شكل الشهيد السيد محمد باقر الصدر ظاهرة استثنائية وفريدة في مسار الفكر الاسلامي، وظاهرة قدمت الكثير على طريق تأصيل الفكر الديني وتجديد الوعي الاسلامي والانساني، الا ان هذه الظاهرة لم تلق بعد الاهتمام المطلوب من قبل الباحثين والدارسين، وهذا ما يؤسف له، وفي الذكرى العشرين لاستشهاده (رض)، بادرت “العهد” الى حوار السيد “عبد الجبار الرفاعي” رئيس تحرير مجلة “قضايا اسلامية معاصرة”، وأحد المفكرين الاسلاميين الذين عرفوا الشهيد الصدر عن قرب، واشتغلوا على فكره ونتاجاته سنين طويلة، حيث تحدث عن الملامح العامة لفكر الشهيد الصدر وعن الاهمية التي يتسم بها هذا الفكر في اطار الفكر الاسلامي.
واليكم نص الحوار:
بما اننا نعيش في هذه الايام اجواء الذكرى السنوية لاستشهاد الامام محمد باقر الصدر، وبحكم كونكم من الذين عرفوا الشهيد الصدر عن قرب، حبذا لو تحدثوننا وباختصار، عن الملامح العامة لشخصيته العلمية والجهادية والقيادية؟
الامام الشهيد الصدر شخصية متعددة الابعاد، وبكل تأكيد هي شخصية استثنائية في دنيا الاسلام في العصر الحديث، لجهة انسجام وتوازن سائر ابعادها، فضلا عن نبوغها وعبقريتها المميزة، فقد تجد شخصية علمية تتميز بنبوغ وموهبة عقلية باهرة، غير ان مثل هذا الموهوب النابغة ربما لا يتمتع بقدرة موازية على كسب ثقة الجماهير والاهتمام بآلامهم وحمل همومهم ومعاناتهم اليومية، وقد تجد شخصية كاريزمية جماهيرية غير انها لا تتسم بنبوغ وعبقرية، او لا تعيش تجربة روحية عبادية غنية.. وهكذا، لكن الشهيد الصدر استطاع ان يمثل النموذج في عباداته وتجربته الروحية، اذ كان مثابرا على اذكاره وادعيته واوراده وزياراته بانتظام، فمثلا ظل يواظب لسنوات طويلة على زيارة الامام الحسين (ع) ليلة الجمعة، لم يتأخر يوما واحدا عن زيارة جده امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) وظل يحرص على اداء الطقوس الشعبية للزيارة والدعاء مع الناس، من دون ان يحول بينهم وبينه حجاب، وخاصة انه يتسم بشفافية مدهشة تثير في مشاعر من يقترب منه روح الغبطة والانشراح، حيث يمتلك قلوب الناس لمجرد اللقاء به ومحادثته. وهذا هو سر تدفق اعداد من الطلبة الجامعيين لزيارته في النجف الاشرف باستمرار. اتذكر في احدى الممرات التي جئت الى النجف بمعية احد الطلبة الجامعيين، من اخواننا السنة قادما من بغداد سنة 1973، وكان هذا الاخ طالما اثار مواقف خلافية في سكن الطلبة الجامعيين، فاقترحت عليه ان يؤجل مثل هذه الموضوعات لننشغل معا (سنّة وشيعة) في مواجهة خصوم الاسلام التاريخيين، ورجوته ان نزور الحوزة العلمية ونلتقي الشهيد الصدر، فوافق مشترطا ان يثير كل ما بذهنه من اشكالات ومفاهيم بشأن معتقدات الشيعة، وفي الساعة العاشرة صباحا كنا في ضيافة الشهيد الصدر، فقدمت له الاخ قائلا: سيدنا، الاخ فلان من اخواننا السنة في ذهنه استفهامات يود طرحها عليكم، فانبسطت اساريره ورحب كثيرا بالاخ واجلسه بجواره، واستهل الحديث كما لو كان زميله منذ سنوات طويلة، واستغرق في حديث ودي مفعم بالعواطف الاسلامية الجياشة، وبدأ يثني على ظاهرة تنامي الوعي الاسلامي في الجامعات، وما يمكن ان يتحمله طلبة الجامعات من مهام ومسؤوليات في ترسيخ الهوية الاسلامية واشاعة القيم الفاضلة. ثم اعرب الشهيد الصدر عن غبطته وسروره بهذا اللقاء، واستعداده للاجابة عن أي سؤال يبديه الاخ.
فبادر الاخ بسؤال الشهيد الصدر عن معنى العصمة التي يمنحها الشيعة للائمة وتوالت اسئلته الاخرى بالتدريج، وكان كلما سأل الشهيد الصدر اجابه بأسلوب تحليلي وعقلي يلامس الوجدان، ويستند الى معطيات التاريخ والواقع، ويتجنب الاستغراق في عوالم ميتافيزيقية بعيدة، حتى استغرق الحديث اكثر من ساعتين، ووعد بلقاء ثان لمواصلة الحديث في موضوعات اخرى، وجئنا في اليوم التالي، وبعد ان اصر رفيقي على المكوث في النجف الاشرف يوما اضافيا، اثر انشداده العاطفي لشخصية الشهيد الصدر، وفرط دهشته لما سمعه من بيان تحليلي عقلي، جعله يصرح بان ما يعتقده الشيعة يجسد روح الاسلام، وان احكامه الفائتة كان ينقصها الدقة والاطلاع والموضوعية، وكانت اخر كلمة يوصي بها الشهيد الصدر صاحبي، بعد ختام اللقاء الثاني: (انا لا اريدك ان تصبح شيعيا، وانما اريدك ان تحافظ على القاسم المشترك بين علي بن ابي طالب وعمر بن الخطاب، وهو الاسلام). فانصرفنا بعد ان ودعنا الشهيد الصدر، وصاحبي يعيش حالة يمتزج فيها الاعجاب بالدهشة والانبهار، والندم على الاحكام العاجلة، والتعلق النفسي والحب والمودة للشهيد الصدر.
بما انكم من المشتغلين على النتاج الفكري والثقافي للشهيد الصدر، برأيكم ما هي الموقعية التي يشغلها هذا النتاج في اطار الفكر الاسلامي، وما مدى الاهمية التي يتسم بها؟
من اخطر المشكلات التي يمنى بها الفكر الاسلامي راهنا هي ندرة الفكر التأسيسي، وعدم التحرر من نزعة الشروح والحواشي على المتون التي طغت في عصور الانحطاط، وكانت وظيفة الخلف تكرار السلف، بذريعة (ما ترك الاول للاخر شيئا) وتكمن اهمية النتاج الفكري للشهيد الصدر في انه تغلب بجدية وثقة على هذه النزعة، فطبعت اثاره روح التاصل والتاسيس والابداع، لا اقول ذلك بدافع الانبهار بفكر الشهيد الصدر، كما لا اريد ان انفي وجود فكر اسلامي تأسيسي في العصر الحديث، وانما اعتقد ان فكر الشهيد الصدر بالرغم من انه حلقة في مسار حركة الفكر الاسلامي، فهو احد المفكرين الكبار في عصرنا، وليس المفكر الاوحد، لكن نتاجه في كل الحقول التي تحرك فيها، تطبعه منهجية رائدة في التنظير والتاصيل، واذا اردت ان تطلع على ما تشاء من كتاباته او محاضراته، ستلاحظ ذلك بوضوح، حتى مقالاته الصغيرة طغت فيها هذه السمة، فمثلا كتب مقالة موجزة قدمها محاضرة في الموسم الثقافي “لجمعية الرابطة الادبية في النجف الاشرف” مطلع الستينيات، ثم نشرتها مجلة “الاضواء” بعنوان “الاسس المستقبلية لحركة الاجتهاد في النجف الاشرف”، حلل فيها اشكالية منهجية مترسخة في التفكير الاجتهادي في مدرسة النجف، نمّ عنها انكماش الفقه، وابتعاده عن مساحات هامة في السياسة والاجتماع الاسلامي. وهكذا قدم محاضرة مماثلة عن “دور ائمة اهل البيت (ع) في الحياة الاسلامية” في بضع صفحات صاغ فيها المرتكزات الاساسية لمنهج جديد في دراسة سيرة اهل البيت بنحو ترابطي مشترك. وهكذا نراه يضع اللمسات الاولى لمعالم علم جديد، اصطلح عليه بعض العلماء “فلسفة الفقه” في مقالة عاجلة تعرف بكتاب “فقه الامام جعفر الصادق (ع)” للفقيه المجدد محمد جواد مغنية.
ان اهمية الشهيد الصدر لا تقتصر على ابداعه في “اقتصادنا” في تدشين اسس فقه النظرية، ولا في “الاسس المنطقية للاستقراء” في اكتشاف “المذهب الذاتي للمعرفة” مقابل المذهبين العقلي والتجريبي، وانما تتجلى اهميته في ارساء اصول منهجية بديلة للفكر الاسلامي الحديث في شتى الحقول الفكرية الذي استأثرت باهتمامه وكانت في اطار مشاغله العلمية.
هل يمكننا في ظرفنا الراهن توظيف نتاج الشهيد الصدر لخدمة قضايانا المعاصرة؟
النتاج الفكري للشهيد الصدر كالنتاج الفكري لمفكرين كبار في عالمنا في القرن الاخير، لا ينبغي ان نتعامل معه باعتباره نصوصا ابدية مطلقة، وانما ينبغي ان ندرس هذا النتاج دراسة علمية موضوعية، تشخص مكوناته الاساسية، وتتعرف الى ما هو نسبي منه، جاء استجابة لمتطلبات انية وعاجلة، وما هو غير ذلك، أي ما يلزمنا في حياتنا الفكرية اليوم وربما غدا.
ان فكر الشهيد الصدر وفر علينا جهودا عقلية هائلة، لجهة اكتشافه الادوات المنهجية الضرورية في الميادين الرئيسية للفكر الاسلامي، وبوسعنا القول ان الباحث الخبير سيلاحظ لحظات فاصلة تؤرخ لولادة اتجاه جديد في سائر العلوم الاسلامية التي انصبت عليها الجهود الفكرية للشهيد الصدر، فمثلا مع “اقتصادنا” تغلب منهج الاجتهاد على اساليبه التقليدية، وارتقى الشهيد الصدر بادوات الاستنباط الفقهي لتجترح افقا جديدا في عملية الاستنباط، لم تعرفها الصناعة الفقهية من قبل، وهي عملية اكتشاف وصياغة فقه النظرية. وفي “الاسس المنطقية للاستقراء” غادر محمد باقر الصدر المنطق الارسطي ومعالجاته التقليدية لمشكلة الاستقراء، التي توارثها المسلمون واثقلوها بالحواشي والهوامش. كما غادر صنعة معلمي المعقول في الحوزات العلمية، الذين لبثوا عشرات السنين يكررون ما قاله صدر الدين الشيرازي المعروف بملا صدر المتوفي سنة 1050هـ، فاستفاق وعي الشهيد الصدر على مذهب اخر في تفسير نشوء المعارف وتوالدها في الذهن يتجاوز ارسطو وميراثه لدى الحكماء المسلمين، ولا يستنسخ ما قاله ملا صدر ويتوقف عند تفسير افكاره.
وهكذا اطل بنا الشهيد الصدر على افق فسيح في تفسير القرآن يتجاوز التفسير الطولي التجزيئي، ليكتشف المركب النظري القرآني، الذي يلزمنا في بناء مجتمع تسوده تعاليم القرآن.. وهكذا..
اننا بحاجة ماسة للتعرف الى الادوات المنهجية التي ابتكرها او كيفها الشهيد الصدر وتوظيفها في الدراسات الاسلامية، التي ما انفكت ترتهنها اساليب بدائية ـ احيانا ـ في البحث والتحقيق. وتلك الاساليب هي واحدة من اهم العلل لندرة الفكر التأسيسي في عالمنا الاسلامي.
برأيكم لو كان الشهيد الصدر حاضرا بيننا اليوم، فما هي الاولويات الفكرية والثقافية التي كان سينصرف اليها؟
الشهيد الصدر مفكر وفقيه واقعي، بمعنى انه تمسك في مساره الفكري دائما بالمتطلبات الملحة والعاجلة للامة الاسلامية، ويمكننا معاينة ذلك في نتاجه الذي خلفه لنا، وربما لم يشذ من جهوده الفكرية والثقافية عن ذلك، الا في مساحات محدودة دأب فيها بجدية على محاكاة الاسلوب التقليدي في الدراسات العالية في الحوزة المعروفة بالبحث الخارج، لجهة تأكيد حضوره العلمي في الحوزة، وبناء تلامذته بالاسلوب الذي يمكنهم من التوغل في المديات القصوى لفضاء الدراسات الشرعية في الحوزة العلمية.
وما سوى ذلك كان الشهيد الصدر واقعيا في كل مواقفه العملية ونتاجاته الفكرية، فهو على سبيل المثال عندما درس واقع الامة قدم تفسيرا لسبب تخلفها، وراح يعمل على صياغة مشروع فكري معمق من حلقات متعددة، في “فلسفتنا” و”اقتصادنا” ثم “مجتمعنا” الذي لم تسعفه الايام لانجازه، كل ذلك بغية ارساء بنية فكرية اسلامية تتناغم مع ايقاع الحياة الحديثة ورهاناتها. وباشر بمعية نخبة من العلماء ببناء صرح حركة اسلامية واعية، كما لم يهمل الحوزة العلمية، بل عمل على اعادة بناء النظام التعليمي، بما يتيح للحوزة الوفاء بمقتضيات العصر ومستجداته. ويمكن القول ان الاولويات الفكرية التي تستأثر باهتمام الشهيد الصدر لو كان حاضرا هذا اليوم، هي ابرز ما يعانيه العالم الاسلامي، مما يتصل بقضايا الاستبداد، والحريات والحقوق، والتداول السلمي للسلطة، وحاكمية القانون، والامن الاجتماعي، وقضايا التنمية الثقافية والاقتصادية والسياسية، وغير ذلك مما يتصل بالحياة اليومية للمواطن في بلادنا.