مع الشهيد الصدر فيلسوفا

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

الإبداع والذكاء المفرط والعبقريّة المتميّزة التي يتمتّع بها السيّد الشهيد الصدر! جعلته يخوض في أكثر من مجال من مجالات العلم والمعرفة، لا لمجرّد الاطّلاع وحسب، بل ليكون من روّاد النظريّات والأفكار فيها، فخاض في مجال الفلسفة والاقتصاد والمنطق ولم يعرف عنه تتلمذه لدى أحد من العلماء بل كان يعتمد على قدراته الذاتيّة وإمكاناته الهائلة.

ففي الفلسفة التي تعتبر من العلوم المعقّدة اجتاز المراحل الدراسيّة ثمّ ليصبح فيلسوفاً دون حضوره لدى أساتذة الفلسفة. بل نقل عن الفيلسوف الكبير يومئذٍ في «النجف الأشرف» المعروف بملا «صدرا البادكوبي» أنّه قال عن الفترة التي حضر فيها السيّد الصدر! لديه لدراسة كتاب «الحكمة المتعالية» المعروف بـ «الأسفار الأربعة» للفيلسوف الإسلامي الكبير الملا «صدرا الشيرازي»: «اشترط عليّ أن لا يتابعني في التدريس الرتيب من هذا الكتاب، بل طلب مني أن يقرأ كلّ يوم صفحات من هذا الكتاب ويسألني عمّا أشكل عليه فقبلت وأنهى دراسة الكتاب بسرعة على هذا الشكل»[1].

فدراسة الشهيد الصدر! لكتاب «الأسفار الأربعة» بهذا الشكل وبهذه الفترة الزمنيّة الوجيزة مع كون هذا الكتاب يمثّل أعلى مرحلة من مراحل الفلسفة ـ وهو بمثابة الدراسات العليا في علم الفلسفة ـ لا بدّ لدارسيه أن يكونوا قد قطعوا شوطاً كبيراً في دراسة الكتب الفلسفيّة ومناهجها الدراسيّة المتداولة، يدلّ على عبقريته الفذّة وإبداعه وذكائه المفرط، مع أنّه لم يعرف تتلمذه على أحد في دراسة الكتب الفلسفيّة المتعارف تداولها قبل كتاب «الأسفار الأربعة»، وهذا يدلّ على أنّه كان يلجأ إلى قدراته الذاتيّة ولا يستعين بأحد إلا في الضرورات القصوى كما فعل في تتلمذه على الفيلسوف الملا «صدرا البادكوبي».

وهذه العبقريّة جعلته في مقدّمة فلاسفة القرن العشرين ممّن يشار إليهم بالبنان. ولكنّه لم يكتب في الفلسفة سوى كتابه الشهير «فلسفتنا»، وهذا ممّا أفاد خصومه في محاربته والتشكيك بفلسفته للنيل من شخصيّته الفلسفيّة ومصادرة مدرسته المتميّزة في هذا المجال.

يقول السيّد «حسن النوري» في تفنيد هذه الدعوى: «لقد كان الشهيد الصدر فيلسوفاً من غير منازع، استطاع تكوين نظريّة جديدة في المعرفة. ولقد دخل ميدان النظريّات القديمة في المعرفة وناقشها وانتهى إلى عدم قدرتها الكاملة على طرح النظريّة الصحيحة في تفسير المعرفة الإنسانيّة. . وقد يقول البعض إنّ الفيلسوف هو من يدرس الفلسفة القديمة ثمّ يقوم بشرحها وتفصيلها كالسيّد الطباطبائي، ونحن نقول إنّ من يستطيع أن يطرح نظريّة جديدة للمعرفة لا تبتني فقط مع الأسس المنطقيّة والفلسفيّة التقليديّة فيلسوفٌ بمعنى الكلمة، وهذا ما ينطبق على الشهيد الصدر! ، فهو من أساتذة «الحكمة المتعالية» ومن الذين قدّموا نظريّة جديدة في المعرفة»[2].

وكتابه «فلسفتنا» ليس إلا تلبية لنداء الرسالة الإسلاميّة، وإشباعاً للحاجة يومئذٍ ـ كما سيأتي ـ. فلم يكتف السيّد الشهيد! في كتابه نظريّته في المعرفة في هذا الكتاب، بل ظلّ يواصل ويواكب العلوم الفلسفيّة ويسعى باستمرار إلى التعرّف والبحث عن الحقيقة، ولذلك عدل عن كثير ممّا اعتنقه في نظريّة المعرفة التي كتبها وصاغها في كتابه «فلسفتنا»، فقدّم نظريّة جديدة [في] المعرفة تختلف عن سابقتها في عدد مهمّ من أقسام المعرفة البشريّة وذلك في كتابه «الأسس المنطقيّة للاستقراء»[3].

وكان أيضاً قد «بدأ أخيراً بتأليف كتاب فلسفيٍّ معمّق ومقارن بين آراء الفلاسفة القدامى والفلاسفة الجدد، وبدأ ببحث تحليل الذهن البشري ولم يوفّق لإتمامه ولا نعلم بمصير ما كتبه في ذلك، ولعلّه صودر من قبل البعث العميل الكافر ضمن ما صودر من كتبه وممتلكاته»[4]. وأعتقد أنّه لو صدر ذلك الكتاب ولو على نحو غير كامل، لكان له شأنٌ أعظم بكثير من كتاب «فلسفتنا» لأنّه يعبّر عن معاناة وتجارب لمدّة طويلة بين فترة صدور كتابه «فلسفتنا» والفترة التي شرع فيها بهذه البحوث الجديدة.

«فلسفتنا»:

كتاب «فلسفتنا» هو أشهر أثرٍ فلسفيٍّ خلّفه الإمام الصدر!،  فينبغي للباحث أن يتلمّس من خلال  مراجعته كتاب «فلسفتنا» الذوق والحسّ الفلسفيّ لدى السيّد الشهيد!، ومتانة براهينه وقوّة حججه واستدلالاته الفلسفيّة، مع ما لهذا الكتاب من قصّة تروي أيّام المعاناة والجهاد الفكري مع أشرس أعداء الإسلام، يوم امتدّ الغزو الأحمر ليسرق من العراق  والبلاد الإسلاميّة المجاورة تأريخها ومجدها وعقيدتها وفكرها الإسلامي، فتصدّى الإمام الشهيد! ليكتب فلسفة الإسلام في أقصر وقت، وفي ظروف عصيبة ملؤها الخوف والمطاردة، ليعيد للإسلام رونقه، وللرسالة زبرجها. ولم يعبأ بما يؤول إليه مصيره وحياته وكيانه وهو في مقتبل العمر ومطلع الشباب.

يقول السيّد محمّد باقر الحكيم: «ولا زلت أتذكّر أنّ كتاب «فلسفتنا» كان يطبع في مطبعة تطبع فيها جريدة شيوعيّة كان يشرف عليها مسؤول الحزب الشيوعي للفرات الأوسط «حسن عوينة» حيث كان الشرر يتطاير من أعينهم عندما كنت أراجع المسودّات في المطبعة»[5].

ويذكر السيّد «الحكيم» أنّهم كانوا يذهبون إلى المطبعة، وحرس الجمهوريّة يومذاك يملؤون الشوارع، وينكّلون بمن يعاديهم، فكانوا يخشون أن يأخذوا من أيديهم نسخ الكتاب[6]. في هذه الظروف صدر كتاب «فلسفتنا»، فكان انطلاقة جديدة لم تعهدها «النجف الأشرف» بهذا المستوى من العمق الفلسفي والتجديد المنهجي، مع شراسة الهجمة وضيق الوقت، فشمّر «الصدر» عن ساعديه لينجز كتاب فلسفة الإسلام بهذا الأسلوب في مدّة عشرة أشهر[7].

ودخل كتاب «فلسفتنا» ميدان الصراع الفكري، فتهاوت أمامه صروح الفلسفة الماديّة المتهاوية، فباتت على عروشها خاوية. وليس فيما أقول مبالغة، فقد اعترف بذلك أساتذة المعرفة والفلسفة.

* يقول الدكتور «أكرم زعيتر» «إنّني أعتقد أنّ الماديّة الديالكتيكيّة لم تجابه بمناقشات فلسفيّة واعية فاهمة ولم تقرع بردود علميّة من قبل كتّاب العرب المتفلسفين كما جوبهت وكما قرعت بهذا الكتاب ـ يقصد «فلسفتنا» ـ . أجل إنّه لم ينازلها منازلٌ عربيٌّ أو مسلمٌ عنيد حسب اطّلاعي مثل محمّد باقر الصدر»[8].

* ويقول الدكتور «سليمان دنيا» أستاذ الفلسفة بكليّة «أصول الدين» بجامعة «الأزهر» مخاطباً أحد علماء العراق[9] في مصر: «إنّني استفدت من كتاب «فلسفتنا» وطالعته أكثر من مرّة، فلو أنّك تقيم بمصر وتطبع هذا الكتاب فإنّي مستعدٌّ للقيام بتدريسه هنا على طلابي في الجامعة…»[10].

وكتب الدكتور «سليمان دنيا» مقدّمة لكتاب «الشيعة وفنون الإسلام» لآية الله السيّد حسن الصدر)، فيذكّر الدكتور «دنيا» في مقدّمته هذه بجهود الإمام الشهيد! وعبقريّته فيقول: «..وفي هذا المقام يحلو لي أن أشير إلى مفخرة من مفاخر المسلمين يحقّ أن نعتزّ بها ونفاخر، تلكم هي كتب السيّد «محمد باقر الصدر» التي ما أظنّ أنّ الزمن قد جاء بمثلها في مثل هذه الظروف التي وجدت فيها. لقد أنتجت عبقريّته الفذّة الكتب الآتية: «فلسفتنا» و«اقتصادنا». تلكم الكتب التي تعرض عقيدة الإسلام، ونظم معاملاته عرضاً تبدو إلى جانبه الآراء التي تشمخ بها أنوف الكفر والملاحدة من الغربيّين وأذنابهم ممّن ينتسبون إلى الإسلام وهو منهم براء، وكأنّهم فقاقيع قد طفت على سطح الماء ثم لم تلبث أن اختفت وكأنّها لم توجد»[11].

* ويقدّم أحد طلاب كليّة الآداب ـ قسم الفلسفة اقتراحاً بتقديم أطروحة عن الفكر الفلسفي عند السيّد الصدر، فيترامى ذلك إلى مسامع شيخ المتفلسفين العرب الدكتور الأستاذ «زكي نجيب محمود»، فيبادر الدكتور إلى كتابة توصية إلى الكليّة بقبول هذه الأطروحة معرّفاً بالبعد العلمي لشخصيّة الصدر! ، خصوصاً كتابه «فلسفتنا»[12].

وكتب أحد وزراء التربية السابقين في العراق[13] عن كتاب «فلسفتنا»:

«وأنا أشهد أنّ فلسفة الإسلام وعقيدته لم تشهد في عصرها الحاضر من أحسن جلائها، وجلا نورها على هذا الوجه الأمين الرزين الدقيق، الذي لم تفعل فيه العاطفة ولم يؤثّر فيه الشعور والانفعال الذاتي مثل محمّد باقر الصدر»[14].

* أمّا المرحوم الشيخ «محمّد جواد مغنيّة» فيقول: «…وبعد، فهل أتّهم بالمحاباة إذا قلت: إنّ المؤلّف ردّ لأهل العلم والدين كرامتهم ومكانتهم التي كانت لهم أيّام زمان؟ وهل أتّهم بالمغالاة إذا قلت إنّه فضح الماديّين ولم يبق لهم من باقية؟ وفي عقيدتي إنّ كتاب «فلسفتنا» لو ترجم إلى اللغات الأجنبيّة لكان له شأنٌ وأيُّ شأن . . . ولقال أهل الغرب والشرق: إنّ جامعة النجف أقوى خصم عرفه الماديّون على الإطلاق»[15].

والذي يميّز كتاب «فلسفتنا» عن غيره من الكتب الفلسفيّة ليس فقط في متانة الأفكار الفلسفيّة والآراء العلميّة والحجج الدامغة والاستدلالات الباهرة، بل في الطابع التجديدي الذي ارتداه كتاب «فلسفتنا»، فظهر في زيّ الأطروحات الفلسفيّة المعاصرة التي تنسجم مع الذوق الشعبي اليوم.

ولم يعرض السيّد الشهيد! عضلاته وقدراته الفلسفيّة، ولم يكن ناوياً ذلك، بل أراد مجابهة غزو فكريٍّ اقتحم دار الإسلام، وكان المسلمون عزّلاً من سلاح الفكر الفلسفي، فكتب السيّد الصدر كتابه «فلسفتنا» لطبقات المجتمع المسلم عموماً، بلغة سهلة وأسلوب جديد، فتسلّحت به جماهير الإسلام للذود عن رسالتها وعقيدتها، وبذلك كان الإمام الصدر! «أوّل من أنزل الفلسفة الإسلاميّة من برجها العاجي الذي احتكره أناسٌ مخصوصون معدودون، على الأقلّ في زماننا الحاضر في العالم الإسلامي وغير الإسلامي، في دنيا العروبة والعراق عامّة، وعلى صعيد الإماميّة بصورة خاصّة… نعم أنزلها وجعلها في متناول الطبقة المثقّفة من الناس وعلى مستوى العصر وبمستوى اهتماماته…»[16].

وحقّق كتاب «فلسفتنا» انتصاراً كبيراً على المستوى العلمي النظري وعلى المستوى العملي، فكان يمثّل انطلاقة جديدة في عالم الكتب الفلسفيّة بما تضمّنه من أفكار وآراء ونظريّات فلسفيّة متينة وأسلوب عصري جديد. ولكنّه بالإضافة إلى ذلك، لم يقبع في زوايا المكتبات كغيره من الكتب الفلسفيّة، بل اقتحم الحياة العلميّة فتلاقفه المسلمون في كلّ مكان، فهزمت أمامه جحافل الغزو الإلحادي ولم تقم لهم منذ ذاك قائمة.

ومن الطريف ما ينقله الشيخ «رفسنجاني» عن أيّام السجن في عهد الشاه، حين وصل الكتابان «فلسفتنا» و«اقتصادنا»، فعمّت الفرحة المؤمنين، بينما بدت على المنافقين[17] حالة الحقد والنفور، فلم يجرؤ أحدٌ منهم على أن يتصفّح الكتابين بسبب التحريم الذي صدر من قياداتهم[18].

نعم لقد حقّق كتاب «فلسفتنا» انتصاراً كبيراً في عالم الفلسفة، فأخرس خصومه عن الجواب والنقض على نظريّاته الفلسفيّة سوى اعتراضات هنا وهناك كان أولاها في حياة الإمام الشهيد الصدر! نشرت في مجلّة «الثقافة الجديدة[19]» فكتب الشهيد! جواباً على هذه الاعتراضات ثم دفعها إلى أحد طلابه فصاغها الأخير صياغة جديدة ونشر الجواب في نفس المجلّة باسم تلميذه المشار إليه[20].

موضوعات «فلسفتنا» ومنهجيّته:

أمّا موضوعات كتاب «فلسفتنا» ومنهجيّته[21]، فالكتاب ينقسم إلى بحثين، وضمن البحث الأول تناول السيّد) المواضيع التالية:

1ـ الاستدلال على المنطق العقلي القائل بصحّة الطريقة العقليّة في التفكير، وأنّ العقل بما يملك من معارف ضروريّة فوق التجربة هو المقياس الأوّل في التفكير البشري، ولا يمكن أن توجد فكرة فلسفيّة أو عمليّة دون إخضاعها لهذا المقياس العام، ويبرهن السيّد أنّه لا غنى للنظريّة التجريبيّة عن المنطق العقلي.

2ـ درس قيمة المعرفة البشريّة بالتدليل على أنّ المعرفة إنّما يمكن التسليم لها بقيمة على أساس أنّ المنطق العقلي لا المنطق الديالكتيكي الذي يعجز عن إيجاد قيمة صحيحة للمعرفة.

وقد تناول السيّد في البحث الثاني من هذا الكتاب المسائل التالية متسلسلة في خمس حلقات هي:

1ـ المفاهيم الفلسفيّة المتصارعة في الميدان.

2ـ الديالكتيك كما رسمه «هيگل» و«ماركس».

3ـ مبدأ العليّة وقوانينها.

4 ـ المادة أو «الله»: وفيها صياغة للمفهوم الإسلامي الإلهي للعالم في ضوء القوانين الفلسفيّة وفي ضوء مختلف العلوم الطبيعيّة والإنسانيّة.

5ـ مشكلة الإدراك التي تمثّل حقلاً فلسفيّاً مهمّاً للصراع بين الفلسفة الماديّة والميتافيزيقيّة على ضوء مختلف العلوم ذات العلاقة بالموضوع، من طبيعيّة وفسيولوجية وسيكولوجية.

معالم مدرسته الفلسفيّة:

ليس في النيّة أن اكتب عن مظاهر العبقريّة الفلسفيّة في فكر الإمام الشهيد!  الفلسفي، وإنّما أتلمّس ذلك وعلى استحياء، لأنّ ذلك من اهتمامات أساتذة الفلسفة ومن مسؤوليّاتهم.

يقوم الأستاذ «معاذ حسن»: «يعتمد الشهيد الرابع في محاكماته الفلسفيّة أسلوب الحسم الذي يوفّر على الدارس الجهد والوقت في تتبّع جزئيّات المدارس الفلسفيّة وتفصيلاتها. إنّه) يتناول القاعدة الرئيسيّة في المذاهب ويسلّط عليها معاول نقده الصارم، ومن البديهيّ أنّ نسف القاعدة يؤدّي إلى انهيار الصرح القائم عليها»[22].

ويعتبر أسلوب الحسم من مظاهر عبقريّة السيّد الشهيد! وأبرز معالم مدرسته الفلسفيّة، ويعتمده الشهيد! في كثير من مناقشاته الفلسفيّة ليسدّ الطريق على خصومه دون إطناب.

فمن مفردات ومصاديق هذا الأسلوب مناقشته للقاعدة الأساسيّة في المذهب التجريبي القائلة «التجربة هي المقياس الأساس لتمييز الحقيقة»، فيقول الشهيد!: «…وبكلمة أخرى: إنّ القاعدة المذكورة التي هي ركيزة المذهب التجريبي إن كانت خطأً سقط المذهب التجريبي بانهيار قاعدته الرئيسيّة، وإن كانت صواباً صحّ لنا أن نتساءل عن السبب الذي جعل التجريبيّين يؤمنون بصواب هذه القاعدة، فإن كانوا قد تأكّدوا من صوابها بلا تجربة، فهذا يعني أنّها قضيّة بديهيّة وأنّ الإنسان يملك حقائق وراء عالم التجربة، وإن كانوا تأكّدوا من صوابها بتجربة سابقة، فهو أمرٌ مستحيل لأنّ التجربة لا تؤكّد قيمة نفسها»[23].

ومن مفردات ذلك أيضاً اعتراضاته! على الماركسيّة وما تدّعيه من اكتشاف قانون الحركة، وأنّ الحقيقة تتغيّر طبقاً لقانون الديالكتيك والذي اعتبرته الماركسيّة النقطة المركزيّة في نظريّتهم الجديدة، فيتصدّى الشهيد! إلى هدم نظريّتهم على ضوء ما قرّروه أنفسهم فيقول: «وليس تحمّس المدرسة الماركسيّة لإخضاع الحقيقة لقانون الحركة والتطوّر إلا لأجل القضاء على الحقائق المطلقة التي تؤمن بها الفلسفة الميتافيزقيّة، وقد فاتها أنّها تقضي على مذهبها بالحماس لهذا القانون، لأنّ الحركة إذا كانت قانوناً عاماً للحقائق، فسوف يتعذّر إثبات أيّة حقيقة مطلقة، وبالتالي يسقط قانون الحركة بالذات عن كونه حقيقة مطلقة.

فمن الطريف أنّ الماركسيّة تؤكّد على حركة الحقيقة وتغيّرها طبقاً لقانون الديالكتيك، وتعتبر أنّ هذا الكشف هو النقطة المركزيّة لنظريّتهم في المعرفة، وتتغافل عن أنّ هذا الكشف بنفسه حقيقة من تلك الحقائق التي آمنوا بحركتها وتغيّرها. فإذا كانت هذه الحقيقة تتحرّك وتتغيّر كما تتحرّك سائر الحقائق بالطريقة الديالكتيكيّة، فهي تحتوي على تناقض سوف ينحلّ بتطوّرها وتغيّرها كما يحتّم ذلك الديالكتيك. وإذا كانت هذه الحقيقة مطلقة لا تتحرك، كفى ذلك ردّاً على تعميم قوانين الديالكتيك والحركة للحقائق والمعارف وبرهاناً على أنّ الحقيقة لا تخضع لأصول الحركة الديالكتيكيّة. فالديالكتيك الذي يراد إجراؤه على الحقائق والمعارف البشريّة ينطوي على تناقض فاضح وحكم صريح بإعدام نفسه على كلا الحالين، فهو إذا اعتبر الحقيقة مطلقة انتقضت قواعده، وتجلّى أنّ الحركة الديالكتيكيّة لا تسيطر على دنيا الحقائق لأنّها لو كانت تسيطر عليها لما وجدت حقيقة مطلقة، ولو كانت هذه الحقيقة هي الديالكتيك نفسه. وإذا اعتبر حقيقة نسبيّة خاضعة للتطوّر والحركة بمقتضى تناقضاتها الداخليّة، فسوف تتغيّر هذه الحقيقة ويزول المنطق الديالكتيكي ويصبح نقيضه حقيقة قائمة»[24].

ويؤكّد الإمام الشهيد![25] أنّ الفلاسفة الإسلاميّين سبقوا غيرهم في اكتشاف قانون الحركة، وأنّ الماركسيّة لم تكن هي التي اكتشفته، بل أضافت له الطابع الديالكتيكي لقانون الحركة الذي أوقعهم في الحيرة لأنّه يعدم نفسه، وبذلك يكون اكتشاف قانون الحركة قد تمّ على يد فلاسفة الإسلام، ومن ذلك مساهمة الفيلسوف الإسلامي الكبير «صدر الدين الشيرازي» في نظريّته «الحركة العامة» وما وصل إليه من نظريّة «الحركة الجوهريّة».

نعم، لقد عمد السيّد الشهيد! إلى استخلاص حكم الإعدام على قانون الحركة الديالكتيكي من الطابع الديالكتيكي لقانون الحركة الذي تؤمن به الماركسيّة، دون أن يتعب الشهيد! نفسه ويورّط قرّاءه بمتاهات المناقشة الفلسفيّة. وهذا ما نجده أيضاً في مناقشته مذهب السلوكيّة ونظريّة «فرويد» و«المادية التاريخيّة»، فإنّ الشهيد! ينتزع من هذه النظريّات اعترافاً بانهيارها وحكماً بإعدام نفسها، لأنّ مذهب السلوكيّة لا يرى الفكر إلا حالة ماديّة تحدث في جسم المفكّر، وترى نظريّة «فرويد» أنّ القوى اللاشعوريّة هي القاعدة الأساس، وتربط الماديّة التاريخيّة الفكر بعامل الاقتصاد.

فإذا كانت هذه النظريّات تدمّر نفسها بنفسها، فلماذا نتيه بمناقشتها؟ ولذلك يكتفي الشهيد! بهدم  القواعد الأساسيّة التي تقوم عليها هذه النظريّات ليجعلها هشيماً.

ففي معرض مناقشته لمذهب السلوكيّة يقول!: «فالنظريّة السلوكيةّ تصوّر الفكر باعتباره حالة ماديّة تحدث في جسم المفكّر بأسباب ماديّة كما تحدث حالة ضغط الدم فيه، ولأجل ذلك تنتهي بتجريده من قيمه الموضوعيّة. غير أنّ هذه النظرية ليست هي من وجهة نظر السلوكيّة نفسها إلا حالة خاصّة حدثت في أجسام أصحاب النظريّة أنفسهم ولا تعبّر عن شيء سوى ذلك»([26]).

ويجيب على نظريّة «فرويد» و«الماديّة التاريخيّة»: «كما أنّ نظريّة «فرويد» جزءٌ من حياته العقليّة الشعوريّة، فإذا صحّ أنّ الشعور تعبيرٌ محرّفٌ عن القوى اللاشعوريّة ونتيجة محتومة لتحكّم تلك القوى في سيكولوجيّة الإنسان، فسوف تفقد نظريّة «فرويد» قيمتها لأنّها في هذا الضوء ليست أداة للتعبير عن الحقيقة، وإنّما هي تعبير عن شهواته وغرائزه المخبوءة في اللاشعور. وقُلِ الشيءَ نفسَه عن الماديّة التاريخيّة التي تربط الفكر بالوضع الاقتصادي، وبالتالي تجعل من نفسها نتيجة لوضع اقتصادي معيّن عاشه «ماركس» وانعكس في ذهنه معبّراً عن متطلّباته في مفاهيم الماديّة التاريخيّة، ويصبح من المحتوم على الماديّة التاريخيّة أن تتغيّر وفقاً لتغيّر الوضع الاقتصادي»[27].

ويبدو أسلوب الحسم واضحاً جليّاً في مناقشات السيّد الشهيد!، وتنتشر مفرداته بين دفّتي الكتاب بشكل واسع ليكون مظهراً من مظاهر عبقريّة الشهيد الفلسفيّة وإبداعه، فإنّه يتناول القواعد الرئيسيّة في نظريّات الخصوم ليحوّلها إلى حطام، يتبع ذلك انهيار النظريّات هذه التي تمثّل تلك القواعد منها اللبنات الأساسيّة في بنائها وكيانها.

مرّ معنا قبل قليل أنّ السيّد الشهيد! يرى أسبقيّة الميتافيزيقيّة في ميدان اكتشاف قانون الحركة، ولكنّ هذا يبدو متناقضاً مع قوله! :«إنّ الحقيقة لا يمكن أن تتطوّر وتنمو وأن تكون محدودة في كلّ مرحلة من مراحل تطوّرها بحدود تلك المرحلة الخاصّة، بل لا تخرج الفكرة ـ كلّ فكرة ـ عن أحد أمرين: فهي إمّا حقيقة مطلقة، وإمّا خطأ»[28].

يبدو هذا لأوّل وهلة تناقضاً، لكنّ السيّد الشهيد! يعتمد أسلوباً جديداً هو أسلوب التحليل، ويأمل الشهيد! من قرّائه أن يعيروه أذهانهم لسماع برهانه ولا يكونوا كالماركسيّين جرياً على عادتهم في اتّهام الميتافيزيقيّة بالجمود والسكون في تفسيرهم للطبيعة. ويطمئن القارئ بحقيقة هي أنّ الإيمان بالحقيقة المطلقة ورفض تغيّرها لا يعني جمود الطبيعة، بل إنّ الميتافيزيقيّين يرون أنّ التطوّر قانون عام في عالم الطبيعة، والدليل كما يقدّمه الشهيد! معتمداً أسلوب التحليل هذه المرّة:

يقول الفيلسوف الشهيد! :«ولنفرض ـ لإيضاح ذلك ـ أنّ سبباً معيّناً جعل الحرارة تشتدّ في ماء خاص، فحرارة هذا الماء بالفعل في حركة مستمرّة وتطوّر تدريجي، ومعنى ذلك أنّ كلّ درجة من الحرارة يبلغها الماء فهي درجة مؤقّتة، وسوف يعبرها الماء بصعود حرارته إلى درجة أكبر. فليس للماء في هذا الحال درجة حرارة مطلقة. هذا هو حال الواقع الموضوعي القائم في الخارج، فإذا قسنا حرارته في لحظة معيّنة فكانت الحرارة فيه حال تأثّر المقياس بها قد بلغت «90» ـ مثلاً ـ فقد حصلنا على حقيقة عن طريق التجربة، وهذه الحقيقة هي أنّ درجة الماء في تلك اللحظة المعينة كانت «90»، وإنّما نقول عنها إنّها حقيقة لأنّها فكرة تأكّدنا من مطابقتها للواقع، أي لواقع الحرارة في لحظة خاصّة.

ومن الطبيعي أنّ حرارة الماء سوف لا تقف عند هذه الدرجة، بل إنّها سوف تتصاعد حتى تبلغ درجة الغليان، ولكنّ الحقيقة التي اكتسبناها هي [أنّ] الحقيقة لم تتغيّر، بمعنى أنّا متى لاحظنا تلك اللحظة الخاصة التي قسنا حرارة الماء فيها تحكم ـ بكلّ تأكيد ـ بأنّ حرارة الماء كانت بدرجة «90»،  فدرجة «90» من الحرارة التي بلغها الماء وإن كانت درجة مؤقّتة بلحظة خاصّة من الزمان وسرعان ما اجتازتها الحرارة إلى درجة اكبر منها، إلا أنّ الفكرة التي حصلت لنا بالتجربة ـ وهي أنّ الحرارة في لحظه معيّنة كانت في درجة «90» ـ فكرة صحيحة وحقيقة مطلقة، ولذا نستطيع أن نؤكّد صدقها دائماً. ولا نعني بالتأكيد على صدقها بصورة دائمة أنّ درجة «90» كانت هي الدرجة الثابتة لحرارة الماء على طول الخطّ، فإنّ الحقيقة التي اكتسبناها بالتجربة لا تتناول حرارة الماء إلا في لحظة معيّنة، فحين نصفها بأنّها حقيقة مطلقة وليست مؤقّتة نريد بذلك أنّ الحرارة في تلك اللحظة المعيّنة قد تعيّنت في درجة «90» بشكل نهائي، فالماء وإن جاز أن تبلغ حرارته درجة «100» مثلاً عقيب تلك اللحظة، ولكن من غير الجائز أن يعود  ما عرفناه من درجة الحرارة عن تلك اللحظة الخاصّة خطأ بعد أن كان حقيقة»[29].

إنّ الشهيد! يفوّت الفرصة على خصومه في اتهام الميتافيزيقيّين بالجمود، وذلك باعتماد أسلوب التحليل للكشف عن مغالطات خصومه.

وقد كشف الشهيد! عن الخلط الذي وقعت به الماركسيّة الذي تمثّل في الخلط بين إنكارها للواقع الموضوعي الثابت غير المتغيّر وإنكارها للحقائق المطلقة بمعنى الفكرة، واستهدفت من خلال ذلك نفي الواقع الموضوعي. يقول الشهيد! لبيان ذلك الخلط :«…إنّ الماركسيّة وقعت في خلط أساسي بين الحقيقة بمعنى الفكرة والحقيقة بمعنى الواقع الموضوعي المستقلّ. فالميتافيزيقا تعتقد بوجود حقيقة مطلقة بالمعنى الثاني، فهي تؤمن بواقع موضوعي ثابت وراء حدود الطبيعة، ولا يتنافى هذا مع عدم ثبات الحقيقة بالمعنى الأوّل وتطوّرها المستمرّ. فهب أنّ الحقيقة في ذهن الإنسان متطوّرة ومتحرّكة أبداً ودائماً، فأيّ ضرر يلحق من ذلك  بالمواقع الميتافيزيقي المطلق الذي تعتقد به الإلهيّة ما دمنا نقبل إمكان وجود واقع موضوعي مستقلّ عن الشعور والإدراك؟ وإنّما يتمّ للماركسيّة ما تريد إذا أخذنا بالفلسفة المثاليّة وقلنا: إنّ الواقع هو الحقيقة الموجودة في ذهننا فحسب، فإذا كانت الحقيقة في فكرنا متطوّرة ومتغيّرة فلا متّسع للإيمان بواقع مطلق. وأمّا إذا فرّقنا بين الفكرة والواقع، وآمنا بإمكان وجود واقع بصورة مستقلّة عن الوعي والتفكير، فلا ضير في أن يوجد واقعٌ مطلق خارج حدود الإدراك وأن توجد حقيقة مطلقة في أفكارنا»[30].

ويتمتّع الفيلسوف الشهيد! بقدرته الفائقة في تحليل المغالطات والمحاولات التي يقوم بها بعض أنصار المذاهب الفلسفيّة للدفاع عن نظريّاتهم، فيقوم الشهيد! بتحليل هذه المغالطات بشكل يكشف زيفها وطابع الخلط فيها، وهذا يدلّ على الدقّة العلميّة والمتابعة والتحقيق الفلسفي بحيث لا تمرّ هذه المغالطات وتفلت من الحاجز الذي وضعه الشهيد! ليمنع من عبور الزائف منها.

ومن مفردات ذلك محاولة الدكتور «نوري جعفر» والتي حاول فيها إثبات أنّ جميع القوانين العلميّة نسبيّة حتّى الرياضيّات التي تبدو بديهيّة، فهي بنظره يمكن أن تتغيّر، فجمع «2+2» لا يساوي دائماً أربعة كما يقول. ويحاول أن يستدلّ على ذلك بمثال هو: «إذا جمعنا حجمين من الكحول مع حجمين من الماء فالنتيجة تكون أقلّ من أربعة حجوم ممزوجة، وسبب ذلك راجعٌ إلى أنّ السائلين تختلف جزئيّات أحدهما في شدّة تماسكها عن الآخر فينفد عن المزج جزئيّات السائل الأكثر تماسكاً (الماء) من بين الفراغات النسبيّة الموجودة بين جزئيّات الكحول، وتكون النتيجة متشابهة لخلط مقدار من البرتقال مع مقدار من الرقي[31] حيث ينفذ قسمٌ من البرتقال من بين الفراغات الموجودة في الرقي. وحاصل جمع كالون من الماء مع كالون من حامض الكبريتيك انفجارٌ مرعب، على أنّ ذلك الجمع إذا تمّ بدقّة علميّة وبشكل يتفادى حدوث الانفجار، فإنّ النتيجة مع هذا تكون أقلّ من كالونين من المزيج. ويكون حاصل جمع «2+ 2» =«2» أحياناً أخرى، فإذا خلطنا غازين درجة حرارة كلٍّ منهما درجتان مئويّتان، فإنّ درجة حرارة الخليط تبقى درجتين»[32].

هذه المحاولة لو نجحت، تثبت أنّ القوانين نسبيّة وليس فيها ما هو حقيقة مطلقة. وقد تصدّى السيّد الشهيد! إلى الكشف عن المغالطة في الاستدلال عليها، فيقول مجيباً على كلّ واحد من هذه الأمثلة التي قدّمها الدكتور «نوري جعفر»: «وهذا النصّ يعرض لنا ثلاث عمليّات رياضيّة:

(أ): إنّ حجمين من الكحول إذا جمعناهما مع حجمين من الماء فالنتيجة تكون أقلّ من «4» حجوم. وهذه العمليّة تنطوي على مغالطة، وهي أنّنا في الحقيقة لم نجمع بين حجمين وحجمين، وإنّما خسرنا شيئاً في الجمع فظهرت الخسارة في النتيجة، ذلك أنّ حجم الكحول لم يكن متقوّماً بالجزئيّات فحسب، وإنّما يتقوّم بالجزئيّات والفراغ النسبي القائم بينها، فإذا أحضرنا حجمين من الكحول كان هذان الحجمان يعبّران عن جزئيّات وفراغ بينهما، لا عن الجزئيّات فحسب. وحين يلقى على الكحول حجمان من الماء وتتسلّل جزئيّات الماء إلى الفراغ النسبي القائم بين جزئيّات الكحول فتشغله، نكون قد فقدنا هذا الفراغ النسبي الذي كان له نصيب من حجم الكحول. فلم نجمع إذن بين حجمين من الكحول وحجمين من الماء، وإنّما جمعنا بين حجمين من الماء وجزئيّات حجمين من الكحول. وأمّا الفراغ النسبي فيها فقد سقط من الحساب. وهكذا يتّضح أنّا إذا أردنا أن ندقّق في صوغ العمليّة الرياضيّة نقول: إنّ جمع حجمين كاملين من الماء مع حجمين من الكحول باستثناء الفراغ المتخلّل بين جزئيّاته يساوي أربعة حجوم باستثناء ذلك الفراغ نفسه.

وليست قصّة هذه الحجوم إلا كآلاف النظائر والأمثلة الطبيعيّة التي يشاهدها كلّ الناس في حياتهم الاعتياديّة. فماذا نقول في جسم قطنيّ ارتفاعه متر وقطعة من حديد ارتفاعها متر أيضاً؟ لو وضعنا أحد الجسمين على الآخر فهل ينتج من ذلك ارتفاع مترين؟ وفي تراب ارتفاعه متر وماء ارتفاعه متر ثم ألقينا الماء على التراب فهل نجني من ذلك ارتفاعاً مضاعفاً؟ طبعاً لا، فهل من الجائز أن نعتبر ذلك دليلاً على تفنيد البديهيّات الرياضيّة؟!

ب: إنّ جمع كالون من الماء مع كالون من حامض الكبريتيك لا ينتج كالونين، وإنّما يحصل من ذلك انفجارٌ مرعب. وهذا أيضاً لا يتعارض مع البديهيّة الرياضيّة في جمع الأعداد، ذلك أنّ (1+1) إنما يساوي اثنين إذا لم يعدم أحدهما أو كلاهما حال الجمع أو المزج، وإلا لم يحصل جمعٌ بين واحد وواحد بمعناه الحقيقي. ففي هذا المثال لم تكن الوحدتان ـ الكالونان ـ موجودتين حين إتمام عمليّة الجمع لتنتج اثنين.

ج: إنّ جمع غازين درجة حرارة كلّ منهما درجتان مئويّتان ينتج حرارة الخليط بنفس تلك الدرجة أيضاً من دون مضاعف، وهذا لونٌ آخر من التمويه لأنّ العمليّة إنّما جمعت غازين وخلطت بينهما لا أنّها جمعت بين درجتي الحرارة، وإنّما يجمع بين الدرجتين لو ضوعفت الدرجة في موضوعها فنحن لم نضف حرارة على حرارة لنترقب حدوث درجة أضخم للحرارة وإنّما أضفنا حارّاً إلى حارّ وخلطنا بينهما»[33].

ويبطل السيّد الشهيد! مغالطات الماركسيّة ومحاولاتها في استغلال نظريّة «داروين» لإضفاء الطابع العلمي على نظريّات الماركسيّة. فاعتبروا نظريّة «داروين» انتصاراً لقوانين الديالكتيك، فتصدّى السيّد الشهيد! لإبراز جوهر التناقض بينهما، الأمر الذي لا يحقّ بعده للماركسيّة أن تتشبّث بهذه النظريّة. وأوضح! أنّ التنازع من أجل البقاء ليس ديالكتيكيّاً، ذلك لأنّه لا يسفر عن توحّد الأضداد في مركّب أرقى وإنّما يؤدّي إلى إفناء أحد الضدّين والاحتفاظ بآخر، فهو يزيل الضعاف من أفراد النوع إزالة نهائيّة ويبقى الأقوياء، فأين المركّب الجديد الذي يتركّب ويتوحّد فيه الضعاف والأقوياء؟

ويؤكّد السيّد الشهيد! أنّ التناقض بين الأقوياء والضعفاء والأقوياء ويؤكّد السيّد الشهيد! أنّ التناقض بين الأقوياء والضعفاء ليس مردّه [إلى] التناقض الداخلي، وإنّما هو نتيجة لعوامل خارجيّة كالبيئة والمحيط التي ميّزت الأقوياء وأمدّتهم بعناصر القوّة[34].

ومن هذا القبيل أيضاً ما قام به الفيلسوف الشهيد! في الكشف عن المغالطة في محاولة الفيلسوف العربي الكبير «زكي نجيب محمود» في محاولته لتركيز الاعتراض على الاستدلال القياسي الذي يدّعي التجريبيّون عدم فائدته، وأنّه لا يؤدّي إلى معرفة جديدة[35].

ومن معالم مدرسة الشهيد! الفلسفيّة الإبداع الذي يعتبر مظهراً عاماً في مدرسة الشهيد الشموليّة، فهو يتمتّع بقدرة هائلة وإمكانيّات ضخمة في إضافة طروحات جديدة ومعارف ونظريّات مبتكرة يزوّد بها المسيرة الحضاريّة للإنسان. وهو كما رأينا في المجالات التي ذكرناها يبتكر نظريّات لم تعرفها المجالات هذه. كذلك هو في عالم الفلسفة، فإنّه درس وبحث في الفلسفة الإسلاميّة والفلسفة القديمة على العموم، ولكنّه لم يؤلّه هذه الفلسفة لتحول دون إبداعاته، فقفز بالفلسفة قفزة انقلابيّة عميقة، وذلك فيما قدّمه في كتابه «الأسس المنطقيّة للاستقراء»، إذ جاء بإبداعٍ منطقيٍّ فسّر به الاستقراء تفسيراً جديداً يختلف فيه عن الفلسفة العقليّة المتمثّلة بـ«أرسطو»، ويختلف عن الفلسفة التجريبيّة المتمثّلة في «برتراند رسل»[36].

محمد حسيني

[1] الشهيد الصدر رائد الثورة الإسلامية في العراق، الأستاذ غالب حسن: 8.

[2] مع الشهيد الصدر محقّقاً، السيّد حسن النوري، مجلّة الحوار، العدد 28ـ 29 : 54.

[3] مقدمة مباحث الأصول: 63.

[4] الشهيد الصدر.. سنوات المحنة وأيام الحصار : 57. يقول السيّد محمود الهاشمي :«ومن أنفس ما كان ضمن تلك الكتابات دراسةٌ حديثة تفصيليّة عن الفلسفة الإسلاميّة المعمّقة مقارناً مع أدقّ وأحدث نظريّات الفكر الفلسفي القديم والمعاصر كان قد شرع في تحريرها في ضوء منطق الاستقراء الذي أسّس مناهجه و قواعده». (بحوث في علم الأصول 6: 6). (م)

[5] في حديث للسيّد محمد باقر الحكيم) في مجلة الجهاد العدد/ 14 /2جمادي الآخرة/ 1401هـ

[6] المصدر السابق.

[7] مباحث الأصول: 62.

[8] مجلة الأضواء الإسلاميّة، العدد الأوّل: 15 ذي الحجة 1379هـ ، نقلاً عن صحيفة «الحياة» البيروتيّة، العدد 4294، 23/4/1960م.

[9] هو السيّد مرتضى الرضوي. (م)

[10] مع رجال الفكر في القاهرة: 158.

[11] مع رجال الفكر في القاهرة: 163. كتب الدكتور «دنيا» هذه المقدّمة سنة 1967م.

[12] جريدة لواء الصدر، العدد 295، 9 شعبان 1407هـ : 7 ، حديث مع الشيخ أبي ذر «خالد».

[13] هو الدكتور أحمد عبد الستّار الجواري. (م)

[14] مع الشهيد الصدر محققاً، السيّد نوري، مجلة الحوار، العدد 30 ـ 31 : 131.

[15] مع علماء النجف الأشرف، الشيخ محمّد جواد مغنيّة : 138.

[16] انظر في هذا المجلّد «الشهيد الصدر الفيلسوف الفقيه» للشيخ عبد الحسين البقال: .

[17] أطلق مصطلح «المنافقين» في إيران على «حركة مجاهدين خلق»، وهي حركة منافقة تتبنى الماركسيّة الإسلاميّة حسب ما يدّعون. وقد ناهضت بعد قيام الثورة النظام الإسلامي وقامت بعدة اغتيالات وتفجيرات في إيران ضدّ القيادات الإسلاميّة والشعب الإيراني المسلم .

[18] جريدة الجهاد، العدد 80، جمادي الآخرة 1403هـ : 10.

[19] بل مجلّة «الثقافة» التي يرأس تحريرها «صلاح الخالص»، والاعتراض الأوّل كان لمهدي النجّار عام 1973م، والثاني لماجد رحيم عام 1983م. (م)

[20] هذا ما نقله لي تلميذ الشهيد الصدر) ذاته. اهـ

أقول: هو السيّد عمّار أبو رغيف، وقد سمعت ذلك منه أيضاً، وأضاف أنّه استلم جواب السيّد الشهيد! بيد السيّد الهاشمي، الذي سلّمه أيضاً مقال «ماجد رحيم» عام 1983م، والذي ردّ عليه السيّد أبو رغيف كذلك تحت العنوان نفسه، وقد نشرنا مناقشتي «النجّار» و«رحيم» وجوابي السيّد أبو رغيف في هذا المجلّد.(م)

[21] الشاهد الشهيد: 16.

[22] العبقريّة الفلسفيّة عند الشهيد الصدر، الأستاذ معاذ حسن، مجلّة الجهاد، العدد 16: 22. (م)

[23] فلسفتنا: 76.

[24] فلسفتنا: 194 ـ 195.

[25] راجع فلسفتنا: 233.

[26] فلسفتنا: 161.

[27] فلسفتنا: 162.

[28] فلسفتنا: 192.

[29] فلسفتنا: 192 ـ 193.

[30] فلسفتنا: 253.

[31] الرقي هو البطيخ. (م)

[32] راجع فلسفتنا: 197، الهامش. (م)

[33] فلسفتنا: 197.

[34] فلسفتنا: 300.7

[35] فلسفتنا: 84.

[36] من مقال «العبقرية الفلسفية عند الشهيد الصدر، معاذ حسن، مجلّة الجهاد، العدد 16: 28.