مما كتبه الشهيد الصدر! في المنطق كتابه «الأسس المنطقية للاستقراء» الذي حقّق قفزة حضارية لا مثيل لها في التاريخ.
فكتاب يقول فيه الفيلسوف زكي نجيب محمود «إنه من الكتب التي ينبغي أن تترجم إلى اللغة الإنجليزية لتعرف أوروبا أنّ لدينا فلاسفةً أصليّين يملكون العمق الفلسفي والفكر المستقل»[1].
ويقول فيه الدكتور زكريا إبراهيم: «لو ترجم الكتاب ـ الأسس المنطقية للاستقراء ـ الذي ألّفه الشهيد إلى الإنجليزية وقرأه الإنجليز لما بقي منهم من يتّجه اتجاهاً ماديّاً»[2]، و قال فيه الشيخ محمد مهدي شمس الدين: «هو كتاب أعتقد أنه لم يكتشف حتى الآن»[3].. كتاب مثل هذا يرتعش قلمي في الكتاب عنه و يولي هارباً خشية الزلل و تركع أمامه الكلمات، و إني على يقين بأنّ جلّ من اقتناه في مكتبته لم يفقه منه بضع صفحات.
نعم يحق لي أن أؤرّخ للكتاب في بداياته و أولياته، فإنّه! وضع يده على بعض الخطوط في ضمن مجالس بحثه بما يناسب ذلك البحث ثم أحكم نسج هذه النظرية فيما بعد.
يقول السيد كاظم الحائري: «قد تعرض الأستاذ الشهيد! ضمن أبحاثه الأصولية لدى مناقشته للأخباريين في مدى حجية البراهين العقلية إلى نمط التفكير المنطقي الأرسطي و نقده بما لم يسبقه أحد. و بعد ذلك طوّر من تلك الأبحاث و أكملها و أضاف إليها ما لم يكن يناسب ذكره ضمن الأبحاث الأصولية فأخرجها بأروع صياغة باسم كتاب «الأسس المنطقية للاستقراء»، و من جملة ما أوضحه في هذا الكتاب عدم بداهة قسم من العلوم التي يقول المنطق الأرسطي ببداهتها كالمحسوسات بالحس الظاهري و المتواترات و التجريبيات و الحدسيات و أنّ هذه العلوم إنما تبتني على أساس حساب الإحتمالات و ليست على أساس البداهة و الضرورة»[4] و كان كتاب «الأسس المنطقية للاستقراء» وليد مناظرة الشهيد! مع تلميذه السيد الحائري إذ كتب أستاذه الشهيد ! رسالة يقول «…أجدك في كل شيء مهم حولي، أجدك في الأسس المنطقية للاستقراء حين عشنا معاناة اكتشافها، و أجدك في المفاهيم حين كنت تلاحقني ليلاً و نهاراً بالإشكال تلو الإشكال و السؤال تلو السؤال، و أجدك في تلك الساعات الطوال التي كنا نقضيها نتذاكر و نتحدث، إني أجدك في كل شيء و أفتقدك في كل شيء»[5].
و مما يؤرخ لكتاب «الأسس» رسالته التي بعثها إلى السيد مرتضى الرضوي و هو في إقامته بالقاهرة بتأريخ 15/11/1965م بشأن تهيئة بعض المصادر التي تنفعه واتصالاته مع الأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود[6] بذلك الشأن نوردها نصاً لأهميتها التاريخية:
«بسم الله الرحمن الرحيم
أخي الأستاذ الجليل المجاهد فضيلة السيد مرتضى الرضوي دام عزه.
السلام عليكم زنة الاحترام والدعاء والتقدير.
تسلمت بالأمس رسالتكم الكريمة التي عبرت من جديد، وقدمت برهاناً إلى جانب البراهين الكثر على أخوتكم الصادقة، وهمتكم العالية، وشعوركم العظيم بالمسؤولية تجاه العقيدة التي تقدمون بها باستمرار في مجالاتكم التثقيفية الخدمات الجليلة فشكراً وألف شكر لما قمتم به وتكلفتموه من أتعاب، وشكراً جزيلاً للأستاذ الجليل الدكتور زكي نجيب محمود على ما تفضل به من معلومات، فقد تفضل مشكوراً بالإرشاد إلى الفصل الأخير من كتابه الجليل «المنطق الوضعي» والقسم الخامس من كتاب «برتراند رسل»([7]) أما كتاب «المنطق الوضعي» للدكتور زكي نجيب محمود فهو موجود عندي بطبعته الأولى في مجلد واحد ضخم([8]) وقد جاء ذكره في رسالتي السابقة وأنا أعتز بما جاء فيه عن الاحتمال وكنت ولا أزال أرجع إليه وأستفيد منه ولكنه كان بودي الإطلاع على نظرية الإحتمال وبخاصة عند «كينز»[9] بصورة أوسع ولهذا فكرت في طلب ترجمة لكتاب «كينـز» ويبدو الآن على ضوء رسالتكم أن ترجمة كتاب «كينـز» تكتنفها الصعوبات فإذا كان القسم الخامس من كتاب «برتراند رسل» الذي أشار إليه الدكتور زكي نجيب يكفي إلى حدّ ما لاستعراض النظرية فالرجاء يا أخي أن تفاوضوا الأستاذ الجليل زكي نجيب محمود على أساس ما تفضل به من إرشاد إلى القسم الخامس من ذلك الكتاب في استحصال مترجم موثوق به لهذا القسم خاصة إذا لم يكن قد سبق أن ترجم إلى اللغة العربية وحاولوا أن تحددوا أقصر زمان ممكن للترجمة وتفضلوا بإخباري عن اتفاقكم على الموضوع مدة وسعراً كما أود أن أعرف حجم القسم الخامس في الأصل الإنجليزي. وشكراً لكم يا أخي أولاً وأخراً والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ملاحظة:
1- اطلبوا من المترجم تحديد المصطلحات الأساسية في النظرية
2- اطلبوا من المترجم أن يكون واضحاً في الترجمة على المستوى العام بوضوح الأستاذ الدكتور زكي نجيب محمود في ترجمته لكتاب «الفلسفة بنظرة علمية» وغيره من الكتب التي أنجز ترجمتها إلى اللغة العربية.
النجف الأشرف ـ محمد باقر الصدر»[10].
هذه هي قصة كتاب «الأسس المنطقية للاستقراء» ومعاناة الشهيد الصدر! في سبيل الكشف عن نظريته الجديدة في إثبات وجود الله تعالى بالطريقة الاستدلالية السائدة في العلوم بصورة عامة وباللغة العصرية التي تعهدها الحضارة اليوم.
أما عظمة الشهيد ! وعبقريته ونبوغه فهي أمر يحار العقل له. ومن الطريف أن أسجل في خاتمة هذه الوريقات قصتين لأستاذين جليلين مع الشهيد الصدر! .
الأولى: بخصوص زيارة الأستاذ محمد شوقي الفنجري المتخصص بعلم الإقتصاد للسيد الشهيد ! فانه حينما بلغ باب مكتبة السيد الشهيد لم يسلم بل ظل مسمراً هناك وعيناه معلقتان صوب السيد ! ثم خاطبه «بالله عليك أنت الشيخ محمد باقر الصدر؟ فأجابه نعم تفضل. فقال الدكتور بلهجته المصرية «مش معقول»، ثم كرر قوله «بالله عليك أنت الشيخ محمد باقر الصدر؟»، وكرّرها ثالثة والسيد ! يشير إليه بالدخول وهو يقول «أنت الشيخ محمد باقر الصدر مؤلف كتاب فلسفتنا واقتصادنا؟». ثم أعرب الدكتور عن غرابته إذ كان يظن أنه لن يلتقي السيد الشهيد ! قبل مرور خمسة عشر يوماً من وصوله إلى العراق بينما التقاه بعد مرور نصف ساعة من وصوله إلى النجف، لأنه كان يحسب حساب المواعيد والإجراءات الرسمية فإذا به يفاجأ برجل وسيم في العقد الرابع من عمره الشريف، ثم أخذ يستفسر من السيد ! في أي الجامعات الأوربية تلقى علومه وقال له: إنّي درست في أوربا واطلعت على مناهج كثيرة في جامعات العالم فلم أر مثل هذا الطرح الموجود في «فلسفتنا» و«اقتصادنا» فأجاب السيد الشهيد ! : إني لم أخرج من العراق إلا مرتين للحج مرة ولزيارة الأقرباء في لبنان مرة أخرى. فاستغرب الدكتور قائلاً: أذن أين تلقيت علومك؟ فقال السيد ! : أنا خريج المساجد مساجد النجف الأشرف. فقال الدكتور الفنجري: والله إنّ المساجد التي تخرج أمثالك لهي أفضل من جامعات العالم بأجمعها»[11].
الثانية: ما ينقله السيد عبد الكريم القزويني إذ يقول: «أتذكر بعد صدور كتابي «فلسفتنا» و«اقتصادنا» عقد مؤتمر في بغداد للمحامين العرب فكان الدكتور سيف الدين وهو نقيب المحامين المصريين طلب من السلطة البعثية لدى زيارته إلى العراق أن يدلوه على بيت السيد الصدر ! لمقابلته فرفض طلبه إلا أن بعض المحامين من أهل النجف جاء به بحجة السياحة فحينما رأى السيد الشهيد ! قال له: كنت أتصورك رجلاً كبير السن ولديك تشريفات لإعطاء المواعيد. وسأل سيف الدين الشهيد ! من أي جامعة تخرجتم؟ فأجابه: تخرجت من جامعة الإمام علي بن أبي طالب % فاستغرب الدكتور سيف الدين وقال: إن أفكارك لا يمكن أن تحصل عن طريق المطالعة الشخصية»[12].
محمد الحسيني
[1] تأريخ الحركة الإسلامية ، السيد عامر الحلو : 49.
[2] ملحق جريدة الجهاد ص11 بتأريخ /20/جمادي الآخر/1403هـ.
[3] تاريخ الحركة الإسلامية ص49.
[5] راجع مجلة الحوار الفكري السياسي عدد (28ـ 29)
[6] (زكي نجيب محمود): (1905-1993م): مفكّر مصري، نال عام 1947 درجة الدكتوراه في الفلسفة في موضوع «الجبر الذاتي» من جامعة «لندن». كان من أنصار الوضعيّة المنطقيّة، و دعا لها في كتابه المعروف «المنطق الوضعي» (1951). (م)
[7] (برتراند رسل): (Bertrand Russell): (1872-1970م): فيلسوف إنجليزي، أولى أهميّة بالغة للرياضيات. اشترك مع مواطنه «وايتهيد» في «مبادئ الرياضيات» (1910-1913) و الذي وضعا فيه أسس «المنطق الرياضي».عارض بشدّة الحرب العالميّة الأولى و الهجوم الأمريكي على «فييتنام». نال جائزة نوبل في الآداب عام «1950».من مؤلفاته «حكمة الغرب»، «المعرفة الإنسانيّة..مداها و حدودها» (1948م). (م)
[8] و هي الطبعة الصادرة عن المكتبة الإنجلو مصرية (م)
[9] (جون ماينار كينـز): (John Maynard Keynes): (1883-1946): عالم إقتصاد إنجليزي، درّس في جامعة “كامبردج”. كتب سنة 1921 “مقال في الإحتمال” الذي حاول فيه إعادة إحياء المفهوم القديم للإحتمال. (م)
[10] مع رجال الفكر في القاهرة ص353.
[11] جريدة الجهاد ص5 العدد/ 232/27/رجب /1406هـ في حديث للشيخ محمد رضا النعماني.