تعتبر «نظرية حق الطاعة» من أهم النظريات الاُصولية التي ذهب إليها آية اللّه العظمى السيد الشهيد محمّد باقر الصدر (قدس سره).. وهي بلا شك مفصل أساسي في التكوين المعرفي لمدرسته الاُصولية.. وبما أنّ حياة العلم بالنقد فإنّ بين يدي القارئ الكريم قراءتين حول هذه النظرية(*)؛ قراءة نقدية قدّمها سماحة الاُستاذ الشيخ صادق لاريجاني.. وقراءة نقدية على النقد لسماحة الاُستاذ السيد علي أكبر الحائري من طلاب مدرسة السيد الشهيد الصدر (قدس سره).. وقد حرصت مجلتنا على نشر كلا الدراستين لم للموضوع من أهمية خاصة.. التحريـر
مقدمة:
نظريّة «حقّ الطاعة» نظريّة اُصوليّة قامت في مقابل نظريّة «قبح العقاب بلا بيان»، واقترنت باسم الشهيد السعيد آية الله السيّد محمد باقر الصدر (قدس سره). وبعيداً عمّا يتمّ تداوله في محافل الحوزة العلميّة حول تبنّي بعض كبار المتقدّمين لهذه النظريّة والتزامهم بها، فإنّه يبقى للشهيد الصدر (قدس سره) دوره البارز في بيان هذه النظريّة بياناً دقيقاً، والدفاع عنها دفاعاً تاماً في مقابل نظريّة « قبح العقاب بلا بيان ». وقد طرح الشهيد الصدر (قدس سره) هذه النظريّة وأماط اللثام عنها في كتابه «دروس في علم الاُصول» المعروف بـ «الحلقات»، وفي تقريرات بحوثه الاُصوليّة «الخارج»، وقد سعى فيما بعد بعض تلامذته إلى تعميق هذا البحث (1).
والبحث التاريخي حول هذا الأصل أو بديله ـ أعني «قبح العقاب بلا بيان» ـ يتطلّب في واقع الأمر مجالاً آخر؛ إذ ليس من السهل استيعاب ما جاء حول هذه النظريّة في كتب القدماء تحت هذا العنوان أو عناوين اُخرى مشابهة. وقد طرحت في البَين جملة من المسائل المختلفة التي يحتاج الوقوف على النسبة فيما بينها وامكانية إرجاع بعضها إلى البعض الآخر إلى تأمّل شديد، وهو م نرجئ البحث فيه إلى مقالة اُخرى إن شاء الله تعالى. وما يهمّنا فعلاً هو عرض نظريّة «حقّ الطاعة»، ثمّ دراستها ونقدها، حيث يمكن في الواقع توجيه النقد إليها من جهات ثلاث :
1ـ النقد الأول : بلحاظ « الوجدان »
2ـ النقد الثاني : بلحاظ « الانسجام الداخلي».
3ـ النقد الثالث : بلحاظ « اللوازم الخارجيّة ».
لكن قبل كلّ شيء، فإنّ من الضروري التعرّض إلى بيان أصل النظريّة.
بيان نظريّة «حقّ الطاعة»:
يتمحور البحث فيما نحن فيه حول تحديد موقف «العقل » في موارد احتمال التكليف غير المقترن بالعلم الإجمالي، أو قل في موارد الشبهة البدويّة قبل ملاحظة الترخيص أو الاحتياط الشرعيّين. والسؤال هو أنّه هل يحكم العقل في هذه الحالة بلزوم الاحتياط مراعاةً منه للاحتمال؟ أم أنّه يحكم بالبراءة وإطلاق العنان للمكلّف وعدم استحقاقه العقابَ على ارتكابِه ما يحتمل حرمته أو تركِه ما يحتمل وجوبه، طالما أنّه لم يقم لديه بيان على الواقع؟
يعتقد الشهيد الصدر (قدس سره) بضرورة إرجاع البحث في هذه المسألة ـ شأنه في ذلك شأن غيرها من مسائل القطع وتوابعه ـ إلى البحث في تحديد دائرة حقّ طاعة المولى الحقيقي، ومدى شمولها للتكاليف المظنونة والمحتملة بعد الفراغ عن شمولها للتكاليف المقطوعة. وهو يعتقد بسعة هذه الدائرة وشموله للتكاليف المحتملة. والسبب في ذلك أنّ «المولويّة» من المقولات المشكّكة التي يدركها العقل عبر جملة من الملاكات من قبيل «شكر المنعم» أو «الخالقيّة» أو «المالكيّة». «ولكنّ حق الطاعة له مراتب، و كلّما كان الملاك آكد كان حق الطاعة أوسع، فقد يفرض بعض المراتب من منعمية المنعم لا يترتب عليه حق الطاعة إلاّ في بعض التكاليف المهمة لا في كلها، وقد تكون المنعمية أوسع بنحو يترتب حق الطاعة في خصوص التكاليف المعلومة، وقد تكون مولوية المولى أوسع دائرة من ذلك بأن كانت منعميته بدرجة يترتب عليه حق الطاعة حتى في المشكوكات و المحتملات من التكاليف(2).» ودليله (قدس سره) على هذا المدّعى ما يشهده الوجدان.
وما ينبغي التنبيه إليه، هو أنّ الشهيد الصدر (قدس سره) لا يذهب عمليّاً إلى الاحتياط في مورد الشبهة البدويّة، وذلك لالتزامه في موردها بإجراء البراءة الشرعيّة. إلا أنّ بحثنا يتناول حكم العقل في مرتبة متقدّمة عن مرتبة ورود الاحتياط أو البراءة من قبل الشارع.
وباعتقادنا، فإنّه لا يمكن الالتزام بنظريّة «حق الطاعة» كما قرّرها الشهيد الصدر (قدس سره)، والحقّ مع القائلين بـ «قبح العقاب بلا بيان» في موارد الشبهة البدويّة. وكما أسلفنا، فإنّه يمكن توجيه النقد إلى هذه النظريّة من جهات ثلاث:
النقد الأول ـ بلحاظ «الوجدان»:
يعتبر الشهيد الصدر (قدس سره) «حقّ الطاعة» من بدهيّات العقل العملي، وأنّه لا يمكن إقامة أيّ دليل برهاني عليها. وكما أنّ أصل «حقّ الطاعة» إذا قسناه إلى «المنعم» و«الخالق» و«المالك»، وجدنا أنّه من مدركات العقل العملي وبدهيّاته، فكذلك الأمر بالنسبة إلى حدود هذا الحقّ وسعته، فإنّه في غنىً عن البرهان. يقول (قدس سره) في كتاب «دروس في علم الاُصول» :
«ونحن نؤمن في هذا المسلك بأنّ المولوية الذاتية الثابتة لله سبحانه وتعالى لا تختصّ بالتكاليف المقطوعة، بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالاً. وهذا من مدركات العقل العملي، وهي غير مبرهنة. فكما أنّ أصل حقّ الطاعة للمنعِم والخالق مدرك أوّليّ للعقل العملي غير مبرهن كذلك حدوده سعةً وضيقاً.»(3)
ومن الواضح أنّ من حقّ القائلين بقبح العقاب بلا بيان التمسّك بالمدّعى نفسه، وهذا ما سنبحثه مفصّلاً لدى استعراض مناقشات الشهيد الصدر (قدس سره) لقاعدة «قبح العقاب» ببياناتها المختلفة. فهم إلى جانب تمسّكّهم بالأدلّة المثبتة لقاعدة «قبح العقاب»، يدّعون وقوف الوجدان إلى جانبهم، ودعواهم هذه مّم يمكن الدفاع عنها.
وفي مقام إشكاله على كون قاعدة «قبح العقاب» من مدرَكات الوجدان، يتساءل الشهيد الصدر (قدس سره) قائلاً:
« وكيف تكون هذه القاعدة من بديهيّات العقل السليم مع أنّها لم تدرك ولم تذكر من قِبل أحد من العلماء العقلاء إلى أيام الاُستاذ الوحيد (رحمه الله) » (4).وهذا الاستفهام بعينه يمكن إثارته حول ما ادّعاه الشهيد الصدر (قدس سره)؛ فإنّه على تقدير كون «حقّ الطاعة» من الاُمور الوجدانية والبدهيّة، فلماذا ذهب إلى«قبح العقاب بلا بيان» عددٌ معتدٌّ به من الاُصوليّين من أيام الوحيد (رحمه الله) إلى يومنا هذا؟ أضف إلى ذلك أنّه لم يتصدّ أحدٌ قبل الوحيد (رحمه الله) إلى بيان «حقّ الطاعة» بالنحو الذي بيّنه الشهيد الصدر (قدس سره). أمّا فيما يتعلّق ببحثَي « الحظر » و«الإباحة» ومدى ارتباطهما بـ «قبح العقاب» و«حقّ الطاعة» فقد طرحت آراء عديدة لسنا فعلاً في مقام التعرّض لها.
وأمّا فيما يتعلّق بدعوى عدم ذهاب أحد قبل الوحيد (رحمه الله) إلى مسلك «قبح العقاب بلا بيان»، فهو بحثٌ تأريخيّ يتطلّب الكثير من التتبّع والعمق، وهو م نتركه إلى فرصة اُخرى.
وعلى أيّة حال، فإنّ اعتقاد الشهيد الصدر (قدس سره) بكون مسلك «حقّ الطاعة» و«الاحتياط العقلي في موارد الشبهات البدويّة» من الاُمور الوجدانيّة، هو صرف ادّعاء. وكذلك اعتقاده بأنّ السبب في تشكيكهم بالاحتياط وذهابهم إلى وجدانيّة « قبح العقاب» هو التزامهم ببعض البراهين الخياليّة التي صاغوها في باب «البراءة العقليّة»، والتي قد تحدث خللاً في وجدان الإنسان وعقله العملي (5). وبطبيعة الحال فإنّ ما وجّهه إليهم حول «قبح العقاب» يمكن توجيهه إليه حول «حقّ الطاعة». على أنّ الذي يبدو هو وقوف الوجدان والعقل العملي إلى جانب «قبح العقاب»، وهو ما قد يتّضح لدى الحديث عن هذه القاعدة في الفقرات اللاحقة.
النقد الثاني ـ بلحاظ «الانسجام الداخلي»:
في اعتقادنا أنّ نظريّة «حقّ الطاعة» تعاني من مشكلة رئيسيّة، وهي عبارة عن «عدم الانسجام الداخلي». ولسنا نعني بذلك التناقض المنطقي، إنّما نقصد أنّها تفضي إلى نحوٍ من التزاحم والتنافي في مقتضيات أحكام العقل العملي. ولمّا كان هذا اللازم غير معقول بالفعل، فإنّه لا يمكن الالتزام بهذه النظريّة كما جاءت على لسان الشهيد الصدر (قدس سره).وكما قلنا، فإنّ نظرية حقّ الطاعة تقول : إنّ دائرة مولويّة المولى الحقيقي ـ أي الله تعالى ـ تتّسع لتشمل التكاليف المظنونة والمشكوكة فضلاً عن المقطوعة. فلو احتملنا التكليف في الواقع، لزم الاحتياط والعمل وفق مؤدّاه؛ وذلك بمقتضى «حقّ الطاعة» الذي يعدّ حكماً من أحكام العقل العملي. والنكتة التي لم يُلتَفَت إليها بالكامل في نظريّة «حقّ الطاعة» سواء من قِبل مؤسّسه الشهيد الصدر (قدس سره) أو من قِبل تلامذته، هي أنّنا في الشبهات البدويّة كما نحتمل التكليف الأعمّ من الوجوب والحرمة، فكذلك نحتمل الإباحة الواقعيّة، والكلام حول حكم العقل العملي بحقّ طاعة المولى كما أنّه موجود في التكاليف الوجوبيّة والتحريميّة، فانّه موجود أيضا بنفس المستوى في الإباحة الواقعيّة.
إذا كانت «منعميّة» المولى أو «خالقيّته» أو «مالكيّته» تستدعي اشتغال الذمّة بتكاليفه والعمل على طبقها، فهي تستدعي ذلك أيضاً بالنسبة إلى «الإباحة» بوصفها حكماً من الأحكام الخمسة.
ومن أجل التسهيل، سنفترض أنّ الإباحة التي نتناولها بالبحث هي الإباحة الاقتضائيّة ذات الجعل المستقلّ في مقابل جعل الحرمة وجعل الوجوب، والتي من أجل ذلك عدّت من جملة الأحكام الخمسة. ونشير بادئ الأمر إلى عدم صحّة القول بخلّو الإباحة من أيّ ملاك، الأمر الذي سننقّحه لدى الحديث عن الإباحة الاقتضائيّة واللاإقتضائيّة. بعد هذا نقول : إنّ إشكالنا على نظريّة «حقّ الطاعة» يتلخّص في أنّها في موارد «الشبهة البدويّة» كما تقتضي الحكم بالاحتياط مراعاةً للتكليف الواقعي، فإنّها تقتضي الحكم بالترخيص وإطلاق العنان مراعاةً للإباحة الواقعيّة. وبما أنّ هذين الحكمين العقليّين ـ الحكم بالاحتياط والحكم بالترخيص ـ حكمان متنافيان لا يمكن اجتماعهما، فإنّ بطلان هذه النظريّة يصبح واضحاً، وذلك بعد فقدان الدليل على ترجيح أحدهم على الآخر. أما القائلون بـ «قبح العقاب بلا بيان»، فهم بمنأى عن هذه المشكلة، الأمر الذي يدلّ على صحّة مسلكهم.والإشكال المتقدّم، وإن كان يبدو بسيطاً، إلا أنّه برأينا يهدم أساس نظريّة «حق الطاعة». ومع ذلك فإنّه قد يمكن الإشكال عليه بمجموعة من الإشكالات، نذكر بعضها مع الإجابات المناسبة عن كلّ منها:
الإشكال الأوّل:
إنّ الإباحة الاقتضائيّة وإن كانت حكماً من الأحكام الخمسة ومتعلّقاً لجعل المولى، إلا أنّها تختلف عن الأحكام الاُخرى اختلافاً جوهريّاً. ويرجع ذلك إلى أنّ العبد في مورد الأحكام الاُخرى من قبيل «الوجوب» و«الحرمة»، يطلب منه الإتيان بعملٍ ما أو تركه، وما يحقّق الطاعة أو العصيان هو قيامه بذلك العمل أو تركه له («الطاعة» عنوان للإتيان بما يأمر به المولى أو الانتهاء عمّ ينهى عنه، و «المعصية» عنوان لترك ما يأمر به المولى أو الإتيان بما ينهى عنه). أمّا في مورد «الإباحة» ـ حتى الاقتضائيّة ـ فلا يمكن تصوّر «طاعة» أو «معصية» من هذا القبيل. فإنّ الإباحة في الحقيقة عبارة عن جعل الترخيص للعبد وإطلاق العنان له، وإطلاق العنان هذا ـ الحاصل في ظرف التشريع إنّما يقوم بنفس الجعل، ولا ينافيه فعل العبد أو تركه، ولذا فإنّ ترخيص المولى لا يمكن امتثاله عبر الفعل ولا عصيانه عبر الترك، والمتحقّق من جهة جعل المولى هو «إطلاق العنان» في ظرف التشريع، ولا علاقة له بالعبد كي يعدّ الإتيان به امتثالاً وعدمه معصية.
وبناءً عليه، فليس في مورد «الإباحة الإقتضائيّة» حقُّ طاعةٍ كي يزاحم أو ينافي «حقّ الطاعة» في مورد احتمال «الوجوب» واحتمال «الحرمة».
ويمكن الإجابة عن هذا الإشكال:
أولاً: إنّ جعل الإباحة وإن كان يختلف عن جعل الحرمة وجعل الوجوب، إلا أنّه ينبغي النظر في أنّه هل هناك فرقٌ بينهما فيما يتعلّق بمسألة مراعاة حقّ المولى؟ وهل صحيحٌ ما قيل حول كون الغرض من جعل الإباحة قائماً بنفس الجعل لا بفعل العبد؟
والحقّ، إنّ للمولى غرضاً من وراء جعل الإباحة والترخيص، وذلك من قبيل التسهيل ونحوه. وهذا الغرض قائمٌ بفعل العبد أو نحو فعله لا بنفس الجعل؛ إذ لو كان قائماً به ـ أي بنفس الجعل ـ لسقط بمجرّد جعله من قبل المولى ـ لأنّه يتحقّق بمجرّد تحقّق الجعل ـ وهو أمر غير معقول.
ومن هنا نعلم بأنّ للمولى غرضاً من جعل الترخيص كامناً وراء نفس الجعل، وهو استفادة العبد من كونه مطلق العنان. صحيحٌ أنّ الرخصة التشريعيّة تتحقّق بمجرّد جعل المولى ـ شأنها في ذلك شأن الإلزام التشريعي المتحقّق كذلك بمجرّد جعل المولى له ـ لكن لا يمكن الالتزام بأنّ ملاك الحكم الإلزامي هو صرف تحقّق الإلزام، بل هو تحقّق متعلّق الإلزام، أي الفعل أو الترك. وكذلك الأمر في باب جعل الإباحة والترخيص وإطلاق العنان؛ فإنّ ملاك الإباحة غير قائم بمحض الترخيص وإطلاق العنان الحاصلين تشريعاً، بل قائمٌ باستفادة العبد من كونه مرخّصاً ومطلق العنان. وهذه الاستفادة ترجع في الحقيقة إلى نحو خاص من أنحاء الفعل والترك؛ فإنّ المكلّف إنّم يعتبر مرخّصاً ومطلق العنان في فعله فيما لو أتى به من غير جهة الإلزام.
إنّ استيفاء مصلحة «الإباحة» المجعولة إنّما يكون عبر عدم قيام العبد بالفعل أو الترك من جهة الإلزام؛ وأيّ نحو من أنحاء الإلزام، يعدّ ـ عقلاً استخفافاً بحقّ المولى وعدم مراعاة له فيما لو كان المولى قد رخّص فعلاً في مورده. غاية الأمر، فإنّ الاستخفاف بحقّ المولى تارةً يكون من جهة عملية، كما لو قام بالفعل أو الترك من جهة الإلزام، واُخرى من جهة نظرية، كما لو بنى على «الإلزام» وعقد عليه قلبه في مقابل ترخيص المولى.
وعلى أيّة حال، فإنّ تصوّر عدم مراعاة جعل «الإباحة» أو «الترخيص» أمرٌ ممكن.هذا من جهة، ومن جهة اُخرى، فإنّ البحث في «حقّ الطاعة» غير مرتبط بالألفاظ والظواهر كي يصار إلى البحث عن موارد صدق «الطاعة» وموارد عدم صدقها، وهل أنّ الطاعة متصوّرة في مورد الترخيص وجعل الإباحة أم غير متصوّرة، بل البحث في «حقّ الطاعة» بحث عقليّ مرتبط بدائرة مولويّة المولى، ولزوم مراعاة هذه المولويّة. ومن المسلّم به أنّ مولويّة المولى غير منحصرة بالأحكام الإلزاميّة، وكذلك لزوم مراعاة هذه المولويّة. وكما رأين فإنّ مراعاة العبد لهذه المولويّة ممّا يمكن تصوّره في مورد الأحكام الترخيصيّة، ولا دليل على انحصاره بالأحكام الإلزاميّة.
وممّا ذكرناه اتّضح أنّ امتثال «الإباحة» غير قائم ببناء المكلّف [بمعنى عقد القلب] على «الترخيص» أو على «إطلاق العنان» ـ ليشكل بأن «بناء المكلف على الترخيص» ليس من مقتضيات الإباحة والترخيص، وبأنّ وجوب عقد القلب والبناء على الترخيص بحاجة إلى دليل جديد [لأنّه لا يمكن استفادته من الملاك الاقتضائي للترخيص في حدّ نفسه] بحيث لو عقد قلبه على ذلك لم يرتكب على أسؤ التقادير إلاّ حرمة التشريع ـ بل قائم بناءً على ما تقدم بنفس الفعل والترك الخارجيين، ولكن بكيفية خاصة وهي الفعل والترك لا من جهة الإلزام في مقابل الفعل والترك المأتي بهما من جهة الإلزام، وعليه فإنّه إذ شرّع المكلف وأتى بالفعل في مورد « الإباحة » من جهة الإلزام، فقد ارتكب مخالفتين:
أوّلهما: [بلحاظ الجانب النظري] وهو ارتكابه التشريع المحرّم [وذلك لبنائه على الإلزام بدل البناء على «إطلاق العنان»].
ثانيهما: [بلحاظ الجانب العملي] وهو تركه امتثال ما جعله المولى في عهدته، وذلك لاتيانه بالفعل من جهة الإلزام [في حين إنّ امتثال المجعول المولوي يكون من غير جهة الإلزام]. ومحلّ كلامنا في موارد التشريع الأمر الثاني لا الأوّل.
أضف إلى ذلك أنّ بالإمكان تصوّر الإتيان بالفعل من جهة الإلزام، لكن دون الابتلاء بالتشريع المحرّم. كما لو فرضنا ـ مثلاً ـ أنّ فتوى المجتهد في مسألة من المسائل هي «الإباحة»، من قبيل ذهابه إلى أنّ ترجيع الصوت ليس محرّماً في حدّ نفسه، فلو سأله المقلّد عن حكم ترجيع الصوت، وأفتاه بالحرمة توهّماً منه بأنّ الغناء المحرّم عبارة عن مطلق ترجيع الصوت ـ والحال أنّ ذلك في الواقع خلاف فتواه ـ والتزم المقلّد بهذه الفتوى، فإنّ تركه ترجيع الصوت سيكون من جهة الإلزام، ومع ذلك فإنّه لم يقع في محذور التشريع المحرّم. فما ينبغي له العمل به في المقام هو «الإباحة» (وتوخّياً للدقّة في الاستدلال، نفترض مطابقة فتوى المجتهد للحكم الواقعي)، في حين إنّ ما قام به هو ترك ترجيع الصوت لكن من جهة الإلزام. وفي هذه الحالة، فإنّ مخالفة المقلّد للترخيص الواقعي وإن كانت لا تستلزم عقاباً ـ نظراً لنشوئها من خطأ المجتهد ـ إلا أنّها تثبت إمكان تصوّر مخالفة «الحكم الترخيصي» و «الإباحة التشريعيّة» دون الابتلاء بالتشريع المحرّم.
ثانيـاً: لو فرضنا أنّ الإباحة وعلى الرغم من كونها حكماً من الأحكام الخمسة، إلا أنّها لا امتثال لها ولا عصيان، وذلك نظراً لماهيّتها الخاصة. وبتعبير البعض فإنّ الإباحة نحو سلبٍ للمسؤوليّة والإدانة، ولا شيء على العبد سواء أتى بالفعل أم تركه. ففي هذه الحالة فإنّ ما أوردناه على نظريّة « حقّ الطاعة » لا يكون متوقّفاً على هذا البحث، لأنّ المشكلة التي أثرناها هي وقوع التنافي بين مقتضيات العقل العملي [حيث يحكم بالتنجيز تارةً والتعذير اُخرى] والتنافي بينها لمّا كان أمرا محالاً كشف بذلك عن بطلان هذه «النظريّة».
أما وقوع التنافي بين أحكام العقل العملي، فلحكم العقل بالترخيص على ضوء الترخيصات الواقعيّة والإباحات المجعولة الواصلة إلى العبد (حيث يحكم العقل بالإباحة والترخيص فور علمه بجعل المولى للإباحة) وهذا مقتضى احترام المولى ومولويّته. وبناءً على نظريّة «حقّ الطاعة»، فإنّ دائرة احترام المولويّة لا تقتصر على موارد الوصول القطعي للحكم، فلا مناص للعقل إذاً من الحكم بالترخيص في موارد الشك في الإباحة أيضاً، وذلك مراعاةً منه لمولويّة المولى التي تتساوى نسبتها إلى الأحكام الإلزاميّة والترخيصيّة على حدّ سواء. وما ذلك إلا لما قدّمناه من أن البحث في «حقّ الطاعة» غير منوط بلفظ «الطاعة»، وأنّ المهمّ في المقام هو البحث في مراعاة مولويّة المولى واحترامه. ومن الواضح عدم اختصاص احترام المولى بجعل دون آخر، بل يشمل جميع الجعولات، ومنها جعل «الإباحة» والترخيص.
وحاصل ما تقدّم أنّ أصل الإشكال على نظريّة «حقّ الطاعة» غير متوقّف على تصوير «الامتثال في مورد الإباحة»، بل يبتني على لازم نظريّة «حقّ الطاعة»، وهوالتنافي الحاصل بين أحكام العقل العملي.
الإشكال الثاني :
أما الإشكال الثاني الذي يمكن إثارته حول النقد الذي وجّهناه إلى نظريّة « حقّ الطاعة »، فحاصله : إنّه لا تنافي مستقر من الأساس بين أحكام العقل المتقدّمة؛ إذ بعد المصادقة على أنّ احتمال التكليف الإلزامي موجب لحكم العقل بالاحتياط، وأنّ احتمال الإباحة الواقعيّة موجبٌ لحكمه بالترخيص، إلا أنّ هذين الحكمين لا يكونان فعليّين في آن واحد كي يقال بوقوع التنافي والتزاحم بين الأحكام العقليّة، بل يكون الحكم العقلي بالاحتياط فعليّاً، والحكم العقلي بالإباحة وإطلاق العنان غير فعليّ. والوجه في ذلك أنّ المنجزيّة والاحتياط حقٌّ للمولى على العبد، بينما المعذّريّة والترخيص حقٌّ للعبد على المولى، وكلّما وقع التنافي بينهما، قدّم العقل حقّ المولى على حقّ العبد الساقط بعد هذا التقديم. وعليه فلا فعليّةَ للحكمين المذكورين معاً لكي يقع التنافي بينهما.
ولمزيد من التوضيح نقول : إنّ ملاك الإباحة الاقتضائيّة في موارد الشك في الحكمين الإلزامي والترخيصي، إن كان يستتبع الترخيص والإطلاق المطلق للعنان، ففي هذه الحالة يقع التنافي بين مقتضيات الحكم الإلزامي والحكم الترخيصي بلحاظ الأحكام العقليّة المترتّبة عليهما (وعلى احتمالهما). غير أنّن لو أحرزنا أنّ الملاك المقتضي للتنجيز أهمّ عند المولى من الملاك المقتضي للتعذير (كما الحال في أدلّة الاحتياط الشرعي وأمثالها) ثبت التنجيز وسقط التعذير. وفي مقابل ذلك، لو أحرزنا أنّ الملاك المقتضي للترخيص والتعذير أهمّ عند المولى من الملاك المقتضي للتنجيز (كما الحال في أدلّة البراءة الشرعيّة وأمثالها) ثبت التعذير وسقط التنجيز. وفي حالة عدم إحراز أيّ منهما، قُدّم حقّ المولى على حقّ العبد بمقتضى حكم العقل العملي.
ويمكن الإجابة عن هذا الإشكال :
أولاً: إنّ حكم العقل بالترخيص تبعاً لحكم المولى به، إنّما هو صرف حكم وليس بحقّ. فالعقل إنّما يرخّص تبعاً لترخيص المولى، وكما أنّ ترخيص المولى ليس سوى حكم بالترخيص، فكذلك ترخيص العقل. وبناءً عليه، فإنّ اعتبار هذه التراخيص «حقّاً» لا دليل عليه من أساس. كما أنّ حكم العقل بلزوم الاحتياط مغايرٌ لحكم العقل بوجود «حقّ الطاعة» و«حقّ المولويّة» والثاني موضوع للأوّل؛ لأنّ «حقّ الطاعة» و «حقّ المولويّة» ثابتان بالنسبة إلى المولى، والعقل إنّما يحكم بلزوم الاحتياط فحسب.
وعليه، فالتنافي بين حكم العقل بالإلزام ـ الناشئ من حقّ مولويّة المولى وبين حكم العقل بالترخيص ـ الناشئ من ترخيص المولى ـ ليس تنافياً بين حقّ المولى وحقّ العبد كي يقال بتقديم حقّ المولى على حقّ العبد بلحاظ الأهميّة.ثانيـاً: إنّه على تقدير رجوع الترخيص الذي يثبته العقل للعبد إلى حقّ العبد على المولى، بحيث يقع التنافي في المسألة أعلاه بين حقّ المولى وحقّ العبد، فما الدليل على كبرى التقديم الدائمي لحقّ المولى على حقّ العبد؟ وللإنصاف، فإنّ العقل لا يحكم بهذا الحكم الكلّي والمطلق. والعجيب أنّ المستدلّ نفسه قد أذعن بأننا لو أحرزنا أنّ الملاك المقتضي للتعذير أهمّ عند المولى من الملاك المقتضي للتنجيز، ثبت التعذير وسقط التنجيز. أوَ لا يرجع هذا الكلام ـ بعد كون التعذير حقّاً للعبد، والتنجيز حقّاً للمولى ـ إلى تقدّم حقّ العبد على حقّ المولى من حيث الأهميّة؟ هذا والبحث عن منشأ هذا الإحراز وهل أنّه البراءة الشرعيّة أو غير ذلك خارجٌ عن محلّ الكلام؛ لأنّنا إنّما نتكلّم بلحاظ عالم الثبوت. غير أنّ ما نؤمن به على كلّ حال هو أنّ كبرى «تقديم حقّ المولى على حقّ العبد» غير مطّردة بل نادرة؛ لأنّنا نحتمل في موارد الشك أنّ التعذير ـ وهو حقّ العبد على المولى ـ أهمّ من التنجيز، فلا يبقى مجالٌ لتقديم «حقّ الطاعة» عليه.
ثالثـاً: إنّ طرح المسألة على أنّ الأمر فيها دائرٌ بين حقّ طاعة المولى وحقّ العبد لا يحلّ المشكلة بالكامل، لأنّ إشكالنا على «حقّ الطاعة» قائمٌ على أساس التنافي الحاصل بين الأحكام العقليّة في باب «حقّ الطاعة» بحيث يرجع الحقّان إلى حقّ المولى على العبد. أما حقّ العبد على المولى فإنّه ـ بعد الاعتراف بوجوده ـ أجنبيٌّ عن إشكالنا.
وتوضيح الحال أنّ ترخيص المولى للعبد وإن كان حقّاً للعبد على المولى، إلا أنّه قائمٌ في طول حقّ المولى على العبد. إذ لو لم يكن للمولى حقٌّ على العبد، فبأيّ دليل صار ترخيصُه العبدَ موضوعاً لحكم العقل بحقّ التعذير والترخيص؟ وبعبارة أكثر وضوحاً : إنّ العقل إنّما يحكم بثبوت حقّ للعبد حينما يثبت الشارع له ترخيصاً. أمّا صرفُ تحقّق الترخيص من قبل المولى، فلا يكفي لثبوت الحقّ للعبد، إلا بعد الفراغ عن ثبوت هذا الحقّ للمولى في
مرتبة سابقة، بحيث يمكنه ترخيص العبد أو إلزامه. وإلا فإنّ قول شخصٍ لآخر «إنّك مرخّص» لا يثبت له أيّ ترخيص؛ لأنّ الترخيص إنّما يكون ممّن له حقّ الترخيص. وهذه المسألة واضحة ولا اختصاص لها بالترخيص (الذي لم نأت على ذكره إلا تنزّلاً بعد عدم اعترافنا أساساً بكونه حقّاً) بل تشمل حقّ خيار الفسخ وحقّ الحضانة وغير ذلك.
وهذه الحقوق إنّما تثبت بإنشائها، عندما يكون للمولى حقُّ جعلها للعباد وله ذلك. بناءً عليه نقول : في موارد الشك البدوي حيث يدور الأمر بين احتمال التكليف الإلزامي والإباحة الاقتضائيّة، فكما أنّ مولويّة المولى في موارد الأحكام الإلزاميّة تقتضي الاحتياط ومراعاة احتمال التكليف، فإنّها في موارد الأحكام الترخيصيّة تقتضي مراعاة احتمال الإباحة والترخيص في الطرفين. ومن هنا ينشأ التنافي بين حقّي طاعة المولى، وليس بين حقّ طاعة المولى وحقّ طاعة العبد حتى تصل النوبة إلى تقديم حقّ المولى على حقّ العبد.
ولكن هذا أجنبيٌّ عمّا بحثناه سابقاً لدى حديثنا عن إمكان تعقّل الامتثال في مورد الإباحة والترخيص (وإن كنّا قد ذهبنا هناك إلى إمكان ذلك) وهو مبنيّ على التسليم بأنّ الإباحة لا تستلزم نوعا من الامتثال في مقام العمل. وبعد ذلك نقول بأنّ المجعول الواقعي في موارد الشك البدوي إذا كان الإباحة فإنّ مقتضى مولويّة المولى حكم العقل بالترخيص، وكذلك الأمر حال احتمال هذا الجعل؛ وذلك تحفّظاً على الترخيص الواقعي المحتمل. وهذا الحقّ المولويّ القاضي بالترخيص العقلي في ظرف الشك ينافي الحقّ المولويّ القاضي بالإلزام العقلي في ذلك الظرف. فالتنافي إذاً بين حقّي المولى، لا بين حقّ المولى وحقّ العبد.
رابعـاً: يمكن القول بأنّ مسألة التنافي بين الحكمين العقليّين المتقدّمين متفرّعة عن مسألة أساسيّة أكثر أهميّة وهي مسألة مراعاة «اهتمامات المولى». فلو رأى المولى في مقام مراعاة مصالح العباد بأنّ إطلاق العنان للعبد أهمّ من تقييده وتضييق الخناق عليه، وحكم له بالترخيص مراعاةً لهذه المصالح، فهل من الممكن للعبد والحال هذه تجاهلُ اهتمام المولى بمصالحه، وتمسّكه بجانب التقييد والتضييق؟
كما أنّ لمسألة «اهتمام المولى» مجالٌ آخر يمكن طرحها فيه، وهو حال اشتباه الإباحة الواقعيّة بالإلزام الواقعي وعدم تبيّن المجعول الواقعي في البين. والسبب في ذلك أنّ احتمالنا لكون المجعول الواقعي هو «الإباحة» معناه أنّ اهتمام المولى ـ وبملاحظة جميع الجوانب ـ قد تعلّق بكون العبد مرخّصاً ومطلق العنان. فلو لزمت مراعاة «اهتمامات المولى» فإنّ على العقل عندئذ الحكم بالترخيص مراعاةً منه لاهتمام المولى بالترخيص وكون العبد مطلق العنان، كما أنّ عليه الحكم بالاحتياط مراعاةً منه لاهتمام المولى بالإلزام وكون العبد مقيّداً. وهذا هو معنى عدم الانسجام الداخلي الذي نعتقد بأنّ نظريّة «حقّ الطاعة» تعاني منه.
والانتقال بالبحث إلى الحديث عن تزاحم حقّ المولى مع حقّ العبد، ناشئ من الغفلة عن أنّ التنافي واقعٌ بين أحكام العقل بلحاظ اهتمامات المولى في حدّ نفسها. والشهيد الصدر(قدس سره) نفسه يعتقد في بحث «العلم الإجمالي» بإمكان الترخيص في كلا طرفيه؛ لأنّ الأصول الجارية في أطراف العلم الإجمالي تتبع قوانين «التزاحم الحفظي». والمراد من «التزاحم الحفظي» التزاحم الحاصل بين مقتضيات الأحكام الإلزاميّة والأحكام الترخيصيّة في مرحلة الجهل. ومقتضى التحفّظ على الأحكام الإلزاميّة في مرحلة الشك هو الاحتياط والاتيان بجميع الأطراف حفظاً للملاكات الواقعيّة (أو ترك جميع الأطراف، وذلك بحسب تعلّق العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمة). كما أنّ مقتضى التحفّظ على الترخيص الواقعي، الترخّص في جميع الأطراف.
وهناك التزم الشهيد الصدر (قدس سره) بإمكان ترخيص المولى في جميع الأطراف حفظاً منه للملاك الواقعي، وذلك فيما لو كان ملاك الترخيص الواقعي أهمّ لديه من ملاك الإلزام الواقعي، بحيث يكون التحفّظ على الأوّل مقدّماً لديه على التحفّظ على الثاني.
وما نقوله : هو أنّه كيف يعقل لمن يعتقد بإمكان تقديم ملاكات الإباحة على ملاكات الإلزام في عالم التزاحم الحفظي، وبالتالي إمكان ترخيص الشارع في جميع أطراف العلم الإجمالي، أن يذهب إلى عدم لحاظ العبد لهذه الترجيحات؟ وهل للعبد سوى لحاظ اهتمامات المولى ومراعاتها؟ وإذا كان المولى نفسه قد قدّم الملاكات الترخيصيّة على الملاكات الإلزاميّة، فهل للعبد سبيلٌ إلى تجاهل ذلك بحجّة رجوع الإباحة إلى حقّ العبد على المولى؟
الإشكال الثالث :
والإشكال الثالث الذي يمكن توجيهه على نقدنا لـ «حقّ الطاعة» هو أنّه يمكن تفسير ملاك الإباحة الاقتضائيّة بأحد تفسيرين(6):
التفسير الأوّل : وهو أن يكون ملاك الإباحة الاقتضائيّة جهتيّاً، بمعنى قيام المصلحة في أن لا يكون العبد ملزماً من قبل المولى إزاء فعل المباح أو تركه، فيحكم العقل بعدم الإلزام إزاءهما. فملاك الإباحة الاقتضائيّة إذاً قائمٌ بنفي المسؤوليّة العقليّة إزاء فعل المباح وتركه، وليس بنفي المسؤوليّة إزاء مطلق الإلزام العقلي، بل خصوص الإلزام العقلي الناشئ من الإلزام المولويّ بالفعل أو الترك.
التفسير الثاني: أمّا التفسير الثاني فملاك الإباحة الاقتضائيّة فيه مطلقٌ غيرُ جهتيّ، بمعنى قيام المصلحة في أن لا يكون العبد ملزماً عقلاً بفعل المباح أو تركه، سواء كان الإلزام المراد نفيه ناشئاً من جهة الإلزام المولوي إزاء الفعل أو الترك، أو من أيّة جهة اُخرى. وبناءً عليه فإنّ ملاك الإباحة الاقتضائيّة يستدعي الترخيص ونفي المسؤوليّة إزاء مطلق الإلزام العقلي، لا خصوص الإلزام العقلي الناشئ من الإلزام المولوي بالفعل أو الترك.
ويظهر الفرق بين هذين التفسيرين في المورد الذي يحكم فيه العقل بالإلزام إزاء الفعل المباح؛ نظراً لأنّ امتثال فعل آخر حَكَمَ المولى بالإلزام إزاءه لا يضمن إلا عبر الإتيان بهذا المباح.
فبناءً على التفسير الأوّل، لا تنافي بين ملاك الإباحة الاقتضائيّة وبين حكم العقل بالإلزام إزاء الفعل؛ إذ لا تنافي بين عدم الإلزام العقلي الناشئ من عدم الإلزام المولوي وبين الإلزام العقليّ الناشئ من الاحتياط؛ وذلك لأنّ ملاك الإباحة الاقتضائيّة ـ بحسب هذا التفسير ـ قائمٌ بنفي المسؤوليّة العقليّة إزاء خصوص الإلزام العقلي الناشئ من الإلزام المولويّ.
أمّا بناءً على التفسير الثاني، فيقع التنافي بين عدم الإلزام العقلي الناشئ من عدم الإلزام المولوي وبين الإلزام العقليّ الناشئ من الاحتياط؛ لأنّ ملاك الإباحة الاقتضائيّة ـ بحسب هذا التفسير ـ يستدعي الترخيص ونفي المسؤوليّة إزاء مطلق الإلزام العقلي [حتى الناشئ من الاحتياط] لا خصوص الإلزام العقلي الناشئ من الإلزام المولوي.
ومن هنا اتضح انحصارُ ما ادّعي من تنافٍ في مسلك «حقّ الطاعة» بالتفسير الثاني لملاك الإباحة الاقتضائيّة دون الأوّل، والذي لم يقم دليلٌ على نفيه.
ويجاب عن هذا الإشكال :
بعد غضّ النظر عن جملة من المسامحات الحاصلة فيما يتعلّق بملاك الإباحة الاقتضائيّة، فقد وقع خلطٌ بين ما سمّي «تفسيرا» وبين «المحتمل الواقعي». فإنّ التفسيرين المذكورين لملاك الإباحة الاقتضائية لا يعدوان كونهما نوعَي إباحةٍ أو محتملين واقعيّين لها، وممكنَي الوقوع معاً. ففي بعض الموارد يمكن رجوع ملاك الترخيص إلى إطلاق العنان إزاء الإلزامات المولويّة فقط وفقط، وفي البعض الآخر يمكن رجوعه إلى مطلق إطلاق العنان سواء كان ـ أي إطلاق العنان ـ إزاء الإلزامات المولويّة أم إزاء سائر الإلزامات.
إذاً، فالأمران المذكوران ليسا في الواقع «تفسيرين» بل هما محتملان ممكنا التحقّق معاً وفي عرض بعضهما البعض، ولو في غير مورد.
وعلى هذا الأساس، ومع أنّنا لا نلتزم بنفي المحتمل الأوّل، إلا أنّ النقد المتقدّم والمتوّجه إلى «حقّ الطاعة» يعود ليظهر بمجرّد احتمالنا كون الإباحة من سنخ المحتمل الثاني لا الأوّل. ولا يمكن التخلّص من النقد المذكور إل بعد إثبات كون جميع الإباحات المتصوّرة من سنخ النوع الأوّل، وهو ممّا لا دليل ينهض به ثبوتاً وإثباتاً.
النقد الثالث ـ بلحاظ « اللوازم الخارجيّة » :
نخلص الآن إلى النقد الثالث الذي يمكن توجيهه إلى «حقّ الطاعة»، وهو بلحاظ لوازم مسلك «حقّ الطاعة» التي لا يمكن الالتزام بها. ومن جملته لزوم الاحتياط في كلّ مورد نحتمل فيه وجود غرض إلزامي للمولى، وهو م لا يرتضيه المسلكان «حقّ الطاعة» و«قبح العقاب» على حدّ سواء.
ويتوقّف إثبات هذا اللازم على نكتة «احترام المولى» التي يرجع إليه مسلك «حقّ الطاعة»، وعلى عدم إرادة «تحقّق الأمر من المولى» الظاهر من لفظي «الطاعة» و«الإطاعة». فالغرض من «حقّ الطاعة» هو الاحترام الكامل للمولى وعدم الاستخفاف به، وهو فرع وجود «الأمر» كما هو واضح. ولا فرق بين الاحترام بلحاظ أوامر المولى والاحترام بلحاظ أغراضه، بل إنّ دائرة احترام المولى وعدم الاستخفاف به تتّسع أبعد من الغرض الواقعي لتشمل موارد الانقياد والتجرّي، في حين أنّ هذه الموارد تخلو في عالم الواقع من أيّ حكم أو غرض.
وعليه، فلو التزمنا بأنّ للمولى حقّاً يلزم احترامه في جميع موارد أوامره ونواهيه حتى المشكوكة منها، فلا بدّ من الالتزام بذلك ـ وبالتالي الاحتياط في موارد الأغراض المحتملة أيضاً. وهذا هو لازم «حقّ الطاعة» الذي يبعد التزام أصحاب هذا المسلك به.
وقد أجاب بعض تلامذة الشهيد الصدر (قدس سره) عن هذا الإشكال بأنّ عدم التكليف من قبل المولى في نفسه كاشفٌ عن عدم وجود غرض إلزامي.
وعليه، فإنّ « حقّ الطاعة » لا يُلزم بالاحتياط في موارد الشك في الأغراض الواقعيّة.
وهذا الجواب غير تامّ؛ لأنّ عدم التكليف من قبل المولى إنّما يصلح للكشف عن عدم وجود غرض إلزامي له، فيما لو رجع عدم التكليف إلى فقدان المقتضي (الغرض) ولم يمكن في البين طرح احتمال آخر. أما إذا لم يرجع عدم التكليف إلى عدم المقتضي (الغرض) بل إلى وجود مانع عن إصدار المولى تكليفه إلى العبد، فلا يبقى مجالٌ لما ذكر؛ لإمكان افتراض وجود غرض تامّ مبتلى بمانع يمنع عن إصدار التكليف على وفقه. ففي هذه الحالة، وعلى الرغم من عدم إمكان صدور التكليف من قبل المولى، فإنّ احترام المولى واجب بسبب إحراز وجود غرض تام له في البين.
الاُستاذ الشيخ صادق لاريجاني
ترجـمة : أحـمــد أبـو زيــد
مجلة فقه أهل البيت (ع) / 34
الهوامش:
(*)نُشرت هاتان الدراستان في العدد الأوّل من مجلة پژوهشهاى اُصولى (بالفارسية) في سنة 1423ه.
لعلّه يقصد السيّد علي أكبر الحائري في البحث الذي نشره في العدد الثاني عشر من مجلّة «الفكر الإسلامي» تحت عنوان «نظريّة حقّ الطاعة». (م)
2.نقلنا هذا النصّ عن الشهيد الصدر (قدس سره) لأنّ المؤلّف ناظر إليه وإن لم يصرّح بذلك. راجع بحوث في علم الاُصول 5 :24. (م). ملحوظة: كل ما يرد في هذا المقال بين معقوفتين فهو من المترجم.
دروس في علم الاُصول (الحلقة الثالثة): 336، طباعة المؤتمر العالمي. على أنّ في النصّ العربي المنقول من «الحلقة» والوارد في المقالة الفارسيّة بعض الأخطاء. (م)
مباحث الاُصول، ق 2، 3: 69.
لم نعثر على هذه التعابير عند السيّد الشهيد (قدس سره)، ووجدناها في مقالة السيّد الحائري المشار إليه سابقاً، انظر : نظريّة حقّ الطاعة : 101. إلا أنّ فيها « البراهين المزعومة » بدل « البراهين الخياليّة ». وقد ذكر لي السيّد الحائري أنّه ليس من البعيد أن يكون الشهيد (قدس سره) قد عبّر في محاضراته بهذا التعبير. (م)
توسّعنا قليلاً عن الأصل الفارسي في بيان التفسيرين والثمرة المترتّبة على الفرق بينهما (م)