بسم الله الرحمن الرحيم
يعتبر الإمام السيد محمد باقر الصدر أبرز شخصية إسلامية تركت آثارها الواضحة في الواقع السياسي والاجتماعي في العراق خلال النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي، فلم يعد ممكناً فهم الأوضاع السياسية في العراق، وإدراك حقيقة الصراع الدموي الذي يشهده هذا البلد من دون دراسة الدور الحيوي الذي لعبه الإمام الصدر في الواقع العراقي في مختلف الصعد الفكرية والسياسية والدينية، ومعرفة الأهداف والغايات التي كان الإمام يخطط ويعمل من أجل تحقيقها.
كان الإمام الصدر يحمل مشروعاً حضارياً متعدد الجوانب والأبعاد تمثل الدولة الإسلامية إحدى أبعاده الأساسية، وحلقة مهمة من حلقاته المتقدمة. فالدولة الإسلامية، من وجهة نظر الإمام الصدر، تنمي الطاقات الخيرة لدى الإنسان وتوظفها في المسيرة الحضارية الإنسانية، وتحرره من الإنشاد للدنيا، بما تحمله من أخلاقية، فترتفع بالإنسان عن الهموم الصغيرة التي تفصله عن الله سبحانه وتعالى وتجعله يعيش من أجل الهموم الكبيرة، بحيث تكون قواه وطاقاته معبأة للمعركة ضد التخلف[1].
إن طرح الإمام الصدر لفكرة الدولة الإسلامية، فضلاً عن تخطيطه وسعيه لتحقيق هذا الهدف، يشكل تحولاً خطيراً في الساحة الإسلامية وتطوراً هاماً في الفكر السياسي الشيعي، وعودة واعية للمؤسسة الدينية الشيعية في تحمل مسؤولية قيادة الأمة وتوجيهها نحو الأهداف الإسلامية، بعد ما مرت على هذه المؤسسة مرحلة من العزلة عن المجتمع والابتعاد عن مشكلاته.
إن المهمة الأساسية التي تصدى لها الإمام الصدر لم تكن إصلاح الواقع الاجتماعي للمسلمين، وإنما نهج أسلوباً تغييرياً يرمي إلى إزالة الأنظمة السياسية الحاكمة والتي لا تستند إلى الإسلام واستبدالها بأنظمة إسلامية.[2] وعملية التغير التي يريدها الصدر لا تقف عند حد استبدال أنظمة الحكم والمجتمع بأنظمة أخرى،بل تهدف إلى استبدال جميع الأفكار والمفاهيم الأساسية عن الحياة والكون التي ترتكز عليها الأنظمة السابقة للحكم والمجتمع بأفكار ومفاهيم تقوم على أساس الإسلام.
إن قضية الإسلام _ في مشروع الصدر التغييري _ ليست قضية إصلاح بل قضية انقلاب، فالنظرة الإصلاحية لواقع الأمة الإسلامية هي نظرة غير واقعية، فالأمة التي ابتعدت كثيراُ عن قيم الإسلام ومفاهيمه، وشاع في أواسطها الكثير من العادات والأعراف الجاهلية، وسيطرت على أذهان أبنائها الأفكار المادية المعادية للإسلام، وخضعت لسيطرة القوى الاستعمارية وأدواتها في العالم الإسلامي، إن هذه الأمة هي بحاجة إلى عملية تغيير فكري واجتماعي شامل، وصياغة جديدة لشخصيتها، والدعوات الإصلاحية وإن قدمت للإسلام خدمات جميلة تذكر فتشكر، ولكنها لا تعدو جميعاً أن تكون أعمالاً جانبية وليست من صميم المعترك، فالمعركة الرئيسية التي يخوضها الإسلام مع أعدائه إنما تستهدف قبل كل شيء استرداد القاعدة للإسلام وجعل العقيدة الإسلامية في موضعها الرئيسي في حياة الأمة.[3] فالعلاقات الاجتماعية والسلوك الشخصي للفرد المسلم يجب أن تتطابق مع مبادئ الإسلام وقيمه، حينها يجد المسلم الانسجام والتناسق في داخله، لأن مشاعره منسجمة مع أفكاره، ولا يجد تناقضاً أو تضاداً بين سلوكه وإيمانه، فهو إنسان واثق من نفسه، ولكن كيف يتأتى بناء شخصيات من هذا النوع في ظل الأوضاع السياسية والاجتماعية التي تحيط بالمسلم في ظل غياب الإسلام عن واقع الحياة؟ إن تحقيق الهدف الأساسي المتمثل في جعل الإسلام المبدأ الحاكم في المجتمع، الذي يحدد قواعد السلوك للحاكم والمحكومين،يفرض القيام بأنشطة سياسية مخططة تنظم الفعاليات للعناصر الإسلامية الهادفة ضمن برنامج سياسي واحد ومحدد. فالأنشطة العشوائية وغير المنظمة التي يمارسها المسلمون الملتزمون وغم أنها تنطلق من قناعات مخلصة والتزام صادق، تظل عاجزة عن تحقيق نتائج مهمة في الحياة السياسية للمجتمع باتجاه الهدف النهائي، لأنها تفتقر إلى الخطة القادرة على توظيف الجهود والطاقات المتعددة صوب ذلك الهدف.[4]
التنظيم الإسلامي
كانت خطوة الإمام الشهيد الصدر في مشروعه التغييري تأسيسه لتنظيم إسلامي سياسي اسماه (حزب الدعوة الإسلامية) وتولى وضع أسسه الفكرية وإرساء قواعده التنظيمية. لم يكن ليغيب عن ذهن الإمام الصدر وهو يتصدى لتأسيس حزب سياسي حجم المشكلات التي تواجهه والصعوبات التي تقف بوجهه، فالوسط الذي تحرك فيه الإمام الصدر كان لا يزال يعيش التخلف الفكري والاجتماعي والسياسي، ويستنكر العمل السياسي بشكل عام وأسلوب العمل الحزبي في الدعوة إلى الإسلام بشكل خاص، فكان عليه أن يقدم المبررات الشرعية لخطواته هذه وأن يتصدى للإجابة عن التساؤلات والشكوك التي أثيرت حول التنظيم الإسلامي. كانت النقطة التي انطلق منها الإمام الصدر في دفاعه عن التنظيم الإسلامي هي أن الشريعة الإسلامية لم تأمر بإتباع أسلوب محدد في التبليغ والتغيير، مما يعطي المسلمين حرية اختيار أية طريقة نافعة في نشر مفاهيم الإسلام وأحكامه وتغيير المجتمع بها مادامت طريقة لا تتضمن محرماً من المحرمات الشرعية، وأية حرمة شرعية في أن تتشكل الأمة الداعية إلى الخير والناهية عن المنكر في هيئة وجهاز وتكون كياناً موحداً وفعالية منتجة في الدعوة إلى الله عز وجل.[5] ويذهب الإمام الصدر في دفاعه عن التنظيم الإسلامي إلى حد يعتبره أمر واجب، حيث يقول: (إن تجميع الجهود من أجل الإسلام وتنسيقها بحكمة واختيار الطريقة الأفضل لتنظيم ذلك ليس أمر جائز في عصرنا وحسب، بل هو واجب مادام تغيير المجتمع وتعبيده لله، ومجابهة الكفر المنظم متوقفاً عليه)[6].
لقد وفر الإمام الصدر على العاملين الإسلاميين الكثير من الجهد والعناء بتبنيه العمل الحزبي وتوفيره الغطاء الشرعي والتنظير الفكري، خاصة وإن هذا اللون من ألوان العمل الإٍسلامي لم يكن مألوفاً في الفترة التي تأسس فيها حزب الدعوة الإسلامية. ولم يكن العمل الحزبي وحده مستهجناً في أجواء الحوزة العلمية وفي الأجواء الاجتماعية العامة، بل كان كل نشاط سياسي سواء كان في إطار منظم أو خارجه يعتبر في ظل أجواء الركود والتخلف التي سادت المجتمعات الإسلامية خروجاً عن الخط الإسلامي، وأية شخصية إسلامية مهما كان وزنها العلمي والاجتماعي تكون عرضة لنقد والتجريح وربما المحاصرة والمقاطعة إذا ما أظهرت اهتماماً بالشؤون السياسية للمجتمع. وهذا الواقع المتخلف يقف وراء الحملة التي تعرض لها الإمام الصدر طيلة حياته ولم تتوقف حتى بعد استشهاده. ورغم أجواء الوعي التي تسود مجتمعاتنا الإسلامية بفضل جهود العلماء المجاهدين وببركة الثورة الإسلامية التي فجرها وقادها إمام الأمة الراحل السيد الخميني (رضي الله عنه) فإن قطاعات وأفراداً داخل مجتمعاتنا الإسلامية لا تزال تنظر بعين الريبة والشك إلى كل عمل سياسي وخاصة إذا كان منظماً.
العلماء والعمل السياسي.
كانت مبادرة الإمام الصدر بتأسيس حزب إسلامي، نهاية لحقبة طويلة ابتعد فيها العلماء عن ممارسة هذا اللون من النشاط الإسلامي وهي حقبة بدأت بعودة العلماء المنفيين عام 1924م إلى العراق، وعودة إلى المرحلة التي نشط فيها علماء الدين في قيادة الأمة. فمنذ مطلع هذا القرن الميلادي، وخاصة بعد دخول القوات البريطانية إلى العراق، تصدى علماء الدين لتأسيس العديد من الجمعيات والأحزاب السياسية. ففي عام 1917 تم تأسيس جمعية النهضة الإسلامية برئاسة السيد محمد بحر العلوم والشيخ محمد جواد الجزائري، وهذه الجمعية هي التي تولت إعلان ثورة النجف عام 1918، والتي كانت أول مواجهة مسلحة مع القوات البريطانية بعد الحرب العالمية الأولى،. وفي تموز 1918 تأسس الحزب النجفي السري وضم عدداً من علماء الدين كالشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ محمد جواد الجزائري والشيخ جواد الجواهري، إضافة إلى عدد من رؤساء العشائر وشخصيات اجتماعية بارزة كالحاج محسن شلاش والسيد هادي زوين والسيد علوان الياسري والشيخ شعلان أبو الجون، وقد حظي هذا الحزب بدعم المرجع الديني الميرزا محمد تقي الشيرازي. كما تأسست في كربلاء في تشرين الأول (أكتوبر) 1918 الجمعية الإسلامية التي ترأسها الشيخ محمد رضا نجل الميرزا الشيرازي، وضمت في عضويتها السيد هبة الدين الشهرستاني والسيد حسين القزويني وآخرين، وفي شباط (فبراير) 1919 تأسست جمعية حرس الاستقلال، وكان من أبرز أعضائها الشيخ محمد باقر الشبيبي وعلي البزركان وجلال بابان ومحي الدين السهروردي وشاكر محمود والسيد محمد الصدر وجعفر أبو التمن ويوسف السويدي. كان لهذه الأحزاب والجمعيات دور بارز في التصدي للاحتلال البريطاني للعراق، وهو دور توج بانطلاقة ثورة العشرين الخالدة في 30 حزيران 1920، والتي كان لها أكبر الأثر في مستقبل العراق السياسي، وشكلت صفحة مشرقة في تاريخ الشعب العراقي، برز فيها الدور الإسلامي بزعامة علماء الدين في التصدي للمستعمر البريطاني.
إلا أن تصدي العلماء للعمل السياسي أصيب بنكسة كبيرة حين قامت حكومة عبد المحسن سعدون في 25 حزيران 1922 باعتقال ونفي عدد كبير من علماء الدين المعارضين لمعاهدة 1921 بين بريطانيا والحكومة العراقية التي شكلت بعد ثورة العشرين. ثم عرضت الحكومة العراقية على العلماء المنفيين العودة إلى العراق بشرط التعهد بعدم التدخل في الأمور السياسية. واستجاب العلماء لهذا العرض، إذ بعث السيد أبو الحسن الأصفهاني من منفاه في إيران برسالة إلى الملك فيصل الأول، ملك العراق، يعلن فيها قبوله بالشروط التي وضعتها الحكومة العراقية. وكانت تلك الرسالة بمثابة القبول بالانسحاب من حلبة الصراع السياسي من قبل العلماء والتخلي عن قيادة الأمة في مطالبتها بنيل حقوقها.[7]
تخلي علماء الدين في تلك الظروف عن العمل السياسي مكن السياسة البريطانية من عزلهم عن المجتمع، وتشويه الصورة المشرقة للجهاد الذي خاضوه من أجل تحقيق استقلال العراق، وبمرور الزمن بدأت تبرز في الأوساط الدينية قيم ومفاهيم غريبة، ما لبثت أن سرت في المجتمع، حيث بات التعاطي بالأمور السياسية يعد نوعاً من الخروج عن الإسلام ومبادئه، وأصبح التداول بالفكر والعمل السياسي من المحظورات المحرمة.
هذا الواقع المتخلف أدركه الإمام الصدر وهو يتصدى لتأسيس حركة إسلامية تحمل مشروعاً سياسياً يسعى لإقامة الدولة الإسلامية، ولذا فلم تكن مفاجأة له الحملة التي تعرض لها لتشويه صورته في أذهان كبار المراجع يومذاك. واستخدم الإمام الصدر نفوذه وشخصيته العلمية في توسيع قاعدة التنظيم، حيث كان يرسل على العلماء ويطرح عليهم فكرة العمل في هذا التنظيم ثم يرسلهم إلى أماكن العراق المختلفة لفتح خطوط تنظيمية جديدة.
جماعة العلماء
قبل أن يمر عام على تأسيس حزب الدعوة الإسلامية، وقع حدث بارز في العراق إذ أطاح انقلاب عسكري بالحكم الملكي الذي أقامه البريطانيون في العراق عام 1921.وقد اعتمد زعيم الانقلاب عبد الكريم قاسم في تركيز سلطته على الحزب الشيوعي العراقي، فشهد العراق مداً شيوعياُ طاغياً. وكانت صدمة الحوزة العلمية كبيرة حين تبين أن الشيوعية غزت المؤسسة الدينية في عقر دارها، حيث أصبحت المدن المقدسة (النجف وكربلاء والكاظمية) ساحات نشطة للشيوعيين.
ولغياب أي تنظيم إسلامي قادر على مواجهة المد الشيوعي، حيث أن حزب الدعوة الإسلامية كان في بدايات تأسيسه، واستراتيجيته التي اعتمدها تفرض عليه السرية في مرحلة البناء، بادر الإمام الصدر إلى السعي لإقامة تشكيل سياسي قادر على التصدي للنشاط الشيوعي. وقد وظف الإمام الصدر مشاعر القلق والحزن التي سادت الأوساط الدينية في العراق في إقناع جملة من علماء الحوزة العلمية في النجف الأشرف بتشكيل جماعة العلماء، وقد ضمت الجماعة عدد من كبار العلماء كالشيخ مرتضى آل ياسين والشيخ عباس الرميثي والشيخ محمد طاهر آل شيخ راضي والشيخ محمد رضا المظفر والسيد إسماعيل الصدر. ورغم أن الإمام الصدر هو صاحب الفكرة إلا إنه لم يكن ن بين أعضائها لصغر سنه، غير أنه كان يمارس دوراً أساسياً من خلال وجود خاله الشيخ مرتضى آل ياسين وشقيقه السيد إسماعيل الصدر في عضوية الجماعة.
وقد تلي البيان الأول لجماعة العلماء في احتفال أقيم في جامع الهندي في النجف بمناسبة مولد الإمام الحسين علیه السلام[8]. وحظيت الجماعة بتأييد المرجعية الدينية ممثلة بالمرجع السيد محسن الحكيم، لكن نشاطها الجماعي السياسي جعلها عرضة لهجوم العديد من الأطراف السياسية. فالشيوعيون وجدوا فيها خصماً خطيراً يقف بالمرصاد لأفكارهم ونشاطاتهم، فقاموا بتأسيس جماعة أخرى للعلماء أطلقوا عليها اسم (جماعة رجال الدين الأحرار) ضمت الشيخ علي كاشف الغطاء المعروف بموالاته للحكومات العراقية المتعاقبة، والشيخ عبد الكريم الماشطة المعروف بأنه المرشد الديني للحزب الشيوعي العراقي! والشيخ مجيد زاير دهام. وقد أصدر الماشطة بياناُ قال فيه أن جماعة العلماء لا تحظى بدعم وتأييد العلماء ومراجع الدين فبادر الشيخ مرتضى آل ياسين إلى جمع تواقيع مراجع الدين وفي مقدمتهم السيد محسن الحكيم والسيد عبد الهادي الشيرازي والسيد محمود الشاهرودي وغيرهم.[9]
وقد انعكست التطورات السياسية في المنطقة على جماعة العلماء، فقد تعرضت الحوزة العلمية إلى انشقاق بسبب الموقف من شاه إيران بعد اعترافه بإسرائيل، فقد أرسل الشيخ محمود شلتوت، رئيس جامع الأزهر آنذاك، برسالة إلى السيد محسن الحكيم يطلب منه استنكار قرار الشاه ويدعوه للضغط على الشاه. وقد أرسل الحكيم رسالة إلى السيد محمد البهبهاني وكان من المقربين إلى الشاه. وقامت جماعة العلماء بنشر رسالتي الشيخ شلتوت والسيد الحكيم في نشرتها الأضواء، وقد تحرك السافاك الإيراني من خلال عناصره المتغلغلة داخل الحوزة العلمية، فانقسمت الحوزة إلى فريقين أحدهما يؤيد الأضواء على خطوتها وآخر يقف ضدها. وقد ضعفت الجماعة تدريجياً بسبب ما تعرضت له من ضغوط ودسائس وتوقفت الأضواء عن الصدور.
المرجعية الدينية
تحتل المرجعية الدينية موقعاً متميزاً في مشروع الإمام الصدر التغييري، إذ كان يعتقد أن تحقيق أهداف الحركة الإسلامية يعتمد على دعم المرجعية الدينية وحمايتها لهذا العمل. ففي حديث له مع أحد العلماء البارزين في حزب الدعوة قال الإمام الصدر: “إن الحركة الإسلامية لا تؤدي دورها المنشود إلا بدعم المرجعية لها، كما لا غنى للمرجعية عن الحركة الإسلامية، فكل منهما يدعم الآخر” وأضاف في معرض تفسيره لقراره بالتصدي للمرجعية الدينية قال: “وأنا أرى من الآن أن التصدي للمرجعية هو الوظيفة الشرعية، والمطلوب منكم دعم هذه الفكرة أنا معكم والمرجعية لا تستغني عن الحركة ولا يمكن أن تؤدي رسالتها بدون الحركة”.[10] ولكن أية مرجعية تلك التي كان الصدر يتطلع إليها لتحتل ذلك الموقع المتميز في مشروع التغيير الشامل؟. إن الإمام الصدر كان، وهو يتأمل واقع المرجعية الدينية وطريقة عملها، يجدها عاجزة، بواقعها التي هي عليه، عن النهوض بمشروعه التغييري، وغير قادرة على الانسجام مع حاجات الأمة في عصرها الحاضر. ولذا حين تصدى للمرجعية الدينية كان يخطط لتطوير هذه المؤسسة وتنظيمها بالشكل الذي يمكنها من أداء دورها الحيوي. وقد أطلق على مشروعه الرامي إلى تطوير المرجعية تسمية (المرجعية الموضوعية)، والتي عرفها بأنها مرجعية هادفة ذات أهداف واضحة تصرف دائماً على ضوئها بدلاً من أن تمارس تصرفات عشوائية وبروح تجزيئية.
ولئن كان خط الإمام الصدر وافراً في مشروعيه السابقين (التنظيم الإسلامي وجماعة العلماء) إلا أن مشروعه حول المرجعية الموضوعية ظل أفكاراً جميلة تتطلع إلى من يجسدها واقعاً. فقد تسارعت الأحداث السياسية في العراق بشكل كبير بفعل انتصار الثورة الإسلامية التي فجرها إمام الأمة الراحل السيد الخميني (رضي الله عنه) وتصدي الإمام الصدر إلى قيادة الشعب العراقي في مواجهة النظام البعثي الحاكم في العراق.
القيادة السياسية
التحولات التي شهدها العراق في نهاية السبعينات مهدت الأجواء لبروز الحركة الإسلامية كقوة سياسية منظمة مهيأة للتصدي لنظام البعث. كما أبرزت تلك الأحداث الإمام الصدر باعتباره زعيماً لحركة المعارضة داخل العراق، وجاء انتصار الثورة الإسلامية في إيران وسقوط نظام الشاه ليفتح صفحة جديدة في تاريخ العراق السياسي الحديث. فقد انعكست آثار ذلك الحدث التاريخي على العراق بشكل كبير، بعدما اهتزت المنطقة بأكملها لوقع انهيار نظام الشاه قلعة الغرب في المنطقة وشرطيه فيها، وقد وجد الإمام الصدر نفسه وهو يتحمل مسؤولية قيادة الأمة المتطلعة إلى التخلص من نظام البعث الاستبدادي والمتعطشة إلى نظام حكم إسلامي. وكان حزب الدعوة الإسلامية ذراع الإمام الصدر في معركته الضاربة مع نظام بغداد. فتحرك الصدر للتصدي لمخططات السلطة البعثية التي شعرت بالذعر من حركة الشارع العراقي واستجابته لإيقاعات الحدث الإسلامي، وقد بدأ الإمام الصدر تحركه السياسي بعدة خطوات كان أبرزها :
إفتاؤه بحرمة الانتماء لحزب البعث أو التعاون معه تحت أي عنوان.
تحريم الصلاة خلف رجال النظام المتلبسين بزي رجال الدين.
تحريم دخول الطالبات إلى الجامعات بدون الالتزام بالحجاب الإسلامي.
خطوات الإمام الصدر تلك كانت في حقيقتها رد على تحرك السلطة وسعيها لتطويق التحرك الإسلامي. إذ أنها قامت بحملة لدفع العراقيين للانتماء لحزب البعث ولو شكلياُ. وقد اتخذت القيادة القطرية لحزب البعث قراراً بتحويل العراق إلى دائرة مغلقة على البعثيين، فلم يعد من حق أي مواطن عراقي أن لا يكون بعثياُ.[11] الانتماء إلى حزب البعث وإن كان شكلياُ من شأنه أن يحول دون الارتباط بحزب الدعوة الإسلامية، الذي ازداد نشاطه في تلك الفترة، إذ أن القانون العراقي الذي سنته الحكومة البعثية يوقع عقوبة الإعدام على كل بعثي يثبت انتماؤه إلى أية جهة سياسية أخرى. كما أن السلطة أصدرت قراراً يمنع ارتداء الحجاب الإسلامي داخل الجامعات، وقامت ببث رجال الأمن والمخابرات المرتدين لزي الديني في العديد من المساجد في العراق. خطوات الإمام الصدر أفشلت إلى حد كبير المخطط البعثي، ولكنها في نفس الوقت وضعته في خط المواجهة الأول مع السلطة. وقد أدرك الإمام الصدر هذه القضية، واستعد لها. وفي هذا السياق اتفق الإمام الصدر مع قيادة حزب الدعوة ومع غير حزب الدعوة على خطوتين الأولى تنظيم مبايعة جماهيرية واسعة لقيادته. حيث تقاطرت وفود البيعة من مختلف مناطق العراق على منزل الإمام الصدر في النجف الأشرف. وكانت حدثاً تاريخياً تجسدت فيه الشعبية الواسعة للإمام الصدر من جهة والقدرة التنظيمية العالية لحزب الدعوة ونجاحه في حشد الأمة خلف المرجعية الدينية الواعية والمتصدية. أما الخطوة الثانية فهي تنظيم مظاهرات احتجاج كبيرة في حال إقدام السلطة على اعتقاله. وهو أمر كان يتوقعه الإمام الصدر. فكانت انتفاضة رجب يوماً مشهوداً في تاريخ العراق الحديث وحلقة مضيئة في سلسلة الانتفاضات والهبات الشعبية التي يزخر بها تاريخ الشعب العراقي.
الخطاب السياسي للإمام الصدر
لقد شهد التاريخ السياسي للإمام الصدر ثلاثة أدوار. الأول كان الدول الحركي حيث كان في نهاية العقد الخامس من هذا القرن مؤسساً ومنظراً للعمل الإسلامي المنظم متمثلاُ في تأسيس حزب الدعوة الإسلامية. وفي الدور الثاني تصدى الإمام الصدر للمرجعية الدينية، ثم كان الدور الثالث والذي تولى فيه قيادة الشعب العراقي في جهاده ضد الحكم البعثي في العراق. وهذه الأدوار الثلاثة وإن تعاقبت زمنياً، إلا أنها كانت تشكل حلقات متكاملة في مشروع الإمام الصدر التغييري. وكما برز نبوغ الصدر وقدرته المتميزة في الدورين الأوليين، فإن قدراته القيادية تجسدت بشكل واضح في مرحلة قيادة الأمة سياسياً.
إن أبرز ما ميز تحرك الإمام الصدر هو نضج خطابه السياسي، وقدرته المتميزة على إدراك مفردات الواقع السياسي العراقي رغم تعقيدات هذا الواقع وحساسيته. وقد تجسد هذا النضج في النداءات السياسية التي وجهها الإمام الصدر إلى الشعب العراقي، والتي أوضح فيها الخطوط العريضة لبرنامجه السياسي والأهداف التي يسعى لتحقيقها. وفي مقدمة تلك الأهداف إقامة نظام حكم حر شريف يجسد إرادة الأمة ويعبر عن طموحاتها في الحياة الحرة الكريمة لم يطرح الإمام الصدر نفسه زعيماً لشريحة معينة من شرائح المجتمع العراقي، ولا قائد لطبقة معينة من طبقاته، بل قدم نفسه قائداً للعراقيين جميعاً، متخطياُ لكل الخطوط والحواجز القومية والمذهبية. فقد خاطب الأكراد كما خاطب العرب، وناشد السنة كما ناشد الشيعة. ولم يطالب بأهداف تخص فئة دون أخرى ولم يتصدى ليعبر عن طائفة، بل تحدث باسم العراقيين جميعاً وخاطبهم جميعاً.
لقد أظهرت تلك النداءات إيمان الإمام الصدر العميق بالشعب العراقي واعتزازه الكبير بتاريخ هذا الشعب، ففي خطابه الأول يقول “إني أخاطبك أيها الشعب الحر الأبي وأنا أشد الناس إيماناُ بك وبروحك الكبيرة وبتاريخك المجيد، وأكثرهم اعتزازاً لما طفحت به قلوب أبنائك البررة من مشاعر الحب والولاء والبنوة المرجعية” وهو لا يكتفي بإبراز مشاعر الحب والامتنان للموقف الشجاع الذي وقفته جماهير الشعب العراقي، بل يؤكد وبشكل واضح ارتباطه بهذا الشعب واستعداده للتضحية من أجله إذ يقول “وإني أؤكد لك يا شعب آبائي وأجدادي إني معك وفي أعماقك ولن أتخلى عنك في محنتك وسأبذل آخر قطرة من دمي في سبيل الله من أجلك”. ورغم كونه مرجعاً دينياً وعالماً إسلامياُ شيعياً إلا أنه تصدى للتعبير عن جميع فئات الشعب، فتحدث باسم العراق والعراقيين، فناشد الجميع ودافع عن الجميع. ففي نداء آخر من تلك النداءات التاريخية يقول: “يا شعبي العراقي العزيز، أيها الشعب العظيم إني أخاطبك في هذه اللحظة العصيبة من محنتك وحياتك الجهادية، بكل فئاتك وطوائفك، بعربك وأكرادك، بسنتك وشيعتك، لأن المحنة لا تخص مذهباً دون آخر ولا قومية دون أخرى، وإني أعاهدكم جميعاً بأني لكم جميعاً ومن أجلكم جميعاُ وإنكم جميعاُ هدفي في الحاضر والمستقبل”.
وقد حدد الإمام الصدر في نداءاته المطالب السياسية التي يسعى لتحقيقها بما يلي :
إيقاف حملات الإكراه على الانتساب إلى حزب البعث على كل المستويات.
الإفراج عن المعتقلين بصورة تعسفية وإيقاف الاعتقال الكيفي الذي يجري بصورة منفصلة عن القضاء.
فسح المجال للشعب ليمارس، بصورة حقيقية حقه في إدارة شؤون البلاد، وذلك عن طريق إجراء انتخاب حر ينبثق عنه مجلس حر يمثل الأمة تمثيلاُ صادقاً.
إطلاق حرية الشعائر الدينية.
إن الإمام الصدر إذ يطرح هذه المطالب ويتحدى النظام الذي تطوق أجهزته القمعية منزله، يدرك حجم المخاطر التي يتعرض لها في هذا السبيل، ولكنه يدرك أيضاً أن هذه المطالب هي إرادة أمة وحقوقها المهدورة وهي لا تموت بموت الأفراد مهما عظموا.
لقد كان التحرك السياسي للإمام الصدر سابقاً لمعظم التحركات السياسية الإسلامية في المنطقة لجهة تزامنها وتفاعلها بالثورة الإسلامية الإيرانية، ولذا كانت الضربة التي وجهت إلى الحركة الإسلامية العراقية عنيفة، وشكلت بداية في مخطط تصفية الوجودات الإسلامية الأخرى في باقي دول المنطقة. فلم يكن إعدام الإمام الصدر حدثاُ عراقياُ يهم العراق وحده، وذلك أن الإمام الشهيد الصدر لم يكن شخصية منغلقة على الواقع العراقي وحده.[12]
سامي العسكري
[1] محمد باقر الصدر (الإسلام يقود الحياة) ص197.
[2] الحمداني، طالب عزيز (الإمام الصدر في الحركة السياسية والدولة الإسلامية) محمد باقر الصدر، دراسات في حياته وفكره، دار الإسلام _ لندن 1996 ص560.
[3] الشهيد الرابع الأمام الصدر (دعوتنا يجب أن تكون انقلابية) من فكر الدعوة الإسلامية ص37.
[4] الحمداني، طالب عزيز (الإمام الصدر في الحركة السياسية والدولة الإسلامية) محمد باقر الصدر، دراسات في حياته وفكره، دار الإسلام _ لندن 1996 ص560.
[5] الإمام الصدر (حول الاسم والشكل التنظيمي) حزب الدعوة الإسلامية ص9.
[6] المصدر السابق ص10.
[7] العسكري، سامي (الإمام الصدر ودوره في الصراع السياسي في العراق) محمد باقر الصدر، دراسات في حياته وفكره، دار الإسلام _ لندن 1996 ص525.
[8] الحسني، محمد (الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر) ص244.
[9] المصدر السابق ص249.
[10] مجلة الجهاد للدراسات العدد 12 ص46.
[11] المؤمن، علي سنوات الجمر ص171.
[12] العسكري، سامي (الإمام الصدر ودوره في الصراع السياسي في العراق) محمد باقر الصدر، دراسات في حياته وفكره، دار الإسلام _ لندن 1996 ص548.