ملاحظات حول كتاب “فلسفتنا” للشهيد محمد باقر الصدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

القسم الأول

يعد كتاب “فلسفتنا” للشهيد محمد باقر الصدر(1) من أهم الدراسات التي أنتجها الفكر الديني الإسلامي الحديث في العراق. فلا شك أن الأفكار التي يطرحها الكتاب لها صداها الواسع بين صفوف الحركة الدينية في المجتمع العراقي وربما في أقطار أخرى.

وقبل الولوج في طيات الكتاب تجدر الملاحظة بأن “فلسفتنا” ليس إنتاجا فكريا اعتباطيا بل هو قائم على أسس فكرية محددة ونظرة مدروسة إلى الكون والحياة والمجتمعات البشرية. وعلى النقيض من بعض الدراسات الدينية الأخرى فإن الكتاب يتجنب المهاترات والأقاويل الرخيصة ويتوخى التوصل إلى استنتاجات فلسفية من خلال المناقشة الجدية ومحاولة دحض ما تطرحه المدارس الفكرية الأخرى وخاصة الماركسية.

ومن يقرأ الكتاب، سواء أختلف أم أتفق معه، يتضح له أيضاً أحد الأسباب التي آلت بنظام صدام الفاشي إلى الأقدام على جريمته النكراء. فبقتل الشهيد محمد باقر الصدر أرادت

السلطة الفاشية ليس فقط تصفية القائد السياسي للحركة الإسلامية العراقية بل إسكات أحد أعلام الفكر في المجتمع. أن من مقومات الفاشية أن تحاول قتل جميع ألوان الفكر ورموزه المغايرة لها أو المناهضة لدولتها.

لقد اخترت مناقشة “فلسفتنا” لأهمية المواضيع المطروحة فيه والتي لها أبعاد سياسية مباشرة وغير مباشرة تخص مستقبل المجتمع العراقي. واخترته أيضاً لأن الفلسفة نظرة إلى الحياة والعالم … وكنتاج للحياة فهي تتعلق بكل أمور الحياة… وبهذا فهي أخطر من تترك حكراً أو ملكاً للفلاسفة والمختصين. فلكل منا آرائه أو أسسه الفلسفية، أدركنا بها أو لم ندرك. ولا بد من القول بأنني تلميذ مبتدئ في هذا الحقل، وبأن ما يلي من حوار مع اطروحات الكتاب هو من وجهة النظر الماركسية التي يستهدف الكتاب دحضها كما هو واضح من العنوان الكامل للكتاب: “فلسفتنا”: دراسة موضوعية في معترك الصراع الفكري القائم بين مختلف التيارات الفلسفية وخاصة الفلسفة الإسلامية والمادية الديالكتيكية (الماركسية)”.

وفي قراءة الكتاب اخترت التقيد بما جاء في مقدمته:

“أرجو من القارئ العزيز، أن يدرس بحوث الكتاب دراسة موضوعية، بكل إمعان وتدبر، تاركاً الحكم له أو عليه، لا إلى الرغبة والعاطفة. ولا أحب له أن يطالع الكتاب، كما يطالع كتاباً روائياً، أو لونا من ألوان الترف العقلي والأدبي. فليس الكتاب رواية ولا أدباً أو ترفاً عقلياً، وإنما هو في الصميم من مشاكل الإنسانية المفكرة.”(2)

يتصدر الكتاب، بعد مقدمته، تمهيد مطول يستعرض أهم النظم والمذاهب الاجتماعية ويحددها بأربعة:

“1- النظام الديمقراطي الرأسمالي

2- النظام الاشتراكي

3- النظام الشيوعي

4- النظام الإسلامي

ويتقاسم العالم اليوم اثنان من هذه الأنظمة الأربعة.

فالنظام الديمقراطي الرأسمالي هو أساس الحكم في بقعة كبيرة من الأرض، والنظام الاشتراكي هو السائد في بقعة كبيرة.”(3)

وسنعود إلى مناقشة هذا التمهيد بعد الخوض في الاطروحات الفلسفية الرئيسية للكتاب، حيث إن استنتاجات التمهيد السياسية تستند إلى حد كبير على هذه الاطروحات. و لكن يهمنا أن نعلم أن التمهيد يعتبر الفلسفة الماركسية والفلسفة المستقاة من الإسلام وعلمائه وفلاسفته هما الفلسفتان الوحيدتان المقتصرتان على نظرة شمولية للعالم والحياة:

“وأما الاشتراكية والشيوعية الماركسيتان فقد وضعتا على قاعدة فكرية وهي “الفلسفة المادية الجدلية”، والخاصة في فهم الحياة وموازينها المعينة لها.

فنحن إذاً بين فلسفتين لا بد من دراستهما لنتبين القاعدة الفكرية الصحيحة للحياة التي يجب أن نشيد عليها وعينا الاجتماعي والسياسي لقضية العالم كله، و مقياسنا الاجتماعي والسياسي الذي نقيس به قيم الأعمال ونزن به أحداثه الإنسانية في مشاكلها الفردية والدولية.”

ويلي التمهيد فصلان، الأول تحت عنوان “نظرية المعرفة” والثاني بعنوان “المفهوم الفلسفي للعالم”. ونظراً لوجود تداخل كبير بين الفصلين فسنأخذ بالمفاهيم الرئيسية للكتاب طبقاً لموازاتها للمواضيع التي سنتطرق إليها وليس بالضرورة طبقاً لتسلسلها في الكتاب.

في فصل “نظرية المعرفة” يطرح الكاتب بادئ ذي بدء السؤال الخطير الأول الذي يجابه جميع المدارس الفلسفية: ما هو المصدر الأساسي للمعرفة؟ ويعرف “الأساسي” بعبارة “المصدر الحقيقي للتصورات والادراكات البسيطة” البسيطة”(5). ثم يقسم المدارس الفلسفية إلى أربعة تبعاً لتصوراتها في الإجابة على السؤال، وهي:

نظريات الاستذكار الأفلاطونية

النظريات العقلية

النظرية الحسية (والتي تبنها الماركسية)

نظرية الانتزاع

ويستعرض الكاتب هذه النظريات كالتالي: ابتدع الأولى الفيلسوف اليوناني أفلاطون (427-337 ق.م)، وهي ترتكز على مسألتين، أحدهما أن النفس كانت منفصلة عن البدن وموجودة في عالم اسمي وأسبق من وجود البدن والعالم المادي. والأخرى هي أن الإدراك العقلي هو استذكار واسترجاع للحقائق المجردة الخالدة (المثل) التي كانت تمتلكها النفس قبل اتصالها

بالبدن والعالم المادي. ويرفض الكاتب كلتا المسألتين ويقول مستندا على بعض نقاد الفلسفة الأفلاطونية مثل أرسطو:

فالنفس في مفهومها الفلسفي المعقول ليست شيئاً موجوداً بصورة مجردة قبل وجود البدن، بل هي نتاج حركة جوهرية في المادة، تبدأ النفس بها مادية متصفة بخصائص المادة وخاضعة لقوانينها، وتصبح بالحركة والتكامل وجوداً مجرداً عن المادة لا يتصف بصفاتها ولا يخضع لقوانينها، وأن كان خاضعا لقوانين الوجود العامة، فإن هذا المفهوم الفلسفي عن النفس هو المفهوم الوحيد الذي يستطيع تفسير المشكلة …. كما أن الإدراك العقلي يمكن إيضاحه مع أبعاد فكرة المثل عن مجال البحث بما شرحه أرسطو في فلسفته من أن المعاني المحسوسة هي نفسها المعاني العامة التي يدركها العقل بعد تجريدها عن الخصائص المميزة للأفراد واستبقاء المعنى المشترك…”(6)

أما “النظريات العقلية” فيرجعها الكاتب إلى كبار الفلاسفة الأوربيين مثل (ديكارت) و(كانت) وتتخلص هذه النظريات في الاعتقاد:

“بوجود منبعين للتصورات: أحدهما الإحساس، فنحن نتصور الحرارة والنور والطعم والصوت لأجل إحساسنا بذلك كله، والآخر الفطرة بمعنى أن الذهن البشري يملك معان وتصورات لم تنبثق عن الحس وإنما هي ثابتة في صميم الفطرة، فالنفس تستنبط من ذاتها. وهذه التصورات الفطرية عند (ديكارت) هي فكرة (الله والنفس الامتداد والحركة) وما إليها من أفكار تتميز بالوضوح الكامل في العقل البشري. وأما عند (كانت) فالجانب الصوري للإدراكات والعلوم الإنسانية كله فطري ….”(7)

والكاتب يقترب إلى حد كبير من هذه النظرية ويقبل بجزئها الأول ولكنه يعطي تفسيراً آخر لجزئها الثاني حول الأفكار الفطرية. فهو يرفض أن تكون للنفس، وهي بسيطة، ذلك العدد الكبير من الأفكار الفطرية. فالإنسان لا يملك آية فكرة لحظة وجوده على الأرض. ويدلل على ذلك بالآية القرآنية:

“والله الذي أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون”.

قائلاً:

“ولكن يوجد تفسير آخر للنظرية العقلية، ويتخلص في اعتبار الأفكار الفطرية موجودة في النفس بالقوة و تكتسب صفة الفعلية بتطور النفس وتكاملها الذهني. فليس التصور الفطري نابع من الحس واضحاً يحتويه وجود النفس لا شعورياً وبتكامل النفس يصبح إدراكاً شعورياً واضحاً كما هو شأن الإدراكات والمعلومات التي نستذكرها فنثيرها من جديد بعد أن كانت كامنة وموجودة بالقوة.”(8)

وفي مكان آخر يعرف الكاتب القوة والفعل:

” أن القوة عبارة عن إمكان الشيء، والفعل عبارة عن وجوده حقيقة.”(9)

أما نظرية المعرفة الثالثة، “النظرية الحسية”، فيعرفها الكاتب بأنها:

“النظرية القائلة أن الإحساس هو الممون الوحيد للذهن البشري بالتصورات والمعاني، والقوة الذهنية هي القوة العاكسة للاحساسات المختلفة في الذهن. (…..) والماركسية تبنت هذه النظرية في تعليل الإدراك البشري تمشياً مع رأيها في الشعور البشري وأنه انعكاس للواقع الموضوعي (….)وتركز النظرية الحسية على التجربة، فقد دللت التجارب العلمية على أن الحس هو الإحساس الذي تنبثق عنه التصورات البشرية (…) وهذه التجارب – إذا صحت – إنما تبرهن علمياً على أن الحس هو الينبوع الأساسي للتصور، فلولا الحس لما وجد تصور في الذهن البشري ولكنها لا تسلب عن الذهن قدرة توليد معان جديدة – لم تدرك بالحس – من المعاني المحسوسة (..) فالحس على ضوء التجارب الآنفة الذكر هو البنية الأساسية التي يقوم على قاعدتها التصور البشري. ولا يعني ذلك تجريد الذهن عن الفعالية وابتكار تصورات جديدة على ضوء التصورات المبتكرة من الحس.”(10)

ويشير الكاتب إلى أن الفيلسوف الإنجليزي المرموق (جون لوك 1632 – 1704م) هو المبشر الأول بالنظرية الحسية. ولكن تجدر الإشارة إلى أن مؤسس المدرسة المادية الإنجليزية هو (فرانسيس بيكون 1651 – 1626م) وتلاه (توماس هوبز 1588 – 1679م). إلا أن (جون لوك) قام بتطوير المدرسة المادية وفند مفاهيم الفيلسوف الفرنسي (ديكارت 1596 – 1650م) حول الأفكار الفطرية. وكان لمدرسة (ديكارت) الثنائية

(DUALISM) مكاناً مرموقاً في القرن السابع عشر ولها صداها إلى يومنا هذا. ولمدرسة (ديكارت) وكذلك المدارس المادية الأوربية السالفة الذكر مدارس موازية أو مشابهة لها في الحضارة الإسلامية القديمة.

وفي مجال شرحه للنظرية الحسية والمذهب التجريبي يستعرض ويفند الكاتب آراء الفيلسوف الاسكوتلندي (دافيد الماركسي للنظرية الحسية وللتجريبية. فمن المعروف أن تفسير (هيوم) للإحساس تفسير يستند في جوهره على الفلسفة اللاإرادية (AGNOSTICISM) والفلسفة المثالية وليس على الفلسفة المادية. وقام أنجلز بتنفيذ آراء هيوم في كتابه (ضد دوهرنغ) وعالج لينين نفس الموضوع في كتابه (المادية ومذهب النقد التجريبي).

ويؤكد الكاتب بأن هيوم “أدق من غيره في تطبيق النظرية الحسية”(11) ولكنه يرفض النظرية الحسية قائلاً:

“ويمكننا أن نوضح فشل النظرية الحسية في محاولة إرجاع جميع مفاهيم التصور البشري إلى الحس .. على ضوء دراسة عدة من مفاهيم الذهن البشري كالمفاهيم التالية: العلة والمعلول، الجوهر والعرض، الإمكان والوجوب، الوحدة والكثرة، الوجود والعدم، وما إلى ذلك من مفاهيم وتصورات.”(12)

سنعود إلى هذا التفنيد وهذه المفاهيم فيما بعد.

أما النظرية الرابعة والأخيرة فهي “نظرية الانتزاع” التي يؤمن بها الكاتب:

“وهي نظرية الفلاسفة الإسلاميين بصورة عامة. وتتلخص هذه النظرية في تقسيم التصورات الذهنية إلى قسمين: تصورات أولية، وتصورات ثانوية. فالتصورات الأولية هي الأساس التصوري للذهن البشري. وتتولد هذه التصورات من الإحساس بمحتوياتها بصورة مباشرة. فنحن نتصور الحرارة لأننا أدركنا باللمس، ونتصور اللون لأننا أدركناه بالبصر (….) وهكذا جميع المعاني التي ندركها بحواسنا فإن الإحساس، بكل واحد منها هو السبب في تصوره ووجود فكرة عنه في الذهن البشري. وتتشكل من هذه المعاني القاعدة الأولية للتصور وينشئ الذهن بناءً على هذه القاعدة التصورات الثانوية، فيبدأ بذلك دور الابتكار والإنشاء، وهو الذي تصطلح عليه هذه النظرية لفظ (الانتزاع) فيولد

الذهن مفاهيم جديدة من تلك المعاني الأولية، وهذه المعاني الجديدة خارجه عن طاقة الحس وأن كانت مستنبطة ومستخرجة من المعاني التي يقدمها الحس إلى الذهن والفكر.”(13)

ويبدو للوهلة الأولى أن لا فرق بين ما يطرحه الكاتب أعلاه وما تطرحه الماركسية حول مصدر المعرفة واستنباط المعاني الجديدة من المعطيات الحسية المباشرة. إلا أن هذا التقارب سرعان ما يتلاشى، كما سنرى لاحقاً، عندما يستعرض الكاتب إيمانه “بالمعارف العقلية الأولية أو الضرورية” الخارجة عن نطاق الإحساس والتجربة والممارسة، وعندما يشرح مفهومه عن تصورات الحس وعلاقتها بالواقع الموضوعي. وللأسف أن الكاتب لا يشرح مفهوم الانتزاع بما يكفي لاستيعابه من قبل القارئ، خاصة لأن (الانتزاع) له علاقة، تظل غير واضحة، بالمعارف “العقلية الأولية” التي لها مقام مرموق في النظرة الفلسفية العامة للكاتب. ويستطرد الكاتب قائلاً حول نظرية الانتزاع:

“فعلى ضوء هذه النظرية نستطيع أن نفهم كيف انبثقت مفاهيم العلة والمعلول، والجوهر والعرض، والوجود والوحدة، في الذهن البشري. إنها كلها مفاهيم انتزاعية يبتكرها الذهن على ضوء المعاني المحسوسة، فنحن نحس مثلاً بغليان الماء حين تبلغ درجة حرارته مائة، وقد يتكرر إحساسنا بهاتين الظاهرتين – ظاهرتي الغليان والحرارة – آلاف المرات ولا نحس بعلية الحرارة للغليان مطلقاً، وإنما الذهن هو الذي ينتزع مفهوم العلية من الظاهرتين اللتين يقدمهما الحس إلى مجال التصور.

ولا نستطيع في مجالنا المحدود أن نعرض لكيفية الانتزاع الذهني وألوانه وأقسامه لأننا لا نتناول في دراستنا الخاطفة هذه ألاّ الإشارة إلى الخطوط العريضة.”(14)

إن عدم تفسير مفهوم الانتزاع يترك هوة كبيرة في شروحات الكاتب لنظرية المعرفة التي يؤمن بها خاصة وأنه يعالج ويخطئ نظريات المعرفة الأخرى بشكل تفصيلي وفي الغالب على أساس أنها لا تتبنى ولا تفهم نظرية الانتزاع هذه. فالنظرية المادية الجدلية مثلاً لا تنفي بل تؤكد دور الدهن في استيعاب الظواهر التي لا تستطيع أعضاء الحس أن تدركها بشكل مباشر وآني. فمثل ما يشير الكاتب إلى ظاهرة الغليان يشير لينين إلى أهمية التفكير ودوره في استيعاب الظواهر

المادية المعقدة:

“إن صلب الموضوع يكمن في حقيقة أن التفكير يجب أن يدرك مجموع الامتثال (الحسي)، ولكن لكي يحصل هذا يجب أن يكون التفكير جدلياً. فهل أن الامتثال الحسي أقرب إلى الواقع من الفكر؟ الاثنان، نعم وكلا. فإن الامتثال الحسي لا يستطيع أن يدرك الحركة بشكلها العام. فهو لا يستطيع مثلاً أن يدرك حركة بسرعة (300) ألف كيلومتر بالثانية. ولكن التفكير يستطيع ويجب أن يدركه.”(15)

ورغم عدم شرح مفهوم الانتزاع كما أشرنا فإننا نستطيع أن نتلمس بعض أبعاده بصورة غير مباشرة عندما ينتقل الكاتب من استعراض نظريات المعرفة فيما يخص “التصورات البسيطة” إلى دراسة ما يسميه بالإدراك التصديقي. وهذا الإدراك بالنسبة للكاتب هو إصدار الأحكام وحصول الإنسان على معرفة موضوعية ترتكز على مبدأ عام للمعارف البشرية يعد مقياساً لتمييز الحقيقة عن غيرها:

“وفي هذه المسألة عدة مذاهب فلسفية نتناول بالدرس منها المذهب العقلي والمذهب التجريبي، فالأول هو المذهب الذي ترتكز عليه الفلسفة الإسلامية، وطريقة التفكير الإسلامي بصورة عامة. والثاني هو الرأي السائد في عدة مدارس للمادية ومنها المدرسة الماركسية.”(16).

وبالنسبة للمذهب العقلي فإن المعارف البشرية تنقسم إلى طائفتين: 1- معارف ضرورية أو بديهية. 2- معارف ومعلومات نظرية. والطائفة الأولى لا تحتاج إلى براهين وهي خارجة عن المادة والطبيعة. فالنفس تؤمن بها بطريقة ذاتية، مثل إيمانها بالقضايا الآتية: (النفي والإثبات لا يصدقان معاً في شيء واحد) و (الحادث لا يوجد من دون سبب) و (الصفات المتضادة لا تنسجم في موضوع واحد) و(الكل أكبر من الجزء) و (الواحد نصف الاثنين). وعلى ضوء هذه البديهيات تقوم عملية التفكير باستنباط المعارف النظرية مثل: (الأرض كروية) و (الحركة سبب الحرارة) و(التسلسل ممتنع)و (الفلزات تتمدد بالحرارة) و (زوايا المثلث قائمتين)و (المادة تتحول إلى طاقة). وبهذا فإن المذهب العقلي يؤمن بأن المعلومات العقلية أو البديهيات هي الحجر الأساس للمعرفة البشرية، وكذلك بوجود علاقة سببية بين المعلومات لأن كل معرفة بشرية تنشأ من معرفة سابقة وهكذا حتى ينتهي التسلسل الصاعد إلى المعارف البديهية التي لم

تنشأ من معارف سابقة، وهي لهذا تُعتبر العلل الأولى للمعرفة. وتنقسم هذه العلل إلى نوعين:

“أحدهما ما كان شرطاً أساسياً لكل معرفة إنسانية بصورة عامة. والآخر ما كان سبباً لقسم من المعلومات.”(17)

وفي حديثه عن العلل الأولي الأساسية يتطرق الكاتب إلى نقاط جوهرية تتعلق بصميم خلافه مع الفلسفة الماركسية.

فأهم هذه العلل هو مبدأ عدم التناقض:

“فإن هذا المبدأ لازم لكل معرفة وبدونه لا يمكن التأكد من أن قضية ما ليست كاذبة مهما أقمنا من الأدلة على صدقها وصحتها، لأن التناقض إذا كان جائزاً فمن المحتمل أن تكون القضية كاذبة في نفس الوقت الذي برهن فيه على صدقها، ومعنى ذلك أن سقوط مبدأ عدم التناقض يعصف بجميع قضايا الفلسفة والعلوم على اختلاف ألوانها.”(18)

وطبيعي أن الالتزام بمبدأ عدم التناقض يتعارض مع الركن الأساسي الذي تستند عليه الفلسفة المادية الماركسية: (الجدلية) الديالكتيك. فالجدلية هي طريقة تطور الأشياء والأفكار بالإضافة إلى كونها طريقة دراسة الأمور. ويقول لينين:

“الجدلية بشكلها الصحيح هي دراسة التناقض في صميم جوهر الأشياء: فليست الظواهر وحدها وقتية ومتحركة وذات سيولة، مشخصة فقط بحدود تقليدية، بل أن جوهر الأشياء هو أيضاً كذلك.”(19)

“باختصار يمكن تعريف الجدلية، بأنها نظرية وحدة الضدين. هذا يجسد جوهر الجدلية، ولكنه يتطلب الإيضاحات والتطوير.”(20)

وسنأتي إلى هذه “الإيضاحات والتطوير” عند استعراض فهم لينين للمادية الجدلية. ولكن تجدر الإشارة إلى أن الخلاف بين الخلاف الرئيسي الذي يسري ويلاحظ في جميع فصول “فلسفتنا”. وهذا الخلاف يشخصه الكاتب أيضاً كملتزم بالنظرة الميتافيزيقية. وتجدر الملاحظة أيضاً إلى أن الكاتب يستخدم تعبير الميتافيزيقيا على نحوين: الأول كنقيض للجدلية والثاني كنقيض للمادية.

وعندما يستخدمه بمفهومه الأول يؤكد على تعارضه المطلق مع الجدلية. وبمفهومه الثاني يشير إلى نقاط لقاء مع المادية ويذهب إلى حد رفع أي تعارض بين فلسفته الميتافيزيقية وبين المادية على ضوء مفهوم لينين للمادة. وعلى أي حال فإن

الماركسية تستخدم في الغالب تعبير الميتافيزيقيا بمفهومه الأول أي أنه نظرة فهم تطور الأشياء على أساس النقصان أو الازدياد وليس على تناقض الأضداد. ولكنها تستخدمه أحياناً للإشارة إلى مواقف بعض الفلاسفة المتمسكين بمفهوم ما وراء الطبيعة أو ما فوق المادة.

ويؤكد الكاتب على أن المعارف العقلية الأولية تعطي مجالاً فسيحاً للفكر وأنه يجب أن تقاس صحة كل فكرة وخطأها على ضوئها:

“ويصبح بموجب ذلك ميدان المعرفة البشرية أوسع من حدود الحس والتجربة، لأنه يجهز الفكر البشري بطاقات تتناول ما وراء المادة من حقائق وقضايا ويحقق للميتافيزيقيا والفلسفة العالية إمكان المعرفة. وعلى عكس ذلك المذهب التجريبي فإنه يبعد مسائل الميتافيزيقيا عن مجال البحث لأنها مسائل لا تخضع للتجربة ولا يمتد إليها الحس العلمي، فلا يمكن التأكد فيها من نفي أو إثبات ما دامت التجربة هي المقياس الأساسي الوحيد، كما يزعم المذهب التجريبي.”(21)

وبهذا أقام الكاتب صرحا كبيراً خارج المادة والطبيعة وأقامه جداراً كبيراً بين فلسفته والمادية. أما الجدار الآخر الذي أشاده في هذا المضمار فيتعلق بسير المعرفة وطريقة البحث والدراسة:

“فبينما كان المذهب العقلي يؤمن بأن الفكر يسير دائماً من العام إلى الخاص يقرر التجريبيون أنه يسير من الخاص إلى العام، ومن حدود التجربة الضيقة إلى القوانين والقواعد الكلية، ويترقى دائماً من الحقيقة الجزئية التجريبية إلى المطلق.”(22)

وفي الحقيقة أن الكاتب محق في انتقاده هذا ولكن فقط بالنسبة لفرع واحد من تفرعات النظرة التجريبية. وهو لا ينطبق على المادية الجدلية بتاتاً. فرفض دراسة الأمور من العام إلى الخاص هو ما وقع به قسم من الماديين الذين تطلق عليهم الماركسية أسم التجريبيين. فالماركسية تعتبر التحرك من الخاص إلى العام ونقضيه من العام إلى الخاص أمرين متلازمين في البحث العلمي وتقصي الحقائق. وهاتان العمليتان أطلق عليهما ماركس أسم التحليل أي بمفهوم التكسير والتجزيء، وأسم التجميع أي بمفهوم دراسة الشيء بعلاقاته المتشعبة بالأشياء الأخرى والخروج بصورة شمولية عن الموضوع. وكذلك الأمر بالنسبة للنظرية والواقع الموضوعي: أليس القول الماركسي بأن النظرية أمر جوهري في فهم الواقع وجزئيات الأمور، هو استجابة

لضرورة دراسة الأمور من العام إلى الخاص؟ أليس القول الماركسي بأن الواقع أغنى من النظرية وبان النظرية مشتقة من وتعكس الواقع هو استجابة أخرى للتحرك بالاتجاه المعاكس أي من الوضع الخاص المحدد إلى الوضع العام على أساس دراسة الجزئيات وعلاقتها المتعددة والخروج من هذا بصورة عمومية عن الموضوع؟

والسؤال الذي يُطرح على الكاتب هو: إذا كان الفكر دائماً يتحرك من العام إلى الخاص فكيف إذا تم اكتشاف أية قاعدة علمية عامة أو نظرية خاصة ما؟ فالنظرية في جوهرها تعني التعميم واستخلاص الاستنتاجات العامة المجردة بعد دراسة خصائص وظواهر محددة فالبدء دائماً من العام يعني الوجود الأبدي لنظريات أبدية عن الكون بكل تفاصيله … وهذا ينسف إمكانية التوصل إلى أية نظرية جديدة في جميع حقول المعرفة. والعكس صحيح أيضاً فعندما تكون لدينا نظرية تم التوصل إليها علميا في فترة سابقة نستخدمها ونطبقها على بعض الظواهر والخصوصيات المعنية لكي نفهم فحواها على ضوء النظرية. فعندما نجد أن هذه الجزئيات تتطابق مع أسس هذه النظرية، تتعزز الأخيرة ويغتني محتواها. ولكن عندما نجد بأن الجزئيات المعنية تتعارض والنظرية يدب الشك في الأذهان عن مدى صحة هذه النظرية فيتم تعديلها أو حتى نفسها. وفي كل هذا فإن الذهن وعملية المعرفة في تحرك دائم من الخاص إلى العام وبالعكس حسب الظروف والحاجة والضرورة.

والنظرية مهما تعززت مكانتها واغتنت فإنها تظل ناقصة ولا تستطيع تفسير جميع الظواهر الممكنة في مجالها.

والإنسان بدأ يكتشف جوانب جديدة أغفلت سابقاً أو لم يستطع التوصل إليها أو تشخيصها أو أنها عوامل نشأت حديثاً، وبهذا يتم تغيير النظرية أو استبدالها تمشيا مع المعطيات الجديدة. ويقول لينين في هذا الصدد:

“فالنسبة للمادي، العالم أغنى وأكثر حيوية وتنوعا مما هو ظاهر فعلاً، فمع كل خطوة في تطور العلم تكتشف جوانب جديدة. فبالنسبة للمادي الأحاسيس. ليست نهائية في كونها قد استكشفت إلى نهايتها ولكن بمعنى أنه لا توجد ولا يمكن أن توجد حقيقة غيرها.”(23)

وللتدليل على مواقف الفلسفة الماركسية يشير الكاتب إلى ماركس وانجلز ولينين و ماو ويقتطف من كتاباتهم. ويستشهد أيضاً بروجيه غارودي وجورج بوليترز وغيرهم من مفسري الماركسية، ولكن بعض هذه الاستشهادات غير دقيق في وصف الفلسفة الماركسية ودور التجربة والممارسة في استنباط المعرفة

والنظرية.

ولكن الكاتب محق ودقيق في تحديدات أخرى عن الفلسفة الماركسية. فهو يؤكد مثلاً بأن الماركسية تقر بوجود مرحلتين في عملية اكتساب المعرفة: مرحلة التجربة (الخطوة الحسية) ومرحلة المفهوم والاستنتاج (الخطوة العقلية). ويضيف قائلاً بأن الماركسية:

“لاحظت أن هذا الرأي سوف ينتهي بها بصورته الظاهرة إلى المذهب العقلي، لأنه يفرض ميدانا ومجالا للمعرفة الإنسانية خارج حدود التجربة البسيطة فوضعته على أساس وحدة النظرية والتطبيق. وعدم إمكان فصل أحدهما عن الآخر، وبذلك احتفظت للتجربة بمقامها في المذهب التجريبي، واعتبارها المقياس العام للمعارف البشرية.”

وهنا يشخص الكاتب فرقاً هاماً بين  نظرته والماركسية(24). فهو يرى كما لاحظنا سابقاً بأن المعارف الأولية لا تنبع من التجربة بل هي موجودة في النفس بشكل كامن منذ ولادة الإنسان ولكنها لا تأخذ شكلها الفعلي إلاّ فيما بعد:

“وهكذا يتضح أن الاعتراض على المذهب العقلي بأنه: لماذا لا توجد المعلومات الأولية مع الإنسان حين ولادته ينبني على عدم الاعتراف بالوجود بالقوة، و باللاشعور الذي لا تدل عليه الذاكرة بكل وضوح، وإذن المعارف الأولية وبالحركة الجوهرية ويزداد وجودها شدة، حتى تصبح تلك المدركات بالقوة مدركات بالفعل.”(25)

أن الأمر بالنسبة للماركسية لا يكمن في قضية الاعتراف أو عدم الاعتراف بالقوة (الكامنة) فالسؤال المهم هو كيف ولماذا استقرت هذه المعارف الأولية الخطيرة في النفس سواء بشكل كامن أو فعلي ومكشوف؟ الكاتب لا يجيب على هذا السؤال. و على غير عادته يفسر الأمر بالقدرة الإلهية بينما يستخدم أساليب المنطق والمحاججة الفلسفية في كل الأمور والنقاشات الأخرى المطروحة في فصول كتابه. والتفسير الإلهي للأمر يأتي في مكان آخر من الكتاب عندما يرد الكاتب على المفهوم الجدلي للحركة:

“أما التفسير الإلهي للحركة، فيبدأ مستفهما عن تلك المتناقضات، التي يزعم الديالكتيك احتواء المادة عليها، فهل هي موجودة في المادة جميعاً بالفعل، أو إنها موجودة بالقوة؟… فلا بد – إذن – من التفتيش

عن سبب الحركة الجوهرية للمادة، وممونها الأساسي خارج حدودها، ولا بد أن يكون هذا السبب هو الله تعالى، الحاوي ذاتياً على جميع مراتب الكمال.”(26)

وفي الإجابة على سؤالنا حول المعارف الأولية فإن الماركسية تحكم العقل والممارسة. فحتى لو أخذنا بصحة جميع هذه المعارف التي أشار إليها الكاتب فهل باستطاعتنا عزلها عن الممارسة البشرية لعشرات الآلاف من السنين؟ وكيف يستطيع الكاتب الجزم بأنها مستقلة عن التجربة التي خاضتها الأجيال السابقة؟ وفي الحقيقة أن الكاتب ينظر إلى المعرفة وسبل التوصل إليها من خلال حصرها بفرد محدد منذ ولادته. وحتى في هذا فهو يستثني التراكم الهائل للمعرفة الذي توصلت إليه الأجيال السابقة والذي ينتقل إلى الفرد عن طريق التعليم التدريجي: عن طريق الأم والأب والأصدقاء والمدرسة والكتب والممارسة الذاتية … الخ. وباختصار فإن التجربة في المفهوم الماركسي تشمل التجربة المباشرة وغير المباشرة: فالأفراد يتعلمون من تجارب بعضهم البعض. فالبديهيات (حتى الرياضية منها) تبدو وكأنها مستقلة تماماً عن الممارسة والمعرفة الموروثة من الأجيال السابقة. ويطرح لينين الأمر كالآتي:

“أن النشاط العملي للإنسان قاد وعيه إلى إعادة الأشكال المنطقية المختلفة آلاف الملايين من المرات حتى استطاعت هذه الأشكال أن تأخذ أهمية المسلمات.”(27)

ونلاحظ كيف يحصر كتاب “فلسفتنا” عملية المعرفة فقط بنطاقها الفردي من مثال يسرده الكاتب للتدليل على أن الإنسان دائماً وأبداً يبدأ بالقوانين الأولية الأزلية ومن العام إلى الخاص:

“أن التجربة بمفردها لم تكن تستطيع أن تقوم بهذا الدور الجبار لأنها تحتاج في استنتاج أية حقيقة علمية منها إلى تطبيق القوانين العقلية الضرورية – أي أن يتم ذلك الاستنتاج على ضوء المعارف الأولية، ولا يمكن أن تكون التجربة بذاتها المصدر الأساسي والمقياس الأول للمعرفة، فشأنها شأن الفحص الذي يجريه الطبيب على المريض، فإن هذا الفحص هو الذي يتيح له الطبيب على المريض، فإن هذا الفحص هو الذي يتيح له أن يكشف عن حقيقة المرض وملابساته ولكن هذا الفحص لم يكن ليكشف عن هذا لولا ما يملكه الطبيب قبل ذلك من معلومات ومعارف، فلو لم تكن تلك المعلومات لديه لكان فحصه لغوا ومجردا عن كل فائدة، وهكذا التجربة البشرية بصورة عامة لا تشق الطريق إلى نتائج وحقائق إلاّ على ضوء معلومات عقلية سابقة.”(28)

والماركسية بطبيعة الحال تؤكد على الدور الخطير والأساسي للفكر والمعلومات العقلية إلاّ أن اختلافها مع الكاتب في مجال نظرية المعرفة هو حول مصدر هذه المعلومات: هل هي خارجة عن المادة والطبيعة والمجتمع أم هي في التحليل النهائي نابعة من التجربة الإنسانية بكل جوانبها؟ فكيف استحوذ ذلك الطبيب على معلوماته التي قادت فحوصاته إلى تشخيص المرض؟ ألم يمارس الطب كتلميذ ويستحوذ على المعلومات الطبية المتراكمة من الأجيال السابقة؟ فمعلوماته ليست بمعزل عن تجربة الأجيال السابقة. ورغم هذا وذاك فالطبيب الجيد يتنبه للعوارض الجسمانية والنفسية بطريقة فطنة ويحاول ربط العوارض من خلال الفحوصات المستمرة وليس من خلال الإقحام الدائمي لمعلوماته الطبية السابقة عن المرض وعوارضه. فربما يكتشف مرضاً جديداً أو عارضة جديدة لمرض مشخص قديماً!

وهذا الاختلاف بين النظرتين له إبعاده الهامة التي هي من أسباب تباعد فلسفة الكاتب عن الماركسية. ومن هذه العواقب ما يتعلق بسؤالين هامين: (1) كيف لنا أن نعرف بأن أفكارنا ونظرياتنا صحيحة أم خاطئة؟ (2) ما هي الفلسفة وما هو دورها؟

(1) – صواب أم خطأ

والسؤال الأول ما زال يشغل اهتمام جميع المدارس الفلسفية ولكل منها حل له. وما يهمنا هنا هو الحل الذي يقترحه الكاتب والحل الماركسي. فالكاتب يؤكد بأن التصورات البسيطة والمعارف النظرية المستقاة منها مصدرها الإحساس بالواقع الموضوعي المستقل عن الوعي ومصدرها الممارسة العلمية. ولكن الاختلاف يظهر ويتعمق عندما يجعل الكاتب من ما يسميه بالمعارف الضرورية دليلاً مطلقاً لصحة أو خطأ النظريات:

” فإن تلك المعارف هي التي تتيح لنا أن نعرض عدة من النظريات والمفاهيم ونلاحظ مدى انسجام الظواهر المنعكسة في تجاربنا وحواسنا معها، فنستبعد كل مفهوم لا يتفق مع تلك الظواهر حتى نحصل على المفهوم الذي ينسجم مع الظواهر المحسوسة والتجريبية يحكم المعارف العقلية الأولية، فنضعه كنظرية تفسر جوهر الشيء وقوانينه الحاكمة فيه.”(29)

وهذا يعني بأن عملية المعرفة يجب أن تبدأ بفكرة أولية وتجنب من نفس هذه الفكرة نظريات جديدة يتم اكتشاف صحتها بمقارنتها بنفس الفكرة الأولية التي أنجبتها. وبطبية الحال.

فإننا بهذه الطريقة قد بدأنا بفكرة وانتهينا بفكرة مطابقة لها أما الظواهر المحسوسة الوسطية فقد فقدت مفعولها وأهميتها لأننا قد حكمنا عليها مسبقاً بأن تأتي بنتائج مطابقة للفكرة التي ابتدأنا بها. وهذا يعني أيضاً نبد الظواهر المحسوسة التي لا تنسجم والقوانين الأولية أو إلواء عنق بعضها لكي تنسجم مع هذه القوانين (مثل “قانون عدم التناقض” الذي يؤمن به الكاتب). والكاتب يجزم بأن الفلسفة الماركسية ليس بمقدورها حلّ معضلة صواب أو خطأ الأفكار، فإذا:

“استبعدنا من أول الأمر المعارف العقلية المستقلة عن التجربة فسوف يتعذر علينا نهائياً أن نتخطى دور الإحساس إلى دور النظرية والاستنتاج، أو أن نتأكد من صحة النظرية والاستنتاج بالرجوع إلى التطبيق وتكرار التجربة.”(30)

ولكنه لا يشرح لم هذه الاستحالة في تخطي دور الإحساس، خاصة أنه قد أشار سابقاً إلى أن المادية الجدلية تقر بخطوتي المعرفة (الإحساس واستنتاج المفاهيم)، ولا يفسر أيضاً لم لا نستطيع امتحان النظرية بممارستها. وأقصى ما نستطيع قوله إذا أتبعنا منطق الكاتب هو أن الفلسفة الماركسية ستصل إلى نتائج خاطئة لأنها لا تقبل بفكرة “عدم التناقض” مثلاً.

على أي حال، فإن المادية الجدلية ترى بأن أفكار الإنسان مصدرها الطبيعة والمجتمع. وهي لكي تكون متسقة المنطق ترجع إلى هذا المصدر ذاته لكي تتحقق من صحة هذه المفاهيم. والانتقال من النظرية إلى الممارسة كجواب على مسألة إثبات المفاهيم هو ما يسمى في المفهوم الفلسفي بالقفزة المنطقية. فلقد حاول الفلاسفة (وحتى الكثير من الماديين منهم) لمئات السنين أن يصلوا إلى حل للمعضلة بواسطة المحاججة النظرية والاطروحات الفلسفية. إلاّ أن الماركسية ترى بأن المعضلة قد وجد لها الإنسان حلاّ حتى قبل الأفكار والفلسفات التي شخصت المسألة. فيقول انجلز مثلاً:

“قبل المجادلة الكلامية كأن هناك العمل. في البداية كانت هناك الأفعال. والعمل الإنساني قد حلّ هذه المعضلة دهراً طويلاً قبل أن يخترعها الذكاء الإنساني. فالطبخة تمتحن بأكلها.”(31)

ويشير ماركس إلى الموضوع:

“أن مسألة معرفة ما إذا كان بوسع الفكر الإنساني أن يصل إلى حقيقة موضوعية ليس بمسألة نظرية بل هي

مسألة عملية. يجب على الإنسان أن يثبت الحقيقة، حقيقة وقوة فكره، بالممارسة. أن النزاع المعزول عن الممارسة حول حقيقة أو عدم حقيقة الفكر هو مسألة مدرسانية بحتة.”(32)

(المدرسانية هنا بمعنى العقيمة كإشارة إلى الأسلوب المدرسانية والفلسفة المدرسانية – SCHOLASTICISM)

والمادية الجدلية تعرض المسألة بكلمات أخرى أيضاً: الممارسة والنظرية وجهان مترابطان في وحدة. فالممارسة المباشرة وغير المباشرة تنتج النظرية والنظرية بدورها تتحول إلى ممارسة عن طريق تطبيقها بالعمل البشري. فكل جانب يتحول

إلى نقيضه بشكل مستمر ومتبادل. والممارسة في التحليل النهائي هي السبيل الوحيد لإثبات مدى صحة النظرية وفاعليتها.

أما إذا أخذنا بمنطق أن فكرة ما أما أن تكون حقيقة أم خطأ بشكل مطلق على ضوء نظرية عدم التناقض الميتافيزيقية فكيف نفسر ظاهرة تعديل النظريات وتغييرها ونقضها. فإذا تصورنا بأن نظرية ما صحيحة بشكل مطلق (كما يقول الكاتب: النفي والإثبات لا يصدقان معاً في شيء واحد) استبعدنا بشكل مطلق إمكانية تغييرها على ضوء الحقائق الجديدة أو التي لتكتشف سابقاً. أما المنطق المادي الجدلي فيرى بأن أية نظرية عرضة للخطأ. فهي تثبت صوابها (وللصواب درجات) عندما تنسجم والواقع أو مع جوانب منه. فهي إذا صحيحة وخاطئة في آن واحد. وهذا الاستنتاج مستنبط من تاريخ كل العلوم.

ولكن المادية الجدلية يحكم منطقها لا تجعل حتى من الممارسة المفتاح السحري المطلق لحل هذه المعضلة بل تترك مجالاً للفكر لأن يكون حراً من القيود الخانقة القاتلة والتي تسد الطريق أمام المعارف الجديدة. فهي حتى في جعلها للممارسة الحل الوحيد والأخير لإثبات النظريات تترك بصيصاً للشك الخلق ويعبر لينين عن هذه المسألة كالآتي:

” ونحن يجب أن لا ننسى بأن معيار الممارسة لا يمكنه أبداً، بسبب طبيعة الأشياء، أن يثبت أو ينفي أية فكرة إنسانية بشكل كامل.”(33)

وهذه العبارة لا تبغي فتح الطريق للمثالية واللاإرادية بل تحاول منع تكلس الفكر وتحجره وأن تضعه على أسس العلم. فالعلم يبطل مفعوله ويفقد علميته إذا بدأ بوضع نظريات أبدية لا تنمو ولا تتغير، نظريات مطلقة تسدل الباب على

العبير الجديد. ومن جملة ما يقصده لينين بطبيعة الأشياء في العبارة هو أن الممارسة البشرية، في كل فترة تاريخية محددة، عليها قيود تفرضها تلك الفترة التاريخية. وبسبب تلك القيود لا تفلح الممارسة في إثبات فكرة ما بشكل كامل و نهائي. فالممارسة مشاكلها وشروطها: هل طبقت النظرية بشكل صحيح؟ هل توفرت الشروط اللازمة لتطبيق النظرية بشكل علمي؟ هل لدينا ما يكفي من أجهزة أكثر دقة من سابقاتها لدراسة الظواهر المتشبعة التي تعني بها النظرية؟ هل نضجت العوامل الاجتماعية لكي تجعل من تطبيق مشروع سياسي محدد أمراً ممكناً؟ هل كانت الشعوب العربية مهيأة ومستعدة في معاركها ضد الصهيونية على ضوء فكرة أن هذه الشعوب قادرة كل القدرة للقضاء على الصهيونية … الخ.

والممارسة تعني أيضاً التفاعل مع الواقع الموضوعي أي الواقع الموجود خارج الوعي. ولكي يقوم الفكر بفهم الواقع فهما علمياً فهو مضطر للتعامل معه بالحدود الممكنة في كل فترة محددة. فالواقع المادي حركة مستمرة وعالم لا متناهي من الجوانب والظواهر، والفكر لا يستطيع استيعابها في آن واحد وبكل جوانبها. فهو مضطر إلى تجميد هذه الحركة لكي يكتشف أسرارها. والتجميد لا يغير من طبيعة الأمور فحسب بل يعني إهمال العديد من المتغيرات والمؤثرات والأخذ بمتغيرات محددة يستطيع دراسة آثارها وتفاعلاتها. وهذا ينطبق على العلوم الفيزيائية والاجتماعية معاً. فلكي نفهم تطوراً معيناً في المجتمع العراقي تحت نظام البعث الفاشي نحن مضطرون إلى حصر الموضوع بجوانب محدودة نعيها إلاّ بعد أن تكشف عن نفسها في ظواهر تشخّص في المستقبل. وهذا يعني تجميد الحركة الموضوعية بواسطة الفكر والتأخر النسبي عن الواقع. فالحركة الثورية في العراق مثلاً حاربت البعث الفاشي بعد انقلاب عام 1968 بالوسائل التي اكتشفها الشعب والحركة الثورية في محاربة حكم نوري السعيد وإلى حد ما في النضال ضد الردة عن أهداف ثورة 14 تموز وضد انقلاب عام 1963 الفاشي. ولكن البعث الحاكم وأسياده الإمبرياليين جاءوا بأساليب جديدة وأحدثوا تغيرات كبيرة على المجتمع لم يكن بوسع الحركة الثورية أن تعيها بكل جوانبها فوراً. فأحدثت الفاشية ارتباكاً في صفوف الشعب والحركة الثورية أدى إلى تأخر الوعي نسبة إلى الأعداء وأسلحتهم الفتاكة الجديدة. والشعب والحركة الثورية الآن في طور استخلاص هذه الدروس وتعميق الفكر عن المجتمع العراقي وتاريخه وارتباطاته بالمنطقة المحيطة وبالعالم على ضوء المعطيات الجديدة. وتعمق الفكر بهذه الصورة يعطيه حيوية تؤهله على معالجة الأمور ومتابعتها قبل فوات الأوان وممارسة العمل الثوري على

أسس متينة، وحتى على توقع بعض الأمور المستقبلية بطريقة أقل عشوائية وعلى أساس فهم الحاضر (فالتنبؤ بالأحداث مهما كان مشتقاً من أسس علمية له صفة نسبية عشوائية قد تخطيء وقد تصيب). وفي مثالنا عن العراق تطرقنا إلى جزء من الجانب التاريخي العام وليس إلى ما يسمى بالعوامل الذاتية العديدة التي ساهمت في انتكاسه الحركة الشعبية مثل التواطؤ مع البعث الحاكم أو التحالف معه من قبل بعض الاتجاهات و الحركات السياسية. ويشير لينين إلى الصعوبات التي يجابهها الإنسان في عملية المعرفة وفهم الواقع الموضوعي:

“نحن لا نستطيع تخيل الحركة أو التعبير عنها أو قياسها أو وصفها بدون كسر الاستمرارية وبدون تبسيط ما هو حي وتخشينه وتقطيعه وخنقه. أن تمثيل الحركة بواسطة الفكر يخشن ويقتل – كذلك الأمر ليس بواسطة التفكير فقط بل أيضاً بواسطة الإدراك الحسي…

وفي هذا يكمن جوهر الجدلية.

وهذا الجوهر بالضبط يعبر عنه بالصيغة: وحدة وتطابق الأضداد.”(34)

أن فهم القيود المفروضة على الممارسة والفكر لا يعني بتاتاً السقوط في نزعة الشك المطلق والشلل بل بالعكس أن هذا الفهم يغني الفكر حيوية ويحثه على النشاط الأكبر واستقبال النفح الجديد بذهن مفتوح ونظرة نقدية لا يفتك بها التكلس والكلل.

(2) – ما هو دور الفلسفة؟

في الإجابة على هذا السؤال يشخص الكاتب فرقاً جوهرياً بين نظرته والماركسية:

” ولا يقف هذا التناقض المستقطب بين المذهب العقلي والمذهب التجريبي عند حدود نظرية المعرفة فحسب، بل يمتد أثره الخطير إلى الكيان الفلسفي كله لأن مصير الفلسفة بوصفها كياناً أصيلاً مستقلاً عن العلوم الطبيعة والتجريبية مرتبط إلى حد كبير بطريقة حلّ هذا التناقض بين المذهبين العقلي والتجريبي، فالبحث في المقياس العام للمعرفة البشرية والمبادئ الأولى لها هو الذي يقدم للفلسفة مبررات وجودها، أو يحكم عليها بالانسحاب والتخلي عن وضيفتها للعلوم الطبيعية.”(35)

والكاتب يناقش بحرارة أهمية وجود كيان فلسفي مستقل عن العلوم ينشد فيه الإنسان أجوبة على مسائل الحياة والطبيعة.

وفي داخل هذا الكيان يؤكد الكاتب على ضرورة استخدام الحجة الفلسفية البحتة (بعضها مشتق من العلم والتجربة) وخاصة تلك التي يؤمن بها أزلية وإلهية. فالعلم حقله وللفلسفة حقلها، مع أن للأخيرة حق وقدرة تفسير نتائج العلم والممارسة على ضوء المعارف الأولية المستقلة عن الطبيعة. فالكاتب ينقد بشدة مثلاً تزعزع عقيدة الكثير من العلماء السابقة. فهو يؤكد بأن التسليم بوجود الواقع الموضوعي للعالم لا ينبع من الممارسة والعلم بل ينبع من الدراسة الفلسفية والاعتقاد الفطري الضروري في الطبيعة الإنسانية. وعلى هذا الأساس ينتقد بعض جوانب الاستنتاجات الفلسفية للمثالي الشهير (بار كلي) ونسبية (كانت) والنسبية في المادية الجدلية وغيرها من المواقف والمدارس الفلسفية والعلمية.

ومطالبه الكاتب بالحفاظ على استقلالية الفلسفة ودورها الخاص تستجيب له مدارس فكرية وفلسفية عديدة ولكن الماركسية ترى بأن المجتمع والطبيعة هما مصدر جميع الآراء فلسفية كانت أم غيرها. فإذا كانت الفلسفة هي نتاج الحياة فلم الموقع المستقل لها فوق قوانين الطبيعة والمجتمعات؟ وإذا كان واقع الأمور مادياً وجدلياً فما للفلسفة إلاّ أن تعكس وتفهم هذا الواقع من خلال جميع حقول العلم الطبيعي والاجتماعي، ولكي تقوم بهذا الدور فعليها أن تكون بذاتها مادية جدلية وبهذا ينتفي استقلالها واحتجابها عن العالم المادي.

والماركسية تخطو خطوة خطيرة أخرى في هذا المضمار: إذا كان هذا هو حال المادية الجدلية فلم تقبع بعيداً عن عالم الممارسة الاجتماعية؟ فواجبها إذا يصبح المساهمة المباشرة في تغيير العالم وليس فقط فهمه وتفسيره. أي يجب عليها أن تدلوا بدلوها في إرشاد الممارسة نحو تغيير العالم.

ولهذا أكدت الماركسية ارتباطها بالواقع حالها كحال سائر الأفكار التي تصبو إلى العملية وأعلنت أيضاً انحيازها السياسي في الصراعات التي تجري في المجتمع إلى جانب الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء والشعوب المضطهدة. فدرست التاريخ بحقائقه وتطوراته وتداخلاته وعوامله المختلفة، أي إنها استخدمت المادية الجدلية في دراسة تاريخ تطور المجتمعات، وهو ما يسمى بالمادية التاريخية.

والكاتب يلوم الماركسية على هذا الانحياز السياسي في فلسفتنا ويعتبره سقوطاً في النزعة الذاتية التي ينتقدها كما تنتقدها الماركسية أيضاً. فيقول تحت عنوان “انتكاس

الماركسية في الذاتية”:

“أن الماركسية بالرغم من إصرارها على رفض النسبية الذاتية بترفع وتأكيدها على الطابع الموضوعي لنسبيتها وأنها نسبية تواكب المتطور وتعكس نسبيته بالرغم من ذلك كله ارتدت الماركسية مرة أخرى فانتكست في أحضان النسبية الذاتية حين ربطت المعرفة بالعامل الطبقي وقررت أن من المستحيل للفلسفة مثلاً أن تتخلص من الطابع الطبقي والحزبي.

وواضح أن هذا الاتجاه الماركسي يطبع كل معرفة بالعنصر الذاتي ولكنها ذاتية طبقية لا ذاتية فردية كما كان يقرر النسبيون الذاتيون وبالتالي تصبح الحقيقة هي مطابقة الفكرة للمصالح الطبقية للمفكر ….“(36)

وفي هذا النقد سوء فهم شائع ومنتشر بين المثقفين في الغرب والشرق. فالماركسية حين تعلن انحيازها التام للطبقة العاملة لا تعني بهذا أن العامل يمتلك كل الحقيقة وليس لغيره أن يمتلك نطفة منها، فلا ماركس ولا انجلز ولا لينين كانوا عمالاً. بل المقصود بالأمر هو أن تحليل الواقع الموضوعي على ضوء المادية الجدلية يؤدي إلى كشف الأمور وفهم طبيعة المجتمعات على حقيقتها وأن اتباع طريقة أخرى يؤدي إلى حجب بعض الحقائق وتشويه البعض الآخر وعدم إمكانية الخروج بصورة عامة صائبة عن المجتمع. وبما أن حقيقة الأمور هي الاضطهاد والظلم والتعسف الذي تعاني منه الشغيلة فإن المادية الجدلية هي خير سلاح بيد الكادحين وأنصارهم للتعرف على واقعهم وواقع مجتمعاتهم بشكل عام ولرسم الطريق أمامهم في نضالهم ضد الاضطهاد ومن أجل الانعتاق. ويعبر لينين عن هذه المسألة بعبارة “الحقيقة دائماً ثورية”.

ومن الجانب الآخر فإن مصلحة الطبقات الرجعية الحاكمة. تقتضي حجب الحقائق عن الجماهير وحتى نشر الأكاذيب والتشويهات. وهذه المصلحة الطبقية تدفع (بوعي أو بدن وعي) بالمثقفين من أنصار هذه الطبقات إلى محاربة المادية الجدلية وبث الأفكار المثالية واللاإرادية، وهذا ما نشاهده في الإعلام الرأسمالي والجامعات وملايين الكتب والنشريات.

$و من الضروري أيضاً الإشارة إلى أن الماركسية لم ولا يمكن لها أن تدعي احتكار المعرفة والحقائق الموضوعية. فالماركسية قبل نقادها قد شخصت بأنها وُلدت من خلال استيعاب ونقد المدارس الفكرية المختلفة والتراث العلمي للبشرية، في مرحلة تاريخية برزت فيها الطبقة العاملة كقوة سياسية واجتماعية كبرى. وأن كانت الماركسية تبغي الديمومة والحيوية والتمسك بالمادية الجدلية فما عليها إلاّ أن تستمر في هذا النهج: دراسة واستيعاب ونقد مختلف أنواع الإنتاج الفكري للبشرية. وهي بهذا لا تتخلى بتاتاً عن طابعها الطبقي بل تتمسك به وتعمل على تسليح الكادحين وأنصارهم بالمنتوجات الفكرية العلمية التي يتوصل إليها مجموع البشرية. ولا بأس من التذكير بأن النهج الجدلي ذاته للماركسية يرجع في جوانب عديدة منه إلى الفيلسوف المثالي هيغل!

ولا بأس من التذكير أيضاً بأن الكتاب الشهير لأنجلز “ضد دوهرنغ” قد طور الفهم الماركسي للمادية الجدلية من خلال الانتقاد اللاذع والصارم لآراء الأستاذ الجامعي دوهرنغ ومن خلال استخلاص آخر النتائج العلمية. ولكن انجلز في مقدمته الثانية للكتاب دافع بحرارة عن حق دوهرنغ في التعبير عن آرائه عندما طُرد دوهرنغ من مقعده كأستاذ في جامعة برلين. ووصف طرده “ظلماً خسيساً” ووصف الجامعة التي طردته بأنها حطت من شأنها بسلب دوهرنغ حريته الفكرية.

والحق يقال أن ما يجري اليوم من سلب لحرية الفكر والآراء في الدول التي تدعي الاشتراكية لهو بعيد كل البعد عن الماركسية ومدان من قبل الفكر الماركسي وتقاليده في الصراع الفكري وتبادل الآراء والنقد المتبادل. فلم الخوف من حرية الرأي واختلاف الآراء إذا كانوا هم فعلاً ماديين جدليين؟ يبدو أن الحقيقة في مجتمعاتهم قد توقفت عن أن تكون ثورية بالنسبة للحكومات!

عدم التناقض والجدلية

في سجاله مع الماركسية يولي الكاتب اهتمامه الأكبر بنزعتها الجدلية وليس بماديتها. فهو يصل إلى درجة إزالة أي اختلاف بين فلسفته والماركسية حول مفهوم المادة، ويركز على أن الخلاف الرئيسي هو مع الجدلية. فحين يستعرض الكاتب مفهومه للمادة يؤكد بأنها حقيقة موضوعية موجودة خارج الوعي ويهاجم المثالية الفيزيائية وغيرها لإنكارها لهذه الحقيقة. ويشير إلى تعريف لينين للمادة: “أن الخاصة الوحيدة للمادة، التي يحدد التسليم بها المادية الفلسفية إنما كونها – أي المادة – حقيقة موضوعية، وإنها خارج وعيناً.” ويعلق الكاتب على تعريف لينين قائلاً:

“من الواضح أن المادة إذا كانت تعبيراً مساوياً للواقع الموضوعي المستقل. وكانت خصيصتها الوحيدة اللازمة لها هي موضوعيتها ووجودها بصورة مستقلة عن وعينا، فالفلسفة الميتافيزيقية الإلهية تكون فلسفة مادية تماماً باعتبار هذا المفهوم الجديد للمادة، ويرتفع التعارض نهائياً بين الفلسفة الميتافيزيقية والفلسفة المادية ومفهومها عن العالم.”(37)

إن مفهوم لينين للمادة ليس جديداً بل هو تكرار لما توصل إليه الماديون قبل الماركسية وهو موجود أيضاً عند بعض الفلاسفة في العصر الإسلامي القديم. والماركسية أكدت عليه وساند كل من ماركس وانجلز أستاذهم السابق في المادية (فيورباخ) عندا أصر عليه. فالانطلاق من هذا المفهوم شرط أساسي بالنسبة لجميع الماديين… ولكنه لا يكفي. فقد ننطلق من هذا المفهوم ونرجع مرة أخرى إلى المثالية واللاإرادية تبعاً لمفاهيمنا الأخرى حول العلاقة بين الفكر والمادة وعلاقة الإحساس والتجربة بالمخ وقدرة الذهن على الحصول على حقيقة موضوعية … الخ.

وتبعاً لمفاهيمنا عن طبيعة المادة والحركة ونمط تطور الأشياء قد نصل إلى المادية الميتافيزيقية أو الآلية أو الجدلية ولا شك أن هناك تعارض (ونقاط لقاء) بين مفاهيم الكاتب والماركسية حول جميع هذه الأمور. وبعض هذه التعارضات هامشي وبعضها أساسي. وواضح أنه ليس بوسعنا في هذا المقال الخوض في كل هذه الأمور، ولكننا سنتطرق إلى ما هو في رأينا اختلاف رئيسي بين نظرة الكاتب والماركسية: التعارض بين الميتافيزيقية والجدلية.

ترتكز نظرة الكاتب الميتافيزيقية على “قانون عدم التناقض” وهو يسري على عالمي المادة والفكر:

“ولا تشذ عنه ظاهرة من ظواهر الوجود والكون مطلقاً أن التناقض مستحيل، فلا يمكن أن يتفق النفي والإثبات في حال من الأحوال.”(38)

“لا تخرج الفكرة – كل فكرة – عن أحد أمرين: فهي أما حقيقة مطلقة وأما خطأ.”(39).

ولكي نفهم جلياً هذا القانون عند الكاتب علينا ملاحظة نقطتين:

أن التناقض الذي يرفضه الكاتب هو التناقض الذي ترى الماركسية وجوده في كل مسألة أو أمر أو ظاهرة أو مفهوم في نفس المكان والزمان وتحت شروط وظروف متشابهة.

أن التناقض الذي يرفضه الكاتب هو التناقض الذي ترى

الماركسية وجوده في جوهر الأشياء.

ولتوضيح النقطة الأولى يسرد الكاتب بعضاً من الأمثلة حول حصول النفي والإثبات ولكن تحت ظروف مختلفة: أ – الأربعة زوج. الثلاثة ليست زوجاً. ب- الإنسان سريع التصديق حال الطفولة. الإنسان ليس سريع التصديق حال الطفولة. ج- الطفل ليس عالماً بالفعل. الطفل عالم بالقوة (أي يمكن أن يكون عالماً). ويعير الكاتب عن طبيعة هذه التعارضات واختلافها عن المفهوم الماركسي للتناقض كالآتي:

“نصّ المنطق الميتافيزيقي، على أن التناقض إنما يكون بين النفي والإثبات في ظروفهما. فإذا اختلفت ظروف النفي مع ظروف الإثبات، لم يكن الإثبات والنفي متناقضين أن التناقض بين النفي والإثبات إنما يتحقق فيما إذا اشتركا في الموضوع الذي يتناولانه، واتفقا في الشروط والظروف المكانية والزمانية وغيرها. وأما إذا لم يتحد النفي والإثبات في كل هذه الشروط والظروف. فليس بينهما تناقض.”     (40)

ولسنا هنا في صدد سرد الأمثلة حول وجود التناقض في مسألة ما في نفس المكان والزمان وتحت نفس الشروط، ولكننا سنشير هنا إلى مثال واحد يسرده الكاتب ذاته في مكان آخر من الكتاب للتدليل على أن التطور لا يتم بالضرورة بالقفزات بل قد يتم بشكل تدريجي:

“فالشمع – مثلاً – ترتفع حرارته إثناء عملية الانصهار، حتى إذا بلغت درجة معينة خفت فيه صلابة الشمع، وبدأ يلين ويسترخي بصورة تدريجية، مستقلة عن سائر الأشياء الأخرى، ويتدرج في حالة الليونة فلا هو بالصلب ولا هو بالسائل، حتى يستحيل مادة سائلة.”(41)

فلا هو بالصلب ولا هو بالسائل! أليس هذا ظاهرة تشير للإمكان في آن واحد أن يجتمع النفي والإثبات، السلب والإيجاب، وجود أمر وعدمه، في عملية واحدة وفي نفس المكان والزمان؟ فهل الشمع في تلك الدرجة من الحرارة سائل؟ نعم وكلاّ. وهل الشمع في تلك الدرجة من الحرارة صلد؟ نعم وكلاّ.

وحول النقطة الثانية فإن الكاتب يرى استحالة وجود التناقضات في جوهر الأشياء ولكنه يقر بوجود نوع من التناقض بين أضداد مستقل بعضها عن البعض بشكل كامل (مثل ظاهرة تآكل ضفة الشاطئ بسبب أمواج الماء وتياراته):

” ولأجل أن نتبين مدى الخطأ الذي وقعت فيه الماركسية يجب أن نفرق بين أمرين: أحدهما الصراع بين أضداد ونقائض خارجية. والآخر الصراع بين أضداد ونقائض مجتمعة في وحدة معينة. فالثاني هو الذي يتنافى مع مبدأ عدم التناقض.”(42)

ويشير الكاتب إلى ارسطو ويسميه ” أما المدرسة الميتافيزيقية في فلسفة اليونان ” وعلى أنه يؤمن بالصراع بين الأضداد الخارجية مع إبقائه على مبدأ عدم التناقض، لأن الأمور تتطور وتبزغ للوجود لوجود أضداد خارجية وليس على أساس التناقضات الداخلية. ويجدر القول بأن الماركسية لا تنفي الأسباب الخارجية في عمليات التطور. فما يسمى بالأسباب الخارجية هي شروط أساسية لتطور هذه العملية أو تلك. فلكل عملية بسيطة أو معقدة عوامل تطورها الداخلية ولكن تطور هذه العملية في هذا الاتجاه أو ذاك يعتمد على الظروف المحيطة بالعملية. والظروف أو العوامل الخارجية تفعل فعلها من خلال المتناقضات الداخلية للعملية. فالبذرة لا تنبت إلاّ بوجود الماء أو الرطوبة لأن عناصرها الداخلية لا تكفي لبدء واستمرار عملية الإنبات، ولكن الماء لا يستطيع أن يجعل من قطعة زجاج أن تنبت. ولكل عملية خصوصيتها وشروطها ونتائجها فبذرة القمح لا تنتج الشعير والغيوم لا تهطل بالكحول. والثورة الحقيقية يصنعها الشعب ولها قوانينها وشروطها وسماتها الداخلية الخاصة بالمجتمع المحدد بالإضافة إلى ما يجمعها مع ثورات المجتمعات الأخرى. ولكن وتيرة تطورها أو فشلها أو نجاحها يعتمد أيضاً على الظروف الدولية وظروف المجتمعات المحيطة وعوامل خارجية أخرى. وثورة شعب عفوية تختلف نتائجها عن ثورة منظمة ومخططة وهي تختلف بدورها عن الانقلابات الفوقية.

ويحاول الكاتب دحض الجدلية لأنها بحكم منطقها تقع في تناقض يستعصي عليها الخروج منه:

“… أن الطبيعة البشرية لا يمكن أن توفّق بين السلب والإيجاب معاً، بل تشعر ذاتياً بالتعارض المطلق بينهما، وإلاّ فلماذا رفضت الماركسية مبدأ عدم التناقض، واعتقدت ببطلانه؟! أليس ذلك لأنها آمنت بالتناقض، ولا يسعها أن تؤمن بعدمه، ما دامت آمنت بوجوده؟! وهكذا نعرف أن مبدأ عدم التناقض هو المبدأ الأساسي العام، الذي لم يتجرد عنه التفكير البشري. حتى في لحظة التحمس للجدل والديالكتيك.”(43)

أن الماركسية بطبيعة الحال لم تؤمن بالتناقض بل شاهدته ودرسته في تطور الأفكار والمجتمعات والطبيعة. شاهدت أن كل شيء في حركة وتطور دائمين رغم أن بعض الظواهر تبدو

جامدة. ولاحظت أيضاً بأن لأشكال الحركة المختلفة قوانينها المختلفة وبأن حركة المادة تكمن في الصراعات الموجودة في عالم المادة ذاتها. والقول أعلاه للكاتب بأن “الطبيعة البشرية تشعر ذاتياً بالتعارض المطلق” بين السلب والإيجاب هو بذاته منطق جدلي. أن الجدلية ترى هذا التناقض المطلق ولكنها ترى أيضاً بأن هناك وحدة بين السلب والإيجاب فلا سلب بدون إيجاب ولا إيجاب بدون سلب .. والأول قد يتحول إلى الثاني والعكس بالعكس.

لقد أشرنا سابقاً إلى أن الفكر هو الذي يضع القيود على الحركة وعالم المادة. فهي مصطنعة لا توجد في المادة ذاتها. والفكر إذ يحاول بتصوير ظواهر الطبيعة فهو يفعل هذا بشكل تقريبي. وهذا يسري على علم الرياضيات أيضاً بالرغم من أن الكثير من الفلاسفة يعتبرونه علماً قطعياً مطلقاً. فلنأخذ الخط المستقيم مثلاً: هل يوجد فعلاً في الطبيعة خط مستقيم عديم التعرجات بشكل مطلق؟ أن الخط المستقيم الذي نتصوره لا يعدو أن يكون صورة تقريبية للتعرجات، فنحن نرسم خطاً مستقيماً على الورق لكي نمثل شارعاً مستقيماً مثلاً، وفي واقع الأمر لا الشارع ولا الخط الذي رسمناه مستقيمان فعلاً. فحتى الخط على الورقة شديد التعرج إذا ما نظرنا إليه بالمهجر الذي يرينا دقائق الكاربون المتناثرة والتي سطرناها بالقلم على الورق. فأين هو خطنا المستقيم إذا؟ أن الذهن لجأ إليه لكي يعبر بصورة تقريبية ونسبية عن العالم المادي. أليست المقولة الجدلية في هذه الحالة بأن الخط مستقيم ومتعرج في آن واحد تعبير صحيح عن واقع الأمر؟. أن من يضع حواجز لا تخترق على ظواهر الطبيعة يتخيلها في ذهنه فقط كأسلوب تقريبي ونسبي لواقع الأمور. فلا توجد مثل هذه الحواجز في الطبيعة.

أين هو هذا الحاجز بين عالمي الحيوان والنبات عندما نأتي لدراسة الكائنات التي هي أشبه بالحيوانات وأشبه بالنباتات في آن واحد وتشكل حلقة وصل بين العالمين؟ وفي الرياضات هل يوجد حاجز لا يخترق بين الدائرة والخط المستقيم؟ أن الرياضيين يلجئون إلى تمثيل الدائرة بعدد لامتناهي من الخطوط المستقيمة مستخدمين التفاضل والتكامل لأحكام قبضتهم على الانحناءات والأشكال الدائرية.

أن المنطق الجدلي يرى بأن المادة في حركة دائمة وبأن لها أشكال لا متناهية ودراسة هذه الأشكال على أساس اكتشاف القوانين التي تحكمها هو العلم وتفرعاته المختلفة، فلكل شكل من أشكال الحركة خواصه ومظاهره. وحتى هذا المنطق الجدلي غير معزول عن نقيضه المنطق الميتافيزيقي!

فالفكر الجدلي، بسبب القيود التاريخية وغيرها المفروضة على الفكر والممارسة، ينزع في الاتجاه نحو الميتافيزيقية والتحول إلى نقيضه. فعندما يلجأ الفكر إلى تجميد الحركة ويعتبر بعض المتغيرات ثوابت من أجل دراسة جانب معين من ظاهرة فهو قد ينزع نحو الميتافيزيقية ولكنه عندما يبدأ بربط هذا الجانب بالجوانب الأخرى ويطلق العنان عن الثوابت واحدة بعد الأخرى فهو يحاول كسر الميتافيزيقيا وفهم الواقع بمتناقضاته وحركته الشمولية وجوانبه المتعددة. ولهذا أيضاً ترفض المادية الجدلية أن تكون استنتاجاتها المحددة مطلقة أبدية، فهي تفتش دائماً عن جوانب ومتغيرات جديدة لإغناء أو تعديل هذه الاستنتاجات.

أن الميتافيزيقيا من وجهة نظر الكاتب تقر بالتطور في الحياة والطبيعة والعلوم وبحركة المادة ولكن ليس على أساس التناقضات في عالم المادة والفكر بل ترى أن هذه التطورات تغيرات كمية فقط وأن قوانين الحركة لا تشمل دنيا الفكر والمعرفة “فالحقيقة أو المعرفة لا يوجد فيها، ولا يمكن أن يوجد فيها، تطور بمعناه الفلسفي الدقيق…”(44) ويقول الكاتب:

“أما أن تاريخ المعارف والعلوم الإنسانية زاخر بتقدم العلم وتكامله في شتى الميادين، ومختلف أبواب الحياة والتجربة، فهذا ما لا يختلف فيه اثنان ولكن هذا التطور العلمي ليس من ألوان الحركة بمفهومها الفلسفي، الذي تحاوله الماركسية بل لا يعدو أن يكون تقلصاً كمياً في الأخطاء، وزيادة كمية في الحقائق.”(45)

ولا شك أن المادية الجدلية ترى بأن التطور يتم كمياً ونوعياً وأن التطور الكمي يتحول إلى تطور نوعي. وهذا أحد جوانب الجدلية العديدة التي يستعرض عناصرها لينين على النحو الآتي:

“وربما يستطيع المرء أن يعرض هذه العناصر بشكل تفصيلي أكبر كالآتي:

موضوعية الدراسة (ليس الأمثلة أو الاختلافات ولكن الشيء بذاته).

المجموع الشامل للعلاقات المتعددة للشيء في ذاته مع الأشياء الأخرى.

تطور هذا الشيء (الظاهرة)، بالتوالي. حركته هو وحياته هو.

التناقض الداخلي لميول (وجوانب) هذا الشيء.

الشيء (الظاهرة، الخ) كمجموع وحدة الأضداد.

الصراع، المنكشف بالتوالي لهذه الأضداد، المجهودات المتناقضة.

وحدة التحليل والتجميع – تكسر الأجزاء المختلفة

ورمة ومجموع هذه الأجزاء.

علاقات كل شيء (ظاهرة، الخ) ليست متعددة فحسب بل عامة وكلية. كل شيء (ظاهرة، محلية، الخ) مرتبط بكل شيء آخر.

ليس فقط وحدة الأضداد، ولكن انتقالات كل تحديد ونوعية وصفة وجانب وخاصية إلى كل ضد آخر (إلى ضده).

العملية اللامتناهية في اكتشاف جوانب وعلاقات، الخ، جديدة.

العملية اللامتناهية لتعميق معرفة الإنسان بالشيء وبالظاهرة وبالعملية، الخ، من ظاهر الشيء إلى جوهره ومن جوهر أقل عمقاً إلى جوهر أكثر عمقا.

من التعايش إلى العلية ومن شكل واحد للارتباط والاعتماد المتبادل إلى شكل آخر، شكل أكثر عمقاً وعمومية.

الإعادة، في مرحلة أعلى، لخواص وصفات معينة في مرحلة أوطى .

العودة الظاهرية إلى القديم (نقض النقيض).

الصراع بين المضمون والشكل وبالعكس. إزاحة الشكل وتحول المضمون.

انتقال الكمية إلى النوعية والعكس وبالعكس، (15 و 16 هي أمثلة لـ 9).

وباختصار، بالإمكان تعريف الجدلية بأنها نظرية وحدة الضدين. وهذا يجسد جوهر الجدلية، ولكنه بحاجة إلى تفسيرات وتطوير.”(46)

ومن المهم ملاحظة أن المادية الجدلية ليست طريقة في التحليل أو نظرة إلى العالم فحسب بل هي قبل كل شيء نمط وأسلوب تطور الأشياء في الطبيعة والمجتمعات ذاتها. فالجدلية ليست فنا مبتدعا أو اختراعاً فوقياً بل هي نظرية فهم وتفسير الأمور على ضوء أن الأمور نفسها تتطور بطريقة جدلية.

وعالم الأفكار كنتاج للطبيعة والمجتمعات يتطور بصورة جدلية أيضاً. فلكل فكر ومدرسة واتجاه علاقات وارتباطات متشعبة بالأفكار والمدارس الأخرى وبعالم المادة والمجتمعات والطبيعة، ففكرة أن الشمس تدور حول الأرض توصل إليها الإنسان واعتقد بها لمئات السنين لأن ظاهر الأمر دله إلى عقم وسخف الفكرة الأولى. والكاتب يستفسر عن ما تعنيه الماركسية بتطور الفكر فيقول:

“ماذا تعني الماركسية بتطور المفهوم الذهني أو الحقيقة ديالكتيكيا طبقاً لتطور الواقع؟ فإن كانت تعني بذلك أن نفس مفهومنا العلمي عن (اليورانيوم)، يتطور ديالكتيكيا وطبيعياً، تبعاً لتطور اليورانيوم نفسه، فيشع أشعته الخاصة، ويتحول في نهاية المطاف إلى رصاص. فهذا أقرب إلى حديث الظروف والفكاهة، منه إلى الحديث الفلسفي المعقول.”(47)

ويتسائل الكاتب أيضاً فيما إذا كانت الماركسية ترى بأن المثالية والميتافيزقية هي أيضاً نتاج للطبيعة والمجتمعات مثلها مثل المادية الجدلية. والماركسية تجيب بنعم. فالفكر المثالي واللاإرادي مثلاً ليسا بمعزل عن ظواهر الطبيعة وتطور المجتمعات. أن الفكر المثالي تطور بعد آلاف السنين من استعباد الطبيعة للإنسان فلم يكن هناك ملجأ للفكر الإنساني غير استسلامه ولجوئه إلى عالم خارج الطبيعة، عالم يجد فيه الإنسان ضالته وحلوله وسعادته. فالاستسلام للطبيعة وصعوباتها القاهرة يعني العبودية الطوعية والأبدية لها. والطقوس الدينية انتشرت على مدى آلاف السنين وفي كل المجتمعات وكانت (وما زالت في كثير الأحيان) دفاعاً عن النفس أمام جبروت الطبيعة وقوتها الساحقة. ففي مستوى الفكر جابه الإنسان جبروت الطبيعة بجبروت دماغه وأفكاره المثالية.

ولكن الإنسان عملي في نهاية الأمر. فإذا جاء الجفاف وفشل طقس ديني في جلب المطر، فما هو الحل؟ الموت أم التفتيش عن الماء والخضراء في مكان آخر ربما يبعد مسافات شاسعة؟ إذا احتجت قطع الأشياء فاكتشف واخترع الآلات الحادة. إذا أردت التحرك الأسرع فقلّد الدحرجة بصنع العجلة. إذا أردت أن لا تموت جوعاً فأصطد حيواناً كما تصطاد الحيوانات الأخرى بعضها البعض أو أزرع البذرة كما زرعتها الطبيعة برياحها في مكان آخر. إذا عطشت فأحفر بئراً علك تجد ماء كالذي شاهدته يوماً يتدفق من ينبوع في يوم من الأيام. وإذا أردت أن لا تعيش عبداً أبد الدهر فثر على ما لك العبيد وأطلب الحرية بلسانك وبيدك.

وتراكمت الحلول. تجابهه مشكلة هل ينظر إلى السماء أم إلى يديه ويتذكر استنتاجاته التي تصول إليها بصنع يديه؟ فبدأ ينظر إلى الحل في يديه وفي أفكاره العملية ويغض النظر شيئاً فشيئاً عن السماء والآلهة (كثيراً منها صنعها بيديه أيضاً!). وهكذا تفتق ذهنه عن حيلة بعد أخرى. وهكذا أمارس الإنسان الفكر المادي حتى قبل أن يصيغه بأفكار مقننة. فلنسرع بعض الشيء. هل يرضى البشر المظلومون أن يشتروا صكوك الغفران أبد الدهر من الكنائس الأوربية علّهم يجدون مأوى لهم في جنة في السماء؟ ما كان لهم في نهاية الأمر إلاّ أن يرفضونها

ويفتشوا عن الجنة في الأرض.

وما بال اللاإراديين؟ بعضهم ينكر الحقيقة الموضوعية بشكل أو بآخر وبعضهم يقر بوجودها بشكل مستقل عن الذهن حالهم كحال الماديين. ولكنهم يؤكدون بأن الذهن أعجز من أن يفهم المادة في ذاتها. فهناك الفكر وهناك المادة. فأقاموا هوة يستحيل عبورها بين عالمي المادة والأفكار. وكما استعان الماديون بالعلم والاختراعات ليثبتوا صحة نظرياتهم شرب اللاإراديون من نفس الينبوع وأشتد ساعدهم يف القرن التاسع عشر والعشرين. فالاختراعات والعلوم الجديدة عصفت بمئات النظريات وما يسمى بالبديهيات العلمية واجتثت بعضها من جذورها. وقال اللاإراديون: إذا كان حتى العلم الطبيعي وأجهزته معرض للخطأ وحتى السفسطة فكيف للفكر أن يصل إلى المادة في ذاتها ويفهمها. المادة موجودة خارج أحاسيسنا: نعم. أحاسيسنا موجودة: نعم ولكنها لا تستطيع الوصول إلى المادة في ذاتها وقد تكون نتاج ذهننا وليست انعكاساً للواقع الموضوعي. وتقوت الأفكار اللاإرادية هذه وأتجه بعضها كاملاً إلى المثالية ليس بين الفلاسفة فحسب بل بين الكثير من العلماء الطبيعيين أنفسهم. وجامعات الغرب اليوم تزخر بأساتذة علم الاجتماع والآداب اللاإراديين.

أما الماركسيون (بدءا بماركس وانجلز) فقد وجدوا في الاختراعات والاكتشافات الجديدة خير سند للمادية ولكن بشكلها الجدلي وليس الميكانيكي الجامد أو الميتافيزيقي. فإذا كانت الطبيعة والمجتمعات تتطور بشكل جدلي فلم لا يتطور الفكر الذي هو نتاجها بطريقة جدلية أيضاً. فإذا كانت الطبيعة والمجتمعات غنية بمتناقضاتها وظواهرها فكذلك الأفكار والعلم. وكما قادت التطورات الكبرى في الفيزياء والكيمياء ودراسة تاريخ المجتمعات إلى الشك بالمادية والتوجه نحو اللاإرادية والمثالية مرة أخرى، فهي قادت أيضاً إلى تعميق وإغناء المحتوى الجدلي للمادية. واستعان لينين بهذه الاكتشافات والتطورات لإغناء وتطوير المفهوم الجدلي للمادية في العديد من مؤلفاته وخاصة (المادية ومذهب النقد التجريبي)، مثل ما فع قبله انجلز في مؤلفاته (ديالكبيك الطبيعة) و(ضد دوهرنغ) و(أصل العائلة).

وكما قادت النظريات النسبية إلى نبذ إمكانية معرفة الواقع الموضوعي وإلى الشك المطلق قادت لينين إلى شرح مفهوم الحقيقة النسبية والحقيقية المطلقة على أساس المادية الجدلية. وأشار إلى أن الاعتراف بالواقع الموضوعي المستقل عن الذهن يقود بشكل أو بآخر إلى الاعتراف بوجود الحقيقة المطلقة التي

هي ذاتها الواقع الموضوعي الذي يحاول الإنسان الوصول إليه واحتيازه. فالحقائق التي يتوصل إليها الأفراد نسبية ولكن الذهن البشري بمجموعه وتعاقب أجياله لا نهاية لقدرته على التوصل إلى مختلف جوانب الحقيقة الموضوعية.

ويقول كتاب “فلسفتنا”:

“فالديالكتيك الذي يراد إجراءه على الحقائق والمعارف البشرية، ينطوي على تناقض فاضح وحكم صريح بإعدام نفسه في كلا الحالتين. فهو إذا أعتبر حقيقة مطلقة انتقضت قواعده وإذا أعتبر حقيقة نسبية خاضعة للتطور والحركة بمقتضى تناقضاتها الداخلية، فسوف تتغير هذه الحقيقة ويزول المنطق الديالكتيكي..”(48)

وليس في هذا أي شك! فالماركسية لا ترى في المادية الجدلية قمة أبدية لكل ما سيتوصل إليه الفكر الإنساني فهي أيضاً قابلة للتطوير والتغيير وحتى النقض في حالة اكتشاف نظرية جديدة تفسر الواقع الموضوعي بطريقة أعمق وأكثر شمولاً. وهذا هو أحد أسرار حيويتها وانتصاراتها وتغلغلها في جميع حقول العلم سواء أقربها بعض العلماء أو لم يقروا. فهي تناقض الجمود والتكلس الذهني وتقر بأن الحياة نفسها بكل تفاصيلها اللامتناهية أغنى من أية نظرية تفسر مظاهر الوجود والكون.

فإذا توجه الفرد أو الفكر نحو الواقع المادي ودرس ظواهره وارتباطات هذه الظواهر وتفاعلاتها ومتناقضاتها وأقام على ضوء كل هذا نظرية تفسر وتعالج هذه الحقائق فهو يستخدم ما تسميه الماركسية بالطريقة المادية الجدلية. والماركسية لا تدعي اختراعها بل تقر بوجودها وترى في استيعابها وتطبيقها فائدة كبرى للوعي الإنساني وفهمه للواقع. وإذا ما توفر المنطلق الثوري يستخدم هذا الوعي لتغيير الواقع لصالح الطبقة العاملة والشعوب المضطهدة.

وبقي أن أقول بأن الاستنتاجات السياسية للشهيد محمد باقر الصدر سيتم التطرق إليها في الجزء الثاني من هذا المقال والذي ارجوا أن يظهر في العدد القادم من “الغد”.

الهوامش

(1) محمد باقر الصدر – فلسفتنا: دراسة موضوعية في معترك الصراع الفكري القائم بين مختلف التيارات الفلسفية وخاصة الفلسفة الإسلامية والمادية الديالكتيكية (الماركسية) – الطبعة العاشرة – دار المعارف للمطبوعات بيروت.

(2) فلسفتنا – ص9

(3) نفس المصدر – ص12 – 13

(4) نفس المصدر – ص53

(5) نفس المصدر – ص58

(6) نفس المصدر – ص60

(7) نفس المصدر – ص61

(8) نفس المصدر – ص63

(9) نفس المصدر – ص231

(10) نفس المصدر – ص64 – 66

(11) نفس المصدر – ص67

(12) نفس المصدر – ص66

(13) نفس المصدر – ص68 – 69

(14) نفس المصدر – ص69

(15) لينين – الدفاتر الفلسفية الأعمال الكاملة – مجلد 38 ص 228 الطبعة الثالثة بالإنجليزية موسكو

(16) فلسفتنا – ص70

(17) فلسفتنا – ص72

(18) فلسفتنا – ص72 – 73

(19) لينين الدفاتر الفلسفية ص 254

(20) لينين الدفاتر الفلسفية ص 223

(21) فلسفتنا – ص73

(22) فلسفتنا – ص75

(23) لينين – المادية ومذهب النقد التجريبي – ص123 – الطبعة الأولى بالإنجليزية – بكين

(24) فلسفتنا – ص 89

(25) فلسفتنا – ص 89

(26) فلسفتنا – ص 358 – 359

(27) لينين – الدفاتر الفلسفية ص 190

(28) فلسفتنا – ص74

(29) فلسفتنا – ص92

(30) فلسفتنا – ص92

(31) انجلز – ضد دوهرنغ – ص432 الطبعة الأولى بالإنجليزية – بكين

(32) ماركس وانجلز – اطروحات حول فيورباخ – الأعمال الكاملة المجلد 5 ص3 – الطبعة الأولى – لندن – موسكو

(33) لينين – المادية ومذهب النقد التجريبي – ص 161

(34) لينين الدفاتر الفلسفية ص 259 – 260

(35) فلسفتنا – ص 93

(36) فلسفتنا – ص 202

(37) فلسفتنا – ص 137

(38) فلسفتنا – ص 258 – 260

(39) فلسفتنا – ص 192

(40) فلسفتنا – ص 259 – 260

(41) فلسفتنا – ص 284

(42) فلسفتنا – ص 261

(43) فلسفتنا – ص 256

(44) فلسفتنا – ص 240

(45) فلسفتنا – ص 248

(46) لينين – الدفاتر الفلسفية – ص222 – 223

(47) فلسفتنا – ص 442

(48) فلسفتنا – ص 194 – 195