تتغير نتيجة أسباب معينة، وهذا الحال يطبع في ذهنه – من غير شعور – الاعتقاد بان كل شيء على حاله ما لم يغيره شيء، وان كل ما يتغير إنما يتغير طبقاً لسبب.. وبهذا ينشأ الانطباع النفسي لحالة السببية لدى الطفل. وبه يتضح ان المعارف العقلية تنشأ في البداية على شكل إنطباعات نفسية شبيهة بالمصادرات من وجه، حيث انها ليست قائمة على الدليل، ولا على الوضوح العقلي وضرورته المنطقية، بل حتى الاستدلال في البداية ينشأ على سبيل الانطباع والعادة، وليس على الأحكام المنطقية. اذن تتصف هذه المرحلة بالمواصفات التالية:

1ـ تنشأ المعرفة في بدايتها على شكل إنطباعات نفسية لا شعورية، وهي شبيهة بالمصادرات من وجه.

2ـ يعود سبب هذه الانطباعات الى عوامل معينة؛ هي العادة والتأثير الاجتماعي والمؤثرات الخارجية ذات الأثر الحاد على نفس الانسان.

3ـ ان المعرفة (الانطباعية) بالمبادئ العقلية تأتي بمرحلة متأخرة عن المعرفة بوجود الاشياء او الشعور بها.

أما المرحلة الاخرى فتتصف بما للفرد من قدرة على التصور التجريدي والمنطقي للقضايا، فيدرك فكرة الضرورة وارتباط القضايا في توقف بعضها على البعض الآخر. وهنا باستطاعته ادراك ان المعرفة لا تتم لها قائمة من غير التسليم ببعض القضايا الأولية كمبدأ عدم التناقض[xxxvi].

يحيى محمد

[1]  لاحظ، ص384.

[2] .ابن القيم الجوزية: اعلام الموقعين، مقدمة طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل، ج1 ، ص ز.

[3] لاحظ ص427 و441. كذلك: بحوث في علم الاصول، ج4، ص330ـ331.

[i] الاسس المنطقية للاستقراء، ص333ـ340.

[ii]  الاسس المنطقية للاستقراء، ص266ـ273. حول هذه العملية وصياغتها انظر الملحق (2).

[iii]  الاسس المنطقية للاستقراء، ص291.

[iv]  الاسس المنطقية للاستقراء، ص259ـ260 و294.

[v] نشأة الفلسفة العلمية، ص104ـ105.

[vi] الاسس المنطقية للاستقراء، ص341ـ344 و468ـ469.

[vii] الاسس المنطقية للاستقراء، ص356ـ360. وقد يقال ماذا بشأن اليقين الخاص بالانبياء ومن على شاكلتهم؟ فهو يقين ليس من النوع المنطقي ولا الموضوعي. واذا كنا نعده من اليقين الذاتي لابد ان نميزه عن ذلك الذي يكون غير كاشف عن الواقع الموضوعي بحكم آثاره النفسية؛ مثلما عليه سائر الناس.

[viii] Russell; 1948; p.413ـ418.

[ix] الاسس المنطقية للاستقراء، ص368.

[x] لقد اعتبر بعض المفكرين ان مثل هذه الحالة تتضمن نوعاً من التناقض، وهو المطلق عليه تناقض القرعة او اليانصيب Lottery. فلو فرضنا ان لدينا مليون بطاقة ليس فيها الا واحدة رابحة، فان احتمال الحصول على هذه الرابحة بسحب واحدة من هذه البطاقات عشوائياً هو احتمال غير معقول باعتباره في غاية الضآلة، لهذا يمكن نفيه، لكن لو فعلنا ذلك مع الكل لكان يعني انه لا توجد بطاقة رابحة، وهو تناقض. مع ان الصحيح هو ان احتمال سحب البطاقة الرابحة يظل وارداً على ضآلته، ولا يصح نفيه باي شكل من الاشكال، سواء كنا نهمل البطاقة المسحوبة فينتقص العدد ونأتِ بغيرها، او نعيدها الى ما كانت عليه (لاحظ ما جاء حول هذا التناقض المزعوم، مع ثلاثة انواع اخرى من التناقضات المزعومة حول الاستقراء، في الفصل الاخير من كتاب كوهين: مدخل الى فلسفة الاستقراء والاحتمال).

[xi] تنبغي الاشارة الى ان المثال الذي ذكرناه في الشرط الاول هو محوّر عما أفاده المفكر الصدر، وذلك لان عبارته لا تخلو من قلق، اذ قال في الحرف الواحد: ‹‹الاول: ان لا تكون القضية التي يراد افناء قيمتها الاحتمالية عن طريق تجمع القيم الاحتمالية في محور واحد، ملازمة لاحد اطراف (العلم الاجمالي2) الذي تنتمي القيم المتجمعة الاحتمالية اليه. ففي مثال السببية، اذا كانت سببية (أ) لـ (ب) ملازمة لحالة وجود التاء في كل التجارب الناجحة، وكنا نعلم بان التاء اذا كانت موجودة في كل المرات فـ (أ) ليس سبباً لـ (ب) حتماً، فهذا يجعل الشكل الاول لتطبيق المصادرة متعذراً، لان سببية (أ) لـ (ب) في هذه الحالة سوف تصبح بنفسها طرفاً من اطراف (العلم الاجمالي2)، لانها ملازمة لاحد اطرافه، وملازم الطرف طرف. فاذا ادى التجمع المنتمي الى (العلم2) الى افناء القيمة الاحتمالية للسببية فهو يفني بطبيعة الحال القيمة الاحتمالية لوجود التاء في جميع المرات، نظراً الى التلازم بينهما، وبذلك يصبح العلم سبباً في افناء قيمة من قيمه الاحتمالية المتساوية، وتواجه المصادرة حينئذ مشكلة افناء العلم لبعض قيمه المتساوية دون بعض بدون مبرر، او مشكلة افناء العلم لنفسه..›› (لاحظ، ص376).

وتعليقنا على ذلك في نقطتين: الاولى ان المثال المذكور في النص جاء على خلاف المطلب الذي يبحثه المفكر الصدر، فالمثال يؤكد على طلب افناء قيمة احتمال سببية (أ) لـ (ب)، في حين ان محاولات الصدر كانت تستهدف البحث في افناء قيمة احتمال عدم تلك السببية. اما الثانية وهي الاهم، فهي ان النص السابق لا يخلو من محتوى يتضمن التناقض غير المقصود، فعبارة النص تؤكد على فقرتين مفترضتين، لكن مضمونهما يفضي الى تناقض ليس المطلب يعنيه ولا بصدد اثباته او تأكيده. فالفقرة الاولى تقول: ‹‹اذا كانت سببية (أ) لـ (ب) ملازمة لحالة وجود التاء في كل التجارب الناجحة››. اما الاخرى فهي التي جاءت بعدها مباشرة كالاتي: ‹‹وكنا نعلم بان التاء اذا كانت موجودة في كل المرات فـ (أ) ليس سبباً لـ (ب) حتماً››. والتناقض واضح، حيث كلا الفقرتين تشير الى افتراض وجود التاء في جميع التجارب، لكن لازم وجود التاء في الفقرة الاولى هو سببية (أ) لـ (ب)، وفي الفقرة الثانية عدم هذه السببية، وهو عين التناقض. وبعبارة ادق، طالما ان هناك طرفاً محتملاً في (العلم الاجمالي2) هو وجود التاء في جميع المرات، فهذا يعني انه مع هذا الطرف ملازمة متناقضة؛ هي احتمال سببية (أ) لـ (ب) واحتمال عدم سببيتها في الوقت ذاته. وهذا ما جعلنا نعمل على تحوير المثال ليطابق المطلب الانف الذكر.

[xii] اذ كل منهما سيقدر بقيمة احتمال (90% + 5% = 59%)، وذلك لأنه في القضية الاولى ان احتمال عدم القتل يساوي (50%)، واحتمال عدم الوفاة هو (1 \10) او بتعبير اخر (10%)، وبطريقة جمع الاحتمالات لابد من ضرب هاتين القيمتين ببعضهما وطرح الناتج من الواحد الصحيح كالاتي: 1 – 10% × 50% =95% . والحال نفسه يجري مع القضية الثانية، مما يعني انهما متساويتان.

[xiii] الاسس المنطقية للاستقراء، ص403ـ406.

[xiv] الاسس المنطقية للاستقراء، ص394ـ402.

[xv] الاسس المنطقية للاستقراء، ص396ـ397.

[xvi] من الطريف ما جاء في بعض تفاسير القرآن الكريم من ان معنى قوله تعالى: ‹‹وما جعلنا اصحاب النار الا ملائكة وما جعلنا عدتهم الا فتنة للذين كفروا››، جاء للرد على استهزاء المشركين الذين اشكلوا على جعل عدة الملائكة تسعة عشر؛ عوضاً عن جعلهم عشرين او ثلاثين او غيرها من الاعداد الحدية (ابو جعفر الطوسي: الرسائل العشر، مؤسسة النشر الاسلامي، قم، ص323ـ324).

[xvii] الاسس المنطقية للاستقراء، ص381ـ382.

[xviii] الاسس المنطقية للاستقراء، ص384.

[xix] عمر بن سهلان: البصائر النصيرية، المطبعة الكبرى الاميرية، مصر، ط1 ، ص139ـ144. وعبد الله اليزدي الشهابادي: حاشية على تهذيب المنطق والكلام، مؤسسة اسماعيليان، قم، الطبعة الثانية، ص203ـ207. ومحمد رضا المظفر: المنطق، دار التعارف، ص282 وما بعدها.

[xx] الاسس المنطقية للاستقراء، ص452ـ462.

[xxi] الاسس المنطقية للاستقراء، ص463.

[xxii] نشير الى ان استخدام لفظة (حلم) وما شاكلها قد تثير الالتباس، ومن ذلك انها اوهمت عدداً من المفكرين، منهم الاستاذ فؤاد زكريا الذي اعتبر الاعتقاد بالحلم هو في حد ذاته كاشف عن الواقع الموضوعي الذي يقابله، وان القول بالحلم الدائم متناقض ومستحيل فلسفياً، حيث ذكر في مقدمته لكتاب (نشأة الفلسفة العلمية، ص9) يقول: ‹‹ان الاعتقاد بان الحلم او الوهم او خداع المعرفة شامل هو اعتقاد متناقض مع نفسه، وهو مستحيل فلسفياً، لان الحلم لا يعرف بوصفه حلماً الا لوجود واقع في مقابله، ولان الخداع لا يكون خداعاً الا لاننا نقيسه على اساس معرفة صحيحة لابد ان تكون موجودة الى جانبه››. مع ان الصحيح هو ان لفظة (حلم) وغيرها من الالفاظ انما ترد لتقريب المعنى، لذا يكفي تعبيراً عن المقصود استخدام لفظة (الصور الذاتية) في قبال الوقائع الخارجية، فنتحدث كما يتحدث فلاسفة المثالية عن الافكار من دون موضوعات، فاين هو التناقض؟ واين هي الاستحالة الفلسفية يا ترى؟!

[xxiii] الاسس المنطقية للاستقراء، ص454ـ462.

[xxiv] البان.ج. ويدجيري: المذاهب الكبرى في التاريخ، ترجمة ذوقان قرقوط، الطبعة الاولى، ص18.

[xxv] Russell; 1948; p.186.

[xxvi] فؤاد زكريا: نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للانسان، ص175.

[xxvii] المصدر السابق، ص181.

[xxviii] ابن عربي: الفتوحات المكية، دار احياء التراث العربي، الطبعة الاولى، 1418هـ ـ 1998م، ج1 ، ص296. وابو العلا عفيفي: فصوص الحكم والتعليقات عليه، دار احياء الكتب العربية، 1365هـ ـ 1946م، ج1 ، الفص التاسع اليوسفي، ص101.

[xxix] الفتوحات المكية، ج1 ، ص836. وانظر حول ذلك كتابنا: الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية.

[xxx] الغزالي: المنقذ من الضلال، حققه وقدم له جميل صليبا وكامل عياد، مطبعة الجامعة السورية، الطبعة الخامسة، 1956م، ص88.

[xxxi] الاسس المنطقية للاستقراء، ص465ـ466.

[xxxii] انظر بهذا الصدد: مدخل الى فهم الاسلام، ص442 وما بعدها.

[xxxiii] الاسس المنطقية للاستقراء، ص471ـ474.

[xxxiv] نشأة الفلسفة العلمية، ص53.

[xxxv] الاسس المنطقية للاستقراء، ص503ـ504.

[xxxvi] لاحظ كتابنا: دور اللاشعور في الحياة، مطبعة نمونة، قم، 1985م، ص63ـ66.