يمكننا تعريف الفكر الإنساني بأنه الفكر الّذي يتعلق بخصائص ومميّزات وتطور الإنسان بغض النظر عن أعتقاد الإنسان، وبكلمة أخرى الجانب الفكري التكويني لدى الإنسان، فهو يتعلق بالمحتوى الداخلي للإنسانية جمعاء وبذلك فالفكر الإنساني يعتبر القاسم المشترك الّذي تشترك به الإنسانية جمعاء.
القرآن الكريم أهتم بهذا الجانب كثيراً وكشف عن القوانين الّتي على ضوئها يتحرّك الإنسان فكرياً والّتي أودعها الباري عزّ وجلّ فيه، وأهتمام القرآن الكريم بهذا الجانب يأتي نتيجة لحركة القرآن الكريم بأتجاه كشف الغموض عن الإنسان ليتسنى بذلك تشخيص الداء قبل أعطاء الدواء وهو الهداية الإلهية لهذا المخلوق، هناك الكثير من الآيات القرآنية والّتي تبين الخصائص الإنسانية، يقول سبحانه وتعالى:
(ياأيُها الإنسانُ إنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقيهِ)
(الانشقاق / 6)
(إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوم حتّى يُغَيِّرُوا مابِأَنفُسِهِم)
(الرعد / 11)
(إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السَّمواتِ والأرْضِ وَالجِبالِ فَأَبَينَ أَن يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنها وَحَمَلَها الإنسانُ إنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولا)
(الاحزاب / 72)
(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدينِ حَنِيفاً فِطرَتَ اللهِ الّتي فَطَرَ النَّاسَ عَليها لا تَبديلَ لِخَلقِ اللهِ ذلِكَ الدينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ)
(الروم / 30)
(وَإذْ قالَ رَبُّكَ لِلمَلائِكَةِ إنّي جاعِلٌ في الأرضِ خَليفَةً قالوا أَتَجعَلُ فيها مَن يُفسِدُ فيها وَيَسفِكُ الدِماءَ وَنحنُ نُسَبِّحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إنّي أَعلَمُ ما لا تَعلَمون)
(البقرة / 30)
(كَلاّ إِنَّ الإنسانَ لَيطغى * أَن رَّءَاهُ استغنى)
(العلق / 7)
وهناك الكثير من الآيات القرآنية في هذا المجال. لقد تحرّك الإمام الصدر في هذا الإتجاه، أي بأتجاه كشف الخصائص الإنسانية مستنداً على الأسس الإسلامية، وذلك عند تحليله لكثير من المسائل الّتي صارع بها الفكر الماركسي والرأسمالي، وبذلك فقد كشف عن الأسس الّتي أعتمدها الإسلام عند معالجة القضايا الإنسانية.
1- التفاعل الحضاري الإنساني:
لقد فسّرت نظرية المادية التاريخية التناقض الإنساني أو التفاعل الحضاري الإنساني معتمدة على التفسير الديالكتيكي للتاريخ على أساس التناقض الطبقي، أي التناقض والصراع بين طبقة تملك وسائل الإنتاج وطبقة لا تملك وسائل الإنتاج، لذلك لتفسير التناقض الإنساني لا بد من الإنطلاق في اتجاه التحليل الدقيق للخصائص الإنسانية والّتي تؤدي الى حصول هذا التناقض أو الصراع، وهذا ما قام به الشهيد الصدر (رض). حيث يعتقد بأن التناقض الإنساني هو تناقض رئيسي واحد ترجع إليه كل التناقضات الإجتماعية المتمثلة في علاقة الإنسان مع الإنسان، وهذا التناقض هو ذلك الجدل الإنساني القائم بين حفنة التراب وبين نفحة من روح الله سبحانه وتعالى، لذلك فهو يعتقد أن الأساس الرئيسي للتناقض الإجتماعي أو التناقضات الإنسانية الأخرى ليست وسائل الإنتاج أو التناقض الطبقي المبتنى على أساس وسائل الإنتاج، وأنما طبيعة وخاصية النفس الإنسانية هي أساس الجدل الإنساني أو التفاعل الحضاري الإنساني.
وعن مظاهر التناقض الإنساني هو إستغلال الأقوياء للضعفاء من خلال نمو قدرة الأقوياء على الطبيعة واتساع سيطرتهم عليها (كَلاّ إِنَّ الإنسانَ لَيطغى * أَن رَّءَاهُ استغنى)
(العلق / 7)
وإعتماداً على هذه الخاصية الإنسانية (الجدل الإنساني) يأتي الحل، حيث يبين الإمام الصدر (رض) بأن الرسالة الّتي تريد أن تضع الحل الموضوعي للمشكلة أن تعمل على مستويين، الجهاد الأكبر لتصفية التناقض الرئيسي في النفس الإنسانية، ولحل الجدل الداخلي، وجهاد في وجه كل صيغ التناقض الإجتماعي في وجه كل ألوان أستئثار القوي للضعيف. وبذلك فهو يرى بأن النظرة الضيقة الّتي فسّرت بها الماركسية الجدل الإنساني وكذلك الحل المعتمد على هذا التفسير لإزالة التناقض الطبقي والمتثّمل بحصول ثورة تجسدها الطبقة العاملة تقضي بها على التناقض الطبقي في المجتمع وتوحيد المجتمع في طبقة واحدة، هذه النظرة لا تنسجم في الحقيقة مع الواقع ولا تنطبق على تيار الأحداث في التاريخ، لأن التناقض ليس وليد تطور الآلة وأنما هو وليد الإنسان، وليس التناقض الطبقي هو التناقض الرئيسي بالنسبة إلى تلك الأشكال وأنما كل هذه الأشكال من التناقض على الساحة الإجتماعية هي وليد تناقض رئيسي وهو جدل الإنسان، هو الجدل المخبوء في داخل محتوى الإنسان، ذلك هو التناقض الرئيسي الذي يفرز دائماً وأبداً صيغاً متعددة من التناقض.
2- الإطار العام للإقتصاد الإسلامي:
ويعتقد السيّد الإمام (رض) بأن هناك نوعين من المصالح للإنسان في حياته المعيشية، أحداهما: مصالح الإنسان الّتي تقدمها الطبيعة له بوصفه كائناً خاصاً كالعقاقير الطبية مثلا فأن مصلحة الإنسان الظفر بها من الطبيعة، وذلك لأن الإنسان بوصفه كائناً معرضاً للجراثيم الضارة بحاجة إلى تلك العقاقير سواء كان يعيش منفرداً أم ضمن مجتمع، ولكي يتمكن الإنسان من توفير مصالحه الطبيعية يجب أن يجهّز بالقدرة على معرفة تلك المصالح وأساليب إيجادها، وبالدافع الّذي يدفعه الى السعي في سبيلها، فالعقاقير الّتي تستحضر للعلاج من السل مثلا، توجد لدى الإنسان حين يعرف أن للسل دواء ويكشف كيفية أستحضاره ويملك الدافع الّذي يحفزه على الإنتفاع بأكتشافه وأستحضار تلك العقاقير، وبذلك فهو يعتقد بأن المشكلة الاساسية في علاقة الإنسان مع الطبيعة هوالتناقض بينهما، أو بالأحرى، تمرد الطبيعة وتعصيها عن الإستجابة للطلب الإنساني وللحاجة الإنسانية، وهذا التناقض له حل مستمد من قانون موضوعي يمثل سنة من سنن التاريخ، وهو قانون التأثير المتبادل بين الخبرة والممارسة، فكلما تضائل جهل الإنسان بالطبيعة كلما أزداد خبرة بقوانينها من خلال الممارسة للإستفادة منها، وهكذا الممارسة تولد الخبرة، وينطلق الإمام الشهيد (رض) من الآية المباركة: (وآتاكُم مِن كُلِّ ما سَأَلْتمُوهُ وَإن تَعُدُّوا نِعمَتَ اللهِ لا تُحصُوها)( ابراهيم / 34)، كإشارة إلى هذا القانون التاريخي الّذي يمثل تطور المعرفة والتكنولوجيا تاريخياً، فالسؤال من الإنسانية ككل والإستجابة هي تكوينية، وبذلك أعتمد السيّد الشهيد (رض) على الخصائص الإنسانية الّتي أودعها الباري عزّ وجلّ للإنسان، في تفسيره لعلاقة الإنسان بالطبيعة وكذلك لحل التناقض القائم بينهما، وبهذا التفسير فهو يختلف مع المادية التاريخية في تفسيرها لتطور المعرفة والتقدم التكنولوجي والّتي تعتقد بأن وسائل الإنتاج هي السبب الأول والرئيسي والدافع في التقدم العلمي والتكنولوجي.
وأمّا المصالح الأخرى وهي المصالح الإجتماعية فهي كذلك تتوقف على أدراك الإنسان للتنظيم الإجتماعي الّذي يصلح له، وعلى الدافع النفسي نحو إيجاد ذلك التنظيم وتنفيذه، فالإمام (رض) يعتقد بأن المشكلة الأساسية هى ليست: كيف يدرك الإنسان المصالح الإجتماعية؟ بل المشكلة الأساسية هي: ما هو الدافع الذاتي الّذي يدفع الإنسان إلى تحقيق المصالح الإجتماعية وتنظيم المجتمع بالشكل الّذي يضمنها؟. فأن الدافع الذاتي نفسه يحول دون تحقيق كثير من المصالح الإجتماعية، ويمنع عن إيجاد التنظيم الّذي يكفل تلك المصالح أو عن تنفيذه، فضمان معيشة العامل حال التعطل يتعارض مع مصلحة صاحب المعمل، والّذي يتكلّف بتسديد نفقات هذا الضمان، وتأميم الأرض يتناقض مع مصلحة أولئك الّذين يمكنهم إحتكار الأرض لأنفسهم، وبعد أن يحلل السيّد الإمام (رض) المشكلة معتمداً على الخصائص الإنسانية، يطرح الحل منطلقاً من الخاصية الإنسانية نفسها والمتمثلة بالآية المباركة: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدينِ حَنِيفاً فِطرَتَ اللهِ الّتي فَطَرَ النَّاسَ عَليها لا تَبديلَ لِخَلقِ اللهِ ذلِكَ الدينُ القَيِّمُ وَلكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ)
(الروم / 30)
وبهذا فللفطرة الإنسانية أذن جانبان: فهي من ناحية تملي على الإنسان دوافعه الذاتية، الّتي تنبع منها المشكلة الإجتماعية الكبرى في حياة الإنسان وهي مشكلة التناقض بين تلك الدوافع الذاتية والمصالح الإجتماعية، وهي من ناحية أخرى تزود الإنسان بأمكانية حل المشكلة عن طريق الميل الطبيعي إلى التدين وتحكيم الدين في الحياة بالشكل الّذي يوفق بين المصالح الإجتماعية والدوافع الذاتية، وهذا التوفيق هو الّذي يستطيع أن يقدمه الدين للإنسانية، لأن الدين هو الطاقة الروحية الّتي تستطيع أن تعوض الإنسان عن لذائذه الموقوتة الّتي يتركها في حياته الأرضية أملا في النعيم الدائم، وتستطيع أن تدفعه إلى التضحية بوجوده عن أيمان بأن هذا الوجود المحدود الّذي يضحّي به ليس الاّ تمهيداً لوجود خالد وحياة دائمة: (وَمَن عَمِلَ صالِحاً مِن ذَكَر أو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فأولئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ يُرزَقُونَ فيها بِغَيرِ حِساب)
(غافر / 40)
ومن هنا فقد خالف السيّد الإمام (رض) المادية التاريخية في تفسيرها للتناقض بين الإنسان والمصالح الإجتماعية، والّتي تعتمد كذلك على وسائل الإنتاج، حيث تعتبر المشكلة هي صراع بين الدوافع الذاتية للطبقات المختلفة، والغلبة في هذا الصراع للطبقة الّتي تملك وسائل الإنتاج، وتضع المادية التاريخية حلّها الأخير وهو أنشاء المجتمع اللاطبقي الّذي تزول فيه الدوافع الذاتية وتنشأ بدلا عنها الدوافع الجماعية وفقاً للملكية الجماعية.
3 – الهيكل العام للإقتصاد الإسلامي:
وفي طرحه الهيكل العام للإقتصاد الإسلامي، فيعتقد الإمام الصدر بأن هناك ثلاث أركان رئيسية تحدّد وتميّز الإقتصاد الإسلامي عن سائر المذاهب الإقتصادية الأخرى، فالإسلام يؤمن بمبدأ الملكية المزدوجة أي الملكية ذات الأشكال المتنوعة في وقت واحد بدلا عن مبدأ الشكل الواحد للملكية الّذي تتبناه الرأسمالية والماركسية، وينطلق الإسلام في أباحته للملكية الخاصة للإنسان تعبيراً عن الميل الطبيعي في نفس الإنسان، وهو حب الذات والّذي يعتبر الأصل في غرائز الإنسان، كذلك يعتبر الإسلام العمل سبب للملكية الخاصة وذلك وفقاً للميل الطبيعي في الإنسان إلى تملك نتائج عمله.
وأمّا الركن الثاني فهو أن الإسلام يعتمد مبدأ الحرية الإقتصادية في نطاق محدود، والتحديد الإسلامي في الحقل الاقتصادي يعتمد على التحديد الخارجي والتحديد الذاتي الّذي ينبع من أعماق النفس، ويستمد قوته ورصيده من المحتوى الروحي والفكري للشخصية الإسلامية، وهذا التحديد الذاتي يتكون طبيعياً في ظل التربية الخاصة، والتفاعل الناجم بين النفس الإنسانية والتربية الإسلامية لا يمكن أن يفهم بدون أعتبار الدين كفطرة وغريزة في الإنسان.
أمّا الركن الثالث وهو مبدأ العدالة الإجتماعية الّذي يتمثّل في مبدأ التكامل العام ومبدأ التوازن الإجتماعي وفي كليهما فهو يعتمد على تربية النفس الإنسانية تربية خلقية، تنسجم مع طبيعة النفس الإنسانية، وأهتمام الإسلام بالعامل النفسي للإنسان ناتج من تفهم الإسلام لطبيعة العوامل الذاتية الّتي تعتلج في نفس الإنسان، وأثرها الكبير في تكوين شخصية الإنسان وتحديد محتواه الروحي، كما أن للعامل الذاتي أثره الكبير على الحياة الإجتماعية ومشاكلها وحلولها، ومن كل ما تقدم نجد السيّد الإمام (رض) أعتمد مبدأ الخصائص الإنسانية في تحليله لأركان الإقتصاد الإسلامي وصفاته الأساسية.
4 – الإنتاج:
وفي مجال الإنتاج فيعتبر الإمام الصدر (رض) الحياة الإجتماعية بأشكالها نابعة من حاجات الإنسان نفسه، وليست نابعة من الأشكال المتنوعة للإنتاج وذلك لأن الإنسان هو القوة المحركة للتاريخ لا وسائل الإنتاج، وفيه نجد ينابيع الحياة الإجتماعية. فقد خلق الإنسان مفطوراً على حب ذاته والسعي وراء حاجاته وبالتالي أستخدام كل ما حوله في سبيل ذلك، وكان من الطبيعي أن يقوم الإنسان بأستخدام الإنسان الاخر ومضطراً في هذا السبيل، لأنّه لا يتمكن من أشباع حاجاته ألاّ عن طريق التعاون مع الأفراد الآخرين. فنشأت العلاقات الإجتماعية على أساس تلك الحاجات.
وبذلك فهو يختلف مع النظام الماركسي الذي يفسر الحياة الإجتماعية نتيجة لأشكال الإنتاج.
5 – التوزيع:
وفي مجال التوزيع فيعتقد الإمام الصدر (رض) أن الإسلام يعتبر العمل سبب لملكية العامل لنتيجة عمله، وهذه الملكية الخاصة القائمة على أساس العمل تعبير عن ميل طبيعي في الإنسان إلى تملك نتائج عمله، ومرد هذا الميل إلى شعور كل فرد بالسيطرة على عمله.
وبذلك تكون الملكية القائمة على أساس العمل حقاً للإنسان نابعاً من مشاعره الأصلية.
وبما أن التوزيع في الإقتصاد الإسلامي يعتمد على العمل والحاجة، لذلك أهتم الإسلام بحاجة الأفراد غير القادرين على العمل أو ذوي الدخل الّذي يسد فقط المعيشة الضرورية لهم. وبذلك يختلف الإسلام مع النظرية الشيوعية: من كل وفقاً لطاقته ولكل وفقاً لحاجته، وكذلك يختلف مع الإشتراكية الماركسية: من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله وكذلك يختلف مع الرأسمالية الّتي تعتبر الحاجة دليل على أنخفاض نصيب الأفراد من التوزيع، لأن شدة حاجة الأفراد تعني زيادة الطاقة الإنسانية المعروضة في السوق وهذا يعني كذلك قلة الطلب عليها وأنخفاض ثمنها وبالتالي قلة نصيبها من التوزيع، ومن ذلك نستنتج ان الإمام السيّد الصدر (رض) ركّز في مجال الإنتاج ومجال التوزيع على الخصائص الإنسانية.
6 – التوازن الإجتماعي:
وفي مجال التوازن الإجتماعي، فيعتبر الإمام الصدر (رض): أختلاف أفراد النوع البشري في مختلف الخصائص والصفات النفسية والفكرية والجسدية، حقيقة أساسية يعتمد عليها الإسلام في معالجة قضية التوازن الإجتماعي، وبذلك يؤمن الإسلام بالتفاوت في مستوى الدخل، ولكن بشرط التوازن في مستوى المعيشة بين أفراد المجتمع، فالخصائص الإنسانية أعتبرها الإمام الصدر (رض) العامل الأساسي في معالجة الإسلام لموضوع التوازن الإجتماعي.
7 – دور الإنسان في حركة التاريخ:
وأمّا في موضوع دور الإنسان في حركة التاريخ من زاوية النظر القرآنية، فيعتبر الإمام الصدر الإنسان أو المحتوى الداخلي للإنسان، هو الأساس لحركة التاريخ، فحركة التاريخ تتميّز عن الحركات الأخرى، بأنّها حركة ذات غاية معينة وليست مشدودة إلى سببها أو ماضيها بل هي مشدودة إلى غايتها، لأنّها حركة هادفة لها علة غائية فتطلعه إلى المستقبل، فالمستقبل هو المحرّك لأي نشاط من النشاطات التاريخية. ولكن المستقبل معدوم فعلا لذلك يُحرّك من خلال الوجود الذهني الّذي يتمثّل فيه هذا المستقبل. اذن، الوجود الذهني هو الحافز والمحرّك والمدار لحركة التاريخ، هذا الوجود الذهني يجسد من ناحية تصورات الهدف ومن ناحية أخرى الطاقة والارادة الّتي تحفز الإنسان نحو الهدف، فالفكر والإرادة، في الإنسان تمثلان الركيزتان الأساسيتان للمحتوى الداخلي للإنسان، فالعلاقة بين داخل الإنسان والحركة التاريخية هي علاقة تبعية تمثل قانون تاريخياً يقول سبحانه وتعالى:
(إنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوم حتّى يُغَيِّرُوا مابِأَنفُسِهِم)
(الرعد / 11)
وهذه الحركة التاريخية تتجه دائماً بأتجاه المثل الأعلى الّذي يصوره الفكر، ومهما كان هذا الهدف الأعلى منخفضاً أو مطلقاً، فالإنسانية ككل تسير معتمدة على طبيعتها سيراً فيه المعاناة نحو خالق الكون، والموجود دائماً على طول الطريق الّذي تسير فيه الإنسانية فيوافيها حسابها، يقول سبحانه وتعالى:
(ياأيُها الإنسانُ إنَّكَ كادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقيهِ)
(الانشقاق/ 6)
ومن كل ماسبق نستنتج بأن الإمام الصدر أعتمد على الخصائص الإنسانية بصورة أساسية بعد أن أكتشفها من القرآن الكريم، في صراعه مع النظريات الأخرى.
وبذلك فقد قدّم الإمام الصدر (رض) خدمة جليلة للفكر الإسلامي بصورة خاصة وللفكر الإنساني بصورة عامة باكتشافه خصائص الفكر الإنساني ولأول مرّة على ساحة المعرفة البشرية.
د. حازم الحسيني