اشتمل العدد الأوّل من السنة الثالثة لمجلّة «الثقافة» على مقال يحمل اسم «مهدي النجّار» حول كتاب «فلسفتنا»، حاول فيه الكاتب أن يناقش الكتاب، فبدأ بـ«التمهيد» الذي افتتح به كتاب «فلسفتنا» بحثه، ثمّ علّق على «نظريّة المعرفة». وبعد ذلك على «المفهوم الفلسفي للعالم».
ونودّ فيما يلي تلخيص مناقشات الكتاب وتسجيل ملاحظاتنا عليها وذلك في ضوء معطيات كتاب «فلسفتنا».
البحث الأوّل:
التمهيد:
استهلّ كتاب «فلسفتنا» في التمهيد حديثه باستعراض المذاهب الاجتماعيّة التي تسود الذهنيّة الإنسانيّة العامّة، اليوم فذكر[1] أربعة مذاهب وهي:
1ـ النظام الديمقراطي الرأسمالي.
2ـ النظام الاشتراكي.
3ـ النظام الشيوعي.
4ـ النظام الإسلامي.
وقد لاحظ كاتب المقال بهذا الصدد أنّ اصطلاح «نظام» يرافق دائماً «الاقتصاد»، فإذا كان كتاب «فلسفتنا» يريد النظام مفهوماً مثاليّاً للكلمة، فلا يجوز حصره ـ أي النظام ـ بالأنظمة الأربعة، فهناك نظامٌ مسيحي، ونظامٌ يهودي، ونظام بوذي..إلخ[2].
إنّ النظام يعبّر عن منهج شامل للحياة، وبهذا كان لا بدّ أن يستوعب الجانب الاقتصادي من حياة الإنسان. ولمّا كانت التعاليم المسيحيّة واليهوديّة والبوذيّة بالقدر الموجود فعلاً في الذهنيّة البشريّة لا تحتوي على منهج شامل للحياة، خلافاً للإسلام الذي يحتوي على نظام من هذا القبيل فعلاً كما برهن على ذلك كتاب «اقتصادنا»، كان من الطبيعي لكتاب «فلسفتنا» أن يهمل الأنظمة الدينيّة الأخرى التي أبرزها «مهدي النجّار»، ولا يذكرها على مستوى الأنظمة الأربعة التي ركّز حديثه عليها.
ونعى بعد ذلك «مهدي النجّار» على الإسلام تجربته الرائعة ـ على حدّ تعبير «فلسفتنا» ـ وشجبها، وتساءل: هل يقصد بالتجربة الرافعة النظام السعودي مثلاً؟[3].
وكأنّه لم يقرأ ما جاء في كتاب «فلسفتنا» نفسه جواباً على هذا السؤال، إذ يقول:
«إنّ النظام الإسلامي مرَّ بتجربة من أروع تجارب النظم الاجتماعيّة وأنجحها، ثم عصفت به العواصف بعد أن خلا الميدان من القادة المبدئيّين أو كاد، وبقيت في حدود أناس لم يتّضح الإسلام في نفوسهم، ولم يملأ أرواحهم بروحه وجوهره، فعجزت عن الصمود والبقاء، فتقوّض الكيان الإسلامي»[4].
فالتجربة الرائعة هي التطبيق الواعي الذي مارسه النبي- والجيل الأوّل من المسلمين، وقد اعترف صاحب المقال بإيجابيّة هذا التطبيق. وليس ما وقع بعد ذلك إلا انحرافاً عن المسيرة الحقّة للتجربة، وتحويلاً لها من وجهتها الإسلاميّة، وليس استمراراً في تجسيد التجربة.
وقد حاول «النجّار» بعد ذلك أن يتّهم السيّد «الصدر» بالخلط بين الفلسفة اللاهوتيّة والفلسفة الدينيّة الوحيويّة، وتساءل بعد ذلك: ما علاقة ابن الرشد ـ امتداد أرسطو ـ والفلسفة القديمة بالفلسفة الدينيّة الإسلاميّة؟
وكأنّه يريد بذلك أن يؤاخذ كتاب «فلسفتنا» على ما يشتمل عليه من آراء وبحوث فلسفيّة تمثّل نماذج فكريّة لفلاسفة أرسطيّين لا صلة لهم بالإسلام!!!
ومرّة أخرى: لو استوعب «مهدي النجّار» نصّ «فلسفتنا»، لعرف أنّ الكتاب لم يخلط، بل ميّز تمييزاً واضحاً إذ جاء فيه:
«ويحسن بالقارئ العزيز أن يعرف قبل البدء أنّ المستفاد من الإسلام بالصميم إنّما هو الطريقة والمفهوم، أي الطريقة العقليّة في التفكير والمفهوم الإلهي للعالم. وأمّا أساليب الاستدلال وألوان البرهنة على هذا أو ذاك، فلسنا نضيفها جميعاً إلى الإسلام، وإنّما هي حصيلة دراسات فكريّة لكبار المفكّرين من علماء المسلمين وفلاسفتهم»[5].
فلا خلط إذن بين الفلسفة الدينيّة والفلسفة اللاهوتيّة على حدّ تعبير «مهدي النجّار». بل لا توجد لدينا فلسفة دينيّة بالمعنى الذي يعرفه الفلاسفة من أساليب البحث في تربية الإنسان، ويرتكز هذا المنهج والطريقة على مبادئ، وكتاب «فلسفتنا» هو الإثبات الفلسفي لتلك المبادئ. وهكذا نعرف أنّ المبادئ المقرّرة في الكتاب دينيّة، وأنّ طريقة إثباتها لبشريّة.
البحث الثاني
نظريّة المعرفة:
1ـ أوّلاً: يبدأ «مهدي النجّار» فيستعرض المذهب العقلي كما وضّحه كتاب «فلسفتنا»، وتقسيمه إلى معارف ضروريّة وأخرى نظريّة.
ثمّ يحاول أن يعترض على ذلك مدّعياً أنّ «الصدر» نسي طائفة ثالثة للمعرفة في الفلسفة الإسلاميّة وهي: الوحي والاستشراق الذي يعتبر أساساً لكثير من المعارف من وجهة نظر دينيّة[6].
والحقيقة أنّ الوحي إذا نظرنا إليه من زاوية الشخص الموحى إليه، فهو معرفة ضروريّة على مستوى الحسّ، وإذا نظرنا إليه من زاوية غير الموحى إليه من الأشخاص المؤمنين به فهو معرفة نظريّة تقوم على أساس الاستدلال والاستنتاج، لأنّ غير النبي يثبت النبوة والوحي وما يرتكز عليها من حقائق بالدليل، وبذلك معرفته نظريّة. وهناك فرقٌ بين الوحي والإشراق يجدر الإشارة إليه: إذ إنّ الإشراق هو عمليّة الارتفاع إلى مستوى الكشف والاتّحاد مع المعارف والحقائق. أمّا الوحي، فهو تلقّي المعرفة بصورة موضوعيّة من خارج.
فلا موضع لجعل الوحي قسماً ثالثاً إلى جانب المعارف الأوّليّة والمعارف النظريّة.
2ـ ثانياً: يحاول «مهدي النجّار» بعد ذلك أن يفسّر موقف الماركسيّة من البديهيّات المجرّدة فيقول:
«إنّ الماركسية إذ نؤكّد بأنّ الناس لا يمكنهم أن يحصلوا على المعارف إلاّ من خلال تعلّمهم وتربيتهم، تجاربهم وإحساساتهم، أي في وسط محيطهم الاجتماعي، فهي لا تنكر وجود البديهيّات المجرّدة (الواحد نصف الاثنين). وهذه المعارف مستقلّة عن التجربة المخصوصة لكلّ فرد على حدة، إلاّ أنها ليست منتجات عقليّة ذاتيّة وفطريّة مولودة مع الإنسان ومستقلّة عن التجربة الإنسانيّة. أي إنّها ليست تخيّلات حرّة خاصّة تضطرّ النفس إلى الإذعان [بها] والاستسلام لها دون دليل أو برهان.
إنّ مثل هذه المعارف حقيقيّة ومشتقّة ومستعارة من الواقع الخارجي…»[7].
ولا ندري ماذا يقصد النجار بالاشتقاق من الواقع الخارجي؟!
فإذا كان يعني أنّ مبدأ «عدم التناقض» ـ مثلاً ـ أو القضيّة القائلة: «الواحد نصف الاثنين» له واقعٌ موضوعيٌّ وليس مجرّد افتراض ذهني فحسب، فهو صحيح. ولكن لا صلة له بالقضيّة ـ موضوعة البحث ـ ، وهي طريقة توصّل العقل البشري إلى هذا المبدأ.
وإن كان يريد من الاشتقاق أنّ هذه المعرفة مستدلّة بالواقع وليست معرفة غنيّة عن الدليل، فهو خطأ من وجهة نظر منطقيّة، لأنّ أيّة عمليّة استدلال بالواقع على قضيّة تستبطن وتفترض مسبقاً مبادئ يقوم على أساسها الاستدلال من «التلازم» و«العلّيّة» و«الضرورة» و«عدم التناقض»؛ إذ لولا افتراض مبادئ من هذا القبيل مسبقاً، لا يمكن أن تتمّ أيّة عمليّة استدلال بشيء على شيء. وما دامت كلّ عمليّة استدلال تفترض مسبقاً مبادئ من هذا القبيل، فيجب أن تكون لدينا مبادئ غير مستدلّة، وهذا يعني ما يقصده المذهب العقلي تماماً.
3ـ ثالثاً: ويتناول «النجّار» ما قرّره كتاب «فلسفتنا» عن المادّة، إذ أكّد الكتاب أنّ وجود المادّة افتراضٌ عقليٌّ وليس افتراضاً تجريبيّاً، لأنّ «الوردة التي نراها على الشجرة أو نلمسها بيدنا، إنّما نحسّ برائحتها ولونها ونعومتها وحتّى إذا تذوّقناها فإنّنا نحسّ بطعمها ولا نحسّ في جميع تلك الأحوال بالجوهر الذي تلتقي جميع هذه الظواهر عنده، وإنّما ندرك هذا الجوهر ببرهان عقلي يرتكز على المعارف العقليّة الأوّليّة..»[8].
وعلّق «النجّار» على ذلك متسائلاً:
«لا ندري ماذا يريد بالجوهر! وكيف أثبته بالمعطيات العقليّة! وهل يعني إذا لم تكن لدينا هذه المعطيات، فإنّ المادة ليس لها وجود! وهل يستطيع الإنسان أن يدرك الجوهر (الوردة) بمعطياته العقليّة إذا أبعدناه نهائيّاً ـ بالمعنى الساذج للكلمة ـ عن الوردة ومحيطه الاجتماعي!»[9].
ولكي نشرح ما يريده كتاب «فلسفتنا» من هذا الجوهر، يجب أن نتحدّث عن الوردة التي أمامنا [والتي] نصفها بصفات عديدة: فهي وردة حمراء اللون، ناعمة الملمس وقويّة الرائحة ومرّة المذاق..
وواضحٌ أنّ ما يقع في نطاٍق الحسّ، إنّما هو الحمرة والنعومة والرائحة والطعم[10]، غير أنّ الإنسان ـ أيّ إنسان ـ يدرك لأوّل وهلة وهو يتحدّث عن هذه الصفات التي أحسّها، أنّها كانت كلّها صفات لشيء واحد وهو المحور الذي يستقطب كلّ تلك الصفات، لأنّنا بدون افتراض هذا المحور، سوف لن نجد أيّة علاقة بين الحمرة والمرارة والنعومة والرائحة[11]، ولا أيّ مبرّر لصبّ هذه الصفات كلّها في كيان واحد. وهذا المحور الذي تتوحّد في إطاره تلك الظواهر الحسيّة المتعدّدة هو الجوهر الذي لا يمكن أن يخضع للتجربة الحسيّة المباشرة.
4ـ رابعاً: ويذكر صاحب المقال أنّ كتاب «فلسفتنا» يعيب على الماركسيّة علميّتها، لأنّها تبتّ في مسائل ميتافيزيقيّة وتجيب عليها بالنفي، الأمر الذي يجعلها تتمرّد على حدود الفلسفة العلميّة[12].
ويعلّق على ذلك بأنّ الماركسيّة «لا بدّ لها أن تتدخّل في هذا اللون من القضايا. إلاّ أنّ هذا التدخّل المشروع لا يمكن أن يؤول باعتباره انسياقاً ميتافيزيقيّاً. فهل يمكن للعلم مثلاً اعتباره ميتافيزيقيّاً إذا رفض عالم الجنّ وبتّ بعدم وجوده!»[13].
ونحن لا ندري كيف أسبغ صفة المشروعيّة على هذا التدخّل رغم أنّ النفي لا يقوم على أساس التجربة العلميّة ما دام يتحدّث عن مجال خارج نطاق التجربة المحسوسة. فليس من حقّ الماركسيّة أن تنفي ضمن إطار علميٍّ وجود خالق مجرّد لهذا العالم.
كما إنّ العلم بوصفه علماً، يكتفي بالقول عن الجن إنّي لم أحصل على تجربة تبرهن على وجوده، ولا يمنع ذلك أن يذهب العلم إلى أكثر من ذلك فيبتّ بعدم وجوده، غير إنّه يصبح عندئذٍٍ موقفاً شخصيّاً لا علميّاً.
ويحاول «النجّار» أن يهوّن من قيمة القضايا التي تدخّلت الماركسيّة فيها تدخّلاً ميتافيزيقيّاً قائلاً: «إنّ تعريف الماركسيّة ليس متوقّفاً على موقفها من المفاهيم الميتافيزيقيّة»[14]. وكأنّه يريد بذلك أنّا حتّى لو تجاوزنا هذا الموقف ولم نقبله، فلا يضرّ ذلك بالنظريّة العامّة للماركسيّة.
غير إنّ هذا الفصل بين موقف الماركسيّة من القضايا الميتافيزيقيّة [وبين] موقفها من تفسير الواقع والتأريخ ومحاولة تغييره، ينطوي على خطأ كبير، لأنّ الماركسيّة تفسّر حياة الإنسان والمعرفة الإنسانيّة وكلّ أوجه الإبداع الإنساني بوصفها انعكاسات لوضع القوى المنتجة وأشكال وسائل الإنتاج، وتقيّم على أساس هذا التفسير نظريّتها كلّها. وهي حينما تقول هذا، تفترض مسبقاً عدم وجود أيّ عامل آخر يمكن أن يمدّ الإنسان بالفكر أو المعرفة من أعلى، كالوحي والنبوة و«الله»، إذ لا يمكن جعل قوى الإنتاج هي المصدر الوحيد ما لم نستبعد ذلك العامل، فما لم يكن للماركسيّة قدرةٌ على نفي ذلك العامل، لا يتاح لها أن تخرج بنتيجة حاسمة في تفسير التأريخ.
5ـ خامساً: وينتقل «النجّار» إلى البحث عن قيمة المعرفة في كتاب «فلسفتنا»، فيطرح القرار الحاسم التالي: كل فلسفة تذهب فيها من الفكر والإحساس إلى الأشياء فهي فلسفة مثاليّة باركليّة يعني أنّه «لا وجود إلا لأفكارنا»، وأنّ الواقع غير موجود إذا لم توجد هذه الأفكار[15].
ويؤكّد «النجّار» أنّ «هذا هو ما يذهب إليه «الصدر» بطريقة ملطّفة حيث يسلّم بوجود الأشياء خارج ذهننا من جهة، ويعتمد بمعرفة هذه الأشياء على أساس المعرفة التصديقيّة والفطريّة، أي الخروج من التصوريّة إلى الموضوعيّة»[16].
وهنا يجب أن نتساءل ما يقصد «النجّار» بقراره الحاسم: إنّ من يذهب من الفكر ومن الإحساس إلى الأشياء فهو مثالي باركلي، وإنّ الواقعي من يذهب من الأشياء إلى الإحساس وإلى الفكر.
وأكبر الظنّ أنّه أخطأ فهم هذا القرار الذي استعاره من «لِنِنْ»، ونتيجة لذلك أدان «فلسفتنا» بـ«الباركليّة»، ذلك أنّنا يجب أن نميّز بين مرحلتين للمعرفة البشريّة:
ففي المرحلة الأولى يملك الإنسان مجموعة من التصوّرات والأحاسيس، فيستدلّ بها استدلالاً تصديقيّاً على وجود واقع موضوعيٍّ خارج نطاق الذات ـ أي على الأشياء ـ ، فتشكّل التصوّرات والأحاسيس القاعدة والمنطلق في الاستدلال الفطري على وجود الأشياء. وبهذا يصدق[17] أنّنا نذهب من الأحاسيس والتصوّرات إلى الأشياء.
في المرحلة الثانية نعود فنفسّر التصوّرات والأحاسيس على أساس تلك الأشياء التي تعرّفنا عليها عن طريق تلك التصوّرات والأحاسيس. وفي هذه المرحلة تعتبر الأشياء هي الأساس والمصدر للتصوّرات والأحاسيس.
وما يميّز «الواقعيّة» عن «المثاليّة الباركليّة» هو مضمون المرحلة الثانية. ولكن لكي نصل إلى هذه المرحلة، لا بدّ من اجتياز المرحلة الأولى التي ينطلق فيها الإنسان من الأحاسيس والتصوّرات إلى الأشياء.
ونقرّب ذلك في مثال: إذا رأيت مطراً يتساقط، فاستنتجت من ذلك أنّ هناك سحاباً متراكماً، فأنت تذهب من المطر إلى السحاب، أي تنطلق من رؤيتك للمطر إلى استنتاج وجود السحاب. وفي هذه النقلة الاستدلاليّة، يعتبر المطر هو المنطلق والسحاب هو المنطلق إليه. ولكنّك في نفس الوقت تقرّر طبعاً أن تنطلق [من] زاوية موضوعية [هي] السحاب، بمعنى أنّه بصورة موضوعيّة «وجد السحاب فوجد المطر». وهذا يعني أنّ المنطلق من زاوية معرفتك الاستدلاليّة بالسحاب هو المطر، ولكنّ المنطلق من زاوية المعرفة البشريّة هو التصوّرات والأحاسيس، وبها يستدلّ الإنسان على وجود الأشياء، وإن كانت الأشياء [هي] الأساس من زاوية موضوعيّة.
فالسيّد «الصدر» حين يخرج من التصوّريّة إلى الموضوعيّة بالمعرفة التصديقيّة يعني أنّ التصوّر هو الأساس والمنطلق من زاوية المعرفة كما إنّ المطر في المثال السابق كان هو الأساس والمنطلق لمعرفة السحاب، وهذا لا يعني إطلاقاً أنّ الأشياء نفسها مرتبطة بتصوّرات لها وموجودة ضمن هذه التصوّرات أو بسببها.
ويبقى سؤالٌ واحدٌ أساسيٌّ وهو: كيف يستدلّ العقل البشري على وجود الأشياء بصورة موضوعيّة عن طريق التصوّرات والأحاسيس. أي على أيّ أساس يذهب من هذه الأحاسيس إلى افتراض واقع موضوعيٍّ خارج نطاقها؟
وهذا السؤال هو الذي أهمل جوابه كتاب «فلسفتنا» مكتفياً بالقول إنّ الأشياء مستدلٌّ عليها عن طريق تلك الأحاسيس والتصوّرات.
أمّا ما هو نوع هذا الاستدلال ومضمونه المنطقي، فهذا ما تركه لكتاب «الأسس المنطقيّة للاستقراء» الذي قام لأوّل مرّة في تاريخ الفكر البشري المتطوّر بجواب حاسم على هذا السؤال.
6ـ سادساً: يسترسل «النجّار» في اتّهامه للفكر الإسلامي الكبير بالمثاليّة الباركليّة نتيجةً لعدم التمييز بين اعتبار الأحاسيس والتصوّرات منطلقاً من زاوية المعرفة، وبين اعتبارها منطلقاً من زاوية موضوعيّة فيقول:
«والأنكى من ذلك أنّه يؤكّد بأنّ المعرفة التصديقيّة هي التي تكشف لنا موضوعيّة التصوّر ووجود واقع موضوعي للصورة التي توجد في ذهننا. يعني إذا لم توجد المعارف التصديقيّة الفطريّة، لا يوجد كشفٌ عن الواقع الموضوعي، أي لا يوجد جوهرٌ للأشياء..»[18].
هكذا يفترض «النجّار»: إنّ انعدام الكشف البشري عن الواقع الموضوعي للأشياء يعني أنّه لا أشياء أو لا جوهر للأشياء، ولا أدري كيف استساغ أن يقرّر ذلك ليخرج بنتيجة وهي: «إنّ السيّد «الصدر» مثالي باركلي».. وهل أنّا إذا لم نكشف الأشياء يعني ذلك أنّه لا جوهر ولا واقع موضوعي لتلك الأشياء؟!!
7ـ سابعاً: ويفسر «النجّار» تبعاً لـ«لِنِنْ» «الشيء في ذاته» و«الظاهرة»، بأنّ الأوّل يعبّر عن الشيء بمقدار ما لا نعرف، والظاهرة هو الشيء ذاته حينما نعرفه ويكون شيئاً لنا[19].
ويريد بذلك أن ينفي اعتراف الماركسيّة بأشياء في ذاتها لا يمكن للمعرفة أن تنفذ إليها، لأنّ كلّ شيء يتحوّل باستمرار إلى أشياء لنا بازدياد المعرفة. وكتاب «فلسفتنا» استعرض هذا التفسير الماركسي للشيء في ذاته والظاهرة وعلّق عليه، وحينما جاء «النجّار» ليعترض على التعليق، اكتفى بتكرار نفس التفسير الذي علّق عليه الكتاب[20].
وصفوة القول بهذا الصدد كما جاء في «فلسفتنا»: إنّ الشيء هل هو عبارة عن مجموعة الصفات والظواهر الممكن إدراكها حسّيّاً؟ أو هو المحور الذي تتوحّد في كيانه تلك المجموعة من الصفات والظواهر؟
فإن كان هو الأوّل، فلا يوجد بين الشيء في ذاته والظاهرة فرقٌ نوعيٌّ في مجال المعرفة البشريّة.
وإن كان هو الثاني، فالفرق بينهما نوعيٌّ بالضرورة، ويحتّم هذا الفرق أن يبقى جزءٌ من الشيء في ذاته ـ وهو المحور ـ مستعصياً على المعرفة التجريبيّة للإنسان.
8ـ ثامناً: ويقع «النجّار» في حالة من التشويش وهو يتناول موقفاً من مواقف كتاب «فلسفتنا»[21] تجاه الماركسيّة حين وقف يحاسبها ويطالبها بمبرّرات ثقتها بالتطابق بين الواقع الموضوعي وصورته التي تبدو في أفكارنا وحواسّنا ما دامت هذه الأفكار والأحاسيس تعبّر ماركسيّاً عن تحوّل الحركة الفيزيائيّة للشيء إلى حركة فيزيولوجية في حواسّنا، وتحوّل هذه بدورها إلى حركة نفسيّة للفكرة، إذ ليس من الضروري أن تطابق المرحلة الثانية أو الثالثة من الحركة المرحلة الأولى.
فقد علّق «النجّار» على هذا الموقف قائلاً:
«ينبغي أن نعرف بأنّ الواقع الخارجي ليس هو الذي في أفكارنا وحواسنا، وإنّما صورته. أي إنّ حواسنا وأفكارنا صورة تقابل ـ وليست تماثل ـ هذا الواقع»[22].
ولا ندري كيف نوفّق بين افتراض أنّ الفكرة صورة للواقع، وافتراض [أنّها] لا تماثل الواقع، وكيف تكون الفكرة التي لا تماثل الشيء صورة له!!
ونحن نحيل «النجّار» إلى كتاب «الأسس المنطقيّة للاستقراء» ليتاح له أن يعرف كيف يمكن أن نثبت التماثل بدرجة معقولة بين الفكر والواقع الموضوعي[23].
9ـ تاسعاً: ويصل «النجّار» إلى نقد «فلسفتنا» للحركة الديالكتيكيّة وتطبيقها على المعرفة الذي يؤدّي إلى أنّ المعرفة نسبيّة. ويعلّق على ذلك قائلاً:
«إنّ إنجلز يكتب في كتابه «آنتي دوهرنگ» حول الحقائق الأزليّة، بأنّ هناك حقائق مثل: «إنّ ناپوليون قد مات في اليوم الخامس من أيار 1821».
وهذه الحقائق أزليّة، ومن الجنون الاعتقاد بخطئها، ولكن هل من الممكن تطبيق مثل هذه التفاهات على المعرفة الإنسانيّة؟
إنّ تطبيق مقياس تلك الحقائق على العلوم الطبيعيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة لن يؤوب إلاّ بصيد قليل، فهل من الممكن اعتبار الاعتقاد السائد في فترة ماضية بأنّ الحركة هي حركة ميكانيكيّة فحسب ـ أي انتقال الجسم من مكان إلى آخر ـ حقيقة تشبه الحقائق الأبديّة، أو أنّها خطأ أبدي؟! ليس هذا ولا ذاك..
وتطوّرت الحركة بإضافات واكتشافات جديدة: ميكانيكيّة، فيزيائيّة، بيولوجيّة واجتماعيّة..
إذن فمعارفنا لا يمكن أن تتمّ بدفعة واحدة»[24].
ونريد أن نلاحظ بهذا الصدد:
أوّلاً: ما دامت هناك حقائق أزليّة مهما كانت تافهة في رأي «إنجلز»، فهذا يعني استثناءً في الديالكتيك الذي قُدِّم بوصفه قانوناً عاماً للطبيعة في كلّ ظواهرها. وإذا جاز أن نعتق معرفة بشريّة تافهة من قانون التناقض والتحوّل الديالكتيكي، فكيف يمكن للماركسيّة أن تبرهن على ضرورة التغيير في أيّة فكرة أخرى.
ثانياً: إنّ الاعتقاد السائد في فترة ما بأنّ الحركة هي حركة ميكانيكيّة فحسب، اعتقادٌ مركّبٌ يشتمل على اعتقادين: أحدهما وجود الحركة الميكانيكيّة في الطبيعة، والآخر ما عبّرت عنه كلمة «فحسب»، أي تنفي وجود أشكال أخرى للحركة. والاعتقاد الأوّل حقٌّ أبدي، والثاني خطأٌ أبدي، فأين النسبة؟
ثالثاً: إنّ تطوّر العلوم ـ بمعنى ازدياد المعارف البشريّة وتكشّف الحقائق أكثر فأكثر، وتضائل الأخطاء عبر التجربة البشريّة في الميادين العلميّة ـ ليس مفهوماً ديالكتيكيّاً، وكونها نسبيّة[25] بالمعنى الذي يفترض أنّ كلّ معرفة تحتوي في أحشائها على نقيضها وأنّ الصراع يطوّرها باستمرار ويوجد فيها الخطأ والصواب.
ولو كانت الماركسيّة تقصد بالمعرفة النسبيّة «التطوّر اللاديالكتيكي» للعلوم والمعارف [..][26] ازدياد المعلومات تدريجيّاً وتكشّف الحقائق، [فهذا] المعنى بنفسه ينطبق حتّى على تلك المعرفة التي أعفاها «إنجلز» من النسبة، ومنها صفة الأبديّة والأزليّة، وهي «إنّ ناپوليون مات في اليوم الخامس من أيّار»، لأنّ هذه المعرفة تنمو وتزداد بالتدريج عبر التتبّع التاريخي لحادثة وفاة «نابوليون». فمن خلال التتبّع يكتشف أنّ موته كان في المنفى، وكان بسبب عارضٍ صحّيٍ معيّن مثلاً، وأنّ مرضه أدّى به إلى الوفاة نتيجة إهمال الآخرين له.. وهكذا تزداد المعلومات في مجالات المعرفة التي استثناها واعترف لها بالأزليّة والأبديةّ.
وإن كان يعني النسبيّة والتطوّر بالمفهوم الديالكتيكي الذي يوفّق بين الإثبات والنفي والصواب والخطأ، فهذا ما برهن على إبطاله كتاب «فلسفتنا».
البحث الثالث:
المفهوم الفلسفي للعالم:
1ـ أوّلاً: وأخيراً يصل «النجّار» إلى المفهوم الفلسفي للعالم، ويستعرض المفهوم الإلهي الذي يرجع المادّة والفكر معاً إلى سبب أعمق خارج نطاق الطبيعة، ويتبرّع بتحديد آخر لهذا المفهوم يقلّمه بوصفه تعبيراً عنه إذ يقول:
«وبمعنى آخر: إنّ هناك واقعاً في أذهاننا خارجي للعالم والطبيعة لا يمكننا الاستدلال عليه إلاّ في ضوء معارفنا التصديقيّة والفطريّة. فما دام هناك واقعٌ لا يوجد إلاّ في العقل ـ عقل الفلاسفة الواقعيّين ـ والذهن، وليس في العالم والطبيعة وإنّما «فوقهما جميعاً»، فما وجه الاختلاف عن المثاليّة التي تدّعي وجود مثل هذا الواقع؟!»[27].
إنّ «النجّار» في كلامه هذا لا يميّز بين أمرين:
أحدهما: إنّ الشيء لا يوجد إلا في العقل.
والآخر: إنّ الشيء موجودٌ خارج نطاق العقل ولكن لا يمكن إدراكه حسّيّاً وإنّما يدرك عقليّاً فحسب.
والأوّل هو الذي يعبّر عن الموقف المثالي من العالم، والثاني هو الذي يعبّر [عن] افتراض وجود السبب الأعمق فوق الفكر والمادة معاً، لأنّ هذا السبب الأعمق موجودٌ بصورة موضوعيّة رغم عدم إمكان إدراكه بالوسائل الحسّيّة.
وهنا نقطة جوهريّة في غاية الأهميّة لا بدّ من تجليتها وهي:
ماذا نقصد من القول إنّ هذا السبب الأعمق لا يمكن الاستدلال عليه حسّيّاً بل عقليّاً؟
إنّنا نريد بذلك أنّ الإدراك الحسّي لا يمكن أن ينصبّ على هذا السبب كما ينصبّ على الظاهرة الطبيعيّة التي تدركها في مجال خبرتنا الحسيّة. ولكنّ هذا لا يعني عدم إمكان إثبات هذا السبب بالاستقراء والتجربة العلميّة، تماماً كما يثبت بالتجربة والاستقراء أيّ قانون علمي آخر. فالعالم الطبيعي في مجال تفسير ظاهرة طبيعيّة واستنتاج خلفيّتها أو القانون الطبيعي الذي يحكمها، يستعين بمجموعة من التجارب الحسّيّة لاستنتاج ذلك القانون، وما يقع في خبرته الحسّيّة إنّما المحتوى الجزئي المحدّد لتلك التجارب، غير إنّه ينطلق منه إلى ما هو أوسع وأعمق، إلى القانون العام…
والشيء نفسه يصدق على الإنسان الذي ينطلق من مجموعة الظواهر التي تدلّ على [القصد][28] والتدبير في الطبيعة إلى افتراض وجود مدبّر حكيم.
وقد استطاع المفكّر العظيم «الصدر» في كتاب «الأسس المنطقيّة للاستقراء» أن يثبت عبر دراسة معمّقة أنّ الأسس المنطقيّة التي يستند إليها أيّ استدلال علمي بالمنظور على غير المنظور، وبالمحدود على المطلق، وبالتجربة على القانون، هي نفس الأسس التي يقوم عليها الاستدلال على وجود المدبّر الحكيم عن طريق مجموعة ما يصادف الناس من ظواهر القصد والتدبير في الكون.
2ـ ثانياً: ويطرح «النجّار» مسألة الصراع بين الفلسفة الإلهيّة والفلسفة الماديّة كالتالي: «من المعطى الأوّلي؟ هل الشعور أو المادة؟..».
ويعقب على ذلك قائلاً:
«كان من الأفضل أن يجيب «الصدر» على هذا السؤال بأنّ المادّة هي المعطى الأوّلي حتّى يتبنّى الماديّة وينهي الصراع القائم»[29].
وهنا نسأل «النجّار»: ماذا يريد بالشعور في صيغة السؤال المطروح؟ هل هو الشعور والعلم البشري أو أيّ علم على الإطلاق؟
فإذا أراد العلم البشري، كان جواب «الصدر» والفلسفة الإلهيّة على ذلك أنّ المادّة قبل الشعور، وهذا واضحٌ في تأكيد كتاب «فلسفتنا» على تطبيق الحركة الجوهريّة على الإنسان.
وإن أراد العلم على الإطلاق، فالشعور قبل المادّة متمثّلاً في السبب الأعمق الذي كشفته دلائل القصد والتدبير في خلقه.
وهذا يوضح أنّ السؤال «من المعطى الأوّلي؟ هل الشعور أو المادة؟» لكي يحدّد نقطة الخلاف بين الإلهيّة والماديّة. ويجب أن يقصد بالشعور العلم على الإطلاق، هذا الزعم الذي لا يمكن للمادي إثباته تجريبيّاً بأيّ شكل من الأشكال. ولكي يكون الإنسان إلهيّاً، يجب أن يقول إنّ علماً ما قد سبق المادّة، الأمر الذي يمكنه أن يدلّ عليه بدلائل القصد والتدبير في الخلق.
3ـ ثالثاً: ويحاول «النجّار» أن يبرز بعض أوجه الفرق بين المنهج العلمي للفلسفة الماديّة الماركسيّة والمنهج الديني للفلسفة الإلهيّة، فيذهب إلى القول إنّ المنهج العلمي يؤمن بالتطوّر، وأمّا المنهج الديني فيؤمن بوصايا وأخلاق مطلقة وثابتة على الدوام[30].
وهذه النقطة عولجت في كتاب «اقتصادنا» بكلّ تفصيل، إذ وضع الكاتب تمييزاً محدّداً بين المجالات التي تربط علاقات الإنسان بالطبيعة والمجالات الأخرى المسبّبة عن ذلك، والتي بإمكانها أن لا تتأثّر بتطوّر تلك العلاقات.
وجوهر الخلاف في القضيّة أنّ كلّ إنسانيّات الإنسان ـ بما فيها من قيم خلقيّة وعلاقات ومبادئ ـ هي منبثقة في رأي الماركسيّة من طريقة الإنتاج وعلاقة الإنسان بالطبيعة، وما دامت هذه النظريّة متطوّرة باستمرار، فكذلك مشتقّاتها. بينما يؤمن الدين بأنّ الحسّ الخلقي المشترك للإنسان نابعٌ من وجدانه الثابت، وكما توجد أحاسيس فنيّة للجمال لا يختلف فيها حامل الفأس عن قاذف الصواريخ، كذلك توجد أحاسيس خلقيّة.
4ـ رابعاً: ويسترسل «النجّار» في الحديث عن التعارض بين الإلهيّة والماديّة، فينقل عن «فلسفتنا»[31] أنّ التعارض بينهما تعارضُ الإثبات والنفي، وتقع على الماديّة مسؤوليّة التدليل على النفي الذي تدّعيه كما تقع على الإلهيّة مسؤوليّة التدليل على الإثبات.
ويعلّق «النجّار» بهذا الصدد بأنّ الماديّة ملزمة بإثبات النفي من خلال الممارسة أي من خلال كشفها للواقع الموضوعي، نظير أنّ إثبات وجود الأوكسجين والهيدروجين فقط في الماء من خلال التجربة، والإحساس دليلٌ قاطعٌ على عدم وجود عنصر الكاربون فيه[32].
إنّه يريد أن يقول: كما ننفي وجود الكاربون في الماء من اكتشاف اشتمال الماء على الأوكسجين والهيدروجين وعدم إبراز التجربة لشيء آخر، وهو ما عبّر عنه بكلمة «فقط»، كذلك لنفي وجود «الله» تعالى عن طريق إبراز التجربة لوجود وسائل الإنتاج والصراع الطبقي وعدم إبرازها لوجود «الله»..
ولكن فات «النجّار» أنّ عنصر الكاربون لا يشبه افتراض وجود «الله»، فبإمكان العالم أن ينفي وجود الكاربون في الماء إذا لم تكشفه التجربة على النحو الذي كشفت الأوكسجين، لأنّه يدخل في مجال التجربة الحسّيّة. فمن الطبيعي أن يستنتج من عدم الإحساس به عدم وجوده.
وأمّا «الله» [تعالى]، فلا يدخل في مجال التجربة الحسّيّة، فكيف يمكن نفيه عن طريق عدم اكتشافه في هذا المجال؟!
وبكلمة أخرى: إنّ عنصر الكاربون إذا كان موجوداً في افتراض الكاربون، وأمّا وجود «الله» تعالى، فهو ليس على مستوى وجود الأسباب الطبيعيّة التي يكتشفها العلم، وإنّما هو فوقها جميعاً، […][33] في مجال الخبرة الحسّيّة لا يدلّل على نفي السبب [..][34] فهو في مستوى الأوكسجين والهيدروجين، فإذا استطعنا أن نجد [حيثيّة][35] الماء كاملاً في الأوكسجين والهيدروجين، فلا موضع بعد ذلك [..][36] إلا بالنظريّة الفرعونيّة التي تحدّث عنها القرآن الكريم حينما قال فرعون: (وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ)[37].
5ـ خامساً: وعندما يتناول «النجّار» المقارنة التي عقدها كتاب «فلسفتنا» بين الحركة بمفهومها الذي تبنّاه، وهو الخروج من القوّة إلى الفعل تدريجيّاً، و[بين] الحركة بمفهومها الديالكتيكي القائم على أساس التناقض وصراع المتناقضات في المحتوى الداخلي لها، اقتصر في نقده لـ«فلسفتنا» على تكرار ما ذكر في بداية مقاله من أنّ بحثه في الحركة ليس من معطيات السماء كما يزعم «الصدر»، وإنّما هو امتداد للفلسفات السابقة[38].
وبهذا الصدد يذكر «النجّار» من جديد بأنّ السيّد «الصدر» لم يزعم في كتاب «فلسفتنا» أنّ كلّ ما يستعمله من أساليب البحث والإثبات إلهيّة نازلة من السماء، وإنّما المبادئ والأفكار العامّة مستمدّة من رسالة السماء، وأمّا طرق إثباتها، فهي إنسانيّة وشخصيّة وقد نقلنا سابقاً نصّاً من كتاب «فلسفتنا» يقرّر هذه الحقيقة[39].
ويلاحظ أنّ «النجّار» يمرّ على البحث الموسّع الذي قام به كتاب «فلسفتنا» لنقد الحركة الديالكتيكيّة ونقد قوانين الديالكتيك بشكل عام دون أيّ تعليق، مقتصراً على قوله:
«فإذا تركنا مناقشة «الصدر» ونقده لهذه القوانين إلى مجال آخر ـ حيث لا يسعنا هنا المجال ـ ، فإنّنا ننتقل إلى مسألة يقول إنّها «تقرّر المرحلة الأخيرة من مراحل النزاع الفلسفي بين الإلهيّة والماديّة»[40]»[41].
6ـ سادساً: وأشعر وأنا أقرأ ما كتبه «النجّار» عن هذه المرحلة الأخيرة من مراحل النزاع الفلسفي التي بحثها كتاب «فلسفتنا» بشيء من الألم لا أعرف كنهه بالضبط، هل هو الشعور بالشفقة! أو الشعور بالغبن حين أجد أنّ الأخ «النجّار» حاول أن يطمس بقصد أو بدون قصد كلّ معالم البحث الحقيقيّة التي تبدو في كتاب «فلسفتنا» فيما يخصّ هذه المرحلة، لأنّه لم يذكر شيئاً بهذا الصدد عن كتاب «فلسفتنا» سوى العلاقة بين النجّار والكرسي [و]أنّه يطلق على النجّار اصطلاح «العلّة [الفاعليّة]». ويعقّب على ذلك بأنّ «الصدر» يذهب لتطبيق هذه العلاقة المجرّدة الضيّقة على الكون والعالم، ويستنتج ـ أي «الصدر»ـ أنّ العلّة [الفاعليّة] للعالم خارج حدود المادّة و[مغايرة] لها، كما أنّ صانع الكرسي مغايرٌ لمادّته الخشبيّة.
ويسترسل «النجّار» قائلاً:
«ورغم محاولة «الصدر» التعسّفيّة تطبيق هذه العلاقة الساذجة واعتبارها «مفارقة فلسفيّة» يمكن تطبيقها على العالم، فإنّنا نحاول أن نوضح ما يلي:
1ـ إنّ الكرسي مادّة عضويّة، والنجّار مادّة عضويّة، أي كلاهما أشياء ماديّة.
2ـ النجّار لم يخلق الكرسي من الـ«لا شيء»، ـ بل رتّب فقط مادّته الأساسيّة (الخشب)، وهي موجودة قبل وجود العلاقة بينهما.
3ـ استند النجّار [في] صناعته للكرسي على ممارسته وتجارب وذهنيّات سابقة.
4ـ إنّ النجّار سيتخلّى عن كرسيّه بعد الانتهاء من صناعته، فهو ليس ملازماً له.
5ـ استعمل النجّار عدّة أدوات: مسامير، مطرقة، أقلام، مبردة.. وهذه الأشياء ليست من صنعه. إذن فالنجّار لم يصنع الكرسي وحده، وإنّما معه شركاء: الحدّاد وصانع الأقلام، وربّما شركات أجنبيّة صدّرت له الخشب إذا كان الكرسي من النوع الأنيق..
ومن هذا نستنتج ـ على طريقة «الصدر»:
1ـ [إنّ] العلّة [الفاعليّة] للعالم هي شيءٌ من نفس مادّته ولم تخلقه، بل رتّبته فقط…»[42].
وينعى «النجّار» على السيّد «الصدر» بهذا الصدد سرعة تجاوزه لهذه المرحلة الأخيرة من مراحل النزاع واكتفائه بعرض سريع، وتحاشيه عن العمق الفلسفي في البحث والتفصيل في العرض، حيث يكرّس للبتّ في هذه المسألة المهمّة صفحةً ونصف فقط من كتابه الضخم.
إنّ نظرة واحدة تتحلّى بشيء من الإنصاف والموضوعيّة إلى بحث «فلسفتنا» بهذا الصدد تكفي للجواب على هذا الكلام. ذلك إنّ «النجّار» كأنّه حاول أن يُفهم القارئ بأنّ «الصدر» قد اكتفى في المرحلة الأخيرة من النزاع الفلسفي بالاستدلال على أنّ علّة العالم مغايرة لمادّته بأنّ النجار مغايرٌ للكرسي.
والحقيقة: إنّ «فلسفتنا» استعان بمثال النجّار والكرسي لشرح مصطلح فقط، وتفسير المعنى المراد من كلمة «العلّة الفاعليّة» والمعنى المراد من كلمة «العلّة الماديّة». فبعد أن طرح السؤال بالصيغة التالية: «إنّ العلّة الفاعليّة للعالم هل هي نفس العلّة الماديّة أو لا؟»[43] وحدّد بذلك اتّجاه البحث في المرحلة الأخيرة من النزاع، أراد أن يفسّر الكلمتي: «العلّة الفاعليّة» و«العلّة الماديّة»، فاتّخذ من مثال النجّار والكرسي وسيلةً لذلك فقال:
«ولأجل التوضيح نأخذ مثالاً، وليكن هو الكرسي»[44]. وبعد أن شرح علاقة الكرسي بالنجار والفرق بين «العلّة الماديّة» للكرسي و«العلّة الفاعليّة» له ـ وهي النجّار ـ ، [قال]: «وهدفنا الرئيسي من المسألة أن نبيّن نفس المفارقة في نفس العالم بين مادّته الأساسيّة (العلّة المادّيّة) والفاعل الحقيقي (العلّة الفاعليّة). فهل فاعل هذا العالم وصانعه شيءٌ آخر خارج عن حدود المادّة ومغايرٌ لها, كما إنّ صانع الكرسي مغايرٌ لمادّته الخشبيّة, أو إنّه نفس المادّة التي تتركّب منها كائنات العالم؟
وهذه هي المسألة التي تقرّر المرحلة الأخيرة من مراحل النزاع الفلسفي بين الماديّة والإلهيّة»[45].
وبعد ذلك يتولّى الكتاب إثبات الثنائيّة بين «العلّة الماديّة» و«العلّة [الفاعليّة]» من خلال دراسة المادّة على ضوء الفيزياء أوّلاً, ثمّ على ضوء الفلسفة ثانياً, ثمّ على ضوء الوجدان ثالثاً, والمعطيات العلميّة: «الفيزيولوجيا» و«البيولوجيا» و«علم الوراثة» و«علم النفس».
وهكذا نرى بكلّ وضوح أنّ مثال العلاقة بين الكرسي والنجّار كان مثلاً توضيحيّاً لتحديد المصطلحات، ولم يكن دليلاً كما شاء النجّار أن يفترضه. كما إنّا نلاحظ بكلّ وضوح أنّ الصفحة والنصف التي أشار إليها النجّار إنّما كانت مخصّصة لتوضيح اتّجاه البحث من المرحلة الأخيرة وصيغة السؤال الأساسي المطروح في هذه المرحلة, وأمّا التدليل على الموقف الإلهي[46] من هذا السؤال، فقد استوعبته عشرات الصفحات التالية.
إنّ الإنصاف والموضوعيّة وتقدير العلم أينما وجد ولو كان لدى الخصوم الفكريّين من أهمّ الشروط التي يجب أن يتحلّى بها الناقدون المثقّفون بما فيهم الأستاذ «النجّار».. هدانا «الله» وإيّاه إلى سواء السبيل.
حيدر آل حيدر
(السيد عمار أبو رغيف)
[10] كان من الأنسب التعبير بـ«اللون والملمس والرائحة والمذاق» أو «الحمرة ونعومة الملمس وقوّة الرائحة ومرارة الطعم». (م)
[11] في الأصل: «الحرارة» بدل «المرارة»، وما أثبتناه هو الصحيح. (م)
[14] في الأصل: «متوقّف» بدل «ليس متوقّفاً» والصحيح ما أثبتناه من مقال «النجّار» نفسه. (م)
[16] انظر هذا المجلّد : . وفي الأصل: «حيث يسلم بوجود الأشياء على أساس المعرفة التصديقيّة، أي الخروج من التصوّريّة إلى الموضوعيّة، من الأفكار إلى الأشياء»، وما أثبتناه من مقال «النجّار».(م)
[17] في الأصل: «يصدف»، ولعلّ الصحيح ما أثبتناه. (م)
[23] انظر: الأسس المنطقيّة للاستقراء: 463. (م)
[25] وكأنّ المراد أنّ تطوّر العلوم لا يعني كونها نسبيّة بالمعنى… (م)
[26] في الأصل: «بمعنى»، ولعلّ حذفها أولى. (م)
[28] في الأصل: «الفصل»، ولعلّ الصحيح ما أثبتناه. (م)