تعتبر ظاهرة تغير الأفكار وتحولها لدى الشخصيات العلمية ظاهرة أصيلة تكاد تلوح جميع المفكرين العظماء، قديماً وحديثاً، سواء كان التغير جزئياً او كلياً. لكن ربما يكون من القلة ان نجد مفكراً بارزاً شهدت حياته بتعدد التحولات الفكرية على صعيد واحد مثلما هو الحال مع عملاق من عمالقة القرن العشرين المفكر محمد باقر الصدر. فخلال سني حياته الفكرية ظهر لديه العديد من التطورات على اكثر من صعيد، كان ابرزها تلك التي تتعلق باطروحاته الفلسفية والمنطقية.
لا يشك في ان كتاب (الاسس المنطقية للاستقراء) المنشور مع مطلع السبعينات يمثل قمة ما وصل اليه فكر الشهيد، وقد جاء كزلزال لما سبق اليه من اراء متبناة في (فلسفتنا) التي نشرت في نهاية الخمسينات سنة 1959، أي قبل ذلك الكتاب بأكثر من عشر سنوات خلت. لكن ما حصل مستجداً هو ان الشهيد قد جاوز الكتاب الانف الذكر بعد عدة سنوات من صدوره، وبالتحديد سنة 1977. وقد لا يصدق ان هذه المجاوزة جاءت في دراسة عقائدية قصيرة لا تحتل قيمة علمية بالمقارنة مع كتابه السابق الذي بذل فيه عصارة فكره واقصى جهده العقلي، حتى صنع لنفسه مذهباً خاصاً لطريقة بناء المعرفة البشرية والاستقراء، متميزاً بذلك عما كان سائداً لدى اتباع المنطق الارسطي العقلي، وعما ساد ولا زال لدى اتباع المنطق الحديث من الوضعية وغيرها.
فنحن نعلم ان هناك فارقاً جوهرياً بين كتابي فلسفتنا والاسس المنطقية للاستقراء، ففي فلسفتنا كان الشهيد السعيد ينحى في نظرية المعرفة منحى المذهب العقلي كلياً، بينما في الاسس المنطقية للاستقراء استطاع ان يؤسس لنفسه مذهباً آخر يختلف كثيراً عن ذلك الاتجاه. لهذا جرت جملة من التغيرات والانتقالات الفكرية من الكتاب الاول الى الثاني، يمكن تلخيصها كالتالي:
1ـ في فلسفتنا رأى المفكر الصدر ان الاستقراء ينطوي على جانب قياسي، والذهن فيه يسير من العام الى الخاص. وكما يقول: «ان السير الفكري في رأي العقليين يتدرج من القضايا العامة الى قضايا اخص منها، من الكليات الى الجزئيات، وحتى في المجال التجريبي الذي يبدو لاول وهلة ان الذهن ينتقل فيه من موضوعات تجريبية جزئية الى قواعد وقوانين عامة، يكون الانتقال والسير فيه من العام الى الخاص».
بينما في الاسس المنطقية للاستقراء أكّد على ان الاستقراء يختلف عن القياس، والذهن فيه يسير من الخاص الى العام. وعلى حد قوله: «يعتبر السير الفكري في الدليل الاستقرائي معاكساً للسير في الدليل الاستنباطي الذي يصطنع الطريقة القياسية، فبينما يسير الدليل الاستنباطي وفق الطريقة القياسية من العام الى الخاص عادة، يسير الدليل الاستقرائي خلافاً لذلك من الخاص الى العام..»
2ـ في الكتاب الاول اعتقد انه من غير الممكن اثبات المبادئ العقلية الضرورية عن طريق التجربة او الحس. فمثلاً انه يقول بصدد اثبات مبدأ العلية: «ان مبدأ العلية لا يمكن اثباته والتدليل عليه بالحس، لأن الحس لا يكتسب صفة موضوعية إلا على ضوء هذا المبدأ. فنحن نثبت الواقع الموضوعي لأحاسيسنا استناداً الى مبدأ العلية، فليس من المعقول ان يكون هذا المبدأ مديناً للحس في ثبوته ومرتكزاً عليه، بل هو مبدأ عقلي يصدق به الانسان بصورة مسستغنية عن الحس الخارجي..»
بينما في الكتاب الثاني اعتقد امكان اثبات تلك المبادئ عن طريق الاستقراء والتجربة طبقاً لمصادرات الاحتمال. لكنه مع هذا استثنى أمرين من عملية امكان اثبات القضايا القبلية، وهما كالاتي: «الاول : استثناء مبدأ عدم التناقض، أي القضية القائلة باستحالة اجتماع النقيضين، فان هذه القضية لا يمكن ان نفترض اثباتها بالدليل الاستقرائي، بل يجب ان تفترض ثابتة ثبوتاً اولياً قبلياً.. الثاني: استثناء كل المصادرات التي يحتاجها الدليل الاستقرائي في سيرة الاستدلالي، بما فيها بديهيات نظرية الاحتمال.»
3ـ في الكتاب الاول اعتقد ان العلوم الطبيعية تثبت على اساس قضايا السببية العقلية، وكما يقول: «فمبدأ العلية هو الاساس الاول لجميع العلوم والنظريات التجريبية.»
اما في الكتاب الثاني فقد اعتبر هذه العلوم لا تثبت الا بالاستقراء. فهو يقول : «ان هذه الدراسة الشاملة التي قمنا بها كشفت عن الاسس المنطقية للاستدلال الاستقرائي، الذي يضم كل الوان الاستدلال العلمي على اساس الملاحظة والتجربة..».
4ـ في الكتاب الاول اعتبر الاستقراء قائماً على أساس القضايا القبلية للسببية: «ان النظريات التجريبية، لا تكتسب صفة علمية، ما لم تعمم لمجالات اوسع من حدود التجربة الخاصة، وتقوم كحقيقة عامة. ولا يمكن تقديمها كذلك الا على ضوء مبدأ العلية وقوانينها، فلابد للعلوم عامة ان تعتبر مبدأ العلية وما اليها من قانوني الحتمية والتناسب، مسلمات أساسية، وتسلم بها بصورة سابقة، على جميع نظرياتها وقوانينها التجريبية.»
لكنه في الكتاب الثاني اقتنع بأن الاستقراء لا يحتاج الى تلك المصادرات القبلية مطلقاً. اذ قال بهذا الصدد: «وفي رأيي ان المنطق الارسطي لم يخطئ فقط في الاعتقاد بطابع عقلي قبلي لقضية ليست من القضايا العقلية، بل اخطأ أيضاً في الاعتقاد بحاجة الدليل الاستقرائي الى مصادارت قبلية أيضاً..»
5ـ من الناحية المبدئية هناك اتفاق بين الكتابين حول الاعتقاد بوجود اساس مشترك لاثبات كل من العلوم الطبيعية والقضايا الميتافيزيقية. فقد جاء في كتاب فلسفتنا ما نصّه: «ان الاسلوب الذي تتخذه المدرسة الالهية للاستدلال على مفهومها الالهي هو نفس الاسلوب الذي نثبت به علمياً جميع الحقائق والقوانين العلمية..»
وشبيه له ما جاء على غلاف الاسس المنطقية للاستقراء كتعريف للكتاب، كما يلي: «دراسة جديدة للاستقراء تستهدف اكتشاف الاساس المنطقي المشترك للعلوم الطبيعة وللايمان بالله».. وقد وضّح هذا المعنى في الختام آخر الكتاب.
ورغم هذا الاتفاق في الكتابين نلاحظ انهما اختلفا حول طبيعة ذلك الاساس الذي يشترك لاثبات الجوانب العلمية والحسية وبعض القضايا الميتافيزيقية. ففي فلسفتنا اُعتبر الاساس المشترك متمثلاً بمبدأ السببية وقوانينها، بينما اُعتبر في الكتاب الآخر متمثلاً بالاستقراء وحده.
6ـ في الكتاب الاول استدل على الوقائع الموضوعية الجزئية عن طريق مبدأ العلية، كما اعتقد ان معرفة وجود الواقع الموضوعي على سبيل الاجمال تمثل معرفة اولية نابعة عن العقل. وجاء في النص : «ان العلم يوجود واقع للعالم، على سبيل الاجمال، حكم ضروري اولي، لا يحتاج الى دليل، اي الى علم سابق.. ان العلم بوجود واقع موضوعي، لهذا الحس او ذاك، انما يكتسب على ضوء مبدأ العلية..»
بينما في الكتاب الثاني استدل على الواقع الموضوعي المجمل ووقائعه الجزئية المفصلة عن طريق الدليل الاستقرائي، كما نص عليه كالاتي: «ان التصديق بالواقع الموضوعي للعالم معرفة استقرائية. وهذه المعرفة تجميع لقيم التصديقات المتعددة بالواقع الموضوعي للقضايا المحسوسة، اذ يكفي في وجود الواقع الموضوعي للعالم ان تكون بعض القضايا المحسوسة على الاقل ذات واقع موضوعي..»
7ـ في الكتاب الاول ابدى عدم القناعة في تأثير العامل الفسيولوجي الوظيفي على تحديد طبيعة الصور الحسيّة لدى الاشخاص العاديين، وذلك بدلالة رفضه التام لنزعة النسبية الذاتية التي اكدت على ذلك الدور.
أما في الكتاب الآخر فقد اكد على دور العوامل الذاتية والفسيولوجية وغيرها في تحديد الصور الحسّية، اذ يقول: «ولا شك في ان الانسان الاعتيادي يذهب الى الاعتقاد بدرجة كبيرة من التطابق والتشابه بين الصورة المحسوسة والواقع الموضوعي، بينما تتناقص هذه الدرجة كلما أُخذ بعين الاعتبار ما يكشفه العلم من الجوانب الذاتية لعملية الادراك الحسي». ويقول ايضاً: «ان تحديد الصورة المحسوسة وتعيين معالمها نتيجة عاملين: أحدهما الواقع الموضوعي، والآخر الشروط الداخلية الفيزيائية والفسيولوجية والسيكولوجية للادراك الحسي».
هكذا نعرف ان هناك جملة لا يستهان بها من التغيرات والانتقالات الفكرية من فلسفتنا الى الاسس المنطقية للاستقراء. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد ظهرت هناك تغيرات اخرى أهم من الاولى لها علاقة ببناء الدليل الاستقرائي وتقويمه، اذ لم يثبت المفكر الصدر على الآراء التي طرحها في كتابه القيّم الاسس المنطقية للاستقراء، وانما تجاوزها في كتابه اللاحق بحث حول المهدي. وبالتالي لا يمكن اعتبار المحاولة المشيدة في كتاب الاسس المنطقية للاستقراء هي الوجه الوحيد الذي قدمه السيد الصدر. فهناك الوجه الاخر لفكره والذي يمكن اعتباره بمثابة (الأنا) في قبال (الآخر). فهناك تغاير في التأسيس بين الكتابين والذي يمكن ان نردّه الى فكرتين جوهريتين لهما علاقة وثيقة بعملية الترجيح والبناء المعرفي الاستقرائي، وقد حضرتا في كتاب بحث حول المهدي ضمن سياق معرفي واحد.
فبخصوص الفكرة الاولى جاء في الاسس المتطتية للاستقراء ان علاقة الضرورة العقلية في السببية، سواء العامة او الخاصة، تقبل الخضوع الى منطق الدليل والاثبات بطريقة الاستقرا’ء، بل وكذا الحال في جميع قضايا الضرورة واللزوم العقلية الاخرى، باستثناء مبدأ عدم التناقض ومصادرات الاحتمال. فمثلاً يقول السيد الصدر: «وبهذا يمكننا ان نتوصل الى اثبات علاقة اللزوم والضرورة بالدليل الاستقرائي، وفقاً لطريقته العامة التي شرحناها فيما سبق، في اي قضية من القضايا التي يعتبرها المنطق الارسطي من الاوليات والفطريات».
بينما يختلف الحال في بحث حول المهدي، اذ جاء فيه ان الضرورة سواء في السببية او غيرها لا يمكن اثباتها بطريقة الاستقراء، ففيما يخص الضرورة في السببية الخاصة ذكر يقول: «وأما على ضوء الاسس المنطقية للاستقراء فنحن نتفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة – أي وجهة نظر المنطق التجريبي – في ان الاستقراء لا يبرهن على علاقة الضروة بين الظاهرتين، ولكنا نرى انه يدل على وجود تفسير مشترك لاطراد التقارن او التعاقب بين الظاهرتين باستمرار، وهذا التفسير المشترك كما يمكن صياغته على اسس افتراض الضرورة الذاتية، كذلك يمكن صياغته على اساس افتراض حكمة دعت منظم الكون الى ربط ظواهر معينة بظواهر اخرى باستمرار» . ولا يقتصر هذا الانكار في البرهنة الاستقرائية على الضرورة في السببية الخاصة، بل انه يشمل مطلق الضرورة.
أما فيما يخص الفكرة الثانية، فقد جاء في الاسس المنطقية للاستقراء ان القوانين الاستقرائية لا يمكن ان تقوم لها قائمة ما لم تثبت السببية بحسب مفهومها العقلي المتضمن لمبدأ «الضرورة». لذلك لا يمكن اثبات هذه القوانين والتعميمات طبقاً للسببية بحسب مفهومها التجريبي، ذلك ان هذا المفهوم لما كان مجرداً عن مبدأ «الضرورة» لذا كان من المستحيل اثباته عن طريق الدليل الاستقرائي، وبالتالي يستحيل اثبات تلك القوانين والتعميمات، بل ويستحيل حتى ترجيحها. وبهذا الصدد يقول الشهيد الصدر: «إنا اذ نؤمن بان الدليل الاستقرائي كفيل باثبات السببية بدون حاجة الى مصادرات قبلية، نريد بذلك السببية بالمفهوم العقلي الذي يعبر عن علاقة ضرورة بين السبب والمسبب. وأما اذا استبعدنا السببية بالمفهوم العقلي، وافترضنا انه لا طريق الى اثباتها لا قبل الاستقراء ولا بالاستقراء نفسه، فليس بالامكان ان نثبت بالدليل الاستقرائي السببية بالمفهوم التجريبي، ولا اي تعميم من التعميمات التي يثبتها الاستقراء عادة. فالشرط الاساسي لانتاج الدليل الاستقرائي في رأينا، ان يكون قادراً على اثبات السببية بالمفهوم العقلي، وما لم نثبت السببية العقلية، يعجز الدليل الاستقرائي عن اثبات أي تعميم، بل وحتى عن ترجيحه بأي درجة من درجات الترجيح».
في حين جاء في بحث حول المهدي وهو بصدد البحث عن تفسير المعجزة ما يلي: «نواجه عادة بمناسبة هذا المفهوم العام السؤال التالي: كيف يمكن ان يتعطل القانون، وكيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية؟ وهل هذه مناقضة للعلم الذي اكتشف ذلك القانون الطبيعي، وحدد هذه العلاقة الضرورية على اسس تجريبية واستقرائية؟ والجواب: ان العلم نفسه قد اجاب على هذا السؤال بالتنازل عن فكرة الضرورة في القانون الطبيعي، وتوضيح ذلك: ان القوانين الطبيعية يكتشفها العلم على اساس التجربة والملاحظة المنتظمة. فحين يطرد وقوع ظاهرة طبيعية عقيب ظاهرة اخرى يستدل بهذا الاطراد على قانون طبيعي، وهو انه كلما وجدت الظاهرة الاولى وجدت الظاهرة الثانية عقيبها، غير ان العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعي علاقة ضرورية بين الظاهرتين نابعة من صميم هذه الظاهرة وذاتها، وصميم تلك وذاتها، لأن الضرورة حالة غيبية، لا يمكن للتجربة ووسائل البحث الاستقرائي والعلمي اثباتها، ولهذا فان منطق العلم الحديث يؤكد ان القانون الطبيعي، كما يعرفه العلم، لا يتحدث عن علاقة ضرورية بل عن اقتران مستمر بين ظاهرتين – وهذا هو المفهوم التجريبي لعلاقة السببية -، فاذا جاءت المعجزة وفصلت احدى الظاهرتين عن الاخرى في قانون طبيعي لم يكن ذلك فصماً لعلاقة ضرورية بين الظاهرتين. والحقيقة ان المعجزة بمفهومها الديني. قد اصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومة بدرجة اكبر مما كانت عليه في ظل وجهة النظر الكلاسيكية الى علاقات السببية، فقد كانت وجهة النظر القديمة – الراجعة الى المنطق العقلي الارسطي -، تفترض ان كل ظاهرتين اطرد اقتران احداهما بالاخرى، فالعلاقة بينهما علاقة ضرورية، والضرورة تعني ان من المستحيل ان تنفصل احدى الظاهرتين عن الاخرى، ولكن هذه العلاقة تحولت في منطق العلم الحديث الى قانون الاقتران او التتابع المطرد بين الظاهرتين دون افتراض تلك الضرورة الغيبية.»
ان التطور الفكري من فلسفتنا الى الاسس المنطقية للاستقراء ثم الى بحث حول المهدي، لهو حدث جدير بالدراسة والاستيعاب، وذلك فيما لو اردنا ان ندرس البنية الفكرية لشخصية الشهيد بموضوعية واخلاص بعيداً عن طريقة الاطراء والتبجيل الاطلاقية القائمة على عقدة الدهشة والتعجب، والتي تتسم بانها تعجز عن ان تغطي الجانب الفكري من تلك البنية، بل ولا تستوعب كذلك اطروحاتها المعرفية والتحولات العميقة التي لحقت بها. فهي طريقة تفضي الى الخروج بحصيلة مشوشة ومضللة عن الفكر المقروء، إن لم نقل انها تقع في التناقض لما تزاوله من مهنة «النقل والبقالة»، حيث التعامل بروح واحدة مع كل من المهجور والمعوّل عليه، او القديم والجديد.
لا شك اننا لسنا – هنا – بصدد الخوض في تفاصيل الحركة الفكرية للشهيد الصدر، كما لسنا بصدد التساؤل عن طبيعة الخطوط الأساسية التي يتطلبها تأسيسه المنطقي الجديد في بناء المعرفة البشرية والدليل الاستقرائي، والتي ينبغي أن تختلف عن تلك الواردة في كتاب الاسس المنطقية للاستقراء.. انما أردنا فقط البحث عن النسق العام للبنية المنهجية من فكر الشهيد الفلسفي، فهل ان مستجداته تعبر عن«رهان ثقافي» او «غمار فكري»، ام كان ينتظمها «رحال موجه» رغم ما فيها من تغايرات. فالذي علينا ان نعرفه هو فيما اذا كان هناك سلوك موجه تستظل به تلك التطورات؟ وفيما اذا كان هناك دافع محدد وراء التحولات؟
حقيقة الأمر انه ليس من العسير ان ندرك بان الفوارق التي لحظناها بين فلسفتنا والاسس المنطقية للاستقراء وبحث حول المهدي هي فوارق تعكس انتظاماً في التحول المتدرج من العقل الى الواقع. اذ الملاحظ ان فلسفتنا هي دراسة تعتمد على الاصول العقلية في تحكيمها على قضايا الواقع والوجود الخارجي، ومنه الواقع العلمي والميتافيزيقي. في حين ان الاسس المنطقية للاستقراء تسير سيراً مختلفاً، ذلك انها تستند الى ارض الواقع عبر الدليل الاستقرائي لتبني القضايا المعرفية دون الاستناد الى حكم المصادرات العقلية. لكنها مع ذلك لم تتخلّ كلياً عن النتاج العقلي في بناء الدليل الاستقرائي. فهي وإن رفضت الأخذ بالمصادرات العقلية، الا انها اعتبرت ان من الممكن اثبات القضايا العقلية عبر التجربة والاستقراء، وبدون ذلك لا يمكن ان يتم بناء التعميم في القضايا الاستقرائية. اي انها تعد الاستدلال على العقل يمكن انجازه من خلال الواقع. في حين ان فلسفتنا تحيل ذلك تماماً، بل العكس هو الصحيح، اي ان الواقع هو الذي يستدل عليه بالعقل، وبالتالي فان ما شهدناه من ان العقل في فلسفتنا هو الحاكم في اثبات القضايا، أصبح الواقع هو الذي يتخذ هذا الدور، ولو باعادة تشكيل حكم العقل من جديد دون تعارض. وهذا التحول من العقل الى الواقع يزداد توغلاً في بحث حول المهدي، وذلك باعطاء الأولوية للواقع بلا مصادرات الاحكام العقلية، ولا حتى امكان الاستدلال على مثل هذه القضايا.
وبعبارة اخرى انه اذا كانت فلسفتنا ترى العقل المتمثل بمبدأ السببية وقضاياه هو الاساس الاول لاثبات جميع العلوم والنظريات، وكذلك اساسيات العقيدة كمسألة وجود الله؛ فان في الاسس المنطقية للاستقراء اصبح الاستقراء هو الاساس البديل لاثبات جميع تلك المحاور، بل واصبح الاستقراء ايضاً قادراً على اثبات ذات مبدأ السببية ومشتقاته. الشيء الذي يعني ان مكانة الاستقراء عند الشهيد الصدر قد تحولت مما هي ثمرة من نتاج العقل تثبت بالبديهيات عبر العملية القياسية كما في فلسفتنا.. تحولت في الاسس المنطقية للاستقراء الى عامل اعادة انتاج العقل ذاته؛ بالقدرة على اثبات مكوناته البديهية والتي منها السببية وما تنطوي عليه من مبدأ الضرورة بين السبب والمسبب. هكذا انقلب الموقف واصبحت العملية معكوسة، اذ كان العقل هو الحاكم على الاستقراء، لكنه صار فيما بعد لا يشغل هذه الحاكمية، بانفصال الاستقراء عنه نسبياً، بل وبامكان هذا الاخير ان يعمل على اعادة تحكيمه من جديد.
لا شك ان شهيدنا كان يهدف سواءاً في فلسفتنا او الاسس المنطقية للاستقراء الى اثبات قضايا العقيدة بنفس المحور المكلف لاثبات قضايا العلوم والتجربة. فهذا الهدف هو المشترك بين الكتابين، اذ ان جوهر فلسفتنا قائم لغرض الوصول الى تلك الفكرة ونقض طريقة الفصل التي تعمل عليها دوائر الالحاد كالماركسية التي تتقبل علوم الطبيعة، لكنها تنفي علوم العقيدة والميتافيزيقا، كذلك الحال مع الوضعية التي تتقبل تلك العلوم، لكنها تفرغ الميتافيزيقا من معناها، فتجعلها قضايا ليس لها معنى على صعيد المعرفة، وهي بالتالي غير قابلة لا للاثبات ولا للنفي. وعليه كان هدف فلسفتنا هو نقض ذلك الفصل واقامة الصلة بين اثبات قضايا العقيدة على نفس المحور الكفيل باثبات علوم الطبيعة. فهذه الصلة المشتركة في عملية البرهنة والاثبات هي ذاتها اعلنها الشهيد في كتابه الاسس المنطقية للاستقراء. وافضى به هذا الربط الى ان يعتبر الانسان بين امرين: إما ان يؤمن بالعلم والمسألة الالهية معاً، او يجحد بهما سوية، اذ من التناقض التفكيك بين الامرين مادام انهما ينهلان من منبع واحد مشترك.
ومع ان النزعة العقائدية هي التي تهيمن على الدافع وراء ما استهدفه الشهيد من بحث، سواء في كتابه الفلسفي الاول او في كتابه المنطقي الاخر، لكن مع ذلك فان الطريقة التي وجهته قد اختلفت تماماً . ذلك ان ما حدده الشهيد للاساس المشترك في اثبات العلوم وقضايا الميتافيزيقا الاساسية في فلسفتنا، انما يستمد طابعه من ذات العقل عبر مصادرات مبدأ السببية العقلي. اما في كتابه الاخر فقد كان الاساس الذي اراد ان يثبت به تلك القضايا ليس هو العقل المتمثل بالسببية، بل هو الواقع متمثلاً بالاستقراء، ذلك لان الاستقراء هو اداة كشف الواقع.
لقد كان لهذا التحول من العقل الى الواقع دلالة قد اخذت تبرز وتنمو اكثر فاكثر. ففي الاسس المنطقية للاستقراء اشاد الشهيد بطريقة الاستقراء في الكشف عن المسائل الالهية، معتبراً اياها هي التي حثّ عليها القرآن الكريم في البرهنة والاستدلال. وهو منذ هذا الكتاب وحتى وفاته، أي خلال عقد من الزمان قد ظهرت نزعته الواقعية تسود وتتغلغل حتى في المحاور التي جدد فيها بعض نتاجه الفكري. ومع ذلك فقد ظل مدفوعاً بنفس الدافع العقائدي، لا في فكره فحسب، بل حتى في سلوكه طوال حياته التي قضاها في العلم والجهاد، حتى نال المنزلة الرفيعة بشهادته المقدسة التي لازال جرحها نازفاً في قلب الامة الاسلامية وروحها.
ان قوس النزول والترحال الموجه من نهج العقل والقياس الى نهج الواقع والاستقراء، قد شق الطريق الى ايجاد حركة اخرى متممة باتجاه التغلغل في نفس المسار الواقعي. فعلى الرغم من ان الشهيد قد تجاوز العقل باتجاه الواقع، كما هو الحال في كتابه الاسس المنطقي للاستقراء، الا انه لازال يحمل معه اثاراً عقلية تجاه الكشف عن علاقات الطبيعة والوجود الخارجي، فهو لازال يرى ان قضايا السببية لعلاقات الطبيعة الخاصة تحمل صفة الضرورة او الحتمية، والتي حاول اثباتها عن طريق الواقع بالاستقراء. الامر الذي جعله يصفي الحساب مع هذه الاثار العالقة في تحوله الأخير، اذ انتهى في كتابه بحث حول المهدي الى ترجيح افراغ علاقات السببية الخاصة من الحاكمية العقلية المتمثلة بالضرورة، مثلما هو النظر المتعارف عليه في منطق الفكر الحديث، والذي عبّر عن الرابطة بين السبب والمسبب بانها علاقة اطراد وتعاقب خالية من الضرورة والحتمية.
وحقيقة الامر، لقد كان للعامل العقائدي دوره الهام في دفعه بهذا الاتجاه من التجاوز، مما افضى به الى ان يختار طريقاً هي اقرب للواقع منه الى العقل. ذلك انه كان بصدد اثبات قضية عقائدية تتعلق بكيفية بقاء المهدي ع حياً فترة طويلة من الزمن دون تعارض مع قوانين الطبيعة، فكان جوابه هو ان المعجزة، ومنها معجزة بقاء المهدي حياً، هي بمفهومها الديني اقرب الى فهم منطق الفكر الحديث عن علاقات السببية وقوانين الطبيعة، مقارنة مع الفهم العقلي الذي كان سائداً في الماضي.
هكذا ان الدافع العقائدي قد لازم الطريق التي خطها الشهيد بالتحصن بالواقع اكثر فاكثر. وقد برزت معالم هذا التحصن بشكل واضح في عدد من القضايا التي عالجها مؤخراً؛ كرسمه لخطوط الطريقة الجديدة لتفسير القرآن الكريم والتي جعلها قائمة بالاساس على شرط التزود من ينابيع ثقافة الواقع والحياة، بخلاف ما عليه الطريقة التقليدية. وفي جميع الاحوال ان التحولات التي طرأت على فكر شهيدنا كان ينتظمها موجه النزول من سماء العقل المجرد الى ارض الواقع، في الوقت الذي ظل الدافع العقائدي ملازماً لهذه الحركة الخصبة من التحولات.
يحيى محمد