حق الطاعة

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

ذهب استاذنا الصدر إلى ان العقل العملي يدرك وجوب طاعة الله إدراكاً أولياً بديهياً، على أساس كونه الخالق والمالك الحقيقي لبني الإنسان، وهذا الوجوب مطلق يشمل جميع حالات المكلفين تيقنوا بالتكليف أو احتملوه بأي درجة من درجات الاحتمال. وقد قرر في مطلع البحث عن حجية القطع ان حق طاعة الله مدرك مستقل عما يُعرف بقاعدة ((وجوب شكر المنعم))، هذه القاعدة التي أثبت المتكلمون على أساسها وجوب طاعة التكاليف الإلهية، وتابعهم عامة علماء أصول الفقه العقليين.

قال رحمه الله:

((ان المولوية وحق الطاعة على ثلاثة أقسام:

1ـ المولوية الذاتية الثابتة بلا جعل واعتبار والتي هي أمر واقعي على حد واقعيات لوح الواقع وهذه مخصوصة بالله تعالى بحكم مالكيته لنا الثابتة بملاك خالقيته، وهذا مطلب ندركه بقطع النظر عن مسألة شكر المنعم الذي حاول الحكماء ان يخرّجوا بها مولوية الله سبحانه ولزوم طاعته، فان ثبوت الحق بملاك المالكية شيء وثبوته بملاك شكر المنعم شيء آخر. بل هذا حذوه حذو سيادة الله التكوينية فكما ان إرادته التكوينية نافذة في الكون كذلك إرادته التشريعية نافذة عقلاً على المخلوقين))[1].

لنبدأ من قاعدة ((وجوب شكر المنعم))، التي اتخذها المتكلمون وعلماء أصول الفقه أساساً لإثبات وجوب طاعة الله:

((المنعم والمحسن يجب شكره مدرك من مدركات العقل العملي، التي ادّعى العقليون بداهتها وأوليتها. وحيث ان الله سبحانه وتعالى أوضح مصاديق المنعمين والمحسنين، بل هو منبع الإنعام والإحسان، فإذن يجب شكره)).

نلاحظ:

أ ـ ان إثبات وجوب طاعة الله على أساس قاعدة وجوب كشر المنعم لا يمكن ان ينتهي إلى إثبات وجوب عقلي عملي قبلي؛ لوضوح ان استنتاج هذا الوجوب لا يتم إلاّ بضم مقدمة أو مقدمات عقلية نظرية. فوجوب شكر المنعم لا ينطبق بالبداهة على الباري تعالى، بل لابد من الإيمان أولاً بوجود الله، ولابد من الإيمان بان الوجود إنعام وإحسان. والإيمان بهذه المقولات يستدعي إثباتاً واستدلالاً نظرياً. ومن ثمَّ ستكون نتيجة الإثبات ـ إذا جوزنا استنتاج القضية العملية اعتماداً على مقدمات نظرية ـ رهن المعطيات البعدية، التي يختلط فيها الحسن والتجربة والبرهان بالبداهة والوجدان.

ب ـ ان العبور من قاعدة ((وجوب شكر المنعم)) إلى وجوب طاعة الله يستلزم اثبات ان طاعة التكليف مصداق من مصاديق الشكر ورد الاحسان. واثبات هذا اللازم أمر في غاية الصعوبة ـ لا أقل بالنسبة إلى كانت هذه السطور ـ ؛ اذ ان قاعدة ((وجوب شكر المنعم)) قاعدة عامة مطلقة يدركها العقل بغض النظر عن حجم الاحسان وطبيعة المحسن، ومن ثمَّ كيف يتسنى للعقل المحض ان يقرر ان وجوب الطاعة والانطياع لأوامر المنعم مصداق من مصاديق شكر المنعم والانصياع لأوامره؟! إذا كان يقرر هذا فيجب ان يقرره بشكل عام ومطلق حتى إذا تعارض مع مصالح ومنافع المنعم عليه، وهل هناك عاقل يقرر ذلك لكل منعم وبشكل مطلق؟!

ج ـ إذا أردنا لقاعدة وجوب شكر المنعم ان تحتفظ بطابعها العقلي فيجب ان لا نجرها إلى الإجابة على الاستفهام عن كيفية شكر المنعم؛ لوضوح ان كيفية وحدود رد الاحسان وشكر المنعم أمر وشأن من شؤون عالم المتغيرات ويرتهن بشكل كامل بعالم العرف والاعتبار، فما هو رد وشكر لدى جماعة بشرية لا يمثل رداً وشكراً للإحسان والإنعام لدى جماعات أخرى، رغم اتفاق الجميع على مبدأ وجوب شكر المنعم.

نعود إلى حق الطاعة ووجوب امتثال التكاليف الإلهية الشرعية.

حيث ذهب استاذنا الصدر إلى ان هذا الحق مدرك أولي مستقل يدركه العقل الإنساني العملي على أساس مالكية وخالقية الله لبني الإنسان. والوجدان دليل سيدنا الصدر ومرجع القضاء في سلامة مذهبه. وقد أضاف إلى ان هذا الحق مطلق شامل لكل حالات المكلفين من اليقين بالحكم حتى ادنى درجات احتماله. بل ذهب أبعد من ذلك، حيث قرر رحمه الله:

(( نعم وقع الكلام فيمن حصل على مؤمّن على الارتكاب ولكنه أقدم على المشتبه برجاء مصادفة الحرام كمن شرب مستصحب الحلية برجاء ان يكون هو الحرام الواقعي فذكر المحقق النائيني قدس سره ان هذا تجرٍ أيضاً ويترتب عليه أحكامه.

والتحقيق ـ انه لو أريد اعتبار نفس الفعل الذي أقدم عليه تجرياً وقبيحاً فهو غير تام، لأنه بحسب الفرض له مؤمّن شرعي يستند اليه، وان أريد اعتبار حالته النفسانية وهو شوقه نحو الحرام الواقعي، أو عدم مبالاته بحفظ أحكام الشارع وملاكاته تجريا فهذا صحيح فان حق الطاعة التي ندركها لمولانا وخالقنا يشمل مثل ذلك أيضاً، لأنه حق مطلق يستحق صاحبه الانقياد والطاعة المطلقة حتى على هذا المستوى))[2].

نتأنى في درس ((حق الطاعة)) تأنياً، لكي يتاح لنا تميحص الموقف بوضوح، وعلى أساسٍ عقلي. أجل، إذا تكلمنا بلغة العرفاء وأردنا استخدام الوجد والعشق الإلهي أساساً والكشف والإلهام الإشراقي منهجاً فسوف يختلف الميزان. لكننا نعتقد ان تجاهات العرفان بعامة ـ رغم سمو تجارب العارفين، ورغم احترامنا لكثير من نتائج هذه التجارب ـ لا تصلح ان تكون أساساً ومنطلقاً منهجياً لبحث عقلي، خصوصاً تلك البحوث التي تتخذ قاعدة للتشريع، لأن التشريع كل تشريع يتوخى الفهم العام، ليتاح لـه ان يكون قانوناً يحكم حياة الجماعة الإنسانية. بـينا لا تتعدى رؤى العرفاء بعامة تجارب الخاصة من الآدميين.

إذن؛ لابد من تمحيص حق الطاعة على أساس عقلي، فنتجنب ما أمكننا الإبهام اللغوي والجذبة العرفانية، إذ ان وجدان العرفاء لا يمكن ان نؤسس على بديهياته وكشوفه قواعداً تحدد الوظيفة الشرعية لعامة بني الإنسان. مضافاً إلى ان المخزون اللغوي متعدد الوجوه يمكنه ان ينوع الخطاب، فنخرج من دائرة التحديد إلى عالم الشعر.

الاستفهام الأول المطروح على البحث: هل يمكن ان يكون حق الطاعة ووجوب امتثال التكاليف الإلهية حكماً أولياً قبلياً أم لا؟

هل ان تصور تكاليف الإله الخالق يكفي لإثبات وجوب امتثالها؟

ان الخالقية والمالكية وحدها لا تقفز بنا إلى الحكم بوجوب امتثال التكاليف الإلهية؛ لوضوح ان الخالق العابث أو الظالم في خلقه لا يستحق التزاماً، ولا يقر له عقل أو عاقل بحث الالتزام الجاد. إذن لابد من تطعيم مفهوم الخلقية بمفاهيم أخرى؛ لكي يتسنى لنا حمل وجوب الطاعة على التكاليف الإلهية؛ إذ لو كان الخلق شقاءً لا إحساناً ولا نعمة فيه فهل يحكم العقل بوجوب طاعة تكاليف من أشقى بخلقه؟

ان تطعيم مفهوم الخالقية بمفاهيم الإحسان والإنعام يعني ان أساس حكم العقل ليس مفهوم الخالقية ذاته، بل مفهوم المحسن والمنعم، ومن ثمَّ يضحي حكم العقل بوجوب الطاعة تطبيقاً من تطبيقات قاعدة وجوب شكر المنعم، وتأتي حينئذٍ الملاحظات السابقة.

ثم هل يحكم العقل بوجوب طاعة التكاليف الإلهية، دون ان يتصور، بل دون ان يعتقد بوجود تكاليف وأوامر إلهية؟ إذا كان موضوع القضية أمراً لا يرد في ساحة الذهن البشري فهل يمكن لهذا الذهن ان يحكم بوجوب الطاعة والامتثال؟

لابد ان يتصور العقل أولاً مفهوم التكليف والأمر الإلهي لكي يحكم بوجوب أمتثال التكليف الإلهي. لكن السؤال هو: هل نستطيع ان نقرر بان تصور العقل للتكليف الإلهي، الذي يحكم بوجوبه هو تصور صرف وان القضية الأولية هي قضية شرطية ((إذا كانت هناك تكاليف إلهية فيجب طاعتها))؟ انا لا استطيع التصديق بان حكم العقل بوجوب طاعة التكليف الإلهي يمكن ان يترتب على تصور محض للتكيف الإلهي، دون ان يكون هناك شعور بوجود هذا التكليف بالفعل.

يهمنا ان نقف عند الاستفهام الذي كررنا الإشارة إليه ضمن ما تقدم من فقرات هذا البحث:

هل يمكن للعقل البشري ان يحكم بوجوب طاعة التكاليف الإلهية، دون ان يصدق بوجود إله خالق على الأقل؟

انا أشك في إمكانية العقل الأولي البديهي على الوصول إلى هذا الحكم، بل لعل من يدّعي لا منطقية هذه الإمكانية لا يجانب الصواب:

لوضوح ان البديهية العقلية هنا تعني الصدق القبلي، أي ان العقل يدرك القضية البديهية دون إتكحاء على أي معرفة تصديقية، وبغض النظر عن فعلية أي مقولة من مقولات الوجود، إذ ان مقولات العقل المحض ثابتة وصادقة قبل الوجود وبغض النظر عنه. بينا نلاحظ ان مفهوم التكاليف الإلهية مقولة وجودية مركبة، فكيف تصدق قضية وجوب طاعتها صدقاً مطلقاً وجد إله أم لم يوجد، وجدت تكاليف إلهية أم لم توجد؟!

إذا كان العقل غير مصدق بوجود تكاليف إلهية، أو كان غير مؤمن بوجود الله فهل يمكن تصور القضية الشرطية؟

عمار ابورغیف

[1] يحوث في علم الأصول، م4، ص28 ـ 29.

[2] بحوث في علم الأصول، م4، ص65.