يقول الدكتور علي التميمي في مقاله الموسوم (محمد باقر الصدر ونظرية التوالد الذاتي) أحب أن أعلن للقراء والمتابعين أنني عندما أطلق تسمية الشهيد محمد باقر الصدر بفيلسوف القرن العشرين لا أريد أن أصادر أو أغمط حق الفلاسفة من أوربيين وروس وصينيين ويابانيين وهنود وأمريكيين وعرب ومسلمين، وإنما أريد أن أقرر حقيقة يعرفها أهل الفلسفة والمشتغلين في علومها وعلوم المنطق مفادها: أن التميز في الحقل الفلسفي وكل حقل علمي، يحتاج الى عمل أبداعي غير مسبوق، مثلما يحتاج الى تأسيس مبنى جديد من مباني الفكر أو قاعدة تعتمد عليها سياقات البحث العلمي وتكون مرجعا، كما فعل: أنشتاين في النسبية، وكما فعل بعض علماء فيزياء الكم، أو كما فعل قبل ذلك نيوتن في فيزياء الميكانيك، أو كما فعل ماركس في الديالكتيك، أو كما فعل باستور في المختبر أو كما فعل أديسون أو كما فعل نوبل صاحب الجائزة الشهيرة، وقائمة العلماء في ألاختصاصات المختلفة طويلة مثلما هي قائمة الفلاسفة وحصرا في القرن العشرين، وفي حقل الفلسفة لا نجد إنجازا متميزا وخالدا كما هو في أنجاز محمد باقر الصدر في تفسير المعرفة البشرية من خلال “نظرية التوالد الذاتي” .
ولقد جاءت نظرية التوالد الذاتي أو المذهب الذاتي في المعرفة البشرية بعد أن كانت نظرية “التوالد الموضوعي” لأرسطو هي التي تتولى تفسير المعرفة البشرية وذلك عندما تعتبر تكرر الصدفة النسبية باستمرار هو معرفة عقلية قبلية؟. لم يشر الدكتور التميمي في مقاله المذكور لدراسة الكاتب الليبي سليمان الشجاع الموسومة (المذهب الذاتي في نظرية المعرفة) والتي اكد فيها تعرض السيد الشهيد الصدر ضمن أبحاثه الأصولية لدى مناقشته الإخباريين في مدى حجية البراهين العقلية إلى نمط التفكير المنطقي الأرسطي ونقده بما لم يسبقه به أحد وبعد ذلك طور من تلك الأبحاث وأكملها وأضاف إليها ما لم يكن يناسب ذكره ضمن الأبحاث الأصولية فأخرجها باسم كتاب “الأسس المنطقية للاستقراء” وهذا ما أكده في تقريرات بحثه الأصولي حيث قال ((إن طريقة تولد المعارف البشرية حسبما يصورها المنطق الصوري أن الفكر يسير دائما من معارف أولية ضرورية هي أسس المعرفة البشرية إلى استنباط معارف نظرية جديدة بطريق البرهان والقياس التي يحدد صورتها علم المنطق فأي خطأ يفترض إن كان في الصورة فعلم المنطق هو عاصم منه وان كان في مادة القياس فان كانت المادة أولية فلا محالة تكون مستنتجة من برهان وقياس فينقل الكلام إليه حتى ينتهي إلى خطأ يكون في الصورة لأن المعارف الأولية لا خطأ فيها بحسب الفرض لكونها ضرورية وقد اصطلح عليها في الفكر البشري بمدركات العقل الأول وعلى المعارف المستنتجة منها بمدركات العقل الثاني إلا أن هذا التصور غير صحيح ومن هنا يطرح السيد الشهيد نظرية جديدة في المعرفة يعالج على ضوئها مشكلة الاستقراء ويعالج مستعينا بها الكثير من قضايا المنطق والمنهج الحديث وقد أطلق على هذه النظرية اسم المذهب الذاتي في المعرفة والذي من أهم مقومات هذا المذهب في مرحلته الأولى (التوالد الموضوعي) هو الاعتماد على نظرية الاحتمال، وليس خافيا على أحد أن هذه النظرية التي اعتمدها السيد الشهيد في منهجه المعرفي الجديد كان قد بزغ نورها في بداية القرن العشرين على يد فلاسفة غربيين حيث نجد أن البحث عن نظرية الاحتمال بدأ يأخذ إلى جانب بعده الرياضي بعدا فلسفيا منطقيا فبين العامين (1910م و1913م) ظهرت باكورة العمل المشترك بين الفيلسوف الانكليزي برتراند رسل (1872م- 1970 م) وأستاذه الرياضي الفرد نورت وايتهد (1861م-1947 م) في ثلاث مجلدات باسم “أصول الرياضيات” تأسيسا منهما للمنطق الرياضي وقد عده بعض الباحثين من أعظم الأعمال الفكرية في تاريخ البشرية وكان رسل قد سبق ذلك بكتاب “مبادئ الرياضيات” عام 1903 م ثم تعرض رسل سنة 1912 م لمشكلة الاستقراء في كتابه مشكلات الفلسفة تحت عنوان “في الاستقراء” وكان للعالم السوفيتي أندري كولموغوروف (1903 م – 1987 م) عام 1933 م دور بارز في تحديد أنظمة العد التي تعتمد عليها نظرية الاحتمال وقد تمكن الفيلسوف الانجليزي تشارلي دنبر برود (1887م- 1971م) من التأسيس لبديهتي “الاتصال والانفصال” والتي نقلهما عنه رسل في كتابه الأتي وفي عام 1948م يعود برتراند رسل إلى الساحة مع كتابه “المعرفة الإنسانية مداها وحدودها” والذي خصص حوالي 80 صفحة منه للبحث حول نظرية الاحتمال وفي عام 1950م ظهرت إحدى أعمق الدراسات حول الاحتمال والاستقراء وذلك في كتاب الفيلسوف الألماني ردولف كارناب “الأسس المنطقية للاحتمال” الذي تناول فيه المسألة بعمق وتخصص .
واعتقد ان من ضروريات المنهج العلمي في البحث والاستقراء ان يشير الكاتب الى المصادر التي سلطت الضوء المعرفي ولا تظهر الدراسة وكأنها من خلق وبنات فكر انساني لوحده وبراءة اختراع فكرية او قصب السبق في عرض مذهب ونظرية التوالد الذاتي للشهيد الصدر، والتميمي والشجاع سيبقيان على طاولة الاستجواب التساؤلي المشروع، عن من سبق من ؟ حتى تظهر شهرزاد الصباح وتعرض الحقيقة والوثيقة والنص الذي يؤكد السبق التاريخي الزمني في الطرح على اية حال فان الفكر الفلسفي العالمي، المدرسي منه وغير المدرسي يؤكد ريادية الشهيد محمد باقر الصدر في مذهب ونظرية التوالد الذاتي،كريادية ماركس في ديالكتيكيته، وريادية نيوتن في فيزيائيته الميكانيكية، وريادية اديسون في اكتشافه الكهربائي، وباسور في مختبره، وانشتاين في نسبيته وكما اشرنا الى ذلك سلفا.
9|4|1980 وكما يقول “التميمي” يوم ترملت فيه نظرية التوالد الذاتي أحد إبداعات رائد المعرفة البشرية في القرن العشرين محمد باقر الصدر .فلقد كانت نظرية التوالد الموضوعي لأرسطو هي النظرية التي تتربع على عرش السجال المعرفي سيما وان اكتشافه لنظرية التوالد الذاتي تؤكد الصانع المدبر وكما اشار الشهيد الصدر في كلمته الاخيرة من كتاب (الاسس المنطقية للاستقراء) إن هذه الدراسة الشاملة التي قمنا بها كشفت عن الأسس المنطقية للاستدلال الاستقرائي الذي يضم كل ألوان الاستدلال العلمي القائم على أساس الملاحظة والتجربة واستطاعت أن تقدم اتجاها جديدا في نظرية المعرفة يفسر الجزء الأكبر منها تفسيرا استقرائيا مرتبطا بتلك الأسس المنطقية التي كشف عنها البحث وتبرهن الدراسة في نفس الوقت على حقيقة في غاية الأهمية من الناحية العقائدية وهي أن الأسس المنطقية التي تقوم عليها كل الاستدلالات العلمية المستمدة من الملاحظة والتجربة هي نفس الأسس المنطقية التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدبر لهذا العالم عن طريق ما يتصف به العالم من مظاهر الحكمة والتدبير فإن هذا الاستدلال كأي استدلال علمي أخر استقرائي بطبيعته وتطبيق للطريقة العامة التي حددناها للدليل الاستقرائي في كلتا مرحلتيه (التوالد الموضوعي والتوالد الذاتي).
نقد التفكير الارسطي المنطقي بأبحاث ومتبنيات الاساس المنطقي للاستقراء وإضافة اساس اخر لأسس المعرفة البشرية في نظريتي العقلية والتجريبية،هي منهجية الشهيد الصدر في اضافة المذهب الذاتي ونظرية التوالد الذاتي .. وكما يقول الليبي سليمان شجاع الذي قال: يعتقد المذهب الذاتي أن الجزء الأكبر من المعرفة التي يعترف المذهب العقلي والمنطق الأرسطي بصحتها يعود إلى قضايا مستنتجة بطريقة التوالد الذاتي الأخير من كتابه الأسس المنطقية للاستقراء ففي هذا الاتجاه هناك معارف أولية تشكل الجزء العقلي القبلي من المعرفة وهو الأساس للمعرفة البشرية على العموم من قبيل مبدأ عدم التناقض الذي يعتبره المذهب الذاتي وفاقا للمذهب العقلي معرفة عقلية قبلية.
وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الموضوعي كنظريات الهندسة الاقليدية المستنتجة من بديهيات تلك الهندسة بطريقة التوالد الموضوعي.
وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الذاتي وهي كل التعميمات الاستقرائية فان التعميم الاستقرائي مستنتج من مجموعة أمثلة وشواهد لا يوجد أي تلازم بينها وبين ذلك التعميم فالعلم بالتعميم ينشا عن طريق العلم بتلك الأمثلة والشواهد على أساس التوالد الذاتي.
وقد لا اتفق مع “اكرم زعيتر” وزير التربية في الاردن الذي قال (لم اجد فيلسوفا عنيدا نازل الفلسفة المادية الديالكتيكية ودحض حججها كما فعل محمد باقر الصدر) فليس من سمات الشهيد الصدر الفكرية “العنادة في المنازلة المعرفية” بقدر ما تتسم عبقريته في استنباط معارف نظرية جديدة بطريق الاستقراء والبرهان ،ومعرفة نظرية التوالد الذاتي هي اضافة نوعية للمعرفة البشرية، اضافة الى ان حواريته الفلسفية مع الفلسفة الديالكتيكية المادية كانت حوارية “الضد النوعي” و “الضد المعرفي” و “الضد الفلسفي” في مواجهة (النص المادي) ودحضه بطريق الاستقراء الناقص لإنتاج البرهان المعرفي الذي يسير من الخاص الى العام كما اثبت ذلك في كتاب (الاسس المنطقية للاستقراء) الذي ماثل فيه الاستقراء التام والقياس الاستنباطي .
فيلسوف ام الدنيا “مصر الفرعونية” ولما سأل مفكرنا الشهيد الصدر: لمن كتبت هذا الكتاب؟ اختصر فحوى اجابة “الصدر” العظيم وبما تنطوي عليه من معان اخرى،بان العقلية الشرقية والعقلية الاسلامية هي قادرة على الانتاج المعرفي والانتاج الفكري وبقاءنا في ظل “الهامش الفلسفي” اكذوبة لن تستمر، بيد انه قد اوجز ذلك بعبارة قصيرة هي (حتى يظل الغرب يأخذ منا ولانظل نأخذ منه).
اتساءل.. اتساءل.. اتساءل كما يتساءل كل حر وطني شرف في بلاد سومر… اتساءل هل حكومة المالكي لها هامش قصير من حاضنة الصدر المعرفية؟ وهل المالكي اقتفى اثر من اثار “الحامل المعرفي” للشهيد الصدر؟ واييكم وفكر الشهيد الصدر في دولة استبد بها الفساد ومجتمع الجريمة .
عدنان طعمة الشطري