فلسفة الدين من منظور الشهيد الصدر

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

في هذه الدراسة سعينا إلى تدوين آراء المفكر الشهيد السيد محمّد باقر الصدر حول المطلوب من الدين. ومن أجل ذلك، قمنا بدراسة آرائه في مجالات مثل: حاجة الإنسان إلى الدين، وحاجة الإنسان إلى الحكومة الدينية، والثابت والمتغير، وعلاقة العقل بالدين و…، ومن خلال تحليل مناسب، نصل إلى ما تصوره ذهنياً، وأورده على لسانه في مجال المطلوب (المتوقع) من الدين. وقد راجعنا للغرض المذكور مؤلفاته التالية:

1 – اقتصادنا 2 – النبوّة الخاتمة 3 – بحث حول الولاية 4 – موجز في أصول الدين (منشور في مقدمة كتاب الفتاوى الواضحة) 5 – المدرسة الاسلامية 6 – السنن التاريخية في القرآن 7 – المحنة 8 – بحوث في علم الأصول، ج 4 و 97 – الإسلام يقود الحياة 10 – بحث في المرجعية الصالحة والمرجعية الموضوعية (الذي جاء في مقدمة مباحث الأصول). 11 – المعالم الجديدة

تعريف الدين

لم تكن نظرة الشهيد الصدر للدين من النوع العلمي والأكاديمي وكما هو مطروح في ميادين المعرفة الدينية الحديثة. لذا فهو لا يعرّف الدين بأنه ظاهرة اجتماعية ونفسية وثقافية، بل يحاول تقديم تعبير وفهم منظم وقابل للدفاع – بشكل عقلاني – عن أصول وأهداف وأحكام دين الإسلام،

وفي هذا الصدد لا نجده يقدم للدين تعريفاً بالمعنى الأخص، وكلّ ما نجده هنا وهناك من مؤلفاته، أن للدين وجهين، أحدهما تكويني والآخر تشريعي، وأن للدين جذوراً في فطرة الإنسان، ولهذا فهو مجبول على قبوله.

لهذا فالدين عند السيد الشهيد سنة تاريخية، تنبع من باطن الإنسان وفطرته التي توفر له الأرضية المناسبة لقبول الشريعة التي تعدّ الصورة القانونية للدين، والتي جاءت من قبل اللّه تعالى، الذي أنطق الفطرة الدينية للإنسان، لذا فقد ربطت الشريعة أساسها بالمعنويات الموجودة في الفطرة البشرية، ودونت أصولها العقائدية التي تعدّ لغة الفطرة مع الأخلاق، وقدمت نظاماً كاملاً يشمل جميع جوانب الحياة الإنسانية على أساس تلك الأصول المقترنة بالمعنويات والأخلاق. ولهذا يمكن طرح الدين على نحوين: باعتباره شريعة منزلة من قبل اللّه، أو باعتباره سنة تاريخية وقانوناً مصدره تركيبة الإنسان وفطرته(1). كما أن الدين تعبير عن علاقة الإنسان بخالقه وعلاقته بالكون، فالدين إذن إطار شامل لكلّ نظام الحياة..(2). (وهو عقيدة معنوية وخلقية، ينبثق عنها نظام كامل للإنسانية، يرسم لها شوطها الواضح المحدّد، ويضع لها هدفاً أعلى في ذلك الشوط ويعرفها على مكاسبها منه)(3).

إن ما نفهمه من هذه العبارات، هو أن الدين وباعتباره شريعة، عبارة عن مجموعة من القوانين والأصول العقائدية المنسجمة مع التكوين الذي هو البنية الوجودية للإنسان، وعلى حدّ تعبير الشهيد الصدر، يمكن القول: إن للدين – وكما ذكرنا – وجهة تكوينية وهي جزء من الواقعيات غير الإنشائية، ووجهة تشريعية مصدرها الإرادة التشريعية للشارع. وإذا ما تغافل الإنسان عن الشريعة التي بها يؤمن متطلباته الضرورية يكون قد ألقى بنفسه في الهاوية.

ويحتمل أن يكون قصد السيد الشهيد من الوجهة التكوينية للدين هو الصورة الجامعة للتفسيرين: (التجربة العرفانية والشعور الديني) المرتبطين بالوجهة التشريعية التي من خلالها يستطيع الإنسان الإجابة عن التساؤلات الملحة التي تواجهه والتي لا يمكن الإجابة عنها إلاّ من خلال الشريعة، فعندئذ يستطيع أن يشيد نظاماً كاملاً وجامعاً على أساس المعنويات.

ومن خلال هذه النظرة، نجد تأكيداً على أن جذور الدين تمتد في البنية الوجودية للإنسان، أما حول الجذور الفطرية للدين، فهو ما لم التمسه بوضوح من خلال قراءتي لمؤلفات الشهيد الصدر، ويمكن تفسيره بالاتجاه الإنساني نحو المعنويات، أو بما يعبر عنه بعض علماء النفس وفلاسفة الدين بالشعور الديني أو التجارب العرفانية ، وأيضاً لكن تفسيره على أن الشريعة هي المصدر الذي يؤمّن المتطلبات الضرورية للإنسان، فإذا ما تغافل الإنسان عن تلك المتطلبات، يكون قد ألقى بنفسه في الهاوية.

وعلى هذا يكون الشاخص في الدين، هو الاتجاه المعنوي وإقامة نظام في الحياة على أساس أفقه الواسع والمتعدد الأبعاد والجوانب. وأما فيما يتعلق بمعنى جامعية وشمولية الإسلام لمختلف جوانب الحياة وأبعادها، ففي الوهلة الأولى قد نفهم من كلام الشهيد الصدر أن الدين كفيل بتنظيم جميع جوانب الحياة الإنسانية، كالبرمجة وتحديد الأهداف والوسائل و… الخ، لكن، ومن خلال التدقيق في سائر مؤلفاته، نجد أنه يقصد: أن البشر لما كانوا عاجزين عن تحديد مصالحهم بمفردهم من دون الإرشاد الغيبي لهم عن طريق (الوحي)، وأنهم بحاجة لدور الشريعة في هندسة النظام الفكري والعملي، ويكون ذلك من خلال الزخم والدافع المعرفي الذي تمنحه لهم، والذي يضاف إلى سائر منجزاتهم المعرفية، فتصحبها أحياناً وتهذبها، وتكملها أحياناً أخرى. وهذا معنى شمول الدين للحياة، بمعنى أن الدين يمتلك نظرة عامة لجميع جوانب الحياة الإنسانية، والتي تعدّ الإطار العام لجميع الجهود والمساعي البشرية التي يقوم بتقييمها على أساس مصلحة الإنسان وسعادته(4).

حاجة الإنسان إلى الدين

في هذا القسم من الدراسة سنتناول موضوع حاجة الإنسان إلى الدين من منظار الشهيد الصدر. ومن خلال هذه الحاجة يستدل الشهيد الصدر على ضرورة الدين والحكومة والقيادة الدينية. أما الغرض الأساس الذي يستند إليه الشهيد الصدر في حاجة الإنسان إلى الدين، فهو عجزه في الفهم (الإدراك) والإرادة. فالإنسان عاجز عن تشخيص مصالحه بشكل جيد، وبنحو مطلوب (على مستوى الضرورة) من الناحية الادراكية. إضافةً إلى أنه – أي الإنسان – يعاني من مشكلة عملية، وهي، وجود اتجاه داخلي في ذات الإنسان – من دون الوحي والعقيدة الدينية – لا ينسجم مع مكانته الاجتماعية. وهذا الاتجاه والميل يحرمه من بلوغ أفق أوسع وأسمى.

وبشكل مجمل يرى الشهيد الصدر أن حاجة الإنسان إلى الدين تظهر في الموارد التالية:

1 – عدم قدرة الإنسان في حلّ التعارض الموجود بين مصالحه الشخصية ومصالح المجتمع.

2 – عدم وعي الإنسان لجميع قدراته الذاتية، فلو ترك حرّاً لوحده سيكون مصيره الوقوع في هاوية الشهوات الحيوانية.

3 – الإنسان عاجز لوحده عن تشخيص النظام الاجتماعي الأصلح ، وحتى لو قدر على إدراكه وفهمه، فهو عاجز عن تطبيقه.

ومن خلال هذه الأصول، يصل الشهيد الصدر إلى النتائج التالية:

الأولى: يحتاج الإنسان إلى الدين باعتباره دليلاً ومرشداً أميناً وواعياً على طريق الكمال المطلق، وآفاق عالم المعاني.

الثانية: يحتاج الإنسان إلى الدين في تشخيص النظام الاجتماعي الأصلح وتطبيقه.

الثالثة: الإنسان بحاجة إلى الحكومة والقيادة الإسلامية بنحو خاص.

وعلى أساس ما تقدم، سنتعرض لأقوال الشهيد الصدر بشكل أوسع في هذا المجال، ثم نقوم بدراستها:

  1 – الدين وحلّ مسألة التعارض بين المصلحة الشخصية والمصالح الاجتماعية:

  يميل الإنسان وبشكل طبيعي إلى تقديم مصالحه الشخصية وهذا ما لا ينسجم مع المصالح الاجتماعية أو الإنسانية بشكل عام. وفي هذا المجال ليس باستطاعة الحكومة ولا العلم حلّ هذا التعارض.

فالحكومة لا تستطيع حلّ ذلك، لأنها محكومة أيضاً بتقديم مصالح الفئة الحاكمة، وفي كونها تؤثر مصلحتها التي تنشأ من حب الذات على مصالح الجماعة. وأما عدم إمكانية حلّها عن طريق العلم، فسببه أن العلم يمنح الإنسان المعرفة والوعي بالحقائق التي تحكم الطبيعة والعلاقات الاجتماعية، دون إعطائه القوة الأخلاقية التي يسيطر بها على مصالحه الذاتية. فمجرد فهم العلاقة بين الرأسمالية وتقليل أجور العمال إلى مستوى تأمين الحدّ الأدنى من ضروريات حياتهم، لا ينتج عنه ما يعالج تلك الظاهرة المرضية أو تدمير النظام الرأسمالي، باعتبار أن العلم يقدم صورة مجردة عن الواقع فقط. وأن التجربة والتدبير البشري في حلّ هذه المعضلة وأمثالها محكومة في النهاية بالدوافع الذاتية والفردية، التي تعدّ بذاتها مصدراً للمشكلة الاجتماعية(5).

وعلى أساس هذا الدليل، يكون الدين الحلّ الوحيد لهذه المعضلة الاجتماعية، لأن حلّ التعارض بين المصالح الذاتية والاجتماعية يحتاج إلى نقطة اشتراك تجمع بين الدوافع الذاتية من جهة والمصلحة الاجتماعية والعامة من جهة أخرى، والدين هو العامل الوحيد الذي يستطيع بلورة المصالح الفردية والذاتية في إطار المصلحة الاجتماعية العامة. فالدين وبالاستناد إلى فردية الإنسان (لا نوعيته التي تعدّ مسألة انتزاعية) يفهم أن للحياة وجهاً خالداً، وأن غض النظر عن المصالح الفردية في سبيل رضا اللّه تعالى، تكون نتيجته رضا اللّه ونعمه الخالدة. وبهذا الشكل يقدم الدين فهماً آخر عن النفع والضرر، هو أسمى من مستوى المفهوم المادي والتجاري السائد. وعلى هذا الأساس، يكون الأهم هو اللذّة وقبول الضرر من أجل مصلحة المجتمع والنفع الذي سيلحق بالإنسان في حياة أسمى وأفضل. وهكذا تندمج مصالح المجتمع بمصلحة الفرد(6).

وفي ضوء هذا الدليل، يكون منتهى ما نتوقعه من الدين هو تقديم مبرر عقلاني لسعي الإنسان في طلب العلى ضمن مصالح الجماعة. لكنه لا يمكن الاستناد من خلال هذه الأدلة على ضرورة شرعية القوانين أو لزوم الحكومة الدينية. لهذا يمكن تسجيل ملاحظتين على هذا التفسير، وهما:

أولاً: إذا كان الاعتقاد بأن (التغاضي) عن المصالح الآنية من أجل الحياة في عالم آخر هو الحلّ لمشكلة التعارض، فما هي ضرورة تحويل منافع هذا التغاضي أيضاً إلى ذلك العالم؟ بل يمكن حلّه من خلال تفسير آخر أيضاً، وهو أن تقديم المصلحة الفردية يؤدي إلى فقدان الأمن والهدوء العام، والى انقراض المجتمع وظهور مشكلة اجتماعية، تطال أضرارها بالنهاية الفرد نفسه. وعلى هذا، يلزمه القناعة بحدّ معين من النفع، لتنتظم أمور المجتمع وتحلّ مشكلته هو أيضاً، باعتبار أن اضطراب النظام الاجتماعي واختلال العدل، يعرضه هو أيضاً إلى مشكلة، لو أصبح في يوم من الأيام شخصاً ضعيفاً، فسيجري عليه ما جرى على الآخرين. وعلى هذا، يكون من الأفضل له قبول الضوابط والقوانين الاجتماعية وكذلك المؤسسات التنفيذية، وأن يدخل ضمن شبكة من العقود المتقابلة بين الأفراد، لكي يأمن جانب الآخرين، ومن الطبيعي أن تكون مثل هذه الأنظمة مبنية على مؤسسات تنفيذية قوية ومقتدرة، تسلب الأشخاص المحكومين إمكانية الزيغ عن تلك العقود أو تخطيها.

ثانياً: يفترض البرهان المذكور، أن الإنسان موجود يحدّد أهدافه ويسعى إليها على أساس المصلحة، وأنه ينظر إلى المصالح الآنية والبعيدة عند اختيار أهدافه، ففيما لو كانت المصالح البعيدة المستقبلية أهم وأكبر من المصالح الآنية، فإنه يتغاضى عن الأخيرة لصالح الأولى. لكنه لم يثبت – حتى عند عامة المتدينين – تقديم المصالح البعيدة على المصالح الآنية، فكثير من البشر يخاطرون بتقديم مصالحهم الآنية على تلك المصالح البعيدة والمستقبلية، كما أن قليل من الناس يمتلك تربية دينية وإيماناً قوياً*، إلاّ أن نقول بأن المجتمع الذي يطمح الدين لتأسيسه، يبلغ مستوى من الإيمان والاعتقاد الديني لا نراه في المجتمعات المتدينة الحالية، كما أن الإنسان لا يتغاضى عن مصالحه إلاّ بوجود إيمان ديني قوي، وفيما عدا ذلك، نجد الناس العاديين يقدمون في أغلب الأحيان مصالحهم الآنية على تلك البعيدة والمستقبلية. ودليل ذلك في عدم وجود فوارق واضحة بين المجتمعات الدينية، مثل مجتمع المسلمين، والمجتمعات غير الدينية، فلا نشاهد في المجتمعات الدينية مراعاة لحقوق الآخرين أكثر من تلك المجتمعات التي تفتقد الصفة الدينية.

  2 – عدم إدراك الإنسان لقدراته وضعفه:

لو ترك الإنسان على حاله من دون مرشدٍ وقائدٍ واعٍ، سيبقى إلى الأبد جاهلاً بقدراته وغير مطلع على مهالكه، وسيكون عرضة للوقوع في الشهوات والانحراف عن مسيرة الخلافة الإلهية التي تعدّ الغرض المقصود من خلقه، ولهذا وضع إليه تبارك وتعالى خطّ الشهادة (الولاية) الذي يعدّ تدخلاً ربوبياً من أجل صيانة الإنسان من الانحراف في خط الخلافة، إلى جانب هذا الأخير. ويبدأ خط الشهادة بالأنبياء عليهم السلام ومن ثم إلى الأئمة المعصومين عليهم السلام حتى يصل في عصر الغيبة إلى فقهاء الإسلام(7).

وهذا القول الأخير يمكن أن يكون أساساً لنظامين:

الأول: حكومة دينية مقتدرة، يتراجع فيها العقل الجمعي للناس أمام القرارات التي يتخذها القائد الديني الصالح، والتي يطلب فيها من الناس الرجوع إلى القائد المصلح في تشخيص المصالح من المفاسد.

الثاني: حكومة دينية أكثر اعتدالاً من الأولى، في عصر الغيبة.

الشهيد الصدر يميل في تفسيره إلى الثانية، لأنه يسعى إلى إعطاء القوانين الوضعية العرفية و العقلائية والى الإشراف العام من قبل الناس باعتبارهم خلائف الباري عزّ وجل في منطقة الفراغ، يسعى إلى إعطاء كلّ ذلك صفة موضوعية ضمن إطار الشريعة. ويرى أن الفقيه الجامع للشرائط معيّن من قبل اللّه للحكم تعييناً نوعياً (أي تعيين المواصفات والشروط والخصوصيات العامة)، أما التعيين الشخصي للفقيه فقد أوكل إلى الأمّة**. وحيث إن الفقيه ليس معصوماً، فهو بحاجة إلى شهيد» وإلى معيار موضوعي آخر، بمعنى ضرورة تدبير طريقة معينة كي يتم الإشراف على سلوكياته بنحو قانوني(8).

3 – ديناميكية الهدف وعدالة القائد:

إضافة إلى ضرورتها الشرعية فإن للدولة الاسلامية ضرورة عقلية أيضاً، لأن التجربة الانسانية أثبتت عدم سير القدرات الانسانية في مجالها الطبيعي دون وجود حكومة دينية، إذ لا يمكن للانسان الوصول إلى ذروة الحضارة والمجد من دونها. في حين أن إقامة الحكومة والدولة الدينية على أساس الإيمان باللّه وصفاته الكمالية، يهيئ للانسان إمكانية التحرك في طريق المدنية والسموّ. كما ان إقامة المجتمع الصالح الذي يتجه نحو العدل، يحتاج إلى قائد ورع وتقي، ومثل هذا الشخص لا يوجد إلاّ من خلال العقيدة والتربية الدينية(9). وهذا الدليل، يتوقع من الدين أمرين:

_________________

(*) لا يمكن إنكار التربية الدينية وتأثيرها على سلوكيات المؤمنين، وأن الهدف من الالتفات إلى هذه القضية في برهان الشهيد الصدر، هو أن الغرض يحصل بالتربية غير الدينية أيضاً.

(**) بعبارة أخرى، لقد حدّد المعصوم «نوع الفقهاء» للولاية على المجتمع، لذلك فالولاية لا تحق لغير الفقيه. لكنه من

الأول: يحتاج الإنسان في حركته التكاملية إلى هدف غير محصور ومقيّد، وهذا لا يكون إلاّ بالإيمان باللّه والسير إليه. لكن المشكلة الموجودة هنا، هي كيفية تصور اختيار الدولة للّه جلّ وعلا وصفاته في أسس سياساتها وأهدافها وبرامجها، ولكي تتضح فاعلية ذلك الهدف في تحرك الدولةالإسلامية والمسلمين، بشكل ملموس.

الثاني: الحاجة إلى قائد تقي وعادل وهذا لا يكون إلاّ بالإيمان والتربية الدينية.

هاتان النقطتان – وعلى الرغم من الفروضات التي يسلم بها على أساسهما – لا تتركان في الأذهان جواباً عما هو المطلوب من الدين؟ سوى أنه سند أخلاقي قوي للدولة، لأنه ومن خلال الهدف الإلهي، يتيسر الكمال الإنساني في مسيرة التكامل والتعالي المعنوي، كما أن القائد العادل يعدّ الضامن في إقامة العدل، فهما لا تبرهنان – مثلاً – على أن جميع برامج الحكومة الدينية مصدرها الدين، أو أن مثل تلك البرامج يتضمنها الدين أساساً.

  4 – تشخيص النظام الاجتماعي الأصلح:

مشكلة الإنسان المعاصر، مشكلة اجتماعية. والإنسان واقف على ذلك وقوفاً تاماً، ويعلم أن النظام الاجتماعي يقع تحت تأثير الإرادة والأعمال الانسانية، وأن القوانين التي تحكمه ليست خارجة عن إرادته كما هو الحال بالنسبة للقوانين التي تحكم الطبيعة. وعلى أساس ما تقدم يمكن

الواضح عدم إمكانية ولاية جميع الفقهاء على الناس في آن واحد، لذا وجب أن يكون واحد من الفقهاء في كلّ زمن هو الولي، وذلك باختيار الأمة وانتخابها.

تحديد مشكلات الإنسان المعاصر في: ما هو النظام الأصلح؟ ما الضمان في أن ما نراه الأصلح حسب فهمنا، هو الأصلح في الواقع؟ وحتى لو نجحنا في تشخيص النظام الأصلح، فهل سننجح في التطبيق أيضاً؟

وكانت الإجابة عن هذه الأسئلة مختلفة، فالبعض يرى أن الإنسان يستطيع تشخيص الأصلح وتطبيقه من خلال التجربة، وهو ما فعله عملياً وفي هذا الصدد ينقل الشهيد الصدر بعض الآراء وينقدها، كما في التالي:

أ – تجربة الظواهر الطبيعية تختلف عما هي عليه في الظواهر الاجتماعية، والسبب في ذلك يعود إلى:

أولاً: لا يمكن فهم المصالح الاجتماعية بفترة زمنية قصيرة، فهي بحاجة إلى زمن طويل قد يمتد على مدى أجيال، من أجل تشخيص النظام الأصلح.

ثانياً: ولا تكفي هنا التجربة الفردية، بل هناك حاجة إلى تجربة اجتماعية.

ثالثاً: التجربة الاجتماعية تفتقد للموضوعية الموجودة في التجارب الطبيعية، ولا يمكن فصلها عن التأثيرات والدوافع النفسية والاجتماعية و… الخ، ولهذا السبب من الصعب اعتبارها تعبيراً عن الحقيقة، لأنها قد تعمل خلاف ذلك تماماً، بأن تخفي الحقيقة تماشياً مع مصالحها.

ب – فرضنا نجاح الإنسان في تشخيص النظام الأصلح، فما الذي يدفعه إلى التغاضي عن مصالحه الشخصية من أجل مصلحة الجماعة؟ فالإنسان يسعى إلى تشخيص وضمان مصالحه الفردية وليس مصلحة البشرية جمعاء. إضافةً إلى ذلك، لا يمكن للنظام الوضعي الارتقاء بالانسان إلى أسمى مدارج الكمال، لان مثل هذا النظام الاجتماعي تعبير وتجلي لشخصية الإنسان ومرتبته الروحية، لهذا فهو عاجز عن رسم صورة دقيقة عن عالم المعنى والمراتب الانسانية، أو أن يخطط للوصول إلى تلك العوالم السامية(10).

أما الفروضات الأولية التي طرحها الشهيد الصدر في هذا الدليل فهي كالتالي:

1 – يحتاج تشخيص النظام الأصلح إلى فترة زمنية طويلة. ولهذا فإن توكيل مهمة هذا التشخيص إلى البشر يعدّ مخاطرة كبيرة.

2 – الإنسان والعقل الجمعي البشري عاجزان عن تشخيص النظام الأصلح، لأن العقل البشري يقع تحت تأثير الدوافع الفردية وأمثالها في القضايا الاجتماعية، وبهذا الشكل يفتقد للموضوعية اللازمة. وفي هذا الفرض يدعي الشهيد الصدر عجز العقل الجمعي البشري (بجميع الوسائل التي يمتلكها) في تشخيص النظام الأصلح. وعلى أساس ذلك يواجه السؤال الآتي: ما هي قيمة المعرفة البشرية فيما يخص القضايا الاجتماعية؟ وهل للعلوم الاجتماعية القدرة على كشف الحقائق كما هي عليه العلوم الطبيعية؟

ويقدم الشهيد الصدر تقريراً عن السؤال المذكور في البداية، ومن ثم يجيب عن ذلك التساؤل:

هل يمكن للبشر تنظيم حياته الاجتماعية على أساس المعرفة العلمية التي يمتلكها في مجالات متنوعة مثل علم النفس وعلم الاجتماع والتجارب التي اكتسبها؟ فالمعرفة العلمية تمكنت في مجالات أخرى وبالدقة التي تمتاز بها من حلّ الكثير من المشاكل التي واجهت البشر في حياته. وقد أجاب البعض على هذا السؤال بالإيجاب، واستدلوا على أتم وجه، على أساس المعرفة العلمية. وأضافوا أنه يمكن الوصول إلى الطريقة التي يمكن بها إشباع حاجات الإنسان الاجتماعية، بوسائل المعرفة العلمية، لأن تلك الحاجات كسائر الظواهر الوجودية، واقعية ويمكن فهمها ودراستها بالوسائل العلمية والتجريبية.

لكن تجدر الإشارة إلى أن النظام الاجتماعي الذي شيده الأوروبيون، مبنيّ على أسس فلسفية ونظرية وليست علمية، فإحدى آرائهم الأساسية، حقوق الإنسان – مثلاً – وهذه المقولة لا يمكن دراستها بالمعايير العلمية المحدودة. وبديهي فإن العلوم الموجودة مهدت الطريق لإشباع الكثير من حاجات الإنسان، ولكن المشكلة الأساسية هي تحقيق التوازن بين متطلبات وحاجات جميع الأفراد ضمن إطار ونظام معيّن. وهذا ما يحتاج إلى تجربة تاريخية طويلة أوسع من تجربة بعمر فرد أو حتى جيل معيّن.

وعلى هذا الأساس، فالنظام الاجتماعي لا يستند فقط إلى التجارب العلمية، بل يستند أيضاً إلى آراء نظرية وفلسفية حول مكانة الإنسان وموقعه في الحياة وحقوقه. فضلا عن أن المشكلة الاجتماعية المهمة هي في إيجاد توازن بين مصالح الفرد والجماعة، وهي لا يمكن حلّها بالعلوم الموجودة.

ولكي يؤكد عجز المعرفة البشرية في الوصول إلى النظام الاجتماعي الأصلح، يقوم الشهيد الصدر بدراسة المذاهب الاجتماعية البشرية المعاصرة، مثل النظام الماركسي والنظام الرأسمالي، ويستنتج من خلال ذلك عدم قدرة المذاهب الوضعية الموجودة في حلّ المشكلة الانسانية المعاصرة. وعلى سبيل المثال، نراه يشير إلى بعض موارد ضعف النظرية الديمقراطية، بما يلي:

1 – تفقد هذه النظرية إمكانية الدفاع الموثق والمبرهن عن الحياة وحدودها. إذ كيف يمكنها أن تطمئن الإنسان في أن تطبيقها يؤمن له مصالحه، في حين أن للانسان خالقاً هو أعلم وأفضل منه يستطيع برمجة وتنظيم حياته؟

2 – كيف يمكن للديمقراطية (أو أي مذهب وضعي آخر) إغفال هذه المسألة وهو أن تكون هذه الحياة مقدمة لحياة أخرى. في حين ثبوت كونها مقدمة لحياة أخرى، لا بد من أن تنظم بشكل يتناسب وحقيقتها كمقدمة وبما يتلائم ومصالح الإنسان الأبدية(11)؟

3 – الفرض الثالث الذي يطرحه الصدر في الدليل المذكور، هو التعارض الموجود لدى الإنسان بين مصالحه الذاتية والمصلحة العامة. وهذا التعارض هو مصدر المشاكل الاجتماعية، التي لا يستطيع حلّها سوى الدين.

أما المعضلة الحقيقية التي تواجه الشهيد الصدر، فهي في النجاح النسبي الذي استطاعت المجتمعات الغربية تحقيقه في مجال إقامة نظام اجتماعي يقل فيه الاختلاف والعنف والفقر والبطالة، وفي تمكنها من تشييد مؤسسات قانونية واداري فاعلة، تتدارس على الدوام أساليب إصلاح النظام الاجتماعي بمساعدة العقل النقدي. كما أن هذا النظام الاجتماعي الغربي استطاع المحافظة على حقّ جميع الأفراد أمام سلطة الدولة والأثرياء. وفي جواب ذلك يقول الشهيد الصدر: إن المجتمعات الغربية لم تنجح في هذا المجال، ودليله في ذلك النواقص والمساوئ الموجودة في النظام الرأسمالي، التي من أبرزها:

أولاً: تمثل في النظام الرأسمالي الغربي والذي يدافع فيه عن الديمقراطية، هو سلطة الأغلبية على الأقلية. والسؤال الذي يطرحه الشهيد الصدر في هذا المجال، هو: بما أن العقل المتسلط على هذا النظام (أي العقل الذي يقوم باتخاذ القرار على أساس المصالح والمفاسد والذي نعبر عنه بالعقل العملي) هو عقل مادي، لإمكان للقيم المعنوية فيه – وإذا كانت هناك قيم معنوية فهي من دون سند عقائدي – فما الذي يحول دون الأغلبية بما يضرّ الأقلية؟

ثانياً: أن حرية النشاطات الاقتصادية والسياسية للفرد، والثورة الصناعية وتطور النظام الآلي والتجارة الحرّة، أدت بالنهاية ومن الناحية العملية إلى سيطرة فئة محدودة على الأغلبية العظمى من المجتمع. وهذه الفئة الصغيرة ومن خلال ثروتها تستطيع السيطرة على المؤسسات المهمة مثل الصحافة والاذاعة والتلفزة والاحزاب السياسية وهي عملياً الحكومة الحقيقية التي تفرض سلطتها على الجميع. وعلى هذا تكون المساواة في الحقوق السياسية بين المواطنين مجرد خيال فارغ.

محمّد أمين أحمدي