الحرية من وجهة نظر السيد الشهيد الصدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

مقدمة
تعد مسالة الحرية واحدة من ابرز جدليات الفكر الانساني، واكثرها حضورا وتداولا منذ ظهور الانسان على الارض حتى‏الان، بل يمكننا ان نستشعر من القرآن الكريم ان هذه المسالة سبقت حضور الانسان وظهوره، فلما اخبر اللّه، سبحانه‏ وتعالى، ملائكته بخلق الانسان وان المخلوق الجديد سوف يكون خليفته في ارضه، احست الملائكة ان منصب ‏الخلافة يستبطن قدرا من الحرية والاختيار، وان ذلك سوف يسمح بظهور الفساد وتحوله الى امر ممكن، بعدما كان ‏ممتنعا، لان جميع مخلوقاته التي خلقها قبل الانسان كانت مسيرة طبقا لقانون تكويني صارم بحيث يمتنع عليها الفساد، وقدر الملائكة انهم ربما كانوا اولى بهذا المنصب لانهم (لا يعصون اللّه ما امرهم، ويفعلون ما يؤمرون) [التحريم: 6]، وبالتالي فالفساد ممتنع عليهم، ومن الانسب ان تكون الخلافة لهم، فانطلقوا يتساءلون: (اتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال اني اعلم ما لا تعلمون) [البقرة: 30]، فان الطاعة وعدم صدور المعصية يكون لهما شان واعتبار عندما يصدر عن حرية واختيار بحيث يكون العبد قادرا على الطاعة والمعصية معا، بل لا تسمى الطاعة طاعة حتى تصدر عن حرية واختيار، ولذا لا تسمى مطاوعة الطين للبناء طاعة، فضلا عن ان توجب‏ له المدح والثناء، فالكمال لا يكون كما لا حتى يصدران عن حرية وقصد واختيار، وسيتضح من خلال البحث ان هذه‏هي النقطة المركزية في الرؤية الاسلامية لمسالة الحرية.
لا نريد ان نستبق القلم ولا ان نستعجل النتائج. وانما غرضنا الاشارة الى اهمية موضوع الحرية وخطورته في الظروف ‏الراهنة التي يجتازها الفكر الاسلامي المعاصر، وضرورة الاستهداء بانقى
المصادر الفكرية واكثرها اصالة عندما يقوم‏ الانسان بمعالجتها، ويتصدى لبيان موقف الاسلام منها ورايه فيها.
وهذا ما يدعونا الى مطالعة تراث الرواد الاوائل للنهضة الاسلامية المعاصرة امثال سيد قطب والمودودي والشهيد مرتضى المطهري والسيد الشهيد الصدر، وعلى راسهم جميعا الامام الخميني (ره). واستلهام ما يمكن استلهامه من‏المعالجات المبتكرة للقضايا الراهنة من عطاء تلك المدرسة واصولها الخلاقة. والدراسة التي بين ايدينا محاولة‏ متواضعة لتقديم قراءة عن فكر الرائد الكبير الشهيد السيد محمد باقر الصدر (ره) ورؤيته التاسيسية المبدعة لهذه‏ المسالة، على امل ان تكون قراءة موفقة. والمصادر التي تعتمد عليها هذه القراءة هي: اقتصادنا، الاسلام يقود الحياة، المدرسة الاسلامية، نظرة عامة في ‏العبادات، المرسل الرسول الرسالة، المدرسة القرآنية، فلسفتنا، مقال الحرية في القرآن، جواب السيد الشهيد على سؤال‏ حول الفرق بين الاستعمار والفتح الاسلامي، بحوث في علم الاصول.
مفهوم الحرية والجانب الذي نقصده منها تطرح مسالة الحرية من جهات متعددة، فتارة يبحث في
تعريفها وتحديد معناها، واخرى يبحث في وجودها ومدى‏ واقعيتها ومقدار ما يتمتع الانسان به منها، وثالثة في اقسامها ومدى تاثيرها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية‏ والسياسية وواضح ان مهمة هذه الدراسة ليست التصدي الى موضوع الحرية نفسه، بل هي التصدي لبيان وجهة نظر السيد الشهيد الصدر فيها، وبالتالي فالدراسة معنية بهذه الجهات والمحاور بمقدار ما تناوله السيد الشهيد منها.
اما البحث الاول: فلم نعثر في التراث الفكري للسيد الشهيد الصدر (ره) على معالجة وتناول له، وواضح ان السيد الشهيد الصدر ليس باحثا اكاديميا يتولى بجهده معالجة موضوع معين من الفه الى يائه، وانما هو مفكر اسلامي يتناول ‏القضايا الفكرية من زاوية اشباع الحاجات المطلوبة ومل‏ء الفراغات التي تتطلب قدرة فكرية استثنائية. كما ان موضوع ‏الحرية، وان كان من جملة ما يعالجه الاسلام من افكار وقضايا، الا انه ليس مبدا اساسيا فيه، ولا شعارا مركزيا في‏ حضارته، وبالتالي فالمفكر الاسلامي ليس معنيا بان يقدم معالجة شاملة لموضوع ليس له موقع مركزي في الاسلام، نعم ‏على المفكر الغربي ان يقدم هذه المعالجة الشاملة للحرية لان الحرية هي القاعدة التي قامت عليها الحضارة ‏الغربية. واذا ما طالعنا التراث الغربي في تعريف الحرية وتحديد معناها ومفهومها راينا فيه تاكيدا متواصلا على وجود تعاريف ‏ومعان مختلفة كثيرة للحرية حتى قال مونتسكيو: “ليست هناك كلمة اعطيت معاني مختلفة كالحرية‏” ثم عرفها بعد ذلك بقوله: “ان يقدر المرء على ان يعمل ما ينبغي عليه ان يريد، والا يكره على عمل ما لا ينبغي ان يريد… هي‏الحق في ان يعمل المرء كل ما تجيزه القوانين العادلة، واذا كان لمواطن ان يعمل ما ينهى عنه كان لغيره نفس هذا الحق‏ فتلاشت الحرية‏” وهناك من ذهب الى استحالة تعريف الحرية، لان التعريف يقتضي ذكر الحد الذي يتقيد الشي‏ء به وجودا وعدما، فاذا ذكرت الحد انتفت الحرية، وهذا يعني استحالة تعريف
الحرية السيد الشهيد لم يجد نفسه معنيا بهذا الجانب، الا انه لما راى ضرورة معالجة موضوع الحرية وابداء راي الاسلام فيها، احس بضرورة بيان الزاوية التي تعنيه، وبالتالي كان لابد له من بيان المفهوم الذي يريد من خلاله معالجة هذا الموضوع،وبيان معنى الحرية الذي يقصده بالطرح فكتب يقول: “ونحن حين نطلق كلمة الحرية نقصد بها معناها العام، وهو نفي‏ سيطرة الغير، فان هذا المفهوم هو الذي نستطيع ان نجده في كل من الحضارتين وان اختلف اطاره وقاعدته الفكرية في كل منهما” لكنه، بعد عدة صفحات، يحلل الحرية الى مدلولين: مدلول سلبي وآخر ايجابي، ويميز على اساس ذلك بين الاسلام‏ والغرب، فالحرية الغربية “تعبير عن ايمان الانسان الغربي بسيطرته على نفسه وامتلاكه لارادته بعد ان رفض خضوعه ‏لكل قوة، فلا تعني الحرية في الديمقراطية الراسمالية رفض سيطرة الاخرين فحسب، بل تعني اكثر من هذا، سيطرة‏ الانسان على نفسه وانقطاع صلته عمليا بخالقه وآخرته، واما الاسلام فموقفه يختلف بصورة اساسية عن موقف‏ الحضارة الغربية، فهو يعنى بالحرية، بمدلولها السلبي، او بالاحرى معطاها الثوري الذي يحرر الانسان من سيطرة‏ الاخرين ويكسر القيود والاغلال التي تكبل يديه، ويعتبر تحقيق هذا المدلول السلبي للحرية هدفا من الاهداف الكبرى ‏للرسالة السماوية بالذات (ويضع عنهم امرهم والاغلال التي كانت عليهم) [الاعراف: 156]. ولكنه لا يربط بين هذا وبين مدلولها الايجابي في مفاهيم الحضارة الغربية لانه لا يعد حق الانسان في التحرر من سيطرة الاخرين والوقوف‏ معهم على صعيد واحد نتيجة لسيطرة الانسان على نفسه، وحقه في تقرير سلوكه ومنهجه في الحياة، الامر الذي نطلق‏ عليه المدلول الايجابي للحرية في مفاهيم الحضارة الغربية، وانما يربط بين الحرية والتحرر من جميع الاصنام والقيود المصطنعة، وبين العبودية المخلصة للّه، فالانسان عبد اللّه قبل كل شي‏ء، وهو بوصفه عبدا للّه لا يمكن ان يقر سيطرة ‏لسواه عليه او يخضع لعلاقة صنمية مهما كان لونها وشكلها، بل انه يقف على صعيد العبودية المخلصة للّه مع ‏المجموعة الكونية كلها على قدم المساواة‏” اننا، في جانب المفهوم من موضوع الحرية، نلمس خصيصة بارزة من خصائص المدرسة الفكرية للسيد الشهيد الصدر، وهي ان هذه المدرسة قد عبات جميع طاقاتها الاستثنائية من اجل معالجة المسالة الاجتماعية للانسان المعاصر ولم ‏تجد امامها فرصة كافية للخوض في جوانب اكاديمية ذات ثمرات جانبية لا تصب في صميم هذه المسالة التي كانت ‏الهاجس الاهم لتلك المدرسة الفذة، حتى عندما كانت تخوض في الابحاث الموغلة في التجريد، حيث كانت المسالة‏ الاجتماعية بوابة البحث الفلسفي والمنطق الذي عالجه السيد الشهيد في كتابيه الشهيرين: فلسفتنا والاسس المنطقية‏ للاستقراء. اما البحث الثاني: فقد كان متوقعا ان يتناوله بنحو من الانحاء في كتاب “فلسفتنا” المخصص للرد على المادية‏ الديالكتيكية، او كتاب “اقتصادنا” الذي عني عناية خاصة بالرد على المادية التاريخية، وذلك لقوة المناسبة بين هذين ‏الموضوعين وموضوع الحرية الانسانية، وبخاصة ان السيد الشهيد لا يخفي اعتقاده بان الماركسية هي اكمل صورة ‏وصلت اليها الفلسفة المادية، وان هذه الفلسفة تنطوي على فكرة جبرية، ولكن الذي يطالع الكتابين لا يعثر فيهما على‏ اثر مباشر لهذا البحث سوى اشارة عابرة في نهاية كتاب “فلسفتنا” ذكر فيها: “ان تكيف الافكار العملية بمقتضيات البيئة ‏وظروفها ليس آليا بل هو تكيف اختياري ينشا من دوافع ارادية في الانسان تسوقه الى جعل النظام المنسجم مع محيطه وبيئته‏” واكد، في كتابه “المرسل الرسول الرسالة‏”، ان “اهم ظاهرة في الكون: هي ظاهرة الاختيار لدى الانسان، فان الانسان كائن ‏مختار…”، وفي سياق نفي الجبرية المادية يلاحظ ان “الظروف الموضوعية لا تحرك الانسان كما تحرك العاصفة اوراق‏ الشجر لان هذا يعطل دوره ككائن هادف، فلابد للظروف الموضوعية اذن من تحريك الانسان عن طريق الاثارة والايحاء بتبني اهداف معينة، وهذه الاثارة ترتبط بادراك الانسان للمصلحة في موقف عملي معين‏” واوسع محل تعرض فيه السيد الشهيد للبحث الثاني المتعلق بمدى واقعية الحرية والاختيار لدى الانسان هو درس ‏البحث الخارج لعلم الاصول، حيث ناقش فيه هذا الموضوع كما هو ديدن علماء الاصول كلما مر الدرس الاصولي ‏ببحث الطلب والارادة والفرق بينهما، وتحقيق الحق في هذه المسالة التي اختلف فيها الاشاعرة مع المعتزلة ‏وانجر الخلاف فيها الى البحث في مسالة الجبر والتفويض. وهنا ميز السيد الشهيد هذه المسالة وعدها مركبة من مسالتين‏ هما:

1 مسالة كلامية يبحث فيها عن حقيقة الفاعل الذي تصدر منه افعال الانسان، هل هو اللّه او الانسان نفسه؟ فقال ‏الاشاعرة: ان الفاعل هو اللّه وانتهوا بذلك الى الجبر، وقال المعتزلة: ان الفاعل هو الانسان، فان هذا لا يدل على الاختيار فلعل فاعلية الانسان لافعاله كفاعلية النار للاحراق لا اختيار فيها. وعلى اساس ذلك، انجز بحثا في مرحلتين: كلامية وفلسفية انتهى الى اثبات الاختيار الانساني وهذا الاثبات النظري للحرية والاختيار الانساني لم يتركه السيد الشهيد اثباتا نظريا بعيدا عن الواقع، بل حوله الى واقع‏ عبر تطبيقه على الساحة التاريخية، حيث خصص مساحة واسعة من كتابه “المدرسة القرآنية‏” لبيان دور الانسان ومحتواه‏الروحي واختياراته في حركة التاريخ والمجتمع، ذلك ان التاريخ يمثل التطبيق الميداني الذي يكشف عن جدلية الحرية ‏بين اللّه والانسان، والقرآن الكريم هو افضل من يكشف لنا قوانين هذه الجدلية وطبيعتها. وكيف يتحرك التاريخ بين قطب ‏مطلق تعود كل حركة وكل شي‏ء اليه، وهو اللّه سبحانه، وبين قطب نسبي محدود اتيحت له الحرية في نطاق تكويني ‏معين، وهو الانسان، فلا جبر الهيا مطلقا ولا تفويض انسانيا مطلقا وانما امر بين امرين، وقد اطلق القرآن الكريم على ‏العلاقة بين هذين القطبين وعلى القوانين التي تسيرها وتنظمها وعلى الحركة التاريخية المنبعثة عنها اسم “السنن‏”، وكرر هذه التسمية سبع عشرة مرة، قادحا بذلك شرارة فكرة لم يلتفت اليها الفكر الانساني الا في القرن السابع عشر الميلادي ‏عندما ظهرت بعنوان: “فلسفة التاريخ‏”، وكانتالمادية التاريخية في ما بعد من جملة الاتجاهات الغربية في هذاالمضمار.
فالسنن القرآنية هي القوانين التي تنظم حركة التاريخ على اساس حرية الانسان واختياره، وفي نطاق ارادة اللّه الازلية، وتعد معالجة السيد الشهيد الصدر لهذا الجانب من اروع ما قيل فيه. ولنستمع اليه وهو يقول: “هذا الوهم، وهم التعارض ‏والتناقض بين فكرة السنة التاريخية او القانون التاريخي وبين فكرة اختيار الانسان وحريته، هذا الوهم كان من الضروري للقرآن الكريم ان يزيحه وهو يعالج هذه النقطة بالذات، ومن هنا اكد سبحانه وتعالى على ان المحور في تسلسل ‏الاحداث والقضايا انما هو ارادة الانسان‏” هذه السنة التاريخية للقرآن بينت بلغة القضية الشرطية لان مرجع هذا المفاد القرآني الى ان هناك علاقة بين تغييرين، بين تغيير المحتوى الداخلي للانسان وتغيير الوضع الظاهري للبشرية والانسانية‏” ومن امثلة هذه السنة قوله تعالى: (ان اللّه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم) [الرعد: 11].
وقد لاحظ ان هناك صيغة ثانية للسنن التاريخية هي صيغة القضية الفعلية الناجزة وان “هذا الشكل من السنن التاريخية ‏هو الذي اوحى في الفكر الاوروبي بتوهم التعارض بين فكرة سنن التاريخ وفكرة اختيار الانسان وارادته‏”. واذا انتقلنا من الساحة التاريخية التي هي ساحة العلاقة بين الارادة التكوينية الالهية وارادة الانسان الى الساحة التشريعية‏ التي هي ساحة العلاقة بين الارادة التشريعية الالهية وبين ارادة الانسان، وجدنا القرآن الكريم ينظم هذه العلاقة على ‏النحو الذي يؤكد وجود الارادتين معا، ووجود الرابطة بينهما ايضا، وذلك عبر مفهوم الخلافة البشرية الذي يصفه السيد الشهيد بقوله: “لا اعرف مفهوما ابعد من مفهوم الخلافة للّه عن الاستسلام للقدر والظروف، لان الخلافة تستبطن معنى‏ المسؤولية تجاه ما يستخلف عليه ولا مسؤولية بدون حرية وشعور بالاختيار والتمكن من التحكم في الظروف‏”، وقد دون في المحاضرة الثامنة من “المدرسة القرآنية‏” اروع الافكار في بيان مفهوم الخلافة البشرية عن اللّه سبحانه، حيث ‏لاحظ ان القرآن الكريم طرح مفهوم الخلافة “تارة بوصفها فاعلية ربانية… اني جاعل في الارض خليفة… جعلا من اللّهيمثل الدور الايجابي والتكريمي من رب العالمين للانسان، وعرض الصيغة الرباعية نفسها من زاوية اخرى، عرضها بوصفها وبنحو ارتباطها مع الانسان بما هي امر يتقبله الانسان، عرضها من زاوية تقبل الانسان لهذه الخلافة، وذلك في ‏قوله تعالى: (انا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فابين ان يحملنها واشفقن منها وحملها الانسان انه كان ‏ظلوما جهولا). الامانة هي الوجه التقبلي للخلافة والخلافة هي الوجه الفاعلي والعطائي للامانة‏”. وهذا ما يبرز المضمون الايجابي الخلاق الذي يستبطنه مفهوم الخلافة، فهو من جهة الخلافة تكريم ورعاية ومسؤولية، ومن
جهة الامانة تكريس للاختيار والحرية الانسانية. وهنا يعلق السيد الشهيد بقوله: “واكبر الظن ان هذه الحقيقة هي التي‏اثارت في نفوس الملائكة المخاوف من مصير هذه الخلافة وامكانية انحرافها عن الطريق السوي الى طريق الفساد وسفك الدماء… ومن هنا… قدموا انفسهم كبديل عن الخليفة الجديد… ومن هنا علم اللّه تعالى آدم الاسماء كلها واثبت ‏للملائكة من خلال المقارنة بينه وبينهم ان هذا الكائن الحر الذي اجتباه للخلافة قابل للتعليم والتنمية الربانية، وان اللّه قد وضع له قانون تكامله من خلال خط آخر يجب ان يسير الى جانب خط الخلافة، وهو خط الشهادة الذي يمثل القيادة‏ الربانية والتوجيه الرباني على الارض‏”. ويوضح السيد الشهيد ان خط الخلافة يندمج في مرحلتي
النبوة والامامة مع خط الشهادة في شخص النبي والامام، لانهما شهيدان من جهة، وممثلان عن الجماعة البشرية من جهة اخرى، ووظيفتهما انتشال هذه الجماعة وسوقها نحوالكمال، والشهادة في هاتين المرحلتين قرار سماوي لا اختيار للانسان فيه، نعم في المرحلة التالية ينفصل الخطان، بعدما استطاعا مجتمعين ان يرسخا التوحيد في الارض ويمرنا البشرية على منهج العبودية الشاملة للّه سبحانه وتعالى، وذلك في مرحلة المرجعية، حيث يتاح للامة دور في انتخاب المرجع الشهيد الذي تراه، فالمرجع استمرار لخط ‏الشهادة، والامة استمرار لخط الخلافة. ومن سياق ذلك كله يتضح وجه المغالطة في شبهتين هما:
1. الشبهة القائلة ان المنطق الديني منطق جبري بطبعه وجوهره وان الدين ينطوي على مصادرة جوهرية للحرية.
2. الشبهة القائلة اننا نريد الحرية للانسان ولا شان لنا مع النظريات والاديان، لان الاصل هو الانسان لا النظريات ‏والاديان. اما الشبهة الاولى فجوابها: ان مسالة الحرية من جملة المسائل المشتركة التي تطرح على بساط البحث الديني والمادي‏ معا، ذلك ان الانسان مخلوق يتوسط الارض والسماء، ويخضع لتاثيراتهما، وهو في ماهيته منقسم بين جنبة سماوية‏ هي الروح وجنبة ارضية هي الغرائز، ومسالة الحرية حينما تطلق في نطاقها الفلسفي يراد بها ان المؤثرات الطبيعية ‏التكوينية التي لا اختيار للانسان فيها ولا يقدر على دفعها كالمناخ، والبيئة والوراثة والعرق والعامل الاقتصادي وضغط ‏الحاجات المادية القاهرة التي يعجز الانسان امامها فتضطره الى اتجاه معين، مثل هذه المؤثرات التي تعطي عناوين‏ فلسفية معينة كالضرورة والصيرورة هل تشكل مصادرة للحرية الانسانية او لا؟ فالمنكرون للحرية يجيبون بالايجاب ‏والمؤمنون بها يجيبون بالنفي.
والفرق الوحيد بين المؤمن والمادي، في هذه المسالة، هو ان المؤمن يسند هذه‏المؤثرات الى اللّه سبحانه باعتبارها من مخلوقاته، فان اجاب بنفي الحرية فغرضه ان اللّه يجبر العبد على افعال عبر هذه ‏المؤثرات ونحوها، وان اثبت الحرية فغرضه ان اللّه لا يجبر العبد على افعاله وان هذه المؤثرات لا تشكل دليلا على نفي ‏الحرية، بينما المادي لا يسند هذه المؤثرات الى قدرة غيبية مطلقة، بل يقف عندها ويدرسها فلسفيا، وقد تكون النتيجة عنده نفي الحرية وقد تكون اثباتها. وكما ظهرت جذور جدلية الدين والحرية في مسالة كلامية هي الجبر والاختيار كذلك ظهرت جذور جدلية الفكر المادي ‏والحرية في مسالة فلسفية هي مسالة الضرورة والصيرورة والحتمية، وتعني الحتمية ان الارادة والحرية امران ظاهريان‏ وهميان، واننا خاضعون للحتمية في طرائق سلوكنا. وسياتي ان معنى الحرية عند المؤمن في نطاقها الاجتماعي هو ان تشتد عزيمة الانسان في مواجهة المؤثرات الطبيعية ‏ولا ينسحق امامها، بينما تعني الحرية عند المادي في نطاقها الاجتماعي مكافحة سلطة الاخر، اي ان حرية المؤمن ‏والمادي تسيران في اتجاهين متعاكسين.

وهكذا يتضح ان الحرية مسالة مشتركة بين الفكر الديني والمادي معا وانها تظهر في الفكر الديني بلون معين، وفي الفكر المادي بلون آخر، وان الادعاء بان الدين ينطوي في جوهره على مصادرة للحرية مغالطة باطلة، والادعاء بان الليبرالية ‏وهي ذات هوية مادية تنطوي في جوهرها على اطلاق للحريات، عمل اشبه بالشعارات الاعلامية منه بالفكرة ‏المنطقية. ونقطة الخطا المشتركة بين الادعاءين والمغالطتين مسالة اجتماعية تاريخية اختص بها الانسان الغربي، ومن فرط اعتداد هذا الانسان بنفسه ان جعل هذه المسالة عنوانا عاما لا يختص به، بل يشمل الانسان بما هو انسان، وتلك المسالة هي ‏مسالة الكنيسة والصراع بين رجال العلم والاصلاح من جهة ورجال الحكم والكنيسة من جهة ثانية، ومع ان هذه مسالة‏ خاصة لها شروطها الاجتماعية وملابساتها التاريخية وظروفها الفكرية الخاصة بها، الا انهم جعلوا الكنيسة مثالا لكل‏ دين، واستنتجوا ان الدين مقولة قوامها الاستبداد، لان الرمزية الدينية اذا حلت في فرد، اضفى ذلك الفرد على نفسه‏ خصائص مطلقة، ونظر الى من حوله من البشر نظرة المطلق الى النسبي، نظرة السيد الى العبد. ولعلهم غفلوا عن ان هذه الحالة التي يصفونها ويرون اليها كانها سلوك ديني حتمي ونموذجي حالة اخلاقية سيئة قابلة ‏للظهور في مجتمع مادي وفي مجتمع ديني غافل او منحرف عن الحقائق الدينية التي تعد الجميع سواء في صقع‏ العبودية للّه سبحانه، وان العلو والاستكبار ليسا سلوكا مرفوضا فقط من وجهة نظر الدين، بل سلوك يعارض التوحيد الحقيقي، وهي ليست قابلة للظهور في مجتمع ديني واع يؤمن بان (تلك الدار الاخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في‏الارض ولا فسادا) [القصص: 81].وان (المؤمنين والمؤمنات بعضهم اولياء بعض) [التوبة: 71]. وان من خصائص‏ المؤمنين ان (امرهم شورى بينهم) [الشورى: 38]. الفرعونية التي قالت (انا ربكم الاعلى) [النازعات: 24]
والماركسية التي آمنت بديكتاتورية البروليتاريا مثالان بارزان‏ للاستبداد المادي، والخلفاء الامويون واباطرة الروم مثالان بارزان للاستبداد المتلفع بعباءة دينية زائفة، بينما لا يوجد مثال واحد لاستبداد ديني حقيقي، ولو كان الدين طريقا حتميا للاستبداد. لكان الرسول الاعظم (ص) اكبر المستبدين‏ في التاريخ، فهل يشهد التاريخ لاستبداده او لتواضعه وتقيده بالقانون حتى وصفه القرآن الكريم بانه: (لو تقول علينا بعض الاقاويل لاخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) [الحاقة: 46]. وقد عرض السيد الشهيد الصدر لهذه الشبهة، في سياق مناقشاته العميقة للمادية التاريخية، حيث اشار الى ان ‏الماركسية تعتبر “تاكيد المثالية على حقائق مطلقة الوجود يتضمن ايمانهم بقيم مطلقة للوضع الاجتماعي ايضا، فمادامت المثالية او الميتافيزيقية تؤمن بان الحقيقة العليا (اللّه) في الوجود مطلقة ثابتة فهي تؤمن ايضا بان الظواهر العليا في‏ المجتمع من حكومة واوضاع سياسية واقتصادية حقائق ثابتة ايضا”.
ويرد السيد الشهيد على هذه الشبهة بعدم وجود اساس للتلازم المدعى بين الايمان بقوة مطلقة على صعيد النظرة‏ الكونية والايمان بقوى مطلقة على الصعيد الاجتماعي والسياسي، ويستشهد على ذلك بارسطو زعيم الميتافيزيقية‏ الفلسفية الذي يؤمن بالنسبية على الصعيد السياسي، ويقارن في دنيا الفلسفة اليونانية القديمة بين هرقليطس، اكبر فيلسوف مادي قديم، والذي كان ارستقراطيا بعيدا عن الروح التغييرية الثورية الديمقراطية، وبين افلاطون الذي كان ‏يدعو الى فكرة ثورية، وهو امام المثالية في وقته.
ويقارن في دنيا الفلسفة الغربية الحديثة بين هوبز المادي الذي ناهض الثورة الشعبية في انجلترا التي تفجرت بقيادة ‏كرومويل، ثم هرب الى فرنسا وايد الحكم المطلق هناك ووضع كتابه “التنين‏” في تاييده ونصرته، وبين باروخ سبينوزاالفيلسوف الصوفي الذي آمن بحق الشعب في انتقاد السلطة بل وفي الثورة عليها ايضا. اما الشبهة الثانية فجوابها: انها تنطلق من نظرة سطحية عاطفية شانها شان من يقول: اننا نريد العدالة ولا شان لنا مع‏ الاديان والنظريات والقوانين والمقررات!!
فان الامور اذا اخذت بما هي شعارات وعناوين تعد نقاط اتفاق اكثر افراد البشرية ولكنها عندما يؤتى بها الى الواقع التطبيقي تظهر لها جذور وامتدادات تحتاج الى تحقيق وتنقيح وتمحيص، فمن يريد الحرية عليه ان يحدد المعنى الذي يريده منها، والمفهوم الذي يقصده، فهل يريد الحرية بمفهومها المادي، او بمفهومها الديني، او بمفهوم جديد لا ديني ولا مادي؟ وهذا المفهوم الجديد الذي قد يطلبه اصحاب هذه الشبهة لايشكل خروجا عن الاطر النظرية الايديولوجية التي ارادت الشبهة الفرار منه، وانما هو بحد ذاته اطار نظري قائم بذاته، وحينئذ فلابد لنا من مناقشة هذا الاطار كما نناقش الاطار الديني والاطار المادي.
والقرآن الكريم فضح هذا المفهوم الثالث، واشار الى انه ينطوي على تضليل وخداع اكثر مما ينطوي على فكرة واقعية، حيث قال تعالى: (ارايت من اتخذ الهه هواه) “[الجاثية: 23]”، فالمفهوم الثالث ليس خارجا عن فكرة الالوهية، بل هوداخل فيها ولكن في اطار جديد زائف. وهذا المفهوم الثالث هو الذي تورطت به الحضارة الغربية، وضللت من خلاله العديد من الشعوب والامم، وذلك
حينما نادت بالفصل بين الدين والسياسة، فان هذا النداء لا ينطوي على فكرة حقيقية، لان الواقع لا يخلو من احد امرين:
فاما ان يكون الهيا، او يكون ماديا، ولذا لا توجد فلسفة ثالثة ليست الهية ولا مادية، وبالتالي لا يوجد اساس فلسفي لنظام‏ اجتماعي ليس الهيا وليس ماديا، وهنا كتب السيد الشهيد يقول: “فان المسالة الاجتماعية للحياة تتصل بواقع الحياة ولاتتبلور في شكل صحيح الا اذا اقيمت على قاعدة
مركزية تشرح الحياة وواقعها وحدودها، والنظام الراسمالي يفقد هذه ‏القاعدة، فهو ينطوي على خداع وتضليل، او على عجلة وقلة اناة‏”. والدليل على مدى اتصال المسالة الاجتماعية ‏بالمسالة الفلسفية ان الديمقراطية تقوم “على اساس الايمان بعدم وجود شخصية او مجموعة من الافراد بلغت من‏العصمة في قصدها وميلها وفي رايها واجتهادها الى الدرجة التي تبيح ايكال المسالة الاجتماعية اليها. والتعويل في ‏اقامة حياة صالحة للامة عليها، وهذا الاساس بنفسه لا موضع له ولا معنى الا اذا اقيم على فلسفة مادية خالصة لا تعترف ‏بامكان انبثاق النظام الا عن عقل بشري محدود” ولذا فالديمقراطية تعد، في المقياس الفلسفي، نظاما ماديا “بكل ما للفظ من معنى، فهو اما ان يكون قد استبطن المادية، ولم يجرؤ على الاعلان عن ربطه بها وارتكازه عليها، واما ان يكون جاهلا بمدى الربط الطبيعي يبين المسالة الواقعية‏ للحياة ومسالتها الاجتماعية… وهو بكلمة نظام مادي وان لم يكن مقاما على فلسفة مادية واضحة الخطوط‏” اما البحث الثالث: فهو النقطة الاساسية المقصودة بموضوع الحرية، وهو البحث في دور الحرية في الحياة الاجتماعية‏ والاقتصادية والسياسية، وقد عالجه السيد الشهيد بصورة وافية مستوعبة في مؤلفاته العديدة، وقد اشار السيد الشهيد الصدر الى ان المقصود ببحث الحرية هو الحرية في نطاقها الاجتماعي، اما الحرية الطبيعة التي تعني حرية الانسان ازاء الطبيعة وممارسة اختياره بشانها فهي خارجة عن نطاق البحث الايديولوجي المذهبي، لان المذاهب والنظريات لم‏ تناقش في هذه الحرية، ولم تخالف في كونها المظهر الاصيل لكرامة الانسان، انما البحث وقع في الحرية الاجتماعية‏ بصيغها الاربعة: الحرية الاقتصادية والسياسية والشخصية والفكرية، ونقطة الفرق بين الاسلام والغرب، هنا، تتمثل في ‏الاجابة عن السؤال الاتي: هل يتجسد المظهر الاصيل لكرامة الانسان في الحرية، بجميع مجالاتها الطبيعية والاجتماعية ‏والسياسية، او بخصوص الحرية الطبيعية، فالغرب يدعي الجواب الاول، ويؤسس عليه ان تحديد الحرية في كل مجال‏ من مجالاتها يعد مساسا بالكرامة الانسانية بينما يختار الاسلام الجواب الثاني.
الحرية وجدلية الارض والسماء ان الكلام المتقدم في جواب الشبهة الثانية هو المدخل المناسب للبحث في موضوع الحرية، والاطار الصحيح الذي لايمكن من دونه استنطاق الحقيقة فيه، وهو ما اختاره السيد الشهيد الصدر في معالجاته المنثورة في مختلف كتبه وآثاره ‏النفيسة لموضوع الحرية، بل ان المتتلمذ في مدرسته يستطيع ان يعد ذلك القطب الاساس في معالجاته للمسالة ‏الاجتماعية برمتها، وقد سجل ذلك بقلمه اذ كتب يقول: ان اشكال “التناقض الاجتماعي الذي يواجهه خط العلاقات‏ بين الانسان واخيه الانسان، وهذه الاشكال المتعددة ذات الروح الواحدة كلها تنبع من معين واحد، من تناقض رئيسي‏ واحد، وهو ذلك الجدل الانساني الذي شرحناه، القائم بين حفنة التراب واشواق اللّه سبحانه، ما لم ينتصر افضل‏ النقيضين في ذلك الجدل الانساني فسوف يظل هذا الانسان يفرز التناقض تلو التناقض‏”. ومسالة الحرية من جملة تلك المسائل التي تخضع لهذه الجدلية، وتعد تطبيقا من تطبيقاتها. للحرية، في نطاقها الاجتماعي والسياسي، طريقان ومنبعان، تتولد من كل منهما بطريق مختلف عن الاخر، اولهما فكرة ‏سيادة الانسان على نفسه، وثانيهما فكرة سيادة اللّه على الانسان والكون معا، من الفكرة الاولى تعد الحرية، بمفهومها الغربي، ومن الفكرة الثانية تنبع الحرية بمفهومها الاسلامي، ونتيجة لتعاكس الفكرتين نجد الحرية الناتجة عن كل منهما تسير في اتجاه معاكس للحرية الناتجة عن الاخرى، الفكرة الاولى تعد الانسان منبع الحرية، فهو سيد على نفسه وعلى‏ الطبيعة ولا سيد عليه وعليها غيره. والترجمة العملية لهذه الفكرة تؤدي الى اطلاق التناقضات والصراعات الاجتماعية‏ بالنحو الذي ينتهي الى ان تكون حرية الاقوى عنصر نفي لحرية الاضعف، ولو في اطار القانون، والى ان يكون الانسان‏ اسيرا لنزواته وغرائزه المادية والجسدية وان كان في الظاهر يبدو كانه حر في تصرفاته، فتبدا الحرية الغربية من التحرر من سلطة اللّه وسيادته على الكون والانسان، وتنتهي باقرار تبعية الانسانية لسلطان المادة وطاغوت الجسد.
بينما تعد الفكرة الثانية اللّه سبحانه مصدر الحرية، فهي تبدا بنفي سيادة الانسان على نفسه، وتجعل ذلك حقا للّه سبحانه‏ وتعالى وما على الانسان الا ان يرتبط باللّه سبحانه وينتهلها منه، ولا يعني ذلك انه ياخذها بلا جهد كما تؤخذ المنحة، بل يعني ان سلطان المادة الذي لمسنا دوره في جعل الانسان عبدا لغرائزه وشهواته في الفكرة الاولى لا يمكن قهره ‏واطلاق حرية الانسان منه الا بالانضواء تحت لواء قوة اكبر منها، وبذا تبدا الحرية الاسلامية بالعبودية للّه وتنتهي بالتحرر من اغراء المادة وسلطانها.
وهكذا تبدو معركة الحرية معركة بين قطبين كل منهما يقول للانسان: كن عبدا لي حتى احررك من القطب الاخر.
المادة ‏تقول للانسان: انا قوة اكبر منك بل انا الحقيقة الوحيدة في الوجود ولا سبيل امامك الا ان تعترف بي وتنكر اللّه الذي ‏تصفه الاديان بانه القيمة المطلقة والمبدا الاعلى للوجود. واللّه سبحانه وتعالى يقول للانسان: انا خالقك وخالق الوجود والكون، وانت لا تستطيع بمفردك ان تقاوم سلطان
المادة وتاثيرها عليك، فآمن بي واتجه نحوي واتبع منهجي ‏التربوي والعبادي حتى تستمد من وجودي المطلق نفحة تتمكن بها من التحرر من طغيان المادة، فليست هناك حرية‏ مطلقة، وانما هي تحرر من قطب مقرونة بعبودية حتمية للقطب الاخر.
والفرق بين الاسلام والغرب: ان الاسلام يصرح بعبودية اللّه طريقا للتحرر من المادة، بينما الغرب يخفي طرف العبودية ‏للمادة ويعلن طرف سيادة الانسان على نفسه مبدا له. وهنا يصرح القرآن الكريم بان هذا خداع وحرية كاذبة، قال تعالى:(ارايت من اتخذ الهه هواه) “[الجاثية: 23]”.
التوحيد يقطع صلة الانسان بالمثل الارضية المنخفضة، ويبقي راسه مرفوعا الى اعلى فيكون بذلك عبدا للّه وسيد اعلى الارض، وتقوم المادة بعكس ذلك حينما تقطع صلته بالمثل السماوية العليا وتبقي راسه مطاطئا الى الارض، فيتحول مسار الانسان من اعلى الى اسفل، هذا هو جوهر الفرق الذي يطرحه السيد الشهيد الصدر بين الحرية الغربية ‏والحرية الاسلامية في كتاب “المدرسة الاسلامية‏” ومقال “الحرية في القرآن‏”، المنشور في مجلة الاضواء النجفية.
ويؤكد السيد الشهيد ان “انقطاع الصلة الحقيقية للانسان الاوروبي باللّه تعالى ونظرته الى الارض بدلا عن النظرة الى ‏السماء، انتزع من ذهنه اي فكرة حقيقية عن قيمومة رفيعة من جهة اعلى او تحديات تفرض عليه من خارج نطاق ذاته، وهياه ذلك نفسيا وفكريا للايمان بحقه في الحرية وغمره بفيض من الشعور بالاستقلال والفردية، الامر الذي استطاعت ‏بعد هذا ان تترجمه الى اللغة الفلسفية، او تعبر عنه على الصعيد الفلسفي، فلسفة كبرى في تاريخ اوروبا الحديثة، وهي الوجودية..”. ويمضي قدما في تحليله العميق مقررا: ان الحرية قد نشات في الحضارة الغربية “تحت ظلال الشك الجارف المرير الذي سيطر على تيارات الفكر الاوروبي كافة نتيجة للثورات الفكرية التي تعاقبت في فجر تاريخ اوروبا الحديثة وزلزلت ‏دعائم العقلية الغربية كلها”.
فالحرية الغربية “ظاهرة حضارية بدات شكا مرا قلقا وانتهت الى ايمان مذهبي بالحرية، وهي تعبير عن ايمان الانسان‏ الغربي بسيطرته على نفسه وامتلاكه لارادته بعد ان رفض خضوعه لكل قوة‏”. ويقسم السيد الشهيد الصدر الحرية الغربية الى: حرية شخصية وحرية اجتماعية. والحرية الاجتماعية تشمل الحرية‏ الفكرية والسياسية والاقتصادية. ثم يبدا بنقد هذه الحريات الاربع وتقويمها في ضوء فكرته السابقة عن المصير السي‏ء للحرية الغربية بحكم الاطار المادي الذي يحكمها.
فالحرية الشخصية حولت الشهوات والغرائز من اداة تنبيه خلقها اللّه سبحانه لترشد الانسان باتجاه تغذية مقومات ‏وجوده المادي الى “قوة دافعة تسخر الانسان دون ان يملك بازائها حولا او طولا، لانها اذا اصبحت كذلك خسر الانسان‏ حريته منذ بداية الطريق ولا يغير من الواقع شيئا ان تكون يداه طليقتين ما دام عقله وكل معانيه الانسانية التي تميزه عن ‏مملكة الحيوان معتقلة ومجمدة عن العمل‏”. فهذه حرية ظاهرية لا اثر كبيرا لها ما دام الانسان قد فقد قدرته على السيطرة على شهواته ولم يعد بوسعه ان يقل نعم او لا الا بالنحو الذي تقتضيه هذه الشهوات. ويضرب السيد الشهيد على ذلك مثالا بارزا هو فشل الحكومة الامريكية في منع المجتمع الامريكي من تناول الخمر رغم الامكانات الهائلة والمتنوعة التي جندت من اجل ذلك. وهذا دليل حسي على ان المجتمع الامريكي ليس حرافي سلوكه الشخصي وانه لا يستطيع ان يقول: لا لما يراه قبيحا في عقله وتجربته اليومية.
وهذه النتيجة تشمل الحرية في مجالها الاجتماعي، فالحرية السياسية والاقتصادية عندما تطرح في نطاق مذهب ‏اجتماعي مادي يصبح مدلولها العملي عبارة عن تحكم الاقوى بالاضعف: وان كانت في سياقها القانوني الظاهري تاخذ صورة حكم الاكثرية وتساوي الجميع في فرص الظهور، ويصبح المسرح الاجتماعي تجسيدا لمقولة الصراع من اجل‏البقاء، وما دامت الطبيعة لم تزود الجميع بقابليات متساوية، فان قانون تساوي فرص الظهور امام افراد المجتمع في‏ المجال السياسي والاقتصادي يصبح قليل الجدوي ويكون التاثير الاكبر للامكانات والاستعدادات المادية. وهنا كتب ‏السيد الشهيد الصدر يقول: “ان الفئة الراسمالية، بحكم مركزها الاقتصادي من المجتمع وقدرتها على استعمال جميع ‏وسائل الدعاية وتمكنها من شراء الانصار والاعوان، تهيمن على مقاليد الحكم في الامة وتتسلم السلطة لتسخيرها في‏ مصالحها والسهر على مآربها، ويصبح التشريع والنظام الاجتماعي خاضعا لسيطرة راس المال بعد ان كان المفروض في‏ المفاهيم الديمقراطية انه من حق الامة جمعاء، هكذا تعود الديمقراطية الراسمالية، في نهاية المطاف، حكما تستاثر به ‏الاقلية وسلطانا يحمي عدة من الافراد كيانهم على حساب الاخرين بالعقلية النفعية التي يستوحونها من الثقافة‏ الديمقراطية الراسمالية. ونصل هنا الى افظع حلقات الماساة التي يمثلها هذا النظام، فان هؤلاء السادة الذين وضع ‏النظام الديمقراطي الراسمالي في ايديهم كل نفوذ وزودهم بكل قوة وطاقة سوف يمدون انظارهم بوحي من عقلية هذا النظام الى الافاق ويشعرون بوحي من مصالحهم واغراضهم انهم في حاجة الى مناطق نفوذ جديدة…”.
فنشات ‏بسبب ذلك ظاهرة الاستعمار. وهكذا فاذلال الشعوب وفرض العبودية عليها ظاهرة تولدت في رحم الحرية الغربية، وهذا بنفسه دليل على ان الحرية‏ الغربية تنتهي الى اغلال وعبودية ورق. وهذه النتيجة انما تبرز اكثر في الاستعمار لان الاستعمار هو النقطة الاخيرة في ‏مسيرة الحرية الغربية باتجاه عبادة المادة. اما الحرية الفكرية في الغرب فيظهر مضمونها المخالف للحرية حينما يعلن الغرب السماح لظهور اي فكرة سوى تلك‏ التي لا تقبل بفكرة الحرية وتشكل خطرا عليها، “لان هذا التوسع في الحرية سوف يكون على حسابها ويؤدي في كثيرمن الاحايين الى الوان من العبودية الفكرية تتمثل في التقليد والتعصب وتقديس الخرافات‏”. اذ ليس معنى الحرية الفكرية ان يقال للانسان: فكر كما تريد وكما تشاء، لان هذا المعنى ينتهي الى مصادرة الفكر والحرية الفكرية، اذ يتاح للانسان تقليد آبائه، وتقليد مجتمعه والتعصب لمحيطه واسلافه، كما هو الشائع في اكثر الازمنة والامكنة. فهل في عبادة الاوثان، وعبادة البقرة، وتقديس بوذا، المنتشرة في افريقيا وشرق آسيا ما يدل على ‏وجود مظهر فكري وحرية فكرية، او انها تعصبات قومية وقبلية موروثة؟ وهل تحرر الانسان الغربي من التعصب لنفسه ‏والتعصب ضد غيره خصوصا تعصبه ضد الاسلام او انه صاغ هذا التعصب الذي كان يمارسه انسان الجاهلية الاولى ‏بصورة ساذجة في صياغة فكرية عبر نظريات اسبغ عليها طابعا فلسفيا وعمليا، كالقومية والنظرية العرقية، وهذا يعني ان ‏الحرية الفكرية الغربية قد صادرت نفسها، وانها اصبحت طعمة للتعصب، بعدما كان المفترض فيها ان تكون عامل ‏تشجيع للبرهان والدليل المنطقي. وهكذا يتضح ان الحرية الغربية، بمفهومها المادي المنطلق من فكرة سيادة الانسان على نفسه ونفي كل سيادة لغيره‏عليه، قد انتهت في المجالات السياسية والاقتصادية والشخصية والفكرية الى تكبيل واغلال وقيود، وحلول سيادة‏ المادة على الانسان. وبعدما كان المفروض تحرير الانسان من سلطة الاخر، اصبحت النتيجة وقوع الانسان تحت سلطة ‏ما هو ادنى منه في رتبة الوجود، وهو المادة.
فياتي الاسلام لينقل الانسان من عبودية المادة الى عبودية اللّه، من عبودية الادنى الى عبودية المطلق، من عبودية ‏تفرض نفسها بضغط الحاجات المادية الى عبودية تفرض نفسها بقوة الدليل والبرهان المنطقي، من عبودية مغلفة بشعارالحرية، الى عبودية صريحة تنتج حرية صادقة.
ياتي الاسلام ليفك الحصار المادي عن الانسان ويطلقه في فضاء الحياة ويقول له: ان الحرية هي ان (لا يتخذ بعضنا بعضا اربابا)، وان الطريق الى تحصيلها يتمثل في (الا نعبد الا اللّه ولا نشرك به شيئا) “[آل عمران: 64]”، وان هذا الطريق ‏هو طريق الانبياء لا غير (ويضع عنهم اصرهم والاغلال التي كانت عليهم) “[الاعراف: 156]”. وان العبودية القبيحة هي‏ عبودية المماثل (ان الذين تدعون من دون اللّه عباد امثالكم) “[الاعراف: 192]”.
اما عبودية المطلق الخالق العظيم فهي ‏ليست غير قبيحة فقط، وليست ضرورية فقط، بل هي (فطرة اللّه التي فطر الناس عليها) “[الروم: 30]”، وبالتالي فهي‏ طريق الحرية والكمال. ومن هنا يؤكد السيد الشهيد الصدر باستمرار، وفي مختلف مؤلفاته، ان التوحيد هو الاطار والاساس للحضارة الاسلامية ‏وان الحضارة الاسلامية تاخذ خصائصها الايجابية والفعالة والخلاقة من خلال هذا الاطار، وان هذا المعنى ينسحب‏ على جميع المفردات التفصيلية في الحياة، كالعدل، والعمل، والعلم، والاخلاق. فنجده يتحدث في كراس “نظرة عامة ‏في العبادات‏”عن دور المطلق في سوق البشرية نحو الكمال وحل تناقضاتها الاساسية، ويجري في “المدرسة القرآنية‏”مقارنة بين الدور الخلاق الذي تلعبه المثل العليا الحقيقية والدور الهدام الذي تلعبه المثل العليا الزائفة. وقد اشار في ‏اثناء هذه المقارنة الى الحرية بوصفها انموذجا للمثل العليا الزائفة. ولنستمع اليه حيث يقول في محاضرته: “الانسان الاوروبي الحديث، في بدايات عصر النهضة، وضع مثلا اعلى وهو الحرية. جعل الحرية مثلا اعلى لانه راى ان‏ الانسان الغربي كان محطما ومقيدا، كانت على يديه الاغلال في كل ساحات الحياة، كان مقيدا في عقائده العلمية ‏والدينية بحكم الكنيسة وتعنت الكنيسة… اراد ان يجعل من الانسان كائنا مختارا اذا اراد ان يفعل يفعل، يفكر بعقله لا بعقل غيره ويتصور ويتأمل بذاته ولا يستمد هذا التصور كصيغ ناجزة من الاخرين، وهذا شي‏ء صحيح الا ان الشي‏ء الخاطيء في ذلك هو التعامل الافقي، فان هذه الحرية بمعنى كسر القيود عن هذا الانسان، هذا قيمة من القيم، هذا اطار للقيم، ولكن هذا وحده لا يصنع الانسان، ليس هذا هو المثل الاعلى، فان هذا وحده لا يصنع الانسان، انت لا تستطيع‏ ان تصنع الانسان بان تكسر عنه القيود وتقول له: افعل ما شئت، لا يوجد انسان ولا كائن لا يوجد اقطاعي ولا قسيس ولا سلطان ولا طاغوت يضطرك الى موقف او يفرض عليك موقفا، هذا وحده لا يكفي، فان كسر القيود انما يشكل الاطار للتنمية البشرية الصالحة، يحتاج هذا الى مضمون، الى محتوى، مجرد انه يستطيع ان يتصرف، يستطيع ان يمشي في ‏الاسواق، هذا لا يكفي. اما كيف يمشي؟ ما هو الهدف الذي من اجله يمشي في الاسواق؟ المحتوى والمضمون هو الذي فات الانسان الاوروبي، الانسان الاوروبي جعل الحرية هدفا وهذا صحيح ولكنه صير من هذا الهدف مثلا اعلى، بينما هذا الهدف ليس الا اطارا في الحقيقة، اذا جرد هذا الاطار عن محتواه سوف يؤدي الى الويل والدمار، الى الويل ‏الذي تواجهه الحضارة الغربية اليوم التي صنعت للبشرية كل وسائل الدمار لان الاطار بقي بلا محتوى، بقي بلا مضمون‏”. ان المثل العليا والقيم المطلقة هي ما لا يقبل الحد من الامور، فاذا وضع لشي‏ء حد، لم يكن ذلك الشي‏ء مثلا اعلى، وقد وجدنا في تعريف مونتسكيو للحرية “ان يقدر المرء على ان يعمل ما ينبغي عليه ان يريده..” فهي ليست كل ما يريد، بل ‏ما ينبغي ان يريد، وهذا يعني ان للحرية حدا تنتهي عنده، ولا بد لهذا الحد من واضع يضعه، ولا بد من ان يكون هذا الواضع يمثل قدرة اعلى من الانسان حتى يكون حده ملزما ومؤثرا، وهذه لوازم لا يقبل بها الغربيون، ولعلهم بسبب ‏ذلك مال كثير منهم الى عدم امكان تعريف الحرية، رغبة منهم في ان يضفوا عليها معنى مطلقا، ويحولوها الى مثل ‏اعلى، ولكن المثل الاعلى لا يصنع، وكيف يصنعه الانسان والمفروض فيه ان يكون اساسا في بناء الانسان، هذا دورواضح. ويؤكد السيد الشهيد الصدر ان التوحيد يؤدي دورين اساسيين على صعيد الحرية هما:
1. انه يعطي الحرية مضمونها الحقيقي على الصعيد الاجتماعي والشخصي والسياسي والفكري، فليس الحرية ان يقال ‏للانسان: “هذا الطريق قد اخليناه لك فسر بسلام. وانما يصبح الانسان حرا حقيقة حين يستطيع ان يتحكم في طريقه ‏ويحتفظ لانسانيته بالراي في تحديد الطريق ورسم معالمه واتجاهاته، وهذا يتوقف على تحرير الانسان قبل كل شي‏ء من عبودية الشهوات التي تعتلج في نفسه…”. وعلى اساس ذلك نجده يحلل الحريات الاربعة ويراها حريات ناقصة في ظل الحياة المادية وتامة في ظل الحياة الدينية ‏الاسلامية.
2. دوره على الصعيد الثوري، فان الاسلام بفضل اطاره التوحيدي “ثورة اجتماعية على الظلم والطغيان وعلى الوان ‏الاستغلال والاستعباد.. غير ان هذه الثورة تميزت عن اي ثورة اجتماعية اخرى في التاريخ تميزا نوعيا لانها حررت ‏الانسان من الداخل، وحررت الكون من الخارج في وقت واحد، واطلقت على التحرير الاول اسم الجهاد الاكبر، وعلى ‏التحرير الثاني اسم الجهاد الاصغر”. ذلك ان التاريخ البشري قد شهد “منذ اقدم عصور الاستغلال اساسين مختلفين للثورة. الاساس الاول ما تزخر به قلوب ‏المستضعفين والمضطهدين من المشاعر الشخصية المتقدة بسبب ظلم الاخرين واستهتارهم بحقوق الجماعة…
الاساس الثاني: استئصال المشاعر التي خلقتها ظروف الاستغلال واعتماد مشاعر اخرى اساسا للثورة، وبكلمة اخرى‏ تطوير تلك المشاعر على نحو تمثل الاحساس بالقيم الموضوعية للعدل والحق والقسط والايمان بعبودية الانسان للّهالتي تحرره من كل عبودية، وبالكرامة الانسانية،…
وواضح من خلال المقارنة ان الاساس الثاني وحده هو الذي يشكل الخلفية الحقيقية للثورة والرصيد الروحي القادر على جعلها ثورة بدلا عن تجميدها في منتصف الطريق، بينما الاساس الاول لا يمكن ان ينجز سوى ثورة نسبية تتغير فيها مواقع الاستغلال…. وهنا ياتي دور الوحي والنبوة‏”. وعلى هذا الاساس نؤمن بان الثورة الحقيقية لا يمكن ان تنفصل بحال عن الوحي والنبوة وما لهما من امتدادات في حياة‏ الانسان، كما ان النبوة والرسالة الربانية لا تنفصل بحال عن الثورة الاجتماعية على الاستغلال والترف والطغيان‏”.
ولاجل هذا الدور الخلاق الذي يؤديه التوحيد والمثل العليا المطلقة في النفس والحياة البشرية، وهو دور يرقى الى‏الحد الذي يتيح للتوحيد ان يكون الاساس الوحيد الذي لا بديل له للحضارة الانسانية، نجد ان اللّه سبحانه وتعالى قد اطلق على الدين الذي بعث به الانبياء وجاءت به الرسالات والكتب السماوية، تسمية “الاسلام‏” بصيغة “افعال‏” وبالنحو الذي يعني حمل النفس الانسانية على ما ينبغي التقيد به. وهذا لا يعني ان النفس تفر من التوحيد، لان التوحيد فطرة اللّه التي فطر الناس عليها. والنفس تانس بالتوحيد ولا تفر منه، ولكن لاي شي‏ء جاءت صيغة “افعال‏” هذه المشعرة بوجود شي‏ء في الدين تفر منه النفس وقد اريد من الاسلام الزامها به؟ ذلك الشي‏ء هو الناحية الاجتماعية. او بتعبير آخر، التوحيد في امتداداته الاجتماعية التي تعني ضرورة تهذيب النفس واعدادها باتجاه البذل والعطاء حتى تكون في ‏خدمة الانسان وخدمة الصالح العام، وان لا تكون معتدية على الاخرين، ولا متجاوزة على حقوقهم، فان النفس لو خلي ‏لها السبيل تميل الى استيفاء ما تشتهيه وترغب فيه، ولا يهمها ان يكون ذلك حقا لها ام لغيرها، وهنا تحتاج النفس الى‏”افعال‏” وحمل وتهذيب، وبالتالي الى عبودية وتوحيد، وهذا ما يتكفل به الاسلام، وفي اطار ذلك كله يصبح واضحا ان ‏التوحيد، بما هو قيمة مطلقة، يمتلك حقا طبيعيا في السيادة على الانسان، وبما هو اساس وحيد لحضارة الانسان ومنبع‏ وحيد لكماله، يكون من الطبيعي ان لا ينحصر بانسان من دون آخر، وببقعة جغرافية من دون اخرى، بل هذا ينافي كمال‏ التوحيد وينافي ما فيه من حقيقة مطلقة، فلا بد من ان تكون سيادة التوحيد على الارض سيادة تامة شاملة، ولا معنى ‏لانحصار الاسلام في الجزيرة العربية فقط، بما يعني في النتيجة ان الجهاد والفتح ليسا ظلما ولا استعمارا، بل طريق ‏لايصال التوحيد وبسط سيادته على الارض، وليس الهدف منه استعلاء المسلم على غيره، وانما الهدف هو اعلاء كلمة ‏التوحيد وبسط سيادته على الارض، فالتوحيد يستبطن حقا طبيعيا في الجهاد والفتح، بل يكون التوحيد من دون الجهاد ناقصا في مضمونه ومحتواه، بينما ليس للغرب حق في ان يتوسع ويفتح الامصار، لانه لا ينطلق من قيمة مطلقة، ولانه ‏ينطلق من فكرة سيادة الانسان على نفسه والاستعمار نقض لهذه الفكرة، وسلوك يكشف اما عن عدم صدق الغرب في‏ حملها، او عن عدم استحقاق هذه الفكرة لان تكون اساسا للحضارة، وهذا هو الفرق الجوهري بين الجهاد الاسلامي‏ والاستعمار الغربي، ومضمون الجواب الرائع الذي اجاب به السيد الشهيد الصدر على سؤال وجهه الشيخ محمد يعقوب اليه بشان ذلك وعلى هذا، فالجهاد سلوك منسجم مع قاعدة الاسلام التوحيدية ونابع منها، بينما الاستعمار سلوك مناقض لقاعدة ‏الحضارة الغربية المتمثل بالحرية وبفكرة سيادة الانسان على نفسه.

الشيخ عبد الكريم آل نجف