الامام الشهيد الصدر (قدس سره)  والخطاب السياسي

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

في الذكرى السنوية السابعة عشرة لاستشهاد مفجر الثورة الاسلامية في العراق الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر (رض)، عقدت وحدة الثقافة والاعلام في المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق، ندوة أعلامية سياسية لدراسة الخطاب السياسي في (نداءات الشهيد الصدر “رض”)، وذلك بتاريخ 29/ذي القعدة/1417هـ الموافق لـ 8/4/1997م.

وقد ألقى آية الله السيد محمد باقر الحكيم رئيس المجلس الاعلى  للثورة الاسلامية في العراق كلمة قيّمة في تلك الندوة تناولت نظرية الامام الشهيد الصدر (رض) في الخطاب السياسي من خلال تلك (النداءات)… ونظراً لأهمية كلمة سماحته ارتأت ـ لواء الصدرـ بعد نشرها لمقاطع من الكلمة في الصحيفة، نشرها بشكل كامل على شكل كراس بعد أن أعاد سماحته مراجعتها، تعميماً للفائدة. وقد تركز عملنا على تبويب المحاضرة وإستخراج آياتها واكمالها من القرآن الكريم.

ونسأله سبحانه وتعالى أن يتقبل منا هذا انه هو السميع البصير.

محـمد هـادي

مسـؤول المـركـز  ــ 20/4/1997م

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين قال تعالى:{انّ الذين قالوا ربنا الله ثم أستقاموا تتنزل عليهم الملائكة ان لاتخافوا ولاتحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ماتشتهي أنفسكم ولكم فيها ماتدعون}فصلت/31.

نظرية الخطاب السياسي عند الشهيد الصدر (رض)

سيكون الحديث عن (نداءات) الشهيد الصدر الثلاثة مرتبطاً بموضوع الخطاب السياسي للشهيد الصدر (رض) بأعتبارها تشكل أهم مفردة من مفردات ذلك الخطاب ولذلك يمكن من خلال دراستها دراسة دقيقة ومستوعبة أن نستنتج التصورات العامة التي تتناسب مع ظروف المرحلة.

وقبل الحديث في مجال الخطاب السياسي وتشخيص النقاط الرئيسية فيه أذكر قضية تبقى للتاريخ ايضاً وهي أن الشهيد الصدر(رض) في بداية التحرك السياسي الاخير كلفني أن أكتب شيئاً في تشخيص معالم تلك المرحلة وخطابها السياسي الاعلامي، وكتبت عدة صفحات وقدمتها له وقرأها ودوّن عليها بعض الملاحظات الجزئية ثم أرسلت الى خارج العراق لأجل أن تعمَّمَ وتتحول الى منهج لتحرك العاملين في الخارج يلتزمون به ويتأسون به.

ونشرت المادة المكتوبة في أحدى الدوريات السرية للأخوة في حزب الدعوة الاسلامية، وعندما خرجت من العراق رأيتها منشورة في صوت الدعوة، ولم تنشر حسب علمي في غير هذه الدورية ولم يذكر فيها إسم عندما نشرت وإنما نشرت كمادة ثقافية ضمن هذه المنشورات.

وكان الشهيد الصدر(رض) عندما أعد هذه (النداءات) يتوقع ان يستشهد، وأراد لها أن تكون بيانات موجهة للشعب العراقي في الخطاب السياسي له، لأن طريقة إعدادها في الواقع تؤكد هذا الامر، وهو(رض) لم يعلنها في حياته وإنما أعدها لما بعد وفاته وشهادته، وطلب الإحتفاظ بها حتى يستشهد وعنذاك تذاع وتعلن.

وكانت هذه البيانات أمانة ووديعة عندي شخصياً حتى أستشهد، وقد بادرت بتحمل مسؤولية إيصال هذه الأشرطة الى خارج العراق بعد شهادته بفترة قصيرة نسبياً، مع الأخذ بنظر الاعتبار الظروف التي كان يعيشها الشعب العراقي وكنا نعيشها في المحاصرة، ولكن لسبب وآخر وأجتهادات لبعض الاخوة الاعزاء في الخارج جمدت البيانات ولم يتم الاعلان عنها الى فترة شهرين أو ثلاثة شهور، حيث أعلنت تلك النداءات بعد ذلك من اذاعة الجمهورية الاسلامية، بصوته الشريف.

أهمية البيانات الثلاثة:

من هنا فإنّ لهذه البيانات قيمة مهمة جداً من الناحية التأريخية ومن الناحية العملية والمحتوى السياسي لها فهي:

أولاً: تنبع من شخصية الشهيد الصدر(رض) التي رسمها بدم الشهادة، حيث أستشهد (رض) لاجل هذه المضامين والاهداف .

ثانياً: أن تسجيل هذه البيانات كان في قمة التصدي للعمل السياسي، حيث انه  لم يسجلها كما يسجل بعض الناس بيانات تتناول التعليق على أحداث تقع ويتفاعل معها هذا البعض، بل كان (رض) متصدياً بقوة للعمل السياسي ويرى نفسه يتحمل مسؤولية كل كلمة تقال فيها، ويرى في الوقت نفسه أنه كيف يمكن أن تنسق وتبرمج هذه الكلمات لتأخذ طريقها للواقع.

وهذا فرق كبير في دراسة الاشخاص للبيانات، نرى في التاريخ كثيراً من الشخصيات كان لها واقع مجهول، يتفاعل مع الأحداث ويكتب شيئاً عنها كرسالة أو بيان لكن ماهي أهميتها وأهمية الأفكار فيها ؟

يتحدد الجواب على ضوء مواقع هؤلاء الأشخاص السياسية والاجتماعية وحركتهم، واستعدادهم للتنفيذ ومدى مسؤوليتهم تجاه الكلمات التي يقولونها، والشهيد الصدر (رض) كان يتحدث من موقع التصدي الفعلية والمسؤولية على مستوى القمة.

ثالثاً: كان هذا الموقع هو الموقع القيادي للحركة الإسلامية في العراق، حيث اعترفت ـ حينذاك ـ كل القوى الإسلامية، دون استثناء أنه كان قائداً لهذا التحرك في العراق، والفرق بين القائد وغيره هو أن نظرته عادة ماتكون أكثر شمولية ودقة وإدراكاً لظروف المرحلة وخصائصها وملابساتها ولذلك تكتسب هذه البيانات أهمية باعتبارها صدرت من هذا الموقع القيادي.

وهناك ملاحظة تسجل علينا جميعاً وهي إن الإهتمام بهذه البيانات جاء متأخراً الى حد كبير،  إذ مضى على شهادة هذا الإنسان العظيم مدة 17 عاماً ولم تعقد ندوات واجتماعات في الوسط السياسي والإعلامي على اقل تقدير لبحث معمق وواسع من أجل استنباط نظرية الخطاب السياسي الذي كان يتبناه هذا القائد، فهي مادة مهمة جداً تتسم بأهمية خاصة تحتاج إلى هذا النوع من الدراسة في تشخيص ظروف العراق وطبيعة الموقف الذي وقفه الصدر (رض) من هذه الظروف.

نعم كان تعاملنا مع هذه البيانات تعاملاً إعلامياً محدوداً عن طريق نشرها وتكريمها وتقديسها  واغراقها بالمدح والثناء والأطراء العام دون الدخول في صلب موضوعها وبحثه، ولذلك أرجو من الأخوة المهتمين في هذه المجالات الذين لهم دور تخصصي ان يجعلوا هذه الندوة هي بداية لبحث معمق للبيانات والنداءات لنرى ماذا يريد الشهيد الصدر(رض) منها وما هي رؤيته لمجمل الأوضاع حينذاك؟.

الخطاب السياسي والخطاب الثقافـي

لقد ذكرت انّ تصوري لهذه النداءات أنها تمثل الخطاب السياسي للسيد الشهيد (رض) ويجب أن نقف وقفة تدبرعند مفهوم الخطاب السياسي وماذا يراد منه.

الخطاب السياسي ليس هو الخطاب الفكري أو العقائدي أو الخطابات التي تمثل الخطوط الثابتة في حركة الإنسان، بل هو يختلف عن ذلك، لكنه في الوقت نفسه يستمدكل مفاهيمه ورؤاه من العقيدة ومن الفكر ومن هذه الخطوط الثابتة: الخطاب السياسي يمثل تطبيقات ومصاديق للعقائد والأفكار وللخطوط السياسية الثابتة على المرحلة الفعلية السياسية والاجتماعية التي تعيشها الأمة، ولذلك فأن هذه المفردات تصاغ بصياغات معينة، تؤخذ فيها ـ مضافاً إلى الأفكار والعقائد والخطوط الثابتة ـ الظروف القائمة بكل خصائصها وملابساتها فتدخل كعنصر أساس في مفاهيم واهداف الخطاب السياسي حيث تصاغ وتلبس هذه الخصائص المعاشة للجماعة التي تتحرك سياسياً.

ولعل أفضل شاهد من الشواهد التي نعرفها على الإطلاق في هذا المجال هو القرآن الكريم الذي يمثل الخطاب السياسي للرسالة الاسلامية وللمسلمين عندما أرادوا أن يغيروا المجتمع الجاهلي الى مجتمع اسلامي، ولذلك نجد في القرآن بعض القضايا التي قد تبدو انها ليست بتلك الأهمية الفكرية والأستراتيجية، لكن مع ذلك أولاها القرآن وأعطاها أهمية خاصة لأنها تمس ظروف المرحلة التي يعيشها المجتمع والمسلمون.

ويمكن أن نفهم فكرة (النسخ) وهي من الأفكار الرئيسية في الإسلام من خلال مفهوم الخطاب السياسي، لأنّ النسخ إنّما هو عبارة عن تغيير تلك المواقف والخطابات التي كانت موجودة في مرحلة ما، عندما تتطور مرحلة وتتغير ظروف فيتم تغيير الخطاب بصورة تنسجم مع المرحلة الجديدة، مع أنها خطابات إلهية نابعة من الفكر والعقيدة وهي لاتتغير، وهكذا فكرة الإطلاق والتقييد في الخطابات الالهية في القرآن، عندما يأتي البيان أحياناً يأتي مطلقاً فيه شمول دون أن يدخل في التفاصيل، ولكن عندما تتطور المرحلة بعد ذلك قد يدخل الخطاب في تفاصيل مشخصة فيطلب في البداية من المسلمين أن يصلّوا ويزكوّا دون أن يذكر ماهي الصلاة والزكاة فترة من الزمن، ودون أن يحدد لهم  مقدار الزكاة ولا وقتها أو يفرض عليهم الخصوصيات الأخرى ولكن عندما تتطور المرحلة تبقى الصلاة والزكاة واجبتين ولكن يتطور الخطاب فتطلب الزكاة من الأموال المحددة المعروفة وتعين المقادير والخصوصيات، ولو كان قد عينها منذ البداية فقد يكون ذلك سبباً في ان كثيراً من الناس لا يدخلون الإسلام، بل قد يتحَّمل يتحولون الى ألد أعداء الإسلام، فمثلاً الراعي والاعرابي في البادية قد لايتحرى في البداية فكرة وحكم أخذ مقدار من زرعه أو غنمه للمصالح العامة أو الفقراء حيث كان الأنسان يقاتل من أجلهما كما قاتل بعض الناس بعد ذلك لأجل منع الزكاة بعد الإسلام.

هذه مسائل ترتبط بموضوع الخطاب السياسي الذي هو عبارة عن تشخيص المواقف والرؤى السياسية للمرحلة الفعلية التي تعيشها الأمة من ناحية، والحركة التغييرية من ناحية أخرى، والنظام الحاكم لهذه الحركة التغييرية، والطواغيت وقدرات المستكبرين، والاولويات في الاهداف والقواسم المشتركة كل هذه الملابسات تأخذ بنظر الأعتبار من الفكر والعقيدة والخطوط الثابتة التي يريدها الإنسان.

الخطاب السياسي والخطاب العقائدي

يلاحظ في أحاديث وكلمات كثير من الكتاب المسلمين وفي الاحاديث التي استمعت لها في هذه الندوة في هذا الوقت القصير، وجود خلط وتداخل في الحديث بين الخطاب العقيدي والفكري وبين الخطاب السياسي بحيث لا يفرق بينها.

فبعض الاخوة يتحدث بالخطاب العقيدي والافكار التي يؤمن بها ويضعها في موضع الخطاب السياسي مع ان هذا خطأ فادح في الخطاب السياسي فمثلا،ً فكرة الجهاد في سبيل الله لم تكن أمراً مختصاً (كعقيدة وكمنهج وكفكرة في الإسلام) في مرحلة دون أخرى، بل هي من الافكار الثابتة في الرسالات الالهية بشكل عام ولكن مع ذلك نلاحظ انّ الاسلام في بعض مراحل حركته السياسية كان قد جمد فكرة القتال والجهاد وطرح فكرة الانتظار (حتى يأتي الله بأمره)، وهنا لايتحدث القرآن عن الجهاد كثيراً والحث عليه كواجب لأنه لايراد تعبئة المسلمين للقيام بهذا العمل، فهذا التجميد والتوقيف للفكرة انما هو أمر مرتبط بالخطاب السياسي فلا يصح أن يقال: كيف يتوقف القتال وهو مبدأ اسلامي فإن هذا التوقيف  إنما هو بالخطاب مراعاة للظروف التي تعيشها الجماعة لا إلغاء للفكرة من العقيدة أو حذف لها من الأفكار.

انّ الممارسة الخارجية للجهاد كأمر يصدر لأجل أن يتحرك المسلمون ويجاهدوا ويقاتلوا ويشهروا السيف قد يكون ذلك مرهوناً بظرف وخصوصية معينين.

إن عدم الفصل بين الخطاب العقائدي والفكري عن الخطاب السياسي والتمييز بينهما هو احد  الأشكالات الرئيسية المهمة في الحركة الإسلامية، لأن الحركة الإسلامية عاشت فترة من الزمن بما يسميه البعض بالمرحلة الثقافية ـ الفكرية التي تعمقت في وجود الحركة الإسلامية واشخاصها، فعندما أرادت أن تنتقل الى المرحلة السياسية وقعت في خطأ كبير إذ بقيت آثار الخطاب في المرحلة الثقافية واضحة في  خطاب المرحلة السياسية بحيث لم يتمكن أبناء الحركة الإسلامية وكما يريد الشهيد الصدر (رض) ذلك ان ينتقلوا بخطابهم الى المرحلة السياسية بكل معالمها، لم يتمكنوا أن يتحرروا من قيود المرحلة الثقافية فبقي خطابهم نفس الخطاب الثقافي، يعني نفس الخطاب العقائدي، بمعنى أنهم يعيشون الآن مرحلة سياسية ومواجهة،  لها خصائصها وظروفها المعينة ولكنهم يتحدثون احياناً بعيدين عن هذه المرحلة وظروفها.

أركان الخطاب السياسي

بعد التعرف على مفهوم الخطاب السياسي ومحتواه لابد لنا أيضاً أن نفهم الاركان الضرورية التي لابد ان يتناولها ويشتمل عليها، ليمكننا من خلالها ان نتعرف على كيفية تناول الشهيد الصدر لهذه الاركان في بياناته وتحديد مصاديقها في خطابه.

الركن الأول ـ التعبئة:

انّ الركن الأول في الخطاب السياسي الرئيسي هو تعبئة الأمة بأتجاه الأهداف المنشودة التي يراد تحقيقها في تلك المرحلة بعد تشخيصها وتشخيص أهميتها، لذلك لابد أن يشتمل الخطاب السياسي على العناصر الاساسية لتحقيق هذه التعبئة، وعندما يفقد الخطاب السياسي عنصر التعبئة بأتجاه الأهداف يفقد ركناً رئيسياً ويصبح مصاباً بالشلل في جانب من جوانبه وخصائصه.

الركن الثاني ـ تحديد الهدف:

أما الركن الثاني فهو تشخيص الهدف المرحلي المقصود من الحركة السياسية والتوجيهية فيه نحو ذلك الهدف، وتشخيص أولوية الهدف.

فالخطاب السياسي لا يريد أن يتحدث عن الاهداف العقائدية والفكرية، وهي الأهداف الأستراتيجية الثابتة، وإنما يريد أن يحقق هدفاً مرحلياً يرتبط بظروف الامة وأوضاعها الخاصة، وهذا الهدف يجب أن يكون مشخصاً ومحدداً، وإذا لم يحدد الهدف المرحلي فسوف يصبح من الطبيعي أن يكون الاتجاه الى الهدف الفكري والثقافي، لأن الامة تعيش في الأهداف الفكرية والثقافية بطبيعة الحال، والمخاطبون قد تكون لهم تصورات متعددة ومختلفة عن الأفكار الثقافية والفكرية وعندئذ قد لا يجتمعون على تصور واحد ثقافياً وفكرياً، فالعلمانيون لهم أفكار ثقافية ورؤى فكرية، وهكذا الآخرون وقد يكون البعض لا عقائديين ولا مسلمين ولا علمانيين، بل يفتشون عن أوضاعهم الخاصة ومعاناتهم وظروفهم، ولابد من الاستفادة من طاقاتهم، فعدم تحديد الهدف سيجعل الحالة التعبوية المقصودة لتحقيق الهدف مشتتة وموزعة وغير قادرة على تحقيقه بل قد تتقاطع معه بأعتبار التشوش بالافكار والتصورات.

الركن الثالث ـ تشخيص المنهج والمسار:

والركن الثالث للخطاب السياسي هو تشخيص الطريق والمسار الذي لابد أن تسير فيه الامة لتحقيق الهدف، حيث يكون السؤال الأول عند تعبئة الامة نحو الهدف المرحلي واقناعها به: ما هو الطريق والنهج الذي لابد أن يتبع لتحقيق ذلك الهدف ؟.

هذا المنهج لابد أن يتبناه الخطاب السياسي، ولايراد منه المنهج الكلي العام الفكري، الثقافي، العقائدي الذي يتبناه الإسلام وإنما يراد منه تحديد معالم الطريق من خلال الوضع القائم الفعلي، لذلك بدون تحديده فقد نجد اختلافاً كبيراً بين الناس حول إسلوب العمل الموصل للاهداف وهذا النزاع قائم في ساحتنا الإسلامية بالفعل وليس هو خلاف بين أفراد عاديين بل هو موجود بين القوى السياسية وفي مجموعات وأوضاع كبيرة، حتى على صعيد المرجعية بأعتبار ان المنهج العملي الخارجي غير مشخص، وعندما نرجع الى أصول هؤلاء المراجع أو المختلفين في هذا  الموضوع لا نرى فيهم أختلافاً كبيراً في الفكر والعقيدة بل الأختلاف في تشخيص ظروف الوضع القائم فعلاً والمنهج الذي ينبغي أن يتبع والأسلوب والمسار الذي يجب أن يلتزم في تحقيق ذلك الهدف.

الخطاب السياسي لابد أن يركز على هذا الموضوع ليصبح من الوضوح في تعبئة الأمة للالتزام به والا تبقى العملية مشلولة وتراوح في مكانها إذا لـم يشخص المنهج بشكل واضح ودقيق.

الركن الرابع ـ تشخيص المواقف:

الركن الرابع هو تشخيص المواقف تجاه القضايا المتعددة والمختلفة التي تعيشها الأمة حتى يصبح خطاباً سياسياً يعيش مع الأمة في قضاياها وظروفها، مثلاً تطبيق القرار 986، ماهو الموقف السياسي تجاه هذا القرار؟ هل هو دعوة الأمة إلى رفض القرار أو تأييدها له، وكيف ترفض أو تؤيد القرار؟ وهكذا في كل حادثة، كحرب غزو الكويت التي أشعلها النظام، وتجاه المحاصرة الاقتصادية وتجاه الأوضاع في شمال العراق، وهكذا فإن تشخيص المواقف السياسية تجاه هذه القضايا بشكل واضح لاعلى أساس المبادئ الكلية، بل بشكل واضح عملي يرتبط بظروف المرحلة والمصالح العامة للأمة في حركتها نحو تحقيق أهدافها، وهكذا تشخيص الرؤى السياسية للأحداث، لأن الموقف السياسي دائماً يتبع رؤية معينة ونعبر عنها بتحليلنا السياسي للحدث ونتيجة هذا التحليل والرؤية لهذا الحدث أو ذاك، تتخذ المواقف وهذه القضايا ترتبط بالخطاب السياسي، وبدونها يعتبر الخطاب السياسي ناقصاً.

عناصر تعبئـة الأمة

لقد استوعب الشهيد الصدر هذه الأركان في خطابه السياسي ونداءاته السياسية استيعاباً كاملاً يرتبط بالأوضاع السياسية التي كان يعيشها (رض) وتعيشها الأمة.

فعلى مستوى الركن الاول وهو تعبئة الأمة شخص الشهيد الصدر في البداية العناصر الرئيسية من هذه التعبئة منطلقاً من هوية الامة وخصوصياتها وظروفها فكانت هذه العناصر التعبوية هي العناصر الأربعة التالية:

العنصر الأول ـ العقيدة:

انّ الأمة في العراق أمة مسلمة بصورة عامة ومرتبطة بالإسلام وبقيمه حتى أولئك الذين خرجوا عن الإسلام سياسياً (العلمانيين)، فإن الكثير منهم بقي مرتبطاً بالإسلام كممارسة عبادية أو كتراث تعتز به الامة وترتبط به، إذن الإسلام كعقيدة وحالة في تاريخ وتراث الأمة قضية يمكن أن تدخل كعنصر رئيس لتعبئة الأمة.

ولكن ماهي حدود الإسلام التي طرحها الشهيد الصدر(رض) وإستفاد منها في هذه التعبئة؟

انّ ذلك قد يرتبط بالوسائل، ولكن القاسم المشترك وهو أصل الإسلام طرح كقضية من القضايا الرئيسية وأعتبرها جزءاً من هوية الأمة لا يمكن التنازل عنه أو التغاضي عنه عندما نريد من الأمة أن تساهم في عملية التغيير.

أتذكر بهذا الصدد الأبحاث السياسية التي جرت في دمشق عندما أريد توقيع ميثاق بين القوى السياسية العراقية المختلفة وفيها قوى علمانية وبعضها ينظر الى الاسلام كتراث او ممارسة شخصية يحترمها او يلتزم بها، وهو ممن لايؤمن بالاسلام أصلاً، ولكن مع كل ذلك عندما طرحت قضية (إنّ الشعب العراقي شعب مسلم) تمسكت القوى الاسلامية بهذا المضمون ليس بأعتبارها نقطة رئيسية ترتبط بالفكر والثقافة التي تلتزم بها هذه القوى ، فهذا شأن إسلامي، وإنمّا بأعتبار انّ قضية الاسلام قضية تعبوية للامة في مقابل النظام، وبهذه الرؤية تمكنت القوى الإسلامية من فرض هذه الهوية في الميثاق بأعتبار وجود هذا القاسم المشترك وهذا العنصر الأساس.

الإسلام له محتوى ومستويات كثيرة في فهم الناس، يبدأ من أعلاها كحالة شمولية لكل الأوضاع الاجتماعية الى أن يصبح بنظر بعض الناس عبارة عن تراث يحترم ويقدس ويكرم بأعتباره جزء من تاريخ الأمة، الإسلام له مفهوم واسع لدى هذه القوى ولكنه كعنصر مشترك لدى الشعب العراقي والقوى السياسية لابد ان يدخل كعنصر رئيس في تعبئة الأمة.

العنصر الثاني ـ الحرمان والمظلومية:

انّ قضية الحقوق المهدورة للشعب العراقي، قضية مشتركة وحقيقية قائمة لدى الامة في العراق يواجهها عامة أبناء الشعب العراقي، وهي وإن كانت ذات مستويات متعددة ولكنها قضية مشتركة وقد توجه لها السيد الصدر (رض) في نداءاته، ولها علاقة بتعبئة الانسان العراقي سواء كان مسلماً يرى من حقه ان يقيم الاسلام وحقوق الاسلام المهدورة، او كان غير مسلم، فإن غير المسلمين قد هدر النظام حقوقهم الدينية كلّها.

هذه مسألة مهمة في الخطاب السياسي والتعبئة وهو ما يعبّر عنــه بالمطالبة بالحقوق العامة ومن موقع المظلومية، فمثلاً حين نقاتل النظام المستبد في العراق يمكن ان نطرح كما يصنع البعض في خطابنا السياسي ان هذا النظام هو نظام لا يحكم بما أنزل الله {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}مائدة/44.

وهذا الخطاب هو خطاب حسن ولكنه حق يراه ويتحرك من اجله الانسان المؤمن الواعي الملتزم.

كما يمكن ان نطرح في الخطاب السياسي مصادرة الحقوق واستباحة الحرمات والاستهانة بالكرامات وهو حق ايضاً يستحق القتال من أجله، ولكنه في الوقت نفسه حق يشترك فيه الانسان المؤمن الواعي والانسان الذي لا يلتزم بالإسلام أو أنه لا يهتم في الوقت الحاضر بحكم الإسلام، وكذلك يشترك فيه أولئك الــذيـن هدرت حقوقهم واستبيحت كراماتهم، فهم يتحركون دفاعاً عنها.

انّ الخطاب السياسي لابد أن يركّز على المضمون الثاني انطلاقاً من الفكر الاسلامي والشريعة الاسلامية، بخلاف الخطاب العقائدي الذي يركز بطبيعة الحال على المضمون الاول.

كان الشهيد الصدر (رض) في تشخيصه للخطاب السياسي يرى أن يتم التركيز في الطرح على هذه الحقوق المهدورة وبمستوياتها المختلفة، فإذا اقيم حكم إسلامي، عندئذ يبدأ الانسان بتربية الأمة تربية عقائدية على كل التفاصيل التي يؤمن بها الانسان في موضوع الحقوق، كما صنع ذلك القرآن بخطابه المكي السياسي في القسم المكي، لاحظوا الفرق بين الخطاب المكي والخطاب المدني فان الاول كان يتحدث عن هذه المنطلقات الانسانية والاخلاقية والتي تتطابق مع العقيدة الالهية، واما الثاني فكان يتحدث عن تفاصيل تلك المنطلقات وهذا ما كانت تفرضه المواجهة وطبيعة تشخيصها.

العنصر الثالث ـ العزة والكرامة:

انّ الله تعالى فطر الانسان على الأحساس بعزة النفس والكرامة. قال تعالى: {ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر وزرقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً}اسراء/70، فهو احساس موجود حتى عند الانسان الوضيع الذليل اجتماعياً بل حتى المستسلم للامر الواقع، غاية الأمر فإنه بسبب الضغوط والمحاصرة وغير ذلك من الاسباب، اصبح هذا الاحساس غير فاعل لكن اصل الاحساس يكون موجوداً في داخل الانسان وقد اهتم الشهيد الصدر(رض) بالتركيز على هذا الجانب وتعبئته لمواجهة النظام ، وبهذه الاثارة والتعبئة يتحرك هذا الاحساس عند الناس، ولذلك تعتبر قضية العزة والكرامة ومخاطبة الفطرة الانسانية من القضايا المهمة في الخطاب السياسي.

العنصر الرابع ـ الأمل والثقة بالنفس:

انّ قضية الأمل بالنصر والثقة بالنفس في تحقيق هذا النصر باذن الله تعالى هي من أهم عناصر التعبئة لدى الأمة، وإنّ الشعب يملك كل الامكانات التي تحقق له هذا النصر، ولذا أطلق الشهيد الصدر في خطابه السياسي كلمته المعروفه [الشعب أقوى من الطغاة مهما تجبروا]. فاذا قدّم الشعب التضحيات لابد أن يتحقق هذا النصر، والامة والجماعة إذا فقدت الأمل ورؤية النصر تتخاذل وتستسلم وتقبل بالأمر الواقع.

إنّ قضية النصر مهمة في موضوع الخطاب السياسي والتعبئة السياسية، ولذلك يعمل الطغاة عادة على فرض الاستسلام من خلال قتل روح الأمل وزرع اليأس في نفوس أبناء الشعب وكذلك يتخذ المنافقون هذا العامل كعنصر أساس في إلحاق الهزيمة بالجماعة حيث يعملون من داخلها بايجاد روح اليأس والحديث عن القضايا التي تدفعها إلى اليأس وهو ما يسمى بالحرب النفسية.

ولذلك نجد القرآن الكريم عندما يتحدث عن القضية السياسية يذكر النصر بأنه قضية حتمية حتى في حالات اليأس الذي يصل الى درجة عالية بحيث يصيب الرسل بقوله {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قدكذبوا جاءهم نصرنا فنجّي من نشاء ولايرد بأسنا عن القوم المجرمين } ومع وجود هذه الحقيقة فلا يمكن للانسان ان ينقطع عن الأمل في حركته في أي حال من الأحوال.

ومن هذا المنطلق نفهم أهمية موضوع الإنتظار والتهيؤ الذي يعتبر من أهم ما يميز مذهب أهل البيت (ع) على كل المذاهب الإسلامية الأخرى حيث يــكون باب النصر فيه مفتوحاً إلى الأبد، ولابد أن يأتي اليوم الذي ينتصر فيه الحق على الباطل انتصاراً مطلقاً، ويحكم العدل كل هذا الوجود، وأن الشخص الذي يحققه هو شخص موجود فعلاً يتحرك في الواقع الخارجي وليس شخصاً يأتي في المستقبل كما كانت تتحدث بذلك الأديان، فالشخص موجود ويتحرك لأجل النصر، فالجندي عندما يشعر أنه يقتل لكنه يتوقع أن يحقق الجندي الثاني أو الثالث والرابع هذا النصر و يصل للهدف، يهون عنده القتل، ولكن عندما يرى نفسه سيقتل ومعه الجندي الثاني والثالث ثم لا يصل أي واحد منهم إلى النصر فسوف تضعف حالة الصمود والاستمرار بالمواجهة، الا ذلك الانسان الذي يذوب في الله تعالى ذوباناً كاملاً ويرى في النصر منه تعالى في معانٍ أخرى مثل التكامل الذاتي عند الإنسان أو التكامل المعنوي عند الأمة، كما نشاهد ذلك في أنصار الحسين عليه السلام.

ولكن إذا أردنا إن نتحدث عن الحالة العامة الروحية والنفسية للإنسان والأمة فلابد أن نأخذ هذه القضية بنظر الإعتبار، إذن هناك عناصر رئيسية أربعة أهتم بها الصدر (رض) في موضع التعبئة.

أهداف المرحلة المهمة في منظور الشهيد الصدر (رض)

وأما الركن الثاني المتمثل بالهدف فقد شخص الشهيد الصدر  ثلاثة أهداف للمرحلة السياسية التي تعيشها الأمة وهي:

الأول: التخلص من هذا الحكم المستبد الجائر، فهو كابوس جاثم على صدر الشعب العراقي.

الثاني: أن يحكم هذا الشعب نفسه بإختياره وإرادته بعد زوال الطاغوت، فهو حكم يختاره الشعب وله دور فيه.

الثالث: المحافظة على الهوية الإسلامية للحكم والأمة لأن نظام البعث العفلقي، حكم يعادي الاسلام وليس ذلك على مستوى كل الحالة الاجتماعية الممتدة في أطراف المجتمع الاسلامي فحسب بل هو حكم يعادي الاسلام بحيث يريد مسخ الهوية الاسلامية للشعب وتدخل في تفاصيل حياة الناس من أجل تحقيق هذا  المسخ.

إلاّ إنّ النظام تراجع أخيراً عن هذا الهدف بإعتبار ضعفه من ناحية، والمقاومة العظيمة للأمة في العراق من ناحية أخرى ومن ثم فقد تحقق هدف الشهيد الصدر من هذه المقاومة في هذا المجال.

وقد قام هذا النظام بأعمال لم يتجرأ  أي نظام في كل تاريخ الاسلام منذ اليوم الاول وحتى يومنا الحاضر بمثل ما تجرأ به في العدوان على الاسلام والهوية الاسلامية فهو:

أولاً: أول نظام حكم يصدر حكم الإعدام الرسمي على من يدعو للإسلام. وفي عالمنا الإسلامي نجد الكثير من الأنظمة تقتل المسلمين وتعذبهم لكنها لا تجرؤ بالإعلان عن أن السبب في ذلك هو دعوتهم للإسلام بل يقتلونهم بتهمة التجسس أو يقولون هذا رجل مشاغب ويلفقون عليه تهماً معينة ويطبقون عليه مادة معينة، أما أن يصدر قانون يقول صراحة الحكم بالاعدام على كل (رجل يدعو للإسلام) ويجعل له أثراً رجعياً فهذا لايوجد في أي نظام في عالمنا اليوم.

ثانياً: ولا يوجد في التاريخ نظام يعبئ طاقات شعب بكامله ـ وللشعب العراقي طاقات عظيمة نادرة بين الشعوب الاسلامية ـ يعبئها لمحاربة الإسلام، والثورة الإسلامية، والنهضة الإسلامية، ويضع هذه الطاقات بالكامل في خدمة الاهداف الاستكبارية.

إنّ إغلب الانظمة في عالمنا اليوم تحارب الثورة الاسلامية، ولكن هذا يحاربها اعلامياً، وذاك سياسياً، أو عن طريق بذل الأموال، أو المؤامرات والخداع والتضليل وأساليب مختلفة، أما أن يعبئ كل الطاقات وبدون إستثناء، إعلامية، مالية، عسكرية، ثقافية ويصطنع نظرية لذلك ثم يفرضها بالقوة والقهر على الامة ويضعها أمام الثورة الاسلامية ويفرض عليها محاربة الاسلام فهذا مما لا يوجد له مثيل مطلقاً.

ولذلك فأن المحافظة على الهوية الاسلامية كانت من أولويات الأهداف التي وضعها الشهيد الصدر (رض) لانه كان يحس بالخطر الحقيقي على الاسلام في العراق، وهذا الخطر الحقيقي هو الذي يفسر كل هذه التضحيات من قبل الشهيد الصدر (رض)، وهذا العمل الإستشهادي الذي قام به كان من أجل توضيح الهدف.

هذه الأهداف الثلاثة هي أهداف مشتركة بين كل أبناء الشعب العراقي لا يختلف فيها عراقي عن آخر إلاّ عندما يصطف مع النظام في خروجه وتمرده على الاسلام ومصالح الشعب.

الخطوط العامة للمنهج الذي اعتمده الشهيد الصدر (رض)

لقد شخَّصَ الشهيد الصدر (رض) الخطوط العامة للركن الثالث من الخطاب السياسي المتمثل بالمنهج العام للحركة السياسية بالخطوط الثلاثة التالية:

الأول ـ التضحية والجهاد:

يعني القتال في سبيل الله، ولم يكتف الشهيد الصدر (رض) بدعوة الناس الى هذا المنهج بل ضرب أفضل الامثلة لذلك من خلال شهادته العظيمة  وقدم بذلك القدوة والإسوة على هذا المثال وليس ذلك لمجرد إن حكم الإسلام هو الجهاد في سبيل الله ، والجهاد في سبيل هو حكم اسلامي كان موجوداً  قبل هذا الوقت وقد شرعه الإسلام ووردت فيه الأحاديث والسنة ، فلماذا لم يحكم شهيدنا الصدر (رض) بالجهاد قبل سنة أو سنتين؟ فحزب البعث جاء قبل حركة الشهيد الصدر هذه بأكثر من عشرة أعوام ، ولذا فحكم الجهاد هنا ليس حكماً  فكرياً وثقافياً عاماً وانما هو موقف سياسي يقوم على أساس تشخيص سياسي لظرف معين وضرورة وأولويات تقتضي هذا الموقف السياسي.

ويجب توضيح خلفية هذا الأمر، السياسية والفكرية والانسانية، في الخطاب السياسي لنتبين الفرق بين الحكم الشرعي المتمثل بالبعد الثقافي والفكري ولنتبين الموقف السياسي الذي يعبر عنه الفقهاء بفعلية ذلك الحكم المجعول وأعتقد ان احدى المهام الرئيسية التي تحملناها خلال هذه الفترة هي توعية الأمة على هذه الحقيقة.

وقد قلت باحاديث صحفية انه يجب افهام الامة وجه الحكمة في  هذا القرار الذي اتخذه الشهيد الصدر في هذه المرحلة، فإن الدعوة الى الله تعالى يجب أن تكون بالحكمة {أدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة }نحل/125 فهل ينطبق القتال في هذه المرحلة مع الحكمة أو لاينطبق عليها ؟ فقد لا تنطبق الحكمة مع القتال في ظرف، وقد تنطبق في ظرف آخر وحينئذ لابد من بيان وجه انطباق الحكمة على هذا القتال في هذا الظرف السياسي وهذا من مهمات الخطاب السياسي أيضاً.

الثاني ـ وحدة الشعب العراقي:

التي توفر عنصر القوة في الأمة و تفتح باب الأمل، في سقوط النظام فإن الشعب عندما يكون موحداً يكون قادراً على تحقيق الهدف الكبير، وأما عندما يكون منقسماً على نفسه، أو يواجه بعضه بعضه الآخر فسوف يكون محكوماً للطغاة أو للاجانب والمستكبرين،  ولا يوجد طريق صحيح للاطاحة بالطاغوت غير الاعتماد على الله ووحدة هذا الشعب، والخيارات الأخرى هي الإعتماد على القوى الخارجية أو إستبدال الطاغوت بغيره، يقول البعض إذا كنا نطالب بوحدة الشعب العراقي اذن فلا بد ان نسكت عن حقوقنا لانها متباينة ومتناقضة، فالشعب شيعة وسنة وأكراد، وعرب، وتركمان، لهم مصالح قد تكون متباينة ومتناقضة، واذا سكتنا عن حقوقنا فقدنا ركناً مهماً من أركان التعبئة العامة، لاننا نريد أن نعبئ الشعب مقابل النظام، من أجل هذه الحقوق، والشعب اذا لم نتحدث عن الحقوق المهدورة لا يتحرك.

هنا يجب ان تكون لدينا موازنة دقيقة جداً في موضوع الحقوق، وقد اهتم الشهيد الصدر (رض)  بهذه الموازنة ومن الخصائص والدقائق البديعة في خطاباته هو رسم هذه الموازنة الصحيحة وهي أن الوحدة لا تتنافى مع الحقوق، وان التغيير لا يعني تسلط جماعة على جماعة، كما أن بقاء النظام معناه مصادرة جميع الحقوق لجميع أبناء الشعب، ولذلك عندما تحدث الشهيد الصدر لم يقل يا أبناء الشعب العراقي فقط وانما قال يا أبناء علي، وعمر، يعني وجود علي وعمر وقال إتحدوا، ولم يقل إتحدوا وسكت بل قال يا أبناء البصرة والموصل والرمادي والنجف، اذن فالوحدة في خطابنا السياسي تعني الاعتراف بالجميع وخصوصياتهم مع التأكيد على المشتركات والمساواة بينهم.

ثالثاً ـ مساهمة كل الشعب في عملية المواجهة والتغييـر:

حتى لا تصبح جماعة من الشعب مقابل حركة جماعة أخرى، كما حصل في الانتفاضة الشعبانية حيث يساهم الجميع في هذه العملية، ولا ينبغي أن تكون العملية مختصة بجماعة من الناس مثلاً نخبة من العلماء، والادباء أو السياسيين أو المثقفين، بل حركة يقوم بها الشعب في الداخل وفي الخارج، بل ولا يصح ان يختص العمل بالداخل دون الخارج أو العكس كما هي الحالة الآن حيث يعتمد الداخل أحياناً على الخارج، وفي الخارج يقولون يجب أن يقوم أبناء الداخل بذلك ونحن نساعدهم، وبعضهم يقول يقوم المجاهدون بهذا العمل ونحن نتفرج، بل يجب أن تكون المساهمة والمشاركة لكافة الشعب في هذه القضية.

ولذلك يقول شهيدنا الغالي: (يجب على جميع ابناء الشعب العراقي في الداخل والخارج)، وأكّد على هذه القضية لأنها قضية تحتاج إلى توظيف كل الطاقات.

تشخيص المواقف والرؤى

وأما الركن الرابع ـ وهو تحديد المواقف والرؤى:

يمكن أن نستفيدها من نداءات الشهيد الصدر في  تشخيص المواقف والرؤى السياسية في هذه المرحلة والتي تحظى بأهمية خاصة نذكر منها النقاط العشرة المهمة التالية:

الأولى: المطالبة بالحريات المدنية والسياسية وحرية الشعائر الدينية حيث لابد من التعبير  عن هذه المطالبة بأي أسلوب ممكن وميسر ولابد أن نثقف شعبنا على هذا الموضوع.

الثانية: رفض عملية التبعيث القسري التي كان ولازال يمارسها صدام وأزلامه وكان يجدها البعض مبرراً للانتماء لحزب البعث، وقد شخص الشهيد الصدر (رض) ذلك حين قال:  تحول الحزب إلى أداة مخابراتية وقمع وليس حزباً، والانتساب الى البعث ليس عقيدة بل الانتساب إلى أجهزة مخابرات ومنظمة قمعية ضد الشعب.

الثالثة: المطالبة بالانتخابات الحرة واجراء الانتخابات العامة، واطلاق سراح المعتقلين، وايقاف عمليات الإعتقال والمطاردة، وإطلاق حرية الشعائر الدينية، وقد شخص الشهيد الصدر (رض) عناوين وشعارات مرحلية للحركة السياسية.

الرابعة: تشخيص طبيعة النظام، وهي 1ـ قمعي بكل امتداداته 2ـ عميل ومرتبط بأمريكا واوربا 3ـ عدو للاسلام ووجوده، ولذلك يجب أن نفهم إن النظام حين وضع على (العلم) أسم الله أكبر فإنه اراد بذلك أن يضلل الأمة ويخفي حقيقته عن الناس بعد أن أصبح الإسلام حقيقة قائمة لا يمكن للنظام تجاوزها كما أراد أن يمهد بذلك لعدوان جديد وسعى لكسب بعض الأنصار المضللين في العالم العربي، 4ـ نظام عشائري يسلط العشيرة والاسرة على جميع مقدرات البلد ويصادر القانون من أجل ذلك.

الخامسة: العمل على الانسجام مع حركة التحرر والنهضة الاسلامية وتطلعات المسلمين، وعودة الاسلام الى الحياة العامة والخلاص من الهيمنة الأجنبية سياسياً واقتصادياً وثقافياً.

السادسة: الارتباط بالحوزة العلمية ودورها المهم في حياة المسلمين والأمة في العراق، ولذلك نجد الشهيد الصدر (رض) عندما تحدث  عن مواقفه السياسية وحركته العلمية المرتبطة بالحوزة لم يكن حديثه عاطفياً فالحوزة مؤسسة مهمة لها طاقاتها، وتشكيلاتها، وأجهزتها، وجذورها العميقة في الامة روحياً ومعنوياً وتاريخياً وتنظيمياً ولابد أن تستثمر بكل هذا الوجود لأجل المواجهة في خطابنا السياسي.

السابعة : عدم الدخول في الصراعات الجانبية والمواجهة مع الاوساط السياسية الداخلية كالقوى السياسية أو غيرها، وحتى عدم المواجهة مع حزب البعث كحزب ومؤسسة، وانّما كجهاز مسخّر بيد صدام، ولذلك كان يخاطب الأوساط الحزبية التي كانت تحاول الخلاص من طغيان صدام وزمرته، كما انه أكد عدم  المواجهة مع الأوساط السنية أو العشائر العربية أو الجيش أو الاكراد، بل سعى في خطابه السياسي الى تعبئتهم في مواجهة النظام.

الثامنة: الاهتمام في الخطاب السياسي بموضوع  الحكم الشرعي، فقد ذكرت بأن الشعب العراقي شعب مسلم يرتبط بالإسلام إرتباطاً يومياً، فهو يصلي ويصوم ويعرف الاحكام الشرعية، لذا فلابد في الخطاب السياسي من الاستفادة من هذه الصفة العامة في الشعب.

وإنطلاقاً من ذلك إستخدم الشهيد لغة (الواجب) و (الحرام) وقد استفاد من هذه اللغة الامام الخميني (قدس سره) استفادة كبيرة جداً في مقام تعبئة الأمة في ايران وربطها بالحركة السياسية وبالاسلام، وكان لها كثير من التأثير الفعلي في الاوساط العامة ففي هذه اللغة من الخطاب السياسي يمكن أن نقول عن الأشياء المرفوضة سياسياً انها أشياء محرمة، فحرام على رجال الشرطة أن يداهموا البيوت ويهتكوا حرمات النساء، وحرام على أفراد الجيش والجنود ان يقتلوا الأبرياء، وأنّ ذلك موجب لغضب الله والخلود في النار، إنّ الكثير من أوساط شعبنا يتأثر بهذه اللغة اكثر من اللغة السياسية العامة، وقد استخدم الشهيد الصدر هذه اللغة في الخطاب السياسي ولكن نلاحظ انها تكاد أن تغيب عن الخطاب العام الذي تستخدمه القوى الإسلامية.

التاسعة: التأكيد على ضرورة تحمل النتائج المادية، فانّ لكل مواجهة نتائج مادية، خسائر بالأموال والأنفس والثمرات، وفي المواجهة سجون واعتقال وتعذيب من الطغاة وتهجير ومطاردة وتشريد.

في هذا المجال نجد انّ خطابنا السياسي لم يكتف بالتراجع عن هذا اللون من الخطاب، بل كان يقع في اخطاء سياسية فادحة عندما كان يصنع ويفتعل المبررات للاستسلام والخضوع تحت شعار أن التحرك يستلزم التضحيات والآلام والمحن، ولا يصح أن يتعرض الشعب لذلك، مع ان أي تغيير حقيقي في الامة لا يمكن أن يتحقق بدون هذه الآلام والمحن.

وهذا هو ما يفسر لنا ما نلاحظه من تراجع بعض أبناء الحركة الإسلامية وانعزالهم وفرارهم من الزحف إلى الخارج بعد أن تعرضوا إلى آلام الهجرة ومشاكلها وصنع لهم الخطاب السياسي المتخلف مبررات لهذا الهروب والانعزال بسبب وجود هذه الآلام.

إنّ الكثير من أبناء الحركة الإسلامية درسوا الإسلام وتثقفوا بمفاهيمه ورؤاه السياسية والاجتماعية ولكنهم (مع الأسف) عندما تعرضوا للمحنة والآلام، لم يكونوا قادرين على مواصلة الطريق والاستقامة عليه فاصيبوا بالضعف والتراجع وحاولوا أن يبرروا الهزيمة والضعف والتراجع والانعزال باختلاق خطاب سياسي يضرب على وتر حسّاس في الأمة ويداهن مشاعرها وأحاسيسها ويصنع من الآلام والمحنة مبررات للهزيمة والانعزال.

مع إنّ القرآن الكريم أكد انّ الوصول إلى الأهداف لا يمكن أن يتحقق بدون هذه الآلام والمحن {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا انّ نصر الله قريب }بقره/214، {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}بقره/155و156.

إنّ خطابنا السياسي يجب أن يعتمد على تشخيص هذا الموقف وتوضيح هذه الرؤية للحركة التاريخية والتغييرات الإجتماعية وإنّ المواجهة لابد فيها من البذل والعطاء والنقص في الأموال والأنفس والثمرات والالآم والقرح {إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شُهداء والله لا يحب الظالمين}آل عمران/140.

{الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قُتلوا قُل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين}.

وكذلك يجب ان يتضمن خطابنا السياسي التأكيد على الصبر والاستقامة والثبات في داخل العراق وآلام الهجرة ومحنتها وجميع الآثار واللوازم التي تترتب على العمل الجهادي والمواجهة التغييرية وبروح الشجاعة والصبر والثبات لا بروح الهزيمة والخوف.

ويجب ان يكون ذلك ثقافة سياسية تتابع الآلام والاحداث لا مجرد ثقافة فكرية ومفاهيمية تجريدية.

العاشرة: الاعتماد على الله تعالى والذات والتوكل على الله تعالى وإستمداد الغيب الالهي في العمل السياسي، وقد اكد الشهيد (رض) ذلك واراد من الناس ان يعتمدوا على الله تعالى وعلى (أنفسهم) ولم يتوجه الى الآخرين ليطلب منهم القيام بهذه المهمة نيابة عن الشعب العراقي بل على هذا الشعب أن يقوم بها بنفسه ويتحمل مسؤوليتها.

وقد تكون هناك واجبات على المسلمين الآخرين مثل النصرة والاسناد ولكن المسؤولية تقع على عاتق الأمة في العراق يتوكلون فيها على الله تعالى ويطلبون العون والمساعدة من الآخرين بهذه المهمة، أما أن يتحول خطابنا السياسي الى القاء اللوم على الآخرين أو إيجاد التصور الخاطئ في قيام الآخرين بهذه المهمة فهذا من الأخطاء الكبيرة في الخطاب السياسي.

خلاصة البحث

الخطاب السياسي يمكن أن يتركب من هذه الاركان الاربعة وكل ركن منها فيه شيء مشخص ونقاط محددة ويحتاج البحث الى بلورة الكثير من القضايا والتدقيق لدراسة هذه الأمور.

أود أن أؤكد هنا على نقطة مهمة في موقف الشهيد الصدر (رض) وهي إن بعض الناس قد يقولون بأن الشهيد الصدر (رض) استشهد في سبيل الله، وأدى خدمات كبيرة لكن المجتهد يصيب ويخطأ، وقد يكون هذا الاجتهاد ليس صحيحاً، وقد قيل هذا الكلام فعلاً من بعض الناس الذين يؤمنون ثقافياً بالجهاد فضلاً عن القسم الآخر الذي لا يؤمن بهذه الحركة والذي يحاول أن لا يظهر ايمانه بها فيخلق المبررات باثاره مثل هذه الاشكالات.

الذي أريد قوله حول موقف الشهيد الصدر (رض) نحن الآن أكثر ثقة بهذا الموقف وهذه الرؤية منا قبل 17سنة عندما استشهد الصدر (رض)، كنا نثق والآن أكثر ثقة من السابق بصحة هذا الموقف، وقد جنينا ثمار هذا الموقف وكان هذا التحول العظيم الذي تحقق في اوساط الشعب العراقي من الالتزام والاهتمام بالاسلام، وبعد كل هذه المؤامرات التي اشرت الى بعض معالمها في مسخ الشخصية والهوية العراقية بكل وجودها وهي مؤامرات حاكت خيوطها كل قوى الاستكبار العالمي وليس صدام وحده.

إذن فإن خطاب الشهيد الصدر السياسي (على قلة اهتمامنا به) كان له دور عظيم في تعبئة الأمة، ويجب علينا الآن أن نقوم بعمل مدروس للخطاب السياسي من أجل تعبئة الأمة بهذا الاتجاه سيما ونحن نلاحظ ان النظام سجل تراجعات واضحة من أجل المحافظة على هوية الشعب العراقي، فصدام لا يتحدث عن الاسلام لولا هذه التضحيات ولولا هذا العمل الذي قام به الشعب العراقي.

وحول موضوع الحقوق السياسية نجد أشخاصاً كان لهم دور رئيس في مصادرة هذه الحقوق وهدرها مثل برزان التكريتي رئيس المخابرات وهو مسؤول عن مقتل الشهيد الصدر (رض) يؤكد في الرسالة الأخيرة المنشورة على لسانه، يتحدث عن الحقوق والديمقراطية والانتخابات وانها القضية الأصلية المطروحة، مع العلم أنه هو المسؤول القمعي وهو لا يعرف شيئاً عن الاسلام أو المظلومية… فهذه نجاحات حققها الشهيد الصدر (رض) والناس يتوقعون سقوط النظام يوماً بعد آخر، النظام نفسه يشعر بأنه في مهب الريح، وهو الذي كان يفكر بأنه يتحول الى بطل للعروبة وللعالم العربي، ويصور نفسه كدولة عظمى مقابل الدول الأخرى، والآن بات صدام يتسكع على الأبواب ويقبّل الأيدي والأرجل ويمارس تنازلات الذل والهوان يومياً من أجل أن يبقى على كرسي الحكم.

إنّ المنهج والخطاب السياسي الذي حدده الشهيد الصدر(رض) لم يكن أمراً غريباً واجتهاداً بعيداً عن الواقع، بل كان يتطابق مع الظروف السياسية التي يعيشها الشعب العراقي ولذا كان له هذا التأثير الكبير سيما وأنه خطاب قد ضمخه الشهيد الصدر (رض) بدمائه الزكية.

أسأله تعالى التوفيق للأخذ بثأر الله ـ ثأر المثل والقيم والاسلام، ثأر الشهيد الصدر وصحبه الأبرار والسائرين بدربه الاخيار.

والله ولي التوفيق والنصر.

السيد محمد باقر الحكيم