ممّا لا ريب فيه أنّ بروز المنحى الفلسفي في فكر الشهيد السعيد محمّد باقر الصدر! قد بدأ منذ ظهور كتابه «فلسفتنا»، الذي ألّفه لغرض التصدّي للمدّ الشيوعي الجارف، وذلك إبّان فترة الحكم القاسمي[1] في العراق، تلك الفترة التي امتدّت من سنة «1958» إلى سنة «1963»، حيث إنّه من المعروف أنّ هذا الاتجاه الملحد قد عمل في تلك الفترة على رفع الشعارات الحمراء والأفكار الملحدة بغية فصل الشعب المسلم عن إيمانه وعقيدته، ومن ثم زجّه في محاور التفكير المادي المحدود.
وبسبب هذا الفعل، ظهرت ردّة للفعل المذكور، وكانت متمثّلة في تصرّف بعض العلماء من الحوزة العلميّة النجفيّة، حيث كان من بينهم الشهيد السعيد!. وردّة الفعل هذه قد تبلورت بشكل تصدٍّ حازم عن طريق تأسيس وإنشاء عدّة مشاريع كتابيّة تناولت طرح الأفكار الوضعيّة والماديّة والكشف عن ضعفها وزيفها وخداعها ـ في أحيان كثيرة معيّنة ـ مقابل الفكر الإسلامي، سواء على الصعيد الفلسفي أم الاجتماعي أم الاقتصادي أو غير ذلك. وقد كانت هذه المشاريع الكتابيّة على ما يأتي:
أوّلاً: إصدار مجلّة «الأضواء» الإسلامية التي كانت تكشف زيف الأفكار الأخرى[2]، خاصّة مناهج وأفكار الماركسيّة والديمقراطيّة والعلمانيّة وغيرها. إضافةً إلى ذلك، كانت «الأضواء» تمثّل الطاقة التي تدعم المؤمن بالالتزام بخطّ الرسالة الحركي.
وقد كان دور الشهيد! في هذا المشروع يتمثّل بكتابة افتتاحيّة المجّلة تحت عنوان «رسالتنا». وقد كتب جميع الافتتاحيّات التي أعدّت في المجلّة حتى إيقافها عن العمل[3].
ثانياً: مشروع «فلسفتنا» الذي كتبه الشهيد! كخطوة متطوّرة لمشروع المجلّة[4]، ومن أجل صدّ ومهاجمة الأفكار الملحدة والمناهج الوضعيّة، في الوقت الذي كان يعرض البديل الإسلامي والعقلي في التفكير، وفهم الواقع الموضوعي للعالم، كما سنرى ذلك من خلال هذا البحث إن شاء الله.
ثالثاً: مشروع كتابه «اقتصادنا» الذي ردّ الشهيد! فيه على الماركسيّة والرأسماليّة ردّاً لاذعاً بصدد المذهب الاقتصادي لكلٍّ منهما[5].
ولقد كان موقفه من البديل اللازم متمثّلاً في استنباط المذهب الاقتصادي الإسلامي من بعض القواعد والمفاهيم الإسلاميّة، وكذلك من الأحكام الفقهيّة المتعلّقة بهذا الجانب.
وبعد هذه المقدمة، سنركّز على طرح نظرات الشهيد! الفلسفيّة التي سجّلها في كتابه «فلسفتنا»، مع الإشارة لكلّ ما طرأ حولها من تغيير في الرأي ممّا قد سجّل في كتابه الآخر «الأسس المنطقيّة للاستقراء».
أمّا طرح الأفكار الفلسفيّة والمنطقيّة لهذا الكتاب الأخير «الأسس المنطقيّة للاستقراء»، فسوف نؤجّله لبحث مطوّل خاصٍّ به إن شاء الله تعالى[6].
منهجيّة «فلسفتنا»:
إنّ أوّل ما يثير الانتباه في المنهجيّة المعروضة في «فلسفتنا» هو أنّ الشهيد الثالث! كان قد طرح المسألة الاجتماعيّة على بساط البحث قبل عرض أيّة مشكلة فلسفيّة. بل أكثر من هذا، أنّه اعتبر هذه المسألة «الاجتماعيّة» ـ والتي تتعلّق بالنظام الأصلح للمجتمع ـ تشكّل تمهيداً للبحوث المطروحة[7].
وهذا اللون من المنهجيّة يعاكس المنهجيّة التي ترى أنّ البحوث الفلسفيّة هي الأصلح في أن تشكّل التمهيد للمسائل الاجتماعيّة غير القابلة لأن تكون ممهّدة للبحوث الفلسفيّة، وإنّما هي محتاجةٌ للتمهيد الفلسفي على الدوام.
ويبدو أنّ الشهيد الصدر! موافقٌ على هذا اللون المعاكس من المنهجيّة أيضاً، والدليل على ذلك أنّه كان يبحث مسألة الإدراك ـ وهي من المسائل الفلسفيّة ـ في آخر الكتاب وبعد أن عرض جميع الحلول المتعلّقة بالمشاكل الفلسفيّة، [وذلك] في نفس الوقت الذي يعتبر فيه أنّ الإدراك لا بدَّ من تناوله على صعيد المشكلة الاجتماعيّة. ولذلك كان يشعر أنّ مسألة الإدراك تعتبر من المشاكل المهمّة في البحوث الاجتماعيّة، لما لها من جوانب تتعلّق بمثل هذه البحوث، وهذا الأمر دعاه إلى أن يؤملنا لتفصيل بحث الإدراك من زاويته الاجتماعيّة في كتابه «مجتمعنا»[8] حيث قال: «[وسوف ندرس في «مجتمعنا» طبيعة هذا التكيّف وحدوده، في ضوء مفاهيم الإسلام، عن المجتمع والدولة، لأنّه من القضايا الرئيسيّة في دراسة المجتمع وتحليله]. وفي تلك الدراسة سنستوفي تفصيل كلّ النواحي التي اختصرنا الحديث عنها في بحث الإدراك هذا»[9].
أمّا على صعيد الدراسة الفلسفيّة البحتة، فتجد أنّ الشهيد الصدر! كان قد قسّم «فلسفتنا» إلى بحثين أساسيّين هما: «نظريّة المعرفة» و«المفهوم الفلسفي [للعالم]» في نظريّة المعرفة التي من المعروف أنّها تبحث في جوانب ثلاثة هي: «أصل أو مصدر المعرفة» و«قيمتها» و«طبيعتها». وكان! قد بحث فيها الجانبين الأوّلين بشكل ظاهر جليّ، وكذلك بحث الجانب الثالث ضمناً وبشكل غير علني.
[المفهوم الفلسفي للعالم:]
أمّا عن نظريّة المفهوم الفلسفي للعالم الذي كرّس لها القسم الثاني من الكتاب، فكان يعتبرها محور البحث من حيث الهدف والأهميّة، لذا كان يرى أنّ القسم الأوّل الذي بحث عن نظريّة المعرفة ليس هو في حقيقته إلا تمهيداً للبحث في القسم الثاني من الكتاب. ولذلك كان يقول في المقدّمة:
«وهدفنا الأساسي من هذا البحث ـ أي نظريّة المعرفة ـ هو تحديد منهج الكتاب في المسألة الثانية، لأنّ وضع مفهوم عام للعالم، يتوقّف قبل كلّ شيء على تحديد الطريقة الرئيسيّة في التفكير، والمقياس العام للمعرفة الصحيحة، ومدى قيمتها، ولهذا كانت المسألة الأولى في الحقيقة بحثاً تمهيديّاً للمسألة الثانية، والمسألة الثانية هي المسألة الأساسيّة في الكتاب التي نلفت القارئ إلى الاهتمام بها بصورة خاصّة»[10].
ونحن في هذه الدراسة التقويميّة لـ«فلسفتنا»، سوف نتّبع منهجاً معيّناً لنتابع النظرات المترابطة مع بعضها، ولذلك ستكون دراستنا لهذا الكتاب متمكّنة من عطاء صورة فكريّة مترابطة الخيوط والملامح في كثير من نتائجها، خاصّة حين نستعين بذكر الأفكار التي استمدّها الصدر! من غيره من المفكّرين القدماء، وكذلك حين نكشف النقاب عن الأفكار التي طوّرها في كتابه الموسوم «الأسس المنطقيّة للاستقراء».
وعلى هذا الأساس، فإنّ أوّل ما سنبحث فيه هو نظرته للمعرفة، ومن ثمّ ننتقل إلى نظرته للواقع الموضوعي، وبعد ذلك نظرته للروح والمادة، ونظرته لمبدأ السببيّة، وأخيراً نظرته لحدوث النفس البشريّة.
نظرته إلى المعرفة:
في نظريّة المعرفة، نجد أنّ المفكّر الشهيد الصدر! يسلّم بالمذهب العقلي «الميتافيزيقي» الذي يلتزم به جملة من الفلاسفة المسلمين القدماء التابعين للمنطق الأرسطي.
فمن المعروف أنّ هناك قسمين للمعرفة: التصوّر والتصديق (الاعتقاد).
ويعرّف التصوّر بأنّه «انطباع صورة الشيء في الذهن»، بينما يعرّف التصديق بأنّه عبارة عن «تصوّر ينطوي على حكم بإذعان النفس».
وفي مجال التصوّر، نجد أنّ المفكّر الشهيد يرفض كغيره من الفلاسفة الواقعيّين نظريّة «الاستذكار الأفلاطوني» القائلة إنّ التصوّر يحدث عن الواقع الخارجي بسبب استذكار النفس للمُثُل التي كانت عائمة فيها قبل حلولها في الجسد، وحين حلولها فيه نسيت ذلك العالم من المثل، إلا أنّها ظلّت تستذكره كلّما تطلّعت إلى الواقع عبر الإحساس.
كما إنّه انتقد كلاً من النزعتين، الفطريّة والحسيّة، وذلك لأنّ النزعة الفطريّة التي تبنّاها جملة من الفلاسفة الغربيّين ـ أمثال «دِكارت» و«كَنْتْ» ـ كانت تدّعي بأنّ هناك بعض الأفكار يمكن اعتبارها فطريّة لدى النفس بالفعل كفكرة «الله» و«النفس» و«الامتداد» و«الحركة» لدى «دِكارت»، و«المقولات العشر» لدى «كَنْتْ»، وأنّها على هذا المعنى تعتبر مفصولة تماماً عن الحسّ ما دام منبعها الأصيل هو النفس من دون أيّة علاقة ـ من ناحية المصدر ـ بالواقع الخارجي، ومثل هذا النقد قد لقيت هذه النزعة من الحسيّين على يد «جون لوك».
أمّا النظريّة الحسيّة، فقد انتقدها الشهيد لأنّها لم تؤمن بالأفكار والمعاني العقليّة ـ كفكرة الاستحالة وفكرة السببيّة وغيرها ـ ، ولذلك فهي لم تستطع أن تفسّر وجود مثل هذه التصوّرات والأفكار التي لا تعتبر محسوسة.
وفي مقابل ذلك، فإنّ الشهيد! يتبنّى النظريّة الانتزاعيّة «التجريديّة» التي شيّدها الكثير من الفلاسفة الإسلاميّين القدماء، كما شيّدها قبلهم زعيم العقليّين «أرسطو» مع الأخذ بعين الاعتبار ببعض الاختلافات الفرعيّة لهذه النظريّة على يد أولئك القدماء.
وتعتبر النظريّة الانتزاعيّة بأنّ الأفكار التصوّرية تبتدئ عند الإنسان على أساس تصوّرات أوليّة بسيطة تستمدّ من الواقع الحسّي، ومن هذه التصوّرات تستنبط تصوّرات أخرى لها مستوى معيّن من التجريد العقلي بطريقة انتزاعيّة، سواء مباشرة أو غير مباشرة. إلا أنّ المهمّ هو أنّ هذه التصوّرات المستنبطة «الثانويّة» تكون على مستويات مختلفة من التداخل العقلي والتجريد، وليس لها أيّ مصداق خارجي، كالاستحالة مثلاً. كما إنّ هناك تصوّرات عقليّة لها ما يقابلها في الواقع الموضوعي من الأشياء والمصاديق.
أمّا عن صورة الأشياء المحسوسة الموجودة في الذهن، فقد اعتبرها العقليّون ـ كما أوضح فكرتها الشهيد الصدر[11] ـ بأنّها صورة مجرّدة عن المادة، وليست هي ماديّة بذاتها ولا داخلة في عضو مادي، بل وجودها لا يكون إلا ميتافيزيقيّاً في النفس. فالنظام الهندسيُّ للصورة الذهنيّة لا يقبل التفسير المادي.
ولذلك كان هذا تمييزاً بنظر المفكّر الشهيد! بين الصورة الماديّة التي تنشأ في موضع محدّد من الدماغ، وهي صورة تماثل الصورة الحادثة على الحاسّة كشبكيّة العين مثلاً، وبين الصورة المدركة في العقل اللامادي، وذلك لأنّ الصورة الأولى لا تمتلك خصائص هندسيّة من أبعاد كالتي تمتلكه الصورة المدركة في العقل.
كما إنّ الصورة المدركة في العقل تتميّز حسب تلك النظريّة ـ العقليّة أو الميتافيزيقيّة ـ بكونها ثابتة لا تتغيّر، بعكس الصورة الماديّة التي تتغيّر طبقاً لتغيّر الشيء الذي تنعكس منه بواسطة الأشعّة الضوئيّة مثلاً.
وهكذا يثبت للميتافيزيقيّين بأنّ الإدراك ليس ماديّاً، وأنّ الصورة العقليّة مجرّدة عن المادة بخصائصها الهندسيّة، وهي ثابتة ولا تقوم في العضو المادي، لذا فإنّها قائمة في الروح الإنسانيّة المجرّدة (النفس البشريّة).
هذا من جهة التصوّر، أمّا بالنسبة للتصديق، فقد كان المذهب العقلي الأرسطي يؤمن بوجود أفكار ومبادئ ضروريّة تنشأ قبلاً لدى النفس البشريّة كقوّة، وبإمكانها أن تتحوّل ضمن شروط معيّنة إلى وجود كفعل.
فهذه المعارف الضروريّة (البديهيّة) تمثّل الأساس في كلّ معرفة تصديقيّة أخرى، وتتّصف بكونها يقينيّة بذاتها، بحيث تذعن النفس لصحّتها دون حاجة للإثبات. أمّا باقي المعارف، فكلّها تعتبر بناءً علويّاً للأساس الضروري من المعرفة، ولكنّها تحتاج إلى إثبات صدقها ويقينها، وهكذا تتكوّن سلسلة من المعارف بعضها يستنبط من البعض الآخر، حتّى يؤدّي في آخر السلسلة إلى المبادئ الضروريّة الثابتة، حيث لا تحتاج إلى إثبات واستدلال لأنّها يقينيّة وواضحة، بل إنّها تمثّل الأساس الأوّلي لكلّ استدلال.
وعلى ذلك انتقد المذهب العقلي جميع المدارس التجريبيّة، لأنّها تؤمن فقط بالتجربة على أنّها المصدر الأساس أو الوحيد في المعرفة، ولأنّها لا تؤمن بالمبادئ الضروريّة ـ كمبدأ «عدم التناقض» و«العليّة» وغيرها ـ على أنّها ناشئة عن طريق العقل لا التجربة.
[نموّ المعرفة:]
هذا من حيث المصدر الأساس للتصديق، أمّا من حيث نموّ المعرفة وعمليّة سير الفكر البشري، فإنّنا نلاحظ أنّ المذهب العقلي يعتقد بأنّ الذهن دائماً يسير ويتدرّج ممّا هو عام إلى ما هو خاص، وممّا هو كليّ إلى ما هو جزئي. وحتّى في العلوم الطبيعيّة والمجال التجريبي عموماً (المعتمد على الدليل الاستقرائي)، فإنّ الذهن يتدرّج من العام إلى الخاص لا العكس.
وقد كان المفكّر الشهيد الصدر! في كتابه «فلسفتنا» يخطو نفس هذا الخط الذي اختطّه المذهب العقلي، في الوقت الذي يسلك في كتابه «الأسس المنطقيّة للاستقراء» سلوكاً آخر مختلفاً عن النظريّة العقليّة والدليل الاستقرائي في نموّ المعرفة. فالمنطق الأرسطي الذي يحمل لواء العقليّة الميتافيزيقيّة، يؤمن بأنّ الفكر يسير من العام إلى الخاص على أساس بعض المبادئ القبليّة العقليّة، فتصبغه صبغة قياسيّة في كلا الدليلين «الاستنباطي» و«الاستقرائي». أمّا الشهيد، فقد كشف عن خطأ المذهب العقلي في الدليل الاستقرائي، وأشاد مذهباً جديداً هو «المذهب الذاتي»، يسير فيه الذهن من الخاص إلى ما هو عام، وما هو جزئي إلى ما هو كلّي. ولسنا نريد في هذا عرض أفكاره في مجال الاستقراء، لأنّه سيأتي الوقت المناسب للخوض في تلك المسألة.
[قيمة المعرفة:]
وفي قيمة المعرفة نجد أنّ المفكّر الشهيد! قد ناقش مذاهب كثيرة، كمذهب «دِكارت» العقلي ومذهب «جون لوك» الحسّي، وبعض المدارس المثاليّة والماديّة، وكذلك المذاهب النسبيّة وغيرها، وقد رفض جميع هذه المذاهب لأنّها ـ كما يعتقد ـ تفتقر إلى إعطاء صورة حقيقيّة صحيحة عن قيمة المعرفة. أمّا رأيه الميتافيزيقي في المعرفة، فيتلخّص بهذه الخطوط الثلاثة:
1ـ الخطّ الأوّل:
إن الإدراك في المعرفة ينقسم إلى تصوّر وتصديق، والتصوّر ليس له قيمة موضوعيّة لأنّه لا يثبت أكثر من أنّ شيئاً ما يوجد في الذهن. أمّا مصداقيّة الشيء، هل هي واقعيّة أم ذهنيّة، فليس للتصوّر شأنٌ في ذلك، بل يرجع الأمر إلى دور التصديق الذي يأتي بعد التصوّر. وعليه، فإنّ التصديق هو الذي له قيمة موضوعيّة، باعتباره يملك خاصيّة الكشف الذاتي عن الشيء الموجود.
2ـ الخطّ الثاني:
إنّ المعرفة التصديقيّة تبدأ على أسس كاملة وصحيحة هي المبادئ الضروريّة الأوّليّة. وهذه المبادئ لا يمكن إثبات ضروريّتها لوضوحها بذاتها. وعلى أساس هذه المبادئ تبنى المعارف الثانويّة الأخرى. ولذلك كان من الممكن جدّاً أن تكون المعرفة الثانويّة صحيحة إذا ارتكزت بدقّة واستنبطت بطريقة صحيحة من المبادئ الضروريّة، ولكن حين تتوفّر كافّة الشروط المهيّأة لقيام مثل هذه المعارف الثانويّة.
3ـ الخطّ الثالث:
وفي الخطّ الثالث، يتعيّن مدى التطابق بين الصورة الذهنيّة ومصداقها الموضوعي. فالاختلاف بين الصورة والمصداق، والاختلاف بين الماهيّة والوجود، أي إنّ الصورة تعبّر تعبيراً حقيقيّاً عن مصداقها الواقعي وتتطابق معه رغم أنّها تختلف عنه في شكل الوجود، لأنّ الوجود الموضوعي يحتوي على نشاط وفعاليّة بذاته، في حين تفتقر الصورة لهذا النشاط والفعاليّة نتيجةً للتصرّف الذاتي.
نظرته إلى الواقع الموضوعي:
أمّا فلسفة العالم، فقد عرض لها الشهيد الصدر في القسم الثاني من كتابه «فلسفتنا»، إذ أوضح فيه سلبيّة المثاليّة تجاه العالم الخارجي، كما انتقد المدارس الماديّة في تفسير العالم وخاصّة الماديّة الديالكتيكيّة، وأوضح فشلها في إعطاء صورة ماديّة خالصة للعالم. وقد تبنّى هو المذهب الميتافيزيقي «الإلهي» الذي يؤمن بالواقع من أشياء ميتافيزيقيّة ومثاليّة.
وأهمّ ما في هذا الموضوع كان يتعلّق بطبيعة العالم الموضوعي، هل هو ساكنٌ أم متجدّد؟ وقد أجابت كلٌّ من الماديّة الديالكتيكيّة والفلسفة الإلهيّة على ذلك، فكلاهما يعتقد بحركة العالم الطبيعي وعدم جموده، ولكنّ تفسير هذه الحركة هو الذي كان محلّ الخلاف بينهما. فالماديّة الديالكتيكيّة فسّرت الحركة تفسيراً جدليّاً تناقضيّاً، وذلك طبقاً لمبدئها العام في التناقض أو الديالكتيك، ي حين إنّ الفلسفة الإلهيّة استطاعت أن تفسّر تلك الحركة على أساس قانون القوّة والفعل، كما جاء عن زعيم العقليّين «أرسطو». فالحركة عبارة عن خروج الشيء من القوّة إلى الفعل تدريجيّاً، وليست هي تناقضاً بين سكون الشيء وانتقاله كما تدّعي الماديّة الديالكتيكيّة.
كما إنّ الماديّة الديالكتيكيّة كانت ترى أنّ الحركة تجري دائماً من صميم الأشياء الطبيعيّة في الداخل، وذلك حسب الأصول الجدليّة في التناقض بين الأطروحة والطباق.
في حين اعتقد الشهيد الصدر بنظريّة الحركة الجوهريّة العامّة لـ«صدر المتألّهين الشيرازي». تلك النظريّة التي تعتبر أنّ الحركة تمسّ الجوهر كما تمسّ العرض، بل إنّ حركة العرض لا تحدث إلا بسبب الحركة الجوهريّة في الداخل، فما حركة ظواهر الطبيعة إلا نتيجة لحركة الطبيعة من الصميم الجوهري في الداخل، وذلك على أساس القاعدة الفلسفيّة التي اعتقدها «الشيرازي» والتي تقول «إنّ علّة الثابت ثابتة» و«علّة المتغيّر متغيّرة»[12]. إذ لمّا كانت ظواهر الطبيعة متغيّرة، فلا بدّ أن تكون علّتها متغيّرة أيضاً، لأنّ العلّة لا تنفكّ عن معلولها، بل تعاصره وتلازمه وجوداً وعدماً. وبهذا يكون جوهر الطبيعة متغيّراً أيضاً، وهذا التغيّر لا ينفكّ عن معلوله المتمثّل بتغيّر العروض والظواهر السطحيّة في الطبيعة.
إذن وحسب هذه النظريّة، فإنّ العلّة المباشرة لحركة الشيء لا تكون من الخارج، بل من الصميم الداخلي للشيء، وليس العامل الخارجي في سبب الحركة إلا شرطاً من شروط الحركة لا هو السبب الحقيقي لها، لأنّ هذا السبب يتمثّل بقوّة الشيء الداخليّة، ولذلك يلاحظ أنّ حركة الشيء يمكن أن تستمرّ ـ كما يؤكّد ذلك مبدأ القصور الذاتي ـ حتى لو انفصل العامل الخارجي في تأثيره عن الحركة. إذ لو كان هو السبب في الحركة، لما انفصل عن معلوله (الحركة) للزوم عدم انفكاك السبب عن مسبّبه، ولا يبقى ما يفسّر حركة الشيء إلا الحركة الجوهريّة القائمة في الجسم، حيث إنّها تبقى ملازمة لحركة الشيء.
هذه هي نظريّة «الحركة الجوهريّة» في الطبيعة التي اعتقدها «الشيرازي» في تفسير تطوّر الطبيعة وما فيها، بل حتّى في تفسير نشأة النفس البشريّة وفي تفسير نشأة الأحياء والمواد بعضها من بعض.
ولكنّ سؤالنا في هذا المجال هو: ما هو سبب الحركة الجوهريّة ذاتها؟
لقد أجابت «فلسفتنا» عن هذا السؤال إيماناً برأي «الشيرازي» بأنّ علّتها أو سببها هو «الله» تعالى، إذ جاء في هذا المورد ما نصّه: «فلا بدّ ـ إذن ـ من التفتيش عن سبب الحركة الجوهريّة للمادة، ومضمونها الأساسي خارج حدودها، ولا بدّ أن يكون هذا السبب هو الله تعالى، الحاوي ذاتيّاً على جميع مراتب الكمال»[13].
ولكنّ الإشكال الذي يمكن أن يوجّه لذلك، هو أنّه كيف يكون الثابت ـ وهو «الله» تعالى ـ سبباً كما هو حركة ـ كالحركة الجوهريّة ـ مع أنّ نظريّة الحركة الجوهريّة تؤمن أساساً بالقاعدة الفلسفيّة القائلة إنّ علّة الثابت ثابتة، وعلّة المتحرّك والمتجدّد متحرّكة ومتجدّدة[14]. فإذا كانت العلّة الأولى ثابتة، فكيف تكون سبباً لما هو حركة طبقاً لتلك القاعدة الفلسفيّة التي قالها الملا «صدر المتألهين الشيرازي»؟
إنّ الشيرازي أجاب عن هذا الإشكال في أسفاره الأربعة، إذ هو يعتبر أنّ الحركة الجوهريّة، وإن كانت تمثّل حالة التجدّد والتبدّل من حال إلى حال في الماهيّة، إلا أنّها تعتبر في ذات الوقت ثابتة من حيث وجودها على هذا التجدّد. إذن هي ثابتة ومتجدّدة في نفس الوقت، إلا أنّ ثباتها في وجودها هو المرتبط والصادر في ماهيّتها لا وجودها، وحيث إنّ وجودها هو المرتبط والصادر عن المبدأ الأوّل «الله»، لذا فإنّ الثابت قد صدر عن الثابت، باعتبار أنّ الوجود للحركة الجوهرية ثابت، والمبدأ الأوّل ثابت أيضاً.
وبهذا الصدد يقول «الشيرازي»:
«..لكلّ شيء ثبات أو فعلية ما، والفائض عن الفاعل الحقّ هو ثبات ذلك الشيء وفعليّته، فثباته هو ثبات تجدّده، وفعليّته هي فعليّة قوّته كالهيولى الأولى.. فتجدّد الطبيعة هو عين ثباتها، كما إنّ قوّة الهيولى هي عين فعليّتها..! والطبيعة بما هي ثابتة مرتبطة إلى الحقّ الأوّل، وبما هي متجدّدة يرتبط إليها تجدّد المحدثات»[15].
وهكذا يكون جواب «الشيرازي» عن الإشكال السابق غير خارج عن قاعدته الفلسفيّة العامة «علّة الثابت ثابتة، وعلّة المتجدّد متجدّدة».
ولكن مع ذلك، فإنّ هناك إشكالاً آخر لا يقلّ أهميّة عن الإشكال السابق، وهو أنّه حتّى لو سلّمنا بكون الحركة الجوهريّة في الطبيعة تعتبر ثابتة، رغم ذلك فإنّ هذا الثبات يختلف كيفاً عن ثبات المبدأ الأوّل، باعتبار أنّ ثبات الحركة الجوهريّة إنّما هو ثبات عين تجدّدها، بينما ثبات المبدأ الأوّل لا يعني ذلك، فكيف يكون هناك ترابطٌ بين ثباتين مختلفين تمام الاختلاف؟
وعلى كلّ حال، فهناك عدّة اعتراضات حول نظريّة الحركة الجوهريّة سوف نذكرها في بحوث فلسفيّة خاصّة من كتاباتنا القادمة إن شاء الله.
إلا أنّ النتيجة التي نخلص إليها في هذا الصدد هي أنّ المفكّر الشهيد الصدر) قد أوضح أنّ بواسطة الحركة الجوهريّة يمكن تفسير الارتباط العام في الطبيعة، على أساس علاقات السببيّة الثلاث، وهي مبدأ «العليّة» وقانون «الحتميّة» وقانون «التناسب».
نظرته إلى مبدأ العليّة:
قلنا إنّ علاقات السببيّة بنظر العقليّين ثلاث، وهي:
1ـ مبدأ العليّة القائل إنّ لكلّ حادثة سبباً ما.
2ـ قانون الحتميّة القائل إنّ كلّ سبب لا يتخلّف عنه الأثر، أي تلازم النتيجة مع السبب تلازماً كليّاً، فإذا انعدم السبب انعدمت النتيجة، وبالعكس إذا وجد السبب لا بدّ من النتيجة المتخلّفة عنه، أي ليس هناك علّة دون أن يكون معها معلول صادر.
3ـ قانون التناسب القائل إنّ المجموعة المتّفقة في حقيقة واحدة في الطبيعة تكون متّفقة بالأسباب والنتائج.
هذه هي مبادئ السببيّة وعلاقاتها القائمة في الطبيعة والمنشئة للارتباط.
وفي نظر العقليّين، فإنّ القانونين الأخيرين ليسا مفصولين عن مبدأ العليّة الأوّل، بل نابعين منه ومستنتجان عقليّاً عنه.
إنّ المفكّر الشهيد الصدر! يؤمن كغيره من العقليّين بأنّ مبدأ العليّة يعتبر من المبادئ الأوليّة القبليّة، فيه ترتبط العلّة مع المعلول ارتباطاً لا ينفكّ أحدهما عن الآخر.
وأكثر من ذلك، إنّه اعتقد بنظريّة الإمكان الوجودي لصدر المتألهين «الشيرازي» في تحليل علاقة العليّة[16]، واعتبر أنّ المعلول ليس له أيّ وجود مستقلّ عن العلّة، بل إنّه ينبثق عن العلّة، وليس له أيّة حقيقة من وراء ارتباطه بالعلّة. وبذلك يصبح وجود المعلول لا يمثّل إلا نفس التعلّق والارتباط بالعلّة الخاصّة به. وعليه، فإنّ كلّ قطع لارتباط المعلول عن علّته يعني إفناءً وإعداماً لوجوده.
إذن فكلّ ارتباط بين شيئين لا يتحقّق فيه انبثاق أحدهما عن الآخر وتعلّقه به تعلّقاً وجوديّاً، لا يجري عليه حكم العليّة.
ويختلف مفهوم السببيّة بالنسبة لكلٍّ من التجريبيّين والعقليّين، ذلك أنّ المذهب العقلي يعتبر العلاقة بين السبب والمسبّب (المعلول) علاقة اقتران ضروريّة، أي أنّ هناك ضرورة تقرّر أنّه «كلّما وجد السبب «أ»، لا بدّ أن يوجد المسبّب «ب»». ولذلك لا يمكن أن يوجد المسبّب «ب» من غير سبب مطلقاً. أمّا السببيّة حسب المفهوم التجريبي، فعلاقتها علاقة اقتران اطّرادي غير ضروري، وبالتالي فمن الممكن أن تنتج حادثة بدون سبب على الإطلاق، ولكنّ خبرتنا التجريبيّة تدلّنا على عدم إمكان ذلك، مع إمكان حدوث هذا ولو منطقيّاً.
وبمعنى آخر: إنّ وجود السبب والمسبّب يحدث تصادفيّاً، ولكنّه على استمرار متطارد أو مطّرد.
ولذلك، فإن كانت السببيّة حسب المعنى العقلي تعبّر عن مفهومين بينهما علاقة ضروريّة، فإنّها حسب المعنى التجريبي تعبّر لا عن مفهومين، بل عن أفراد بينهما علاقة تضادّ فيه مطّردة، وليس لكلّ فرد بالآخر أيّة علاقة ضروريّة. كما إنّه ليس بحدوثهما مع حدوث ما يشبههما من أفراد في حادثة أخرى أيّةُ علاقة، لأنّ العلاقة هنا هي علاقة فرد يعتبر سبباً بفرد يعتبر مسبّباً، وليس لهذه العلاقة أيّ دخل بحادثة أخرى تشابه الأولى، لأنّ كلتا الحادثتين تحدثان صدفة من جرّاء الاقتران المطّرد. فمثلاً على ذلك: إنّ تمدّد هذه القطعة من الحديد بالحرارة لا علاقة لها بتمدّد قطعة أخرى من الحديد بالحرارة نفسها، لأنّ العلاقتين لا يجمعهما معنى المفهوم ـ كما هو الحال مع السببيّة حسب معناها الحقيقي ـ ، وإنّما حالتهما فعليّة خاصّة لا غير. ولذلك فإنّ المعنى السببي لدى التجريبيّين لا يعبّر عن علاقة مفهوم واحد مشترك، بل عن حالات فرديّة، كلّ حالة مستقلّة عن غيرها، بعكس ما يراه المعنى العقلي للسببيّة من أنّ للحالات مفهوماً ما عامّاً وشاملاً، وكلّ الحالات الفرديّة تعتبر مصاديق ضروريّة لذلك المفهوم العام.
وهناك فرقٌ حسب مفهوم المذهب العقلي ـ كما يتّضح في كتاب «الأسس المنطقيّة للاستقراء» ـ بين شكلين من السببيّة، هما السببيّة الوجوديّة والسببيّة العدميّة. ويتّضح هذا الفرق من خلال التمييز بين هذين القولين:
1ـ «أ» سببٌ لـ«ب».
2ـ عدم «أ» سببٌ لعدم «ب».
نلاحظ بالنسبة للقول الأوّل أنّه يشير إلى سببيّة وجوديّة معبّرة عن وجود «ب» بسبب وجود «أ». وأمّا بالنسبة للقول الثاني، فعكس ذلك، إذ إنّه يشير إلى سببيّة عدميّة معبّرة عن عدم وجود «ب» جاء لعدم وجود «أ».
وقد أوضح المفكّر الشهيد الصدر) أنّ السببيّة العدميّة لمّا كانت تعني حسب المفهوم العقلي أنّ عدم وجود المسبّب تمثّل ضرورة لعدم وجود السبب، فهي تعني بمعنى آخر أنّ عدم وجود المسبّب يستحيل كونه بوجود السبب. وهذا تصريحٌ باستحالة الصدفة المطلقة ـ التي تعني حدوث الشيء بدون سبب إطلاقاً ـ وذلك لضرورة استتباع عدم المسبّب لعدم سببه، أو لضرورة عدم وجود النتيجة وحدوث الحادثة من عدم وجود السبب الكافي لذلك.
وبذلك يخرج المفكّر الشهيد الصدر! بهذه النتيجة، وهي أنّ مفهوم استحالة الصدفة المطلقة مشتقٌّ من مبدأ السببيّة العدميّة لا السببيّة الوجوديّة، لأنّ هذه الأخيرة (السببيّة الوجوديّة) تعني ضرورة وجود «ب» عند وجود «أ»، ولكنّها لا تشير إلى نفي إمكان وجود «ب» من غير سبب، حيث تلتزم فقط بالقاعدة القائلة إنّ وجود السبب يؤدّي إلى وجود النتيجة كضرورة. ولكن إذا وجدت النتيجة، فهل من الضروري أن يكون لها سبب؟
وأوضح) أنّ إجابة هذه القضيّة لا يمكن اشتقاقها من السببيّة الوجوديّة، بل إنّها تشتقّ من السببيّة العدميّة لأنّها تعني استحالة الصدفة المطلقة.
وبذلك تكون السببيّة العدميّة حسب المفهوم العقلي مناقضة للسببيّة الوجوديّة حسب المعنى التجريبي، لأنّ الأولى تنفي حدوث الصدفة المطلقة ضرورة، بينما الثانية تصرّح بحدوث النتائج صدفة.
وفي كتاب «فلسفتنا» نرى أنّ المفكّر الشهيد الصدر , جعل العليّة ما لا يقبل الاستدلال عن طريق الواقع الموضوعي والتجربة. بل لكونها من الضرورات العقليّة الثابتة، فإنّ الواقع هو الذي يدان لها في إثباته والبرهان عليه. وعلى حدّ قوله: «…إنّ مبدأ العليّة لا يمكن إثباته والتدليل عليه بالحسّ، لأنّ الحسّ لا يكتسب صفة موضوعيّة إلا على ضوء هذا المبدأ. فنحن نثبت الواقع الموضوعي لأحاسيسنا استناداً إلى مبدأ العليّة، فليس من المعقول أن يكون هذا المبدأ مديناً للحسّ في ثبوته ومرتكزاً عليه، بل هو مبدأٌ عقليٌّ يصدّق به الإنسان بصورة مستغنية عن الحسّ الخارجي»[17].
في حين نلاحظ في «الأسس المنطقيّة للاستقراء» أنّه يحاول الاستدلال على هذا المبدأ تجريبيّاً ـ وهي محاولة جريئة ـ كما سيتّضح لنا ذلك في بحوث مقبلة ـ وذلك عن طريق أمرين مجتمعين مع بعضهما:
«الأوّل: معطيات الخبرة الحسيّة التي تبدو فيها الحادثتان مقترنتين مرّات عديدة.
والآخر الاحتمال العقلي المسبق للواقع الموضوعي للعليّة نتيجةً لعجز التفكير العقلي المحض عن الإثبات والنفي. فالخبرة + الاحتمال المسبق = الدليل على الواقع الموضوعي للعليّة…»[18].
بمعنى أنّ مبدأ العليّة ـ مع أنّه قبلي عقلي ـ يمكن الاستدلال عليه عن طريق إقامة الدليل الاستقرائي. فبواسطة هذا الدليل، يتمّ إثبات ذلك المبدأ وقضاياه المشتقّة عنه (كقانون الحتميّة وقانون التناسب). في حين إنّه في كتابه «فلسفتنا» ـ جرياً مع المذهب العقلي ـ يقرّر بأنّ جميع قضاياه السببيّة تشكّل الأساس في إقامة الدليل الاستقرائي الذي يستفاد منه في إشادة النظريّات العلميّة والقوانين التجريبيّة. وعلى حدّ قوله: «…إنّ النظريّات التجريبيّة لا تكتسب صفة العلميّة، ما لم تعمّم لمجالات أوسع من حدود التجربة الخاصّة، وتقدّم كحقيقة عامّة. ولا يمكن تقديمها كذلك إلا على ضوء مبدأ العليّة وقوانينها، فلا بدّ للعلوم عامّة أن تعتبر مبدأ العليّة وما إليها من قانوني الحتميّة والتناسب مسلّمات أساسيّة، وتسلّم بها على ضوء مبدأ العليّة»[19].
ويتّضح لنا من ذلك أنّ المفكّر الشهيد الصدر كان على نهج المذهب الأرسطي في قضيّة معرفة الواقع الموضوعي. إذ إنّ المنطق الأرسطي يعتقد بأنّ معرفة القضيّة الحسيّة تكون أوّليّة لا تحتاج إلى دليل، وإن كان بنظر المنطق الأرسطي يرتكز على مصادرة مبدأ العليّة، سواء كان هذا الواقع جزئيّاً أو كلّياً، فكلاهما يشكّلان حكماً أوّليّاً مع أخذ اعتبار ارتكازهما على مبدأ العليّة.
أمّا في «الأسس المنطقيّة للاستقراء»، فقد استدلّ المفكّر الشهيد الصدر على الواقع الموضوعي المجمل ووقائعه الجزئيّة المفصّلة عن طريق الدليل الاستقرائي. فقد قال بصدد ذلك:
«…إنّ التصديق بالواقع الموضوعي للعالم معرفة استقرائيّة، وهذه المعرفة تجمّعٌ لقيم التصديقات المتعدّدة بالواقع الموضوعي للقضايا المحسوسة، إذ لا يكفي في وجود الواقع الموضوعي للعالم أن تكون بعض القضايا المحسوسة على الأقلّ ذات واقع موضوعي… »[20].
نظرته للجزء والمادّة:
يعتقد المفكّر الشهيد الصدر! بأنّ هناك مادّة علميّة ومادّة فلسفيّة:
فالمادّة العلميّة تعتبر أعمق اكتشاف يمكن للعلم أن يتوصّل لها، وهي مركّبة من مادّة وصورة. أمّا المادة الفلسفيّة فهي أبسط مادّة في العالم، وتتميّز بأنّها لا يمكن أن يمتدّ لمعرفتها العلم، وإنّما وجودها يستدلّ عليه فلسفيّاً لا علميّاً، وتتألّف المادّة الفلسفيّة من وحدة ماديّة بسيطة وصورة تتمثّل في اتّصال تلك الوحدة، إذ لا يمكن تصوّر الوحدة دون أن يكون فيها اتصال، وهذا الاتّصال هو الذي يمثّل صورة المادة.
وإذا كانت هناك وحدةٌ ماديّةٌ متّصلة، فالمادة إذن تقبل التجزئة والانفصال، كما إنّها قابلة للتركيب والاتصال «بصورة سابقة على جميع نظريّاتها وقوانينها التجريبيّة»[21].
بينما هو في كتابه «الأسس المنطقيّة للاستقراء» يبتدئ الدليل الاستقرائي ولا يعتمد على مصادر قضايا السببيّة، بل إنّ هذه القضايا يستدلّ عليها عن طريق الدليل الاستقرائي نفسه، كما اتّضح لنا قبل قليل.
وليس هذا فحسب، بل إنّ ذلك قد انعكس حتّى على طريقة الاستدلال على الواقع الموضوعي. ففي «فلسفتنا» قد استدلّ المفكّر الشهيد الصدر) على الوقائع الموضوعيّة الجزئيّة عن طريق مبدأ العليّة، إذ ابتدأ من معرفة وجود الواقع على سبيل الإجمال لكونها ضروريّة أوّليّة، أي إنّها لا تحتاج إلى أيّ دليل. بينما تكون معرفة الوقائع الجزئيّة المفصّلة تستند إلى الاستدلال بواسطة مبدأ العليّة. وقد قال في ذلك:
«…إنّ العلم بوجود واقع للعالم على سبيل الإجمال، حكمٌ ضروريٌّ أوّلي لا يحتاج إلى دليل، أي إلى علم سابق..».
إنّ العلم بوجود واقع موضوعي لهذا الحسّ أو ذاك، إنّما يكتسب. وعلى ضوء ذلك يستنتج المفكّر الشهيد الصدر) من أنّه لا يمكن تصوّر جزء لا يتجزّأ، ولذاك لمّا كانت الوحدة الماديّة قابلة للتجزئة، فهي إذن مؤلّفة من مادّة بسيطة وصورة متمثّلة في شكل الاتّصال أو الوحدة، لذا فبإمكان المادّة أن تنقسم إلى ما لا نهاية لها من الأجزاء.
ونستنتج من ذلك أنّ المفكّر الصدر! حين قسّم المادّة إلى علميّة وفلسفيّة، إنّما أراد أن يثبت صحّة النظريّة الاتصاليّة التي يتزعّمها «أرسطو».
وهذه النظريّة كانت تفترض أنّ الجسم ليس مؤلّفاً من الأجزاء سلفاً، وإنّما هو قبل كلّ شيء جسم واحد متماسك في كلّيته، إلا أنّه قابلٌ للانقسام إلى ما لا نهاية له من الأجزاء، وإن كان في فعليّته غير منقسم إلى الـ«ما لا نهاية».
ورغم كلّ ذلك، فإنّ المفكّر الشهيد الصدر! كان ينظر في مجال آخر خارج الكتاب إلى أنّ النزاع الفكري الذي ساد قديماً بين النظريّة الاتصاليّة لأرسطو، والنظريّة الانفصاليّة لـ«ديموقريطس»[22] حول الجسم والجزء، إنّما ينطوي على خطأ في النهج، إذ كان النزاع فلسفيّاً، بينما كانت المسألة لا تخرج عن كونها علميّة تجريبيّة صرفة. لذا فالنزاع القديم لا طائل وراءه، بل من المفروض على التجربة العلميّة أن تحدّد الموقف تجاه مثل هذه المسائل.
فهو يقول في افتتاحيّة مجلّة «الأضواء» الإسلاميّة في عددها الرابع: «…ومن أوضح الأمثلة لذلك ما شغل بال العقليّين قروناً متطاولة من الزمان حين حاولوا أن يتعرّفوا على ما إذا كانت المادة متكوّنة من أجزاء وذرّات يتخلّلها الفراغ، أو متّصلة اتصالاً حقيقيّاً لا فراغ فيه. لقد خيّل للعقليّين أنّهم يستطيعون أن يصلوا إلى الكلمة النهائيّة في البحث عن طريق العقل وحده، ومنها نشأت النظريّات «الاتصاليّة» و«الانفصاليّة»، وقام الصراع عنيفاً بين هؤلاء وأولئك من الاتصاليّين والانفصاليّين بعيداً عن التجربة ووسائلها، فلم يصلوا إلى نتيجة حاسمة، لا لشيء إلا لأنّ العقل بطبيعته حياديٌّ في مثل هذا الموقف وما يشبهه من المواقف التحليليّة للكون، فهو لا يستطيع أن يدرك بصورة مستقلّة عن التجربة ما إذا كان الجسم مؤلّفاً من ذرّات أم لا. ولو أنّ العقليّين انصرفوا إلى التجربة واستنطقوها ثم رجعوا إلى العقل كمفسّر نهائيٍّ لظواهر التجربة ونتائجها، لوصلوا إلى خيرٍ كبير هو أفضل ألف مرّة من هذا الجدل العقيم. وهكذا أخطأ العقليّون حين لم يعرفوا ـ عمليّاً على الأقل ـ ما هي وظائف العقل بصفته مقياساً أساسيّاً للفكر»[23].
وهذا النصّ الذي نقلناه يوضح مدى الفارق بين هذه النظرة والنظرة التي سجّلت في «فلسفتنا» كما هو واضحٌ ممّا سبق ذكره.
نظرته إلى حدوث النفس البشريّة:
أمّا عن حدوث النفس، فقد التزم المفكّر الشهيد الصدر بمذهب «الشيرازي» المتعلّق بنظريّة الحركة الجوهريّة. فهذه النظريّة تعتقد بأنّ النفس ليست سوى نتاج للحركة الجوهريّة في المادة، حيث تكون النفس في بدايتها ماديّة خاضعة لقوانينها ومواصفاتها الخاصة، ولكن بواسطة الحركة الجوهريّة تتحوّل إلى وجود مجرّد عن المادة، بحيث لا تخضع لقوانينها وخواصها، و مع هذا فإنّها تظلّ ذات نسب ماديّة بدرجة معيّنة.
وهذه النظريّة تختلف عن نظرية الشيخ الرئيس «ابن سينا» التي تقول إنّ النفس تكون ماهيّة غير مميّزة قبل حلولها البدن، بينما تصبح نفساً بالفعل حين دخولها البدن المركّب الصالح، بمعنى أنّها جوهرٌ روحانيٌّ على هيئة نفس بالقوّة قبل الحلول، ونفسٌ بالفعل بعد الحلول.
وأخيراً، فإنّنا نستخلص من هذه الدراسة أنّ «فلسفتنا» إنّما هي دراسة فلسفيّة لصالح المذهب العقلي في المعرفة. لذلك نلاحظ أنّ خطوط نظريّة المعرفة كانت مستلهمة من روح المذهب العقلي. أمّا فلسفة العالم الخارجي، فكانت أكثر من ذلك مستلهمة من روح مذهب «الشيرازي» للحركة الجوهريّة, ومع ذلك فهناك من يقول إنّ الشهيد الثالث! قد غيّر وجهة نظره تجاه نظريّة الحركة الجوهريّة فيما بعد «فلسفتنا».
أمّا عن قيمة هذا الكتاب، فبلا شك أنّها تتحدّد بوضوح الفكرة وحيويّتها، كذلك بالنقد الموضوعي والإيجابي للمذاهب الماديّة وغيرها، وأيضاً بالتحليل والمنهجيّة الممتازة، وجودة الربط ما بين الأفكار والمواضيع، وما إلى ذلك…
أخيراً: فإنّ كتاباً كهذا يبحث في مثل تلك المواضيع بدقّة وعمق وأصالة وموضوعيّة، لم نشهد له مثيلاً من بين الكتب الفلسفيّة التي تتناول نفس المواضيع في قرننا العشرين، رغم أنّ شهيدنا لم يكتب مثل هذه الأمور إلا لدحض الأسس الماديّة التي رفعتها الماركسيّة.
وهذا يشير إلى العبقريّة الفلسفيّة الفذّة في فكر الشهيد الثالث السيّد محمّد باقر الصدر!
يحيى محمد
[1] نسبةً إلى عبد الكريم قاسم. (م)
[2] صدر العدد الأوّل من مجلّة (الأضواء) بتاريخ 15/ذي الحجّة/1379هـ (م).
[3] وإن كان بعض العلماء يرى أنّ الشهيد! قد استمرّ في كتابة افتتاحيّة المجلّة لغاية المقالات الخمس الأولى، ومن ثم توقّف عن التحرير، وظلّ يمارس دور الموجّه للكّتاب الذين يكتبون الافتتاحيّة ويسطّرون مفاهيم الإسلام. راجع مقدّمة «رسالتنا» لسماحة السيّد محمد حسين فضل الله.
[4] صدر «فلسفتنا» عام 1959م. (م)
[5] صدر الجزء الأوّل من «اقتصادنا» عام 1961م. (م)
[6] للأستاذ «يحيى محمّد» بحثٌ حول «الأسس المنطقيّة للاستقراء» تحت عنوان «الأسس المنطقيّة للاستقراء: بحثٌ وتعليق» ومجموعة من المقالات الأخرى حول الموضوع نفسه. أمّا المقالات فستنشر إن شاء الله تعالى في المجلّد الخاصّ بالمنطق من هذه الموسوعة، وأمّا الكتاب فقد ينشر بعد تعديل بعض أفكاره ومراجعته من قبل المؤلّف.(م)
[7] عام 1962م كتب! «الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعيّة» ضمن كتاب «المدرسة الإسلاميّة»، وذلك تبسيطاً لأفكار «فلسفتنا». (م)
[8] إلا أنّ الشهيد الصدر! لم يخطّ كتابه الموعود هذا. اهـ.
أقول: ينقل أحد تلامذة السيّد الشهيد عنه ! أنّه قال: «إنّ مجتمعنا لا يسمح بكتابة مجتمعنا».(م)
[11] إنّ موضوع «الإدراك» قد عرضه الشهيد الصدر! في آخر فصل من الكتاب.
[12] انظر «فلسفتنا»: 233، «نهاية الحكمة»: 261. (م)
[14] «إنّ الحركة السطحيّة في الظواهر لمّا كان معناها التجدّد والانقضاء، فيجب أن تكون علّتها المباشرة أمراً متجدّداً غير ثابت الذات أيضاً، لأنّ علّة الثابت ثابتة، وعلّة المتغيّر المتجدّد متغيّرة متجدّدة، فلا يمكن أن يكون السبب المباشر للحركة أمراً ثابتاً، وإلا لم تنعدم أجزاء الحركة، بل تصبح قراراً وسكوناً». فلسفتنا: 233. وكذلك راجع المعنى نفسه في كتاب «صدر الدين الشيرازي» لجعفر آل ياسين: 94.
[15] راجع «صدر الدين الشيرازي»: 97 ـ 98.
[16] والمقصود بهذا التحليل هو سرّ حاجة الأشياء ـ التي نعتبرها معلولة ـ إلى علّة.
[18] الأسس المنطقية للاستقراء: 117.
[20] الأسس المنطقيّة للاستقراء: 463.
هذا العرض والتحليل خاصٌّ من وجهة نظر الأخ «يحيى محمد»، وإلا فإنّ «الاحتمال العقلي المسبق للواقع الموضوعي للعلّة» يحتوي بنفسه على مقدّمات عقليّة مسبقة، إلا أنّ علاقة هذه المقدّمات العقليّة مع الواقع الموضوعي قد اختلف في كتابي المفكّر الشهيد الصدر!. فمن المسلّمات المقدّمة على جميع نظريّاتها وقوانينها التجريبيّة في «فلسفتنا» إلى المقدّمات العقليّة ـ حسب «الأسس المنطقيّة للاستقراء» ـ التي لها علاقة بمعطيات التجربة الحسيّة، إذ هي ليست مقدّمات عقليّة مطلقة ومجرّدة عن الواقع المادي، بل هي مقدّمات عقليّة مرتبطة بالواقع المادي. وبعبارة أخرى، فإنّ الاحتمال العقلي أو نظريّة الاحتمال هي نفسها مقدّمات عقليّة ونظريّة مجرّدة. إلا أنّ لها تطبيقات على الواقع المادي وإلا فإنّ نظريّة الاحتمال أوسع من الواقع المادي. (هيئة تحرير مجلّة «دراسات وبحوث»).
[22] جاء في «فلسفتنا»: «النظريّة الانفصاليّة هي النظريّة الذريّة للفيلسوف الإغريقي «ديمقريطس»، القائلة إنّ الجسم مركّب من أجزاء صغيرة يتخلّل بينها فراغ، وأطلق على تلك الأجزاء اسم الذرّة، أو الجزء الذي لا يتجزّأ. والنظريّة الاتصاليّة هي النظريّة الغالبة التي أخذ بها أرسطو ورجال مدرسته. والجسم في زعم هذه النظريّة ليس محتوياً على ذرّات، ومركّباً من وحدات صغيرة، بل هو شيءٌ واحدٌ متماسكٌ يمكننا أن نقسمه فنخلق منه أجزاء منفصلة بالتقسيم، لا أنّه يشتمل سلفاً على أجزاء كهذه». فلسفتنا: 334. (م)