التكامل في مشروع الشهيد الصدر التغييري نموذج الملف السياسي

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

أهم ميزة طبعت شخصية الشهيد محمد باقر الصدر، تكاملها، فلم تكن احادية البعد، ولم يبرز فيها بعد على حساب آخر. وظل الابداع السمة التي رافقت كل واحد من هذه الابعاد. وأفرز التكامل في الشخصية منهجاً متكاملاً أيضاً في صياغة مشروعه الاسلامي وتنفيذه، هذا المشروع الذي أعلن عنه الشهيد الصدر في مرحلة مبكرة من عمره، وشرع بتنفيذه في بدايات عقده الثالث. وازدادت سرعة تألق المشروع خلال فترة قصيرة، حتى ساد الوسط الاسلامي طيلة عشرين عاماً من تاريخ العراق (1957 ـ 1980).

لقد انبثق مشروع الشهيد الصدر من تكامل عدّة ملفات، تحمل عناوين: الابداع العلمي، والتجديد الفقهي، والتنظير الفكري، والعمق الثقافي، والعمل الاعلامي، والتحرك السياسي، وقاد بها حالة النهوض الاسلامي في العراق، ببراعة نادرة، كرّست موقعه عالماً ومفكراً ومؤلفاً وعاملاً وزعيماً. ولم يقتصر هذا التأثير على حدود العراق الجغرافية، بل امتد الى اكثر من بلد اسلامي.

ولم يكن الشهيد الصدر محترفاً في أي بعد من أبعاد شخصيته ومشروعه، بل كان ينطلق من أداء التكليف الشرعي. وهكذا لم يكن تحركه السياسي ـ موضوع الدراسة ـ عملاً احترافياً، بل كان جزءاً لا ينفصل عن منهجه التغييري ومشروعه الاسلامي الشامل. ومن هنا اطلقت الدراسة على هذا التحرك عنوان «الملف السياسي»، لانه ـ بالنتيجة ـ عمل اسلامي ودعوي يمارس بأدوات سياسية، أي ان أدوات هذا الجزء تعارفت الأدبيات المعاصرة على وصفها بالسياسة.

والحقيقة ان اهمية الملف السياسي في مشروع الامام الصدر، تم اكتشافها بعد استشهاده، لان الظرف السياسي وأجواء التعتيم لم يسمحا بالكشف عن هذا الجزء، حتى ان معظم الباحثين الذين سبق أن درسوا أفكار الشهيد الصدر ونظرياته ومؤلفاته، ولم يفهموا حقيقة مشروعه وطبيعة المرحلة التاريخية التي صاغها، ظلوا ـ بعد استشهاده ـ متوقفين طويلاً عند المحطات السياسية في حياته، متسائلين: هل صحيح ان منظّراً عبقرياً بهذا المستوى النادر من الابداع الفكري يقود عملاً سياسياً وجهادياً بالمستوى نفسه من العبقرية؟!

استشهاد الصدر وقيام الدولة العراقية الحديثة قد لا يصح منهجياً تناول موضوع استشهاد الصدر في بداية فتح الملف السياسي لمشروعه، باعتباره ختام الملف، وقد لا يكون مستساغاً أيضاً تكوين معادلة علاقة بين قضية تأسيس النظام السياسي في العراق عام 1920 وبين جريمة وقعت عام 1980، الا ان عملية التنقيب في حقل الحفريات التاريخية تقتضي التوغل عمودياً في عمق الحدث، للكشف عن حقائقه البعيدة التي جرّت المستقبل اليه.

الباحثون الذين درسوا خلفيات استشهاد السيد الصدر ودوافعها الاساسية، خلصوا الى نتائج لا تخرج عن دائرة الصراع الفكري والسياسي بين حزب البعث العراقي وحركة الوعي الاسلامي، ككل الاتجاهات الآيديولوجية والسياسية التي يتقاطع معها. هذه النتائج ستطابق الواقع فيما لو نظرنا الى حزب البعث أداة لتطبيق قواعد البناء الطائفي للدولة العراقية الحديثة، وأداة لتنفيذ المخطط الاستعماري البريطاني الذي عمل على بلورة هذه القواعد، ومازال يرعاها حتى الآن، لأسباب ودوافع عديدة سنأتي عليها. ولكي لا نبخس الناس اشياءهم، فان هذه القواعد لم تكن من اختراع الانجليز، بل ان الاتراك العثمانيين هم الذين أرسوها في العراق وبلاد الشام والخليج، في مراحل سيطرتهم على مقدرات هذه البلدان، مستفيدين من ارث قديم، ثم أورثوها الانجليز، الذين بلوروها وقننوها في مرحلة ما بعد الحرب الاستعمارية الاولى1. وكان لون هذه القواعد فاقعاً ومثيراً للاشمئزاز في العراق اكثر من غيره، لأنها خالفت جميع حقائق الجغرافية السكانية وبديهياتها، بعد ان شيدوا عليها صرح الدولة الطائفية القومية التي تحكم الواقع السياسي والاجتماعي الذي تمثلته اكثرية الشعب الساحقة. وبالتالي فان المعركة مع هذه المعادلة الناشزة مازالت قائمة منذ الحكم العثماني للعراق وحتى الآن.. المعركة التاريخية التي استشهد فيها سبعون ألفاً في الاناضول في يوم واحد، وقتل فيها الشهيدان العامليان، الاول والثاني في الشام، واستبيحت فيها مدينة الحلة ثلاثة ايام، وجرّت الى حركة الجهاد في العراق من عام 1914 وحتى عام 1920. ثم كان السيد محمد باقر الصدر أبرز ضحاياها.

الحقائق التي تعبّر عن معركة اتباع اهل البيت (ع) مع النظام السياسي الطائفي في العراق، يحاول الكثيرون تغافلها بدوافع مختلفة، قد تكون طائفية هي الاخرى، وقد تكون حرصاً على وحدة الموقف الشعبي وتجنب الاثارات الطائفية. ولكن هذا التغافل لا يعني مصلحة البلد والامة بشيء، وهو نقيض المنهج العلمي في البحث التاريخي، لانه سيعمل على تكريس مشكلة أساسية تعد أهم عوامل عدم الاستقرار في العراق. وبالنتيجة فان حديثاً بهذا الاتجاه يكشف عن أسوأ مضامين الطائفية، ويعرّي الجريمة الكبرى التي ارتكبها الانجليز بحق الامة في العراق بكل مذاهبها وطوائفها وقومياتها .. سنّة وشيعة .. عرباً وأكراداً وتركماناً. ويبقى المستهدف في هذا الحديث ـ الذي يستبطن أسمى معاني وحدة المسلمين المبنية على حقائق الواقع وأرقامه ـ هو النظام السياسي أو الدولة، وليس طائفة بعينها، لان الطائفة التي ينتمي اليها النظام السياسي تاريخياً وليس مذهبياً، هي الاخرى مضطهدة بألوان فيها الكثير من البشاعة، بل غالباً ما يكون هذا الاضطهاد أكثر تعقيداً لظروف يطول شرحها، وبالتالي لا وجود لأية مشكلة سياسية أو مذهبية بين الطائفتين المسلمتين الكبريين (السنية والشيعية) ولا بين القوميتين الكبريين (العربية والكردية)، بل المشكلة تكمن في البنية الطائفية للنظام السياسي والمجتمع السياسي الرسمي، اللذين ينتميان الى مركب طائفي وقومي نسبته 17./. فقط من عدد السكان، في حين ان الجماعة السكانية المضطهدة ـ التي لايخفي النظام عدم تمثيله لها قانونياً وواقعياًـ تزيد نسبتها على 64./. من عدد السكان2. وهنا يقول الشهيد محمد باقر الصدر: «ان الطاغوت وأولياءه يحاولون أن يوحوا الى أبنائنا البررة من السنّة بأن المسألة مسألة شيعة وسنّة، وليفصلوا السنّة عن معركتهم الحقيقية ضد العدو المشترك. وأريد أن أقولها لكم يا أبناء «علي» و «الحسين» وأبناء «أبي بكر» و«عمر» ان المعركة ليست بين الشيعة والحكم السني. ان الحكم السني الذي مثّله الخلفاء الراشدون والذي كان يقوم على أساس الاسلام والعدل، حمل «علي» السيف للدفاع عنه، اذ حارب جندياً في حروب الردة تحت لواء الخليفة الاول «أبي بكر». وكلنا نحارب عن راية الاسلام وتحت راية الاسلام مهما كان لونها المذهبي»3.

فهناك فرق جذري وأساسي بين الدولة الطائفية والدولة المذهبية، فالدولة الطائفية هي الدولة اللادينية التي تتبنى نظاماً سياسياً ينتمي تاريخياً الى طائفة معينة، اما الدولة المذهبية فهي دولة دينية تخضع لنظام سياسي يتعبد بفقه أحد المذاهب الاسلامية، والحال ان النظام السياسي المطبق بعد قيام الدولة العراقية الحديثة هو الشكل الاول، فهو نظام طائفي قومي، لم يكن يوماً مذهبياً، بل أنه ينتمي الى مركب الأقلية القومية الطائفية، الامر الذي يجعله يشعر بالخطر دائماً وعدم الاستقرار والتهديد، فيبقى متحفزاً دائماً للفتك بأي تحرك يرفع صوته للمطالبة بأبسط الحقوق، وان كانت مطالبة بخفض جرعات التمييز، فيجد صاحب الطلب نفسه ـ ابتداءً ـ امام تهمتين شنيعتين جاهزتين: طائفي وشعوبي، أو يأخذ طريقه ـ في وضع أسوأ ـ الى السجن وربما المشنقة، هذا اذا لم يُنف في ليلة ظلماء الى ما وراء الحدود. مع الاخذ بنظر الاعتبار ان هذه الاجراءات أصبحت جزءاً من بنية الدولة وقانونها بصرف النظر عن طبيعة الحكومات المتعاقبة وآيديولوجيتها، وان كانت حكومة حزب البعث العراقي أشد تعبيراً عنها.

لقد حاول الاتراك العثمانيون طيلة مئات من السنين تغيير البنية المذهبية للمجتمع العراقي، الا انهم فشلوا في هذا الجزء، رغم الفتاوى المضادة والحصار والاضطهاد، ونجحوا في جزء آخر، هو وضع اسس صلبة لنظام سياسي طائفي في ولايات العراق ينسجم وآيديولوجيتهم العليا. ولكن المفارقة المثيرة حدثت بدخول العثمانيين الحرب الاستعمارية الاولى الى جانب المانيا عام 1914، حينها اتجهت الحركة العربية التي تشاطرهم الانتماء المذهبي وتقر بالولاء السياسي لهم، الى مناهضة العثمانيين والمراهنة على دعم الاستعمار البريطاني، بفعل الوعود التي اعطاها اياها امير الحجاز، وانتهى الامر الى اعلان الثورة العربية بقيادة الشريف حسين، وانضم اليه معظم الذين كبروا ـ سناً وشأناً ـ مع المناصب السياسية

والعسكرية والادارية التي اسبغتها عليهم الدولة العثمانية. وتحول الولاء من تركيا (الاسلامية) الى بريطانيا (الصليبية)، وانقلب الهلال ـ فجأة ـ صليباً في لافتاتهم.

اما الطرف الثاني من المفارقة، فهم أتباع اهل البيت (ع) في العراق وسوريا ولبنان، الذين واجهوا المتغيّر الجديد بالرهان على المبادئ، فدافعوا عن الدولة العثمانية بدمائهم، لانها تنطوي على الحد الادنى من تمثيل الاسلام، وتشكل الخيار الاصولي في المعركة مع الاستعمار البريطاني القادم، بعد ان تناسوا بفعل سخونة المبادئ عداء الدولة العثمانية التاريخي لهم. هذه الحقيقة يعبّر عنها الشهيد الصدر بقوله «ان الحكم السني (العثماني) الذي كان يحمل راية الاسلام قد أفتى علماء الشيعة قبل نصف قرن بوجوب الجهاد من أجله، وخرج الآلاف من الشيعة وبذلوا دمهم رخيصاً من أجل الحفاظ على راية الاسلام، ومن أجل الحكم السني الذي كان يقوم على اساس الاسلام»4. فقد أعلن علماء الدين في النجف الاشرف الجهاد ضد بريطانيا بمجرد دخول قواتها البصرة عام 1914، وقادوا المعارك الى جانب العثمانيين، وظلوا يقاومون الانجليز بشدة، رغم انسحاب الاتراك المبكر من ساحة المعركة، ثم دخول الانجليز بغداد عام 1917، واسدال الستار على النفوذ العثماني في العراق الى الابد.

وحين وضعت الحرب الاستعمارية الاولى اوزارها عام 1918، اتجه الانجليز نحو اقامة نوع من الحكم الذاتي في العراق، فجاءت فتوى علماء الدين في النجف وكربلاء بأن تكون الحكومة مسلمة، فاستمر الصراع مع الاحتلال الانجليزي، حتى بات الوضع مهدداً بالانفجار. وبالفعل انفجر العراق عام 1920 بثورة شعبية مسلحة بقيادة الشيخ محمد تقي الحائري الشيرازي، تهدف الى الاستقلال وطرد المحتلين واقامة حكومة مسلمة. وانتهت الثورة باحتواء الانجليز للموقف والالتفاف على مطالب الثوار بطريقة مضللة. فعاودت موضوع اقامة الحكم المحلي، ولكن بعنوان كبير هذه المرة هو «الدولة العراقية»، ولاسيما ان معاهدة (سايكس بيكو) عام 1916 وفرساي عام 1919 ومبادئ عصبة الامم تعطي بريطانيا حق الانتداب على العراق، وتعطي الشعوب الحق الشكلي في تقرير المصير.

وقامت الدولة العراقية الحديثة استجابة شكلية لمطالب ثورة العشرين، ولكن ـ فجأة ـ وجد الثوار أنفسهم خارج لعبة السياسة والسلطة، ووجدوا صنائع الاتراك والانجليز يحتلون معظم مناصب الدولة. وبذلك أقرّت اكثرية الشعب العراقي انها

الخاسر الاكبر بعد انهيار الحكم العثماني وقيام النظام العراقي المحلي، مضيّعة بذلك سنين طويلة من النضال من أجل استقلال البلاد وحريتها واقامة حكم العدل والمساواة فيها5.

ولعل من السهل تفهم دوافع الاجراء البريطاني في تحويل قواعد النظام السياسي الطائفي الى بنى وقوانين وهياكل ادارية، فليس منطقياً ـ وفقاً للمنهج البراغماتي في التفكير والعمل ـ ان تبادر بريطانيا الى تأسيس نظام سياسي في العراق يعتمد قواعد الديموقراطية والدولة الحديثة التي تتبع موقف الاكثرية، فتكافئ بذلك الشعب الذي حاربها بكل الوسائل طيلة سبع سنوات، وأذل كبرياءها وغرورها!، اذ انها ستقدّم خدمة كبرى له بصورة تلقائية. وكان من الطبيعي أيضاً أن يعيد الانجليز تأهيل الشخصيات التي كانت جزءاً من النظام الطائفي التركي، ويبادرون لمكافأتها، بعد أن تنكرت للاتراك ووقفت الى جانب الانجليز. وفي النتيجة ضرب الاحتلال البريطاني عدة عصافير بحجر واحد، فمن جهة حافظ على مضمون المنتظم السياسي العراقي، وكافأ النخب التي وقفت الى جانبه، بعد أن استخدمها في ادارة السلطات المحلية وادارة الجيش واعادة تشكيل المجتمع السياسي الجديد ـ القديم، بذريعة ان عناصرها يمتلكون ممارسة وخبرة في الادارة والعمل السياسي والعسكري، ومن جانب آخر عاقبت بريطانيا الشعب الذي وقف ضدها، وحافظت على مصالحها في العراق بصورة دائمة، على اعتبار ان دولة الاقلية ستبقى بحاجة الى الحماية والدعم اللذين يوفرهما لها البريطانيون، كما تخلصت من أعباء حكم الاكثرية، التي وجد فيها الانجليز عدواً شرساً لايمتلك أدوات المصالحة والمرونة السياسية ولا يمكن ائتمانه على المصالح البريطانية، ولاسيما ان أتباع أهل البيت (ع) محكومون طوعاً بنظام ديني يكون فيه الولاء للمرجعية الدينية وعلماء الدين، الذين وجدهم الانجليز أناساً لا يقيمون وزناً للاحتراف السياسي الارضي وقواعده البراغماتية المتداولة، وهو أمر يجعل قيام حكم الاكثرية على طرف نقيض مع استقرار المصالح البريطانية في العراق.

وبهذا استؤنفت المعركة بين الشعب العراقي والنظام السياسي الطائفي، وهي المعركة التي ظلت مشتعلة، وستبقى ـ دون شك ـ تزعزع استقرار البلد، وتضرب مصالحه في الصميم، وتهدد وحدة المسلمين بطوائفهم وقومياتهم، حتى قيام عراق جديد «تحكمه عدالة الاسلام، وتسوده كرامة الانسان، ويشعر فيه المواطنون جميعاً على اختلاف قومياتهم ومذاهبهم بأنهم اخوة .. يساهمون جميعاً في قيادة بلدهم، وبناء وطنهم، وتحقيق مثلهم الاسلامية العليا»6 كما يقول السيد الشهيد الصدر.

المرحلة القلقة

في الفترة التي أعقبت مؤتمر كربلاء الكبير عام 1922م، دخل التحرك الاسلامي، مرحلة غير مستقرة، تمثلت بالسيطرة البريطانية الكاملة على مقدرات العراق، واتجاه معظم علماء الدين الى هجر العمل السياسي، احساساً منهم بأنه لم يعد ذا جدوى. وبرز آخرون على صعيد العمل الاصلاحي والبناء الفكري والاجتماعي، كالشيخ مهدي الخالصي في الكاظمية، الذي أبعد الى ايران، كما أبعد ولده الشيخ محمد مع السيد محمد الصدر الى هناك من قبل. وعند احتجاج علماء الدين في النجف على هذه الاجراءات، اقدمت السلطات على ابعاد عدد منهم أيضاً، كالسيد ابي الحسن الاصفهاني والشيخ النائيني. ثم عاد المبعدون الى العراق بعد ان وافقوا على بعض الشروط التي املتها عليهم السلطة، كعدم التدخل في الشؤون السياسية.

ورغم صعوبة هذا الواقع، الا ان الحالة الاسلامية لم تكن بعيدة عن الاحداث الدائرة في الساحة بشكل مجمل، على غرار التأييد والدعم الذي قدمته لحركة مايس عام 1941 بقيادة الكيلاني، وكذلك السعي الحثيث لاسقاط معاهدة «بورتسموث» عام 1947، والموقف من حرب فلسطين عام 1948، والتصدي لحكومة نوري السعيد وما تبعها من احداث في عام 1952 وما بعده.

وفي أواسط الاربعينات والخمسينات تأسست في العراق جماعات وتنظيمات اسلامية، جديدة في توجهاتها الفكرية وبنيتها التنظيمية ونظرتها الى واقع الامة الاسلامية. وكان معظمها امتدادات للحركات الاسلامية التي انشئت في بلدان اخرى من العالم الاسلامي. ثم تأسست بعد سنوات جماعات اسلامية اخرى عراقية في جذورها، الا انها لم تساهم بشكل مؤثر في الاحداث السياسية، بل كانت تهتم بالجانب التربوي والتثقيفي.

وطوال الفترة الزمنية التي استغرقتها المرحلة القلقة (1923 ـ 1957)، كانت حركة الوعي الاسلامي تعيش حالة من المد والجزر، وغالباً ما كانت تضحيات الاسلاميين وانجازاتهم تستثمر من قبل بعض الجماعات النفعية والانتهازية، وتنتهي الى نتاجات مغايرة لتطلعاتهم. وتعود ظاهرة القلق في الواقع الاسلامي العراقي في هذه الفترة الى عدة عوامل، تمثل مفردات الحالة العامة التي عاشتها الساحة العراقية، وأهمها:

1ـ ضعف الوعي الشعبي على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، الامر الذي يؤدي الى تخبط في تحديد الخيارات والمصلحة الحقيقية والفهم المطلوب.

2ـ وجود بعض الانتهازيين والنفعيين في هامش الحالة الاسلامية.

3ـ امتلاء الساحة السياسية بالتيارات العلمانية المعادية للدين، والتي استطاعت حرف شرائح كبيرة من الامة عن اصالتها.

4ـ امتناع معظم علماء الدين عن التدخل في الشأن السياسي، وافساح المجال لعلماء السلطة للعبث في صورة الواقع الاسلامي.

5ـ التشتت في القرار المرجعي، بعد توزع المرجعية الدينية في النجف الاشرف بين عدد من الفقهاء، على اثر وفاة السيد ابو الحسن الاصفهاني عام 1945 وانتقال المرجعية العليا الى السيد حسين البروجردي في قم، الامر الذي ادى الى اضعاف دور النجف ومركزيتها وتأثيرها.

6ـ غياب الجماعات الاسلامية الفاعلة والكبيرة، التي تتكفل استيعاب الساحة ورعايتها7

7ـ غياب المشروع الاسلامي التغييري الشامل، الذي ينتشل الواقع مما هو عليه.

الصدر يعلن عن مشروعه

شهدت حالة المد في حركة الوعي الاسلامي في العراق خلال المرحلة القلقة، بروز أسماء لامعة في سماء الاصلاح والتجديد والوعي، شكلّوا طبقة الرواد، فقد مثلت بعض اعمالهم انجازات كبرى للواقع الاسلامي، ومن أبرز هؤلاء : الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والسيد هبة الدين الشهرستاني والشيخ محمد جواد البلاغي والشيخ عبد الكريم الجزائري والشيخ مرتضى آل ياسين والشيخ محمد رضا المظفر. وباستثناء الشيخ المظفر الذي أبدع مشاريع تأسيسية رائدة مازال معظمها قائماً، فان بريق انجازات رواد الاصلاح الآخرين أفل بعد رحيلهم، لان طابعها الفردي حال دون تبني الآخرين لها. وبشكل عام فان هذه الانجازات لم تكن تفي بالحد الأدنى من حاجة الواقع الاسلامي، الذي تميّز في عقد الخمسينات بالتراجع والغياب، رغم ان العامين اللذين سبقا انقلاب 14 تموز 1958 العسكري شهدا بروز مؤشرات نهضة جديدة، أو بعبارة اخرى فان عامي 1956 و 1957 وضعا حجر الاساس لهذا النهوض الشامل، الذي شكّل مشروع الشهيد الصدر عموده الفقري.

ثم بدأ الشهيد الصدر بطرح مفردات مشروعه في الساحة، وبصورة تدريجية، ابتداءً من عام 1957، اي حين كان شاباً لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره، وبعد بضع سنوات، باتت تلك المفردات يكمل بعضهابعضاً، فكان الشهيد الصدر يقف وراء مجمل تفاصيل الواقع الاسلامي .. منظّراً  أو مخططاً أو راعياً أو منفذاً، فأحدث بذلك ثورة على مستوى منهجية العمل الاسلامي في الوسط العلمي الديني، من منطلق تحسسه حاجات الامة والساحة الاسلامية في مختلف مراحل التحرك، وجهوده لسد هذه الحاجات، بأساليب ابداعية تشير الى مستوى النبوغ الذي تمتع به السيد الصدر في جميع المجالات، مما جعله متفرداً من بين رواد الوعي والاصلاح. وتمثلت المفردات الاولى في مشروعه بما يلي:

1ـ تأسيس تنظيم اسلامي، يعمل على بناء الواقع الاسلامي، وصولاً الى هدف تطبيق الشريعة. وكانت اول قضية طرحت على طاولة البحث في حينها، مشروعية قيام الحكومة الاسلامية في عصر غيبة الامام المهدي (ع)، فكتب السيد الصدر في عام 1957 دراسة فقهية استدل فيها على شرعية تأسيس دولة اسلامية في عصر الغيبة، لتكون القاعدة الفقهية التي قام عليها العمل. (كان عمره حينها حوالي 22 عاماً).

2ـ البدء بتأليف سلسلة مشاريع فكرية لمواجهة التيارات العلمانية والالحادية التي كانت تحرف الامة وتشغل الساحة آنذاك، وفي مقدمتها الماركسية، فألّف ونشر كتاب «فلسفتنا» عام 1959 (وكان عمره 24 عاماً)، وتبعه بكتاب «اقتصادنا» عام 1962.

3ـ التخطيط لقيام تجمع علمائي منظم أُسست على أثره جماعة العلماء في النجف الاشرف عام 1959، والتي كان السيد الصدر محور حركتها ونشاطها، والمعبّر عن مواقفها، من خلال البيانات التي كتبها باسم الجماعة أو افتتاحيات المجلة الناطقة بلسانها.

4ـ الشروع بتدريس أعلى مراحل البحث العلمي في الجامعة الدينية (مرحلة البحث الخارج في الحوزة العلمية) عام 1959، اسوة بكبار فقهاء الحوزة المبدعين، رغم فارق السن الكبير بينه وبينهم. ومن خلال هذا الدرس عمل الشهيد الصدر على اعداد نخبة متميزة من العلماء، ملتزمة بمشروعه الاسلامي.

5ـ وضع افكار اكثر النشاطات الاسلامية الاساسية التي طبعت الواقع الاسلامي بطابعها، في المرحلة التي اعقبت قيام الحكم الجمهوري في العراق عام 1958، كالاحتفالات والندوات وسلسلات الكتب الدعوية والفكرية.

ويتضح من خلال هذه المفردات، ان السيد الصدر كان يخطط لعملية مواجهة منظمة مع الواقع السياسي والفكري العام، والى جانبه يستشرف الواقع الجديد الذي سيقوم مستقبلاً، فكانت مفردات مشروعه مرحلية في قسم منها وبعيدة المدى في القسم الآخر. ومعرفة القيمة التأريخية لهذه المفردات تتأتى من خلال فهم طبيعة المرحلة التي ولدت فيها. فالحركة التي فرضتها الاوضاع المرتبكة في أعقاب انقلاب 1958، فسحت المجال امام التيارات السياسية المتناقضة لتجتاح الساحة على شكل موجة رهيبة لم يألفها الشارع العراقي من قبل. وكان الشيوعيون والقوميون والوطنيون ـ بالترتيب ـ اهم مكونات هذه الموجة. وخلال ذلك كان الاسلاميون يعانون الامرين، بعد أن نالهم الكثير من المد الشيوعي وممارسات السلطة. فالحزب الشيوعي استهدف مجتمع المسلمين في الصميم، من خلال نشاطه الكبير في نشر افكاره الالحادية وآرائه السياسية المتطرفة، حتى بات الشيوعيون يجاهرون علناً بعدائهم لله وللاسلام ولمراجع الدين، حتى انهم حاولوا قتل الامام السيد محسن الحكيم خلال احدى زياراته الى كربلاء في اوائل عام 1959. وفي الجانب الآخر، ذهبت السلطة الى المجاهرة في محاربة تدخل علماء الدين في السياسة، وراح كثير من عملاء الحكم المندسين في صفوف المتدينين يطلقون على المنابر صرخة «فصل الدين عن السياسة»، واكتفاء علماء الدين بمتابعة الشؤون العبادية فقط، حتى اصبح حديث عالم الدين عن السياسة والعمل السياسي جريمة لدى بعض الاوساط.

ومن الطبيعي ان يكون للاسلاميين ردهم، المناسب تارة والمتردد تارة اخرى، في مقابل تلك الهجمة الشرسة، فقد حاولت جمهرة من علماء الدين والشباب المؤمن استثمار الفوضى القائمة والهستيريا الشيوعية لصالح التيار الاسلامي، فبادرت بدعم من المرجعية وتحريك من الجماعات الاسلامية الى تعرية الشيوعية ورموزها وممارساتها، من خلال اقامة الاحتفالات والندوات والمجالس الخطابية والمحاضرات والشعائر الحسينية. كما عمد بعض العلماء الى استحداث مؤسسات اكاديمية حديثة للدراسات الفقهية والدينية، على غرار كلية الفقه في النجف الاشرف، التي أسسها الشيخ المظفر عام 1958، فكانت من معاقل التحرك الاسلامي. كما تم فتح العشرات من المكتبات الاسلامية العامة وتأسس عدد من المساجد في مختلف مدن العراق. وكانت هذه المكتبات والمساجد بؤراً لبث الوعي الاسلامي ولتعبئة الشباب عقائدياً. هذا الواقع كانت تقوده المرجعية الدينية في النجف الاشرف، وكان على رأسها السيد محسن الحكيم. اما المحرك الحقيقي له ـ كما ذكرنا ـ فهو السيد محمد باقر الصدر.

ونشير الى ان الواقع الاسلامي في العراق قد زحف بقوة الى الامام، بعد أن عادت المرجعية العليا الى النجف بوفاة الامام السيد حسين البروجردي في قم، وتصدي الامام الحكيم للمرجعية العليا عام 1960، بالنظر لما يتمتع به الاخير من خصائص متميزة احدثت نقلة تاريخية في مؤسسة المرجعية الدينية. ورغم ان السيد الحكيم انتقد تصرفات حكومة عبد الكريم قاسم بشدة، الا ان الاخير كان يحاول التقرب منه، لمعرفته بأهمية ذلك في استقطاب عواطف الشعب. وحين تقدمت السلطة بقانون الاحوال الشخصية الوضعي، وغيره من القرارات والقوانين المخالفة للشريعة الاسلامية، وقف الاسلاميون ضدها بكل حزم، وطالبوا بتطبيق الشريعة الاسلامية. ثم تلقى التيار الشيوعي صفعة موجعة جداً من قبل المرجعية الدينية، حين افتى السيد الحكيم في اوائل عام 1960 بحرمة الانتماء للحزب الشيوعي وتأييده، وحكم على افكاره وأعماله بأنها كفر والحاد. ومن اجل تقوية نفوذ المرجعية الدينية، أرسل السيد الحكيم مجموعة من العلماء الى كثير من مدن العراق ودول العالم ممثلين عنه. وكانت الكثير من تحركات السيد الحكيم التي يقوم بها انطلاقاً من موقعه المرجعي، تعد أعمالاً سياسية صريحة، وتكشف عن تصد حقيقي لقيادة الامة. كما انه دعم الوجودات الاسلامية ودافع عنها في مقابل الشبهات والتهم، كما حصل مع مشاريع السيد الصدر، التي كانت تحارب من قبل بعض التيارات الجامدة في الحوزة العلمية أو بعض المغفلين والمدفوعين، ونموذج ذلك جماعة العلماء، التي أطلقت ضدها مختلف الشائعات8. وقد شكا السيد من بعض المحسوبين على الحوزة، والذين حاولوا تشويه صورة الجماعة ونشاطاتها، وبذلك يشتركون في هدف التيارات المعادية. فأصدر السيد الحكيم فتوى جاء فيها:

«ان جميع ما اصدره فريق من أعلام اهل العلم أيدهم الله تعالى باسم جماعة العلماء في النجف الاشرف وما سيصدر عنهم من نشرات وغيرها، مما يتضمن الدعوة الى الدين والاسلام، فهو من اهم الوظائف الشرعية التي يجب القيام بها في سبيل اعلاء كلمة الدين وترويج مبادئه الشريفة وتعاليمه المقدسة، فعلى عامة المسلمين العمل على مؤازرتهم والوقوف الى جانبهم»9. وكما حصل أيضاً حين تحرك بعض القوميين والبعثيين لزرع بذور الخلاف بين مفردات الواقع الاسلامي من مرجعيات ووجودات وفعاليات.

الاسلاميون وتجربة القوة

ثمة مصالح سياسية مشتركة دفعت القوميين (مجموعة العقيد عبد السلام عارف الذي دخل في صراع معلن مع عبد الكريم قاسم منذ كان شريكاً له في السلطة) وحزب البعث، للوقوف في جبهة واحدة ضد عبد الكريم قاسم، وأسفر هذا التحالف غير المبدئي عن قيام انقلاب 14 رمضان (8 شباط) 1963، الذي اسقط الجمهورية الاولى بمباركة مصرية. وشهد الشارع العراقي في اعقابها سيولاً من الدماء والانتهاكات السافرة على يد قوات «الحرس القومي» المليشيا الرسمية لحزب البعث. وكان للاسلاميين نصيب كبير من هذا العدوان، مما حملهم للوقوف بوجه السلطة الجديدة، والذي عبّر عنه الامام الحكيم في سفره الاحتجاجي الى كربلاء والكاظمية وسامراء، وقيام مئات الآلاف من الجماهير بتجديد البيعة له. ولكن عبد السلام عارف لم يمهل حلفاءه الجدد، فانقلب على البعثيين بعد نحو ثمانية اشهر. وحين استقرت له الاوضاع، عمل عارف على تسيير البلاد وفقاً لنغمة جديدة ومبادئ لم يألفها الشارع من الحكومات السابقة. فقد أظهر نوعاً من الالتزام بالاسلام، محاولاً استقطاب عواطف الشعب في مقابل الحاد الحزب الشيوعي وعلمانية حزب البعث، واحتواء الموجة الدينية الجديدة، الا انه في الحقيقة رفع لواء الطائفية والتمييز المذهبي، وكأنه يعبّر عن اخلاصه للواقع الذي خلقه المشروع الطائفي العثماني ـ الانجليزي، الا ان عارف أعاد صياغة الواقع، بعد ان اضاف له مبدأين جديدين هما:

القومية والاشتراكية، لتشكل الى جانب الطائفية الاتني التي يستقر عليها حكم عارف. وقد أخذ هذا الواقع يبرز على مختلف المستويات حتى بلغ أدنى الدوائر

الحكومية، حيث تعرض أتباع اهل البيت (ع) خلالها الى حملة طائفية وعنصرية شعواء، بعد ان جاهر عارف بالعداء لهم، بهدف كسر شوكة المرجعية الدينية وارعاب جماهيرها.

وبعد ان شعر ان هذه السياسة ستؤدي الى فعل معاكس، حاول ارضاء المرجعية الدينية واسكاتها، فأوجد مجموعة من كبار رموز السلطة الى السيد محسن الحكيم للتباحث معه حول اعطاء اتباع اهل البيت حقوقهم، الا ان الحكيم لم يكن ينظر للامور نظرة طائفية، على الرغم من تأثره من سياسة التمييز الطائفي والعنصري التي تمارسها السلطة، فتحدث باسم الشعب العراقي المسلم بكل قومياته ومذاهبه وطرح المطاليب التي تهم الامة بأسرها.

وفي هذه الفترة وصل الامام الخميني الى النجف الاشرف، مبعداً من ايران، بعد سلسلة الاحداث الدموية التي بدأت عام 1962 في ايران وأدت الى (انتفاضة 15 خرداد) عام 1963 ضد حكم الشاه بهلوي، الذي أقدم على ابعاد الامام الى تركيا ثم الى النجف عام 1964، حيث عاش فيها نحو 15 عاماً. وقد اعطى وجود الامام الخميني في النجف الاشرف زخماً نوعياً كبيراً للتحرك الاسلامي العراقي، وهيّأ الكثير من أوساط الحوزة العلمية لتقبل أية حالة من حالات المواجهة الشاملة مع السلطة، وكان الشهيد محمد باقر الصدر هو الاقرب فكراً وسلوكاً الى الامام الخميني ومدرسته في العمل. ومن هنا، وبسبب مؤشرات القوة التي برزت لدى الاسلاميين، والتي أدت اليها مجموعة متشابكة العوامل، فان النظام فضّل عدم افتعال حالة المواجهة معهم، وأرغم في النهاية على رفع الكثير من الضغوط التي عرّضهم لها.

وبادر الاسلاميون في عام 1966 الى تأسيس «جماعة العلماء في بغداد والكاظمية» على غرار جماعة العلماء في النجف الاشرف. وقد ساهمت الجماعة ـ بشكل اساس ـ في النشاطات الاسلامية في العاصمة، وتعدى دورها الى العمل السياسي والمشاركة في الاحداث أو رسم المواقف حيالها، فضلاً عن العمل الثقافي والفكري الواقع. وكان الشهيد الصدر لايدّخر وسعاً في دعم الجماعة والمساهمة في توجيهها. والى جانب ذلك، ظل الصدر يوجه الفعاليات الاسلامية الاخرى التي استمرت في عملها منذ سنوات سابقة، أو التي قامت قبل ذلك، ككلية اصول الدين في بغداد التي تأسست عام 1964، فكان الشهيد الصدر يشارك في الاشراف عليها ويوليها اهتماماً كبيراً. كما أصبحت دروسه العلمية واسلوبه في التدريس ومنهجه التجديدي في البحث، محط انظار الوسط الحوزوي العلمي، وحديث المنتديات الثقافية والفكرية.

وبمقتل عبد السلام عارف عام 1966 ومجيئ أخيه عبد الرحمن الى كرسي الرئاسة، دخل العراق مرحلة جديدة تماماً، لم يألفها سابقاً، ولم تتكرر فيما بعد، فقد تميّز هذا العهد بنوع من الهدوء السياسي والاستقرار الاجتماعي والحرية النسبية والظهور الخجول للاحزاب السياسية العراقية، حتى أصبح البعثيون والشيوعيون ـ بعد اطلاق سراح قيادييهم وكوادرهم ـ يتحركون بسهولة في الساحة، فعادت الصراعات الفكرية والاشتباكات السياسية من جديد، ولكن بصورة هادئة ولم تتحول الى ظواهر اجتماعية، كما كانت على عهد عبد الكريم قاسم. اما الحالة الاسلامية، فكانت هذه المرحلة متميزة بالنسبة لها، اذ استطاعت ان تتحرك فيها بحرية ملحوظة، دون أن تتعرض للقمع والضغط والتطويق، فبذلت بعض المسعى للحيلولة دون التفريط بهذه الفرصة. ثم جاءت نكسة حزيران عام 1967 لتترك آثارها على العراق، ككل الدول العربية والمسلمة. ومن خلالها برز تبني الاسلاميين في العراق للقضية الفلسطينية كقضية اسلامية مركزية. فكانت النكسة عاملاً آخر اضافة قوة جديدة للواقع الاسلامي، الذي بلغ مستوى كبيراً من القوة، بالشكل
الذي أصبح فيه المراقبون يتوقعون تغييراً قريباً في خارطة العراق السياسية لمصلحة التحرك الاسلامي، فيما لو استثمر الفرصة ـ الضائعة التي سنحت له ـ بالشكل الذي ينبغي، والذي لم يتوافر مثيل له مطلقاً فيما بعد، لان الحالة الاسلامية باتت تهيمن على الشارع الشعبي، وتفرض نفسها على معظم المستويات الاجتماعية والفكرية والثقافية. وقد تمثلت قوة الحالة الاسلامية في المفردات التالية التي تكمل احداها الاخرى:

اولاً: المرجعية الدينية المتمثلة بالسيد محسن الحكيم، والوضع الجديد في الحوزة العلمية.

ثانياً: الفعاليات الاسلامية على مختلف الوانها: السياسية والثقافية والاجتماعية والدينية.

ثالثاً: القاعدة الشعبية العريضة.

وقد حظيت المرجعية ـ في هذه الفترة بالتحديد ـ بدعم منقطع النظير من قبل الجماهير، الامر الذي جعلها ـ أي المرجعية ـ في موقع الاقتدار امام النظام. ولم تبخل الحالة الاسلامية في اظهار قوتها من خلال العديد من الوسائل، بحيث باتت المسيرات والتظاهرات الشعبية التي يعبئ لها الاسلاميون وتدعمها العشائر، تعلن ـ ضمن مطاليبها ـ عن ولائها الصريح للقيادة الاسلامية. بل ان الجامعات شهدت تحركاً اسلامياً نشيطاً، حتى أصبح بعضها يقرر دروساً في العقائد الاسلامية. فضلاً من انتشار المساجد وصلوات الجماعة والندوات والمكتبات في جميع الكليات والاقسام. كما اعتمدت كلية الادارة والاقتصاد في جامعة بغداد تدريس كتاب «اقتصادنا»، للسيد الصدر كمقرر دراسي منهجي عنوانه «الاقتصاد الاسلامي».

الاستعمار يبحث عن بديل

لقد لمست الدوائر الاستكبارية ـ عن قرب ـ حقيقة الموقف الاسلامي في اعقاب نكسة حزيران، والقوة الكبيرة التي أصبحت تتمتع بها الحالة الاسلامية، وعجز النظام عن مواجهتها أو كبح جماحها. واذا اضفنا موضوع شركات النفط وصفقاتها الجديدة التي ضربت جزءاً من مصالح الانجليز والامريكان في العراق، الى اشكالية القوة لدى الحركة الاسلامية، فان من السهولة معرفة ما يدور في عقل المستكبرين. وكان واضحاً ان الانجليز شعروا بصفارة الانذار نتيجة ما حققه الاسلاميون من واقع. الا ان مجموعة من الاحداث، اعطت الدليل الكافي للبريطانيين والقوى المستكبرة الاخرى، على ان الاسلاميين ليس لهم مصلحة في السلطة، ولا يريدونها، رغم ذلك فان الدوائر المستكبرة لم تعبأ بقناعات الاسلاميين ونوايا المرجعية، بل بادرت الى مشروع انقلابي، يعمل عملاؤها على تنفيذه، وفقاً لما تفرضه مصالحها. ورأى الاستكبار ان البديل الافضل الذي من شأنه كبح جماح الاسلاميين، واحتواء موقف بعض العسكريين من اتباع اهل البيت، والذين بدأت تستهويهم لعبة الانقلابات، بدوافع مختلفة، هو حزب البعث العراقي. ويعود ذلك الى عدة أسباب:

1ـ ان حزب البعث استفاد من الجو المفتوح في عهد عبد الرحمن عارف، فأخذ ينمو كماً ونوعاً، ولاسيما جناحه العسكري، الذي بات مؤهلاً للقيام بأي تحرك مطلوب.

2ـ يتميز حزب البعث بالالتزام بالمخطط الاستكباري البريطاني لادارة شؤون العراق، ومقدرته على قمع المعارضة أو اي حركة جماهيرية تسير بالاتجاه المعاكس، وهو ما برز في انقلاب 8 شباط.

3ـ ان حزب البعث تنظيم علماني يناصب الدين العداء، فيمكن من خلال ذلك القضاء على التيارات الدينية الواسعة التي أصبحت تهدد مصالح الاستكبار في العراق.

4ـ ان الشعب العراقي بمختلف شرائحه، ولاسيما الاسلاميين والمرجعية الدينية، لم يكن مدركاً ادراكاً كاملاً حجم خطر البعثيين، بل كانت الاغلبية تضع الشيوعية في مقدمة الاخطار المحدقة بالبلاد.

وقد جاء في تقرير المؤتمر القطري السادس لحزب البعث في العراق بأن أحد أسباب انقلاب 17 تموز 1968 هو تسلل القوى الرجعية الى مواقع خطيرة، والخشية من سيطرتها على الاوضاع. ويقصد بذلك الحالة الاسلامية المتنامية.

ولم يكن الانقلاب ممكناً دون وفاق او تكامل بين المصالح الامريكية والبريطانية في العراق، وهو ما حصل بالفعل، حين تحالف حزب البعث مع الخط الامريكي في الدولة، والذي يمثله معاون رئيس الاستخبارات وآمر الحرس الجمهوري في العهد العارفي. وبعد نجاح الانقلاب، بادر حزب البعث الى استئصال الخط الامريكي خلال 13 يوماً. حينها انهمك البعثيون برسم الخارطة السياسية المستقبلية للعراق، وتحديد مواقع وثقل الاتجاهات الفكرية والسياسية والاجتماعية المؤثرة في الساحة وكيفية التعامل معها. وقد أشارت ادبيات حزب البعث الداخلية عام 1968 الى واقع القوى السياسية في العراق والموقف منها، وانتهت الى ان الوجود الطائفي (ويقصد به الحالة الاسلامية والفعاليات الاسلامية التي تتقدمها المرجعية الدينية) هو الخطر الذي يهدد الحكم. هذا التقييم التفصيلي للوضع، والذي خرج به حزب البعث في مرحلته الانتقالية (1968 ـ 1969)، انتهى بهجومه الكبير على الاسلام، وتعرضه للمرجعية الدينية والتحرك الاسلامي، وقراره بتدميرهما. ثم صدر القرار الرسمي بالقضاء على الوجود الديني في العراق في 4 نيسان 1969 عن القيادتين القومية والقطرية لحزب البعث، ونص على «ضرورة القضاء على المرجعية الدينية، باعتبارها العقبة الكبرى في مسيرة الحزب»10. وهكذا بدأ التحرش العملي بمصادرة الاموال المرصودة لجامعة الكوفة، وهي مشروع اسلامي خيري. ثم استغل النظام اجواء خلافه الحاد مع نظام الشاه في ايران، للقيام بحملة قاسية ضد العراقيين من ذوي الاصول الايرانية والايرانيين المقيمين في العراق، فبدأ منذ نيسان 1969 بتهجير عشرات الآلاف منهم، في اطار قرار بتهجير نصف مليون نسمة الى ايران بهذه التهمة، أي 06/0 من نفوس العراق. ويشمل ذلك عدداً كبيراً من علماء الدين والشخصيات الاسلامية. وفي غمرة الاحداث خطط السيد محمد باقر الصدر لتحرك مضاد يتناسب مع الوضع، فوجدت مقترحاته قبولاً لدى المرجعية، وكان أولها المؤتمر الجماهيري الاحتجاجي الحاشد الذي عقد في صحن ضريح الامام علي (ع) في النجف الاشرف، والذي دعا اليه السيد محسن الحكيم الذي حضره الى جانب جمع غفير من المراجع والعلماء، وكتب السيد الصدر كلمةً، تضمنت نقداً حاداً للنظام، وتطرق الى مجمل القضايا التي شغلت الشارع العراقي طوال فترة الحكم الجديد، كمطاردة الاسلاميين وحملات التهجير ومصادرة الحريات والتضييق على الحوزة العلمية وعلماء الدين. والقيت الكلمة باسم السيد محسن الحكيم من قبل نجله. وقد مثّل هذا التجمع آخر رد فعل قوي من جانب الاسلاميين في عهد مرجعية السيد الحكيم. ففي اعقابه نجح حزب البعث في امتصاص الحسم في مواقف الاسلاميين، بعد ان آتت استفزازته لهم أكلها، فقرر وضع حد للمناورات والقرارات السرية، وبدأ بتنفيذ مخططاته بعلانية ووضوح، تقديراً منه بأنه بات يمسك زمام الامور بقوة، متخطياً كل المخاطر والمشاكل التي تتهدده جراء معاركه مع العديد من القوى الداخلية والخارجية، كالاتجاهات السياسية المختلفة والمرجعية الدينية والجماعات الاسلامية في الداخل، وايران وما تمثله من ثقل في المنطقة في الخارج. فلم تمض بضعة أيام على مؤتمر النجف حتى شنت السلطة حملة اعتقالات جديدة، شملت عدداً من علماء الدين الناشطين، الذين تعرّضوا لأبشع صنوف التعذيب، مما نتج عنه استشهاد بعضهم. ويذكر ان السيد محمد باقر الصدر اقترح على المرجعية حينها تنظيم تظاهرة علمائية يقودها بنفسه، لايقاف حملات الابعاد والاعتقال، الا ان المرجعية كانت تخشى على السيد الصدر، لانها كانت ترى فيه أمل الاسلام على الصعد كافة، الامر الذي حال دون تنفيذ الفكرة.

وفي منتصف عام 1969، وصل الهجوم البعثي على المرجعية الدينية ذروته، حتى اتهمت السلطة نجل السيد محسن الحكيم بالعمل لحساب ايران وأكراد العراق. وبهذا وجهت السلطة ضربة مباشرة لشخص المرجع الاعلى. ثم اقتحمت قوات السلطة مقر الامام الحكيم، بهدف القاء القبض على نجله، وحين فشلت، قامت باقتياد السيد الحكيم عنوة بسيارة حكومية وأرسلته الى مقره في الكوفة، ثم وضعته تحت الاقامة الجبرية المشددة، وقطعت عنه الماء والكهرباء والهاتف. ومن هذه الحادثة بالذات، بدأت مرحلة الهستيريا البعثية، وأخذت تتصاعد يوماً بعد آخر، اذ استمرت حملات التهجير والنفي حتى مطلع عام 1971، اما الاعتقالات فلم تنقطع، بل كانت تأخذ شكلاً تصاعدياً11.

وفي هذه الفترة، وجد السيد الصدر ضرورة توجيه ضغوط رسمية وشعبية من الخارج على حكومة البعث، بعد أن أخذ الداخل يحترق بالتدريج بنار القمع البعثي، الذي سلب أية مبادرة من الاسلاميين، اللهم الا ردود الفعل الموضعية. وعلى اثرها سافر الصدر الى لبنان، لتصعيد الموقف من الخارج، فحرّك الفعاليات الاسلامية هناك، والتي قام بعضها ـ كالسيد موسى الصدر ـ بالابراق الى جميع رؤساء وملوك الدول العربية والاسلامية، والفعاليات الاسلامية فيها، يشرح لهم المأساة ويدعوهم للتدخل.

وفي خضم هذه الاجواء الخانقة، ارتفع صوت الامام الخميني من النجف الاشرف، بكل جرأة، محطماً الصمت والجمود اللذين فرضهما من وصفهم بالعلماء القاعدين وغير العاملين، فبدأ في مطلع عام 1970 بطرح باب في غاية الاهمية من ابواب الفقه الاسلامي على طاولة البحث والدرس، هو باب الحكومة الاسلامية أو «ولاية الفقيه»، مؤكداً في دروسه هذه على مسألة وجوب تأسيس الحكومة الاسلامية وبناء أجهزتها، ووجوب رعاية العلماء للامة رعاية حقيقية، ووجوب رئاستهم للدولة، ودعاهم الى الجهاد ومقارعة الحكومات الفاسدة والظالمة، كما فضح الانظمة السياسية الوضعية والقوى الاستكبارية، وفضح مؤامراتها بتركيز فهم «فصل الدين عن السياسة» في الوسط الديني12. وعدّ تيار السيد الصدر (الفعاليات الاسلامية المرتبطة به وأصدقاؤه وتلاميذه وجمهوره) ان مبادرة الامام الخميني العلمية هذه نصراً لهم على مختلف الصعد، سواء على صعيد مواجهة السلطة او الاوساط الدينية التي تستنكر اي لون من الوان التفكير أو العمل السياسي. فدعا السيد الصدر بعض تلاميذه البارزين الى الاستفادة من هذه الدروس، وحضورها، كما قام بعض العلماء من انصاره بترجمتها ومراجعتها، اذ توصل السيد الصدر في هذه الفترة ايضاً الى الموقف الفقهي ذاته، وكان يصرّح بالولاية العامة للفقيه.

وبعد وفاة السيد الحكيم في اواسط عام 1970، بادر السيد الصدر الى التحرك الى المرجعيات المرشحة، لتبذل مساعيها لايقاف حملات الابعاد والاعتقال، الا انه لم يتمكن من انتزاع مبادرة مناسبة، سوى الحكم الفقهي الذي صدر حينها، والقاضي بحرمة سفر علماء وطلبة الحوزة العلمية خارج العراق. وحينها كان السيد الصدر يستشعر الفراغ الذي تركته وفاة السيد الحكيم، بعد أن فرضت الظروف الصعبة واجتهاد المرجعيات المرشحة ورؤيتها، تجنب التصدي للعمل السياسي والاجتماعي. وبذلك استتب الوضع بالكامل لصالح النظام الحاكم، الذي تمادى في ممارساته ضد الاسلاميين دون رادع حقيقي، بعد تعزز الركود في الوسط الديني العلمي، وعودة معظم العلماء الى التفرغ للشأن العلمي المحض، ظناً منهم بأن ذلك سيبقى على الجامعة العلمية الكبرى في النجف، قائمة والحيلولة دون انهيارها.

مخطط التصفية الشاملة

توزعت محاور مخطط النظام الحاكم لتصفية الحالة الاسلامية وفعالياتها ووجودها، اضافة الى آفاق تنفيذ المخطط، على ثلاثة أصعدة:

الاول ـ المرجعية الدينية والحوزة العلمية:

ومن أبرز محاوره:

1ـ منع استمرار الكثير من الطلبة ـ غير العراقيين ـ في الدراسة في الحوزات العلمية، واسقاط اقاماتهم الرسمية، ومنع التحاق معظم الطلبة الجدد.

2ـ تحديد التحاق الطلبة العراقيين بالحوزة، والصاق التهم بالكثير منهم، والتضييق عليهم، ورفض اعطائهم اي تأجيل او اعفاء من الخدمة العسكرية.

3ـ منع تسجيل الطلبة في مؤسسات الحوزة التي لا تمتلك ترخيصاً حكومياً. والحال ان الحوزات هي مؤسسات مستقلة منذ مئات السنين، فأراد النظام الحاكم ربطها بأجهزته، من خلال مختلف الضغوطات.

4ـ غلق معظم منافذ الامداد المالي الشرعي (الحقوق الشرعية) من الوصول الى مراجع الدين من مقلديهم في خارج العراق، في محاولة مهمة لاضعاف الحوزة.

5ـ الاستمرار بحملة التهجير والنفي (اساتذة الحوزة وطلبتها) بعد اسقاط الجنسية عن بعضهم او الاقامة القانونية. والتضييق على من تبقى من العلماء. فضلاً عن اعتقال وتعذيب الكثير منهم.

6ـ العمل على اختراق صفوف الحوزة، من خلال ادخال ما يقارب من مئة

وخمسين طالباً من عناصر السلطة الى الحوزة، وايجاد مجموعة من المعممين المرتبطين بالسلطة، ودعمهم وفرضهم كممثلين عن المرجعية والحوزة العلمية،
الى جانب انشاء أو دعم بعض المؤسسات الدينية الحكومية التي تمارس الخداع باسم الاسلام.

7ـ مصادرة الكثير من المكتبات الاسلامية العامة وما تحتويه من نوادر المخطوطات، وشمل هذا الاجراء بعض المكتبات الخاصة بالعلماء أيضاً.

8ـ بث مختلف الاشاعات ضد الحوزة وعلمائها، ولاسيما الوسط الفاعل اسلامياً فيها، وفي المقدمة السيد محمد باقر الصدر، الذي تعرّض لاشكال الاشاعات والتهم، وفي مقدمتها انه عالم سياسي وحركي أو انه اصلاحي وتجديدي.

9ـ محاولة زج العلماء في منزلقات خطيرة وفرض مواقف معينة عليهم، على غرار طلب الحزب الحاكم من الامام محسن الحكيم تأييداً علنياً لانقلابه العسكري، أو اصدار فتوى بجواز قتال الاكراد، اذ رفض المرجع الديني الطلبين. وبعد وفاته، عاود النظام ممارساته، فطلب هذه المرة ـ فتوى من السيد الصدر بوجوب القضاء على الشيوعيين، فرفض الصدر الطلب، ليقينه بأن هذا الطلب هو لعبة سياسية أو منزلق يهدف الى الايقاع بأكثر من طرف بضربة واحدة.

الثاني ـ الوجودات الاسلامية:

ومن اهم محاوره:

1ـ القيام بحملات اعتقال وملاحقة وتشريد واسعة النطاق ضد عناصرها واخضاع المعتقلين الى أشد صنوف التعذيب، واصدار احكام الاعدام او السجن المؤبد ـ دون محاكمة ـ ضد الكثير منهم.

2ـ القيام بحملات تشتيت ضد المشكوك بتعاطفهم مع أي من الوجودات الاسلامية، كابعادهم الى وظائف خارج مناطق سكناهم، وفي المناطق النائية بالذات، وحرمانهم من الامتيازات المعاشية والاجتماعية.

الثالث ـ الصعيد الثقافي والاجتماعي:

1ـ اغلاق الصحف والمجلات الاسلامية، ومنع دخول الصادر منها الى الخارج، وكذا الحال مع الكتاب الاسلامي، من خلال طبعه واستيراده وتوزيعه وبيعه وتداوله.

2ـ شن حملات اعتقال وتنكيل ضد الكتّاب والمفكرين الاسلاميين.

3ـ اغلاق جميع المؤسسات الاسلامية للتربية والتعليم، كالمدارس والثانويات والكليات والجمعيات الخيرية.

4ـ منع بث الشعائر الاسلامية، كالاذان وصلاة الجمعة والمراسيم الدينية، من الاذاعة والتلفزيون.

5ـ منع اقامة الكثير من الشعائر الاسلامية، كالاحتفالات والمسيرات ومجالس العزاء الحسيني.

6ـ نشر مختلف الافكار الانحرافية والوضعية، كالفكر العلماني والقومي والالحادي، ومختلف النظريات الغربية التي تتقاطع مع الاسلام.

7ـ القيام بحملة افساد واسعة، استهدفت مبادئ واعراف المجتمع العراقي المسلم، من خلال التلفزيون والسينما والصحافة، وأماكن الرذيلة والمجون وعلب الليل، والاتحادات والمنظمات المختلطة للاطفال والناشئة والشباب، وجعلها بؤراً لانتزاع دين وعقيدة الشباب واخلاقهم. ولم تقتصر هذه الحملة على المدن، بل تعدتها الى القرى والارياف والعشائر.

8ـ الضغط على كل من يتمسك بالممارسات العبادية والدينية، واتهامه بمختلف الاتهامات، كالرجعية والتخلف والتحجر، أو التشهير والاستهزاء به، فضلاً عن ملاحقته ومراقبته. وكذا الحال بالنسبة لموضوع الحجاب.

9ـ اصدار قوانين (حديثة) منافية للشريعة الاسلامية، كقانون الاحوال الشخصية وغيره.

وشن النظام في عام 1971 اولى حملاته الكبيرة ضد الجماعات الاسلامية، مستعيناً بخبرات ومعلومات دوائر المخابرات البريطانية والامريكية. فاعتقل الكثير من قيادييها وكوادرها، وأعدم قسماً منهم. وعلى اثر ذلك، جرى اول اعتقال للشهيد الصدر عام 1972، بتهم مختلفة، كالتحريض على النظام ودعم الجماعات الاسلامية، الا ان تدهور حالته الصحية أجبر النظام على اطلاق سراحه، الا انه بقي مراقباً.

ولم تثن الاوضاع الضاغطة الشهيد الصدر عن الاستمرار في اخراج الجزء العلمي والفكري في مشروعه، فقد شهدت هذه الفترة، صدور مجموعة من اعماله العلمية الرائدة، وفي مقدمتها «كتاب الاسس المنطقية للاستقراء»، اضافة الى دروسه في علم اصول الفقه، التي ارادها ان تكون منهجاً تجديدياً في هذا العلم. وفي الوقت نفسه، بدأ الكثير من الاتجاهات الاسلامية والرموز الدينية وبعض اوساط الحوزة العلمية، يطالب السيد الصدر بالتقدم لموقع المرجعية الدينية وطرح مرجعيته واصدار رسالته العملية، ولم يقتصر هذا الجو على العراق، بل تعداه الى بعض البلدان الاسلامية ايضاً. وكان الشهيد الصدر يرى ان هذه القضية الحساسة بحاجة الى المزيد من التأمل والدراسة، رغم انه بات مقتنعاً بأن الفراغ الذي يتسببه عدم وجود مرجعية متصدية للاوضاع في العراق، لم يعد محتملاً، وانه يؤدي الى تصدع حقيقي في كيان المؤسسة الدينية وعموم الحالة الاسلامية والمجتمع المسلم. وبقي الاعلان عن مرجعية السيد الصدر مجرد مسألة وقت.

ومرة اخرى يستأنف النظام حملته ضد الواقع الاسلامي، ولكن بصورة تختلف هذه المرة عن سابقتها، فالهجوم هذه المرة كان واسعاً كماً ومركزاً نوعاً، ففي منتصف عام 1974، قام النظام الحاكم باعتقال السيد محمد باقر الصدر للمرة الثانية خلال سنتين تقريباً، واكثر من سبعين كادراً وقيادياً اسلامياً، بينهم عدد كبير من العلماء واساتذة الحوزة، اضافة الى عدد كبير من المشتبه بعلاقتهم بالجماعات الاسلامية. وعلى الرغم من اطلاق سراح السيد الصدر فيما بعد، الا ان الدلائل كانت تشير الى انه كان أهم المستهدفين في هذا الهجوم الشرس، نتيجة احساس النظام بأن مرجعيته الرشيدة المتصدية في طريقها للاعلان، وان التحرك الاسلامي العراقي يرتبط به كمحور قيادي وفكري وارشادي، فكان الكثير من المعتقلين من وكلائه وتلامذته ومريديه، أو ممن عمل معه وتحت اشرافه. وقد ادركت القيادات المعتقلة ذلك، فأوصت عناصرها في السجن بضرورة عدم حصول السلطة على أية معلومة أو اعتراف ضد السيد الصدر، للحيلولة دون اعطاء اية ذريعة بأيدي السلطة، لانه ـ كما اشارت هذه التوصيات ـ امل الاسلام ورمزه، والمساس به يعني هدم كيان المرجعية الرشيدة وتمكين السلطة من الاسلام. وهكذا لم تحصل السلطة على أي اعتراف، مهما كان جزئياً وعابراً ضد السيد الصدر. وفي الوقت نفسه شهدت اوساط الحالة الاسلامية نقاشاً حول خروج السيد الصدر من العراق، للحفاظ عليه والحيلولة دون محاولات قتله وتصفيته، الا ان الشهيد الصدر كان يرفض أية فكرة بالخروج من العراق، لانه كان يعتبر مكانه الطبيعي الذي ينفذ من خلاله مشروعه الشامل هو النجف الاشرف.

وصدرت الاحكام ضد المعتقلين، دون محاكمة حقيقية، وكان الاعدام نصيب خمسة منهم، والسجن المؤبد ومدد مختلفة للباقين. وجرت مساع حثيثة من قبل العلماء والحوزة العلمية في العراق وخارجها لمنع تنفيذ احكام الاعدام، كان من أهمها ما فعله الشهيد الصدر، الذي حصل على تأكيدات من قبل عضو في القيادة القومية للحزب الحاكم بأن الاحكام لن تنفذ، ولكن تأخيرها كان خديعة من قبل السلطة، لامتصاص ردود الفعل. فتم اعدامهم في اواخر عام 1974. وبعد اعلان
النبأ، اصيب السيد الصدر بحالة شبيهة بالغيبوبة، وعطّل الدراسة واعتزل الناس لبضعة ايام.

وبعد اعدامات واعتقالات وتهجيرات عام 1974، تصور النظام انه قضى تماماً على التحرك الاسلامي داخل العراق، ولكن الذي حدث كان العكس، الامر الذي حمل صدام حسين على وصف الاسلاميين بـ «النمل»، الذي يخرج من جهة اخرى اذا هدمت بيته من جهة، وطالب بصب الزيت عليهم وحرق الاخضر واليابس دون تراجع13. فتم ابعاد اكثر من «1500» عالم دين وطالب في الحوزة العلمية الى الخارج في عام 1975، واعتقال المئات من الاسلاميين والحكم عليهم بمدد مختلفة، بعد تعريضهم لأبشع ألوان التعذيب. ثم شهد عام 1976 هدوءاً ظاهرياً ملحوظاً، بسبب الأساليب المعقدة التي اعتمدتها الفعاليات الاسلامية في التحرك، والتي لم تكن تعطي بيد السلطة أية ذريعة، فكان كل شيء مبهماً بالنسبة لها، حتى ايقنت مرة اخرى انها قد حققت اهدافها في القضاء على التحرك الاسلامي، الامر الذي أفاد الواقع الاسلامي كثيراً، فشعر بنوع من الاستقرار والتعامل مع الاوضاع بروح المبادرة ليس بردود الفعل. اما العامل الأساس الآخر الذي يعود اليه الفضل في توسع الحالة الاسلامية وامتدادها ثانية خلال هذه الفترة، فهو تصدي الامام السيد محمد باقر الصدر للمرجعية الرشيدة (كاطروحة تجديدية للمرجعية الدينية)، ولزعامة جزء كبير من الحوزة العلمية، بعد نشر رسالته الفقهية العملية (الفتاوى الواضحة) واتساع دائرة مقلديه، وبنائه جهازه المرجعي، ومساهمة وكلائه في كثير من مناطق العراق مساهمة اساسية في ربط الجماهير بالمرجعية الرشيدة ونشر الوعي الاسلامي في اوساطها.

وقد برز هذا الواقع الجديد الذي يقوده الشهيد الصدر، علانية، ولم يعد منظّراً ومحركاً له فقط ـ في احداث السنوات اللاحقة، وفي مقدمتها انتفاضة صفر الاسلامية عام 1977، التي لم تشهد النجف الاشرف مثيلاً لها في تاريخها الحديث، سوى ثورتها ضد الانجليز عام 1917. فقوة انتفاضة صفر اربكت النظام ومعادلاته، بحيث اعلن النفير العام في صفوف حزبه، وحالة الطوارئ القصوى في القوات المسلحة. كما جاءت الاوامر الى الجيش والجيش الشعبي والشرطة والأمن والمخابرات بسحق الانتفاضة دون رحمة. وبعد صدامات مسلحة واسعة، انتهت الانتفاضة بصورة مأساوية، اذ وصل عدد المعتقلين من الثوار الاسلاميين نحو (30) ألف معتقل، وكان الاستجواب الأهم الذي وجه لرؤوس الانتفاضة ومحركيها يدور حول علاقتهم بالامام الصدر والحركات الاسلامية. فقد منح السيد الصدر مباركته وتأييده للانتفاضة منذ بدايتها، وتابع تطوراتها وتفاصيلها وشملها برعايته وتوجيهه، كما وافق على ذهاب أحد أبرز تلامذته الى ساحة الانتفاضة لاعلان دعم السيد الصدر لها، ومحاولة اقناع زعمائها بعدم اعطاء النظام مبرراً لقمعها، بعد أن وصلت السيد الصدر معلومات سرية مفادها ان السلطة تنوي ابادة المنتفضين، اذ ان مسؤولي الامن والحزب في النجف صوّروا لقيادتهم في بغداد بأن زعماء الانتفاضة يتحركون بأوامر السيد الصدر.

الانتصار الاسلامي في ايران

لم تكن الثورة الاسلامية الايرانية حدثاً محلياً أو اقليمياً على الصعيدين الجغرافي والزمني، بل ان لها من الابعاد العميقة مايجعلها منعطفاً ونقطة تحول في تاريخ الانسانية الحديث. وكان من الطبيعي ان يكون العراق هو الاكثر تأثراً بهذا الحدث والتغيير الكبير، لعوامل عدّة، اهمها:

1ـ جغرافياً: يشترك البلدان بحدود طولها (1280) كم، وهما يشكلان وحدة جغرافية واحدة تقريباً (المناخ، التضاريس، الثروات الطبيعية، المياه وغيرها)، فضلاً عن المشتركات الكثيرة جداً في حقول الجغرافية السكانية.

2ـ تاريخياً: يرتبط اسماهما بأحداث كبرى، تعود الى ما قبل الاسلام، فعاصمة الدولة الفارسية الساسانية كانت قرب بغداد، وبعد الفتح الاسلامي، أصبحت بلاد فارس جزءاً من الدولة الاسلامية، التي كان العراق مركزها مئات من السنين، كما ألحق العراق بايران في مراحل زمنية اخرى.

3ـ سكانياً: تبلغ نسبة المسلمين في ايران 98./. أيضاً من عدد السكان، وفي العراق 98./.، ويشكل اتباع اهل البيت (ع) في ايران 93./. وفي العراق 64./.، أي انهم الاغلبية في كلا البلدين. كما ان القوميات واللغات والتقاليد فيها الكثير من الاشتراك بين البلدين، فضلاً عن العلاقات الاجتماعية والعائلية المتشابكة.

4ـ عقائدياً: يرتبط شعبا البلدين بمراكز ورموز دينية مشتركة، كمراقد أئمة اهل البيت (ع) وابنائهم، المنتشرة في كلا البلدين، والحوزات العلمية، وخاصة في النجف وقم، والمرجعيات الدينية العليا التي يجمع الشعبان على الولاء الديني لها.

5ـ موضوعياً: يحظى العراق بوجود المرجعية الدينية الثائرة المتمثلة بالامام السيد محمد باقر الصدر، والتي تسير باتجاه واحد مع مرجعية الامام الخميني، وتحمل افكارها، وتدين بالولاء لها. اضافة الى وجود حالة اسلامية كبيرة تتمتع بالامتداد والقوة والشمول، وكذلك الخلفية الدينية المتجذرة للشعب العراقي، والتي فجّرت الكثير من الاحداث الكبرى منذ اوائل القرن الحالي. هذه الاحداث التي كان بامكانها ـ عند توافر بعض الظروف الموضوعية ـ أن تتحول الى دولة اسلامية14.

واشتمل التأثر بالثورة الاسلامية، الخارطة السياسية في العراق بأكملها، سلباً وايجاباً. فلا شك ان النظام العراقي ظل اكثر الانظمة تأثراً ـ بالسلب ـ بالثورة الاسلامية في ايران، مما جعله اكثر الانظمة عداءً واساءة لها. وقبل الانتصار، كان السيد الصدر وتياره قد أعلنا ولاءهما للامام الخميني، وعملا باتجاه دعم الثورة الاسلامية فكرياً واعلامياً وجماهيرياً، سواء في داخل العراق أو الدول العربية والاوربية. وحين كان الامام الخميني في باريس، ارسل اليه السيد الصدر رسالة مسهبة، نيابة عن النجف والمرجعية والشعب العراقي، وجاء في مقدمتها: «اننا في النجف الاشرف، اذ نعيش مع الشعب الايراني بكل قلوبنا ونشارك آلامه وآماله، نؤمن ان تاريخ هذا الشعب العظيم، اثبت انه كان ولا يزال شعباً أبياً شجاعاً وقادراً على التضحية والصمود من أجل القضية التي يؤمن بها ويجد فيها هدفه وكرامته».

وتحول العراق الى وجه آخر للانتصار الاسلامي في ايران، فمنذ اليوم الاول للانتصار في شباط 1979، خرجت الجماهير تتبادل البشرى وتوزع الحلوى في الشوارع وتنشر الورود، على مرأى ومسمع من السلطة. وأعلن السيد الصدر عن تعطيل الدراسة في الحوزة العلمية مدة ثلاثة ايام ابتهاجاً بالانتصار. وخرجت في اليوم نفسه تظاهرة تأييد للثورة في النجف الأشرف، فتصدت لها قوات السلطة، وكانت أول مجابهة علنية بعد انتصار الثورة بين الاسلاميين والسلطة، تجري فصولها في الشارع. وفي الوقت نفسه، أعلن السيد محمد باقر الصدر على الملأ بيعته الشرعية للامام الخميني .. قائداً للامة وولياً لأمر المسلمين، نيابة عن الحوزة العلمية والحالة الاسلامية والشعب العراقي. وجاء في برقية البيعة: «وانّا اذ نتطلّع الى المزيد من انتصاراتكم الحاسمة نضع كل وجودنا في خدمة وجودكم الكبير، ونبتهل الى المولى سبحانه وتعالى ان يديم ظلكم ويحقق أملنا في ظل مرجعيتكم وقيادتكم». وهذا النوع من البيعة شيء نادر بين المراجع المسلمين، ولم يتعود
عليه عرف الحوزة العلمية، فالمرجع يحتفظ ـ عادة ـ بكيانه وولايته على مقلديه، الا ان السيد الصدر عمل وفقاً لرؤيته الفقهية لموضوع امامة المسلمين، اذ يعتقد بوحدتها واشتمالها على المسلمين كافة، فيقول بأن «المرجعية الرشيدة هي المعبّر الشرعي عن الاسلام، والمرجع هو النائب العام عن الامام (المعصوم) من الناحية الشرعية»15.

وبعد أن طرح الامام الخميني مشروع دستور الجمهورية الاسلامية على طاولة البحث في ايران، بادر السيد الصدر الى المساهمة في اثرائه، بآرائه ونظرياته، ولاسيما الدراسة التي قدمها الى الامام الخميني قبل طرح مسودة الدستور، تحت عنوان «لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الاسلامية في ايران». وقد وردت أكثر أفكار السيد الصدر في الدستور الاسلامي الايراني، وهو ما كان واضحاً حتى لدى الدوائر الغربية، اذ تقول دراسة أمريكية متخصصة بأن آية الله الصدر يعد «أحد الآباء الفكريين لدستور الجمهورية الاسلامية»16. وان آراءه الفكرية والسياسية «عملت على تقوية موقع آية الله الخميني فيما يتعلق بمنصبه كفقيه للحكومة الاسلامية»17. ثم كتب السيد الصدر بعد شهر من انتصار الثورة خمس دراسات اخرى عن الدولة الاسلامية، كجهد فكري تمهيدي في سبيل خدمة النظام الاسلامي، جمعت في كتاب «الاسلام يقود الحياة».

ردود فعل النظام

من السهل على المراقب ملاحظة العديد من الظواهر التي أفرزتها ثورة ايران الاسلامية في الشارع العراقي، فقد أوجدت وعياً دينياً وسياسياً وجهادياً في الامة، كما أنضجت الوعي الموجود، بصورة اجتاحت معها العراق موجة تدين واسعة للغاية، رافقها نزوع شديد نحو العمل الاسلامي، وانتهت الحالة بتطلع الشعب العراقي الى ثورة ونظام شبيهين بايران الاسلامية.

ومما لاشك فيه ان الثورة حطّمت معظم طموحات النظام العراقي وجهوده المبذولة خلال الاعوام العشرة من عمره لتحويل العراق الى بلد ديني. كما أربكت معادلاته على الصعيد الخارجي، كاجتياح الخليج وعموم المنطقة سياسياً وحزبياً، ولعب دور قيادي على مستوى البلدان العربية أجمع. ومن هنا كان طبيعياً ان يتعاظم عداء النظام العراقي للثورة الاسلامية، وتكون ردود فعله حادة للغاية، ولاسيما بدخول العامل الاساس، الذي يكمن في الصراع الحضاري والآيديولوجي بين الطرفين، مما دفع النظام الى فتح جبهتين واسعتين لحسم الصراع، احداهما في الداخل في مواجهة الحالة الاسلامية العراقية وامتدادات الثورة، والثانية في الخارج، في مواجهة الثورة الاسلامية الايرانية مباشرة، ومواجهة تأثيراتها في العالم الاسلامي أيضاً. وكان مما فعله على الجبهتين، شن حرب اعلامية شرسة ضد الثورة، مستغلاً كل وسائل اعلامه في الداخل والخارج، ووصف الثورة بالرجعية والطائفية والعنصرية والشعوبية والعمالة وانتهاءً بالمجوسية، واحتضان اعداء الثورة الاسلامية من رجالات النظام السابق وغيرهم ووضع جميع الامكانات بين ايديهم، والقيام بحملة افساد منظمة للشعب العراقي لم يشهد العراق مثيلاً لها في تاريخه، لسحب البساط من تحت اقدام موجة الوعي الديني التي كانت ترعبه بشدة، واثارة الفتن والنعرات العرقية والطائفية في داخل ايران، وتحديداً في كردستان وخوزستان، فقام عملاؤه بالكثير من اعمال العنف والشغب، والقتل والتفجير. واخيراً، التحرش العسكري المباشر، والذي بدأ في 4 نيسان 1979، أي بعد أقل من شهرين من انتصار الثورة18.

وحيال كل هذا التآمر، كان السيد الصدر يعمل في حدود امكاناته وامكانات تياره الاسلامي المتنامي، على المواجهة .. دفاعاً مرة وهجوماً اخرى، وعلى مستويين، آني وبعيد المدى. فعلى سبيل المثال، كان يخطط لاجراء تحول في واقع الشعب العربي في ايران، للحؤول دون استغلاله من قبل النظام العراقي، وقد تحرك بهذا الاتجاه فعلاً. وكان قد بعث لعرب ايران رسالة يحثهم فيها على احتواء الفتنة القومية، جاء في جانبها:

«اني اخاطبكم باسم الاسلام وأدعوكم وسائر الشعوب الايرانية العظيمة لتجسيد روح الاخوة الاسلامية التي ضربت في التاريخ مثلاً أعلى في التعاضد والتلاحم في مجتمع المتقين، الذي لا فضل فيه لمسلم على مسلم الا بالتقوى … فلتتوحد القلوب ولتنصهر الطاقات في اطار القيادة الحكيمة للامام الخميني».

على طريق الثورة

العوامل الموضوعية التي وضعت العراق على طريق الثورة الاسلامية، تمثلت بالركائز الثلاثة التالية:

الاولى: المرجعية القائدة للسيد محمد باقر الصدر:

تصدي السيد الصدر لقيادة الواقع الاسلامي، واعلان دعمه الكامل للامام الخميني، وانتشار اطروحته في المرجعية الموضوعية وتبنيه لها عملياً، لعبت بمجموعها دوراً أساسياً في توجه الجماهير نحو مرجعيته الدينية وقيادته السياسية، حتى باتت اجهزة الاعلام والمخابرات الغربية تصفه بـ «خميني العراق» و «آية الله العراق». ففي هذه المرحلة توسعت مرجعية السيد الصدر بصورة كبيرة، وأصبحت ثاني المرجعيات الكبرى في النجف الاشرف، وقد طرح مرجعيته بمضمون وشكل مختلفين عن المرجعيات التقليدية السائدة، التي أسماها بـ «المرجعية الذاتية»، اما اطروحته المرجعية، فأطلق عليها «المرجعية الموضوعية» او «المرجعية الرشيدة» او «المرجعية الصالحة»، والتي من شأنها تحويل المرجعية الدينية الى قيادة اجتماعية ونظام ديني مؤسساتي متكامل، كي لا تكون فردية في عملها وارتجالية في مواقفها، ويمكنها تحقيق الاهداف العليا للاسلام. وحدد لهذا النظام ثلاثة اسس:

1ـ ايجاد جهاز متكامل فيه جناحان: علمي تخطيطي، وآخر تنفيذي، تعمل المرجعية من خلالهما، ويقومان على اساس الكفاءة والتخصص وتقسيم العمل. ويحتوي الجهاز على عدة لجان لتسيير الوضع الدراسي في الحوزة، وللانتاج العلمي، ولشؤون علماء المناطق، وللاتصالات، ولرعاية العمل الاسلامي، وللشؤون المالية.

2ـ ايجاد امتداد حقيقي افقي للمرجعية يجعل منها محوراً قوياً، ويتمثل الامتداد في شرائح الامة المختلفة.

3ـ ايجاد امتداد زمني للمرجعية اوسع من حياة الفرد، أي تبقى الأجهزة والانظمة المرجعية قائمة بعد وفاة المرجع، ليتسلمها منه المرجع الجديد19.

وعمل الشهيد الصدر على توسيع دائرة ممثليه ووكلائه في المدن العراقية، فبلغ عددهم أكثر من (100) وكيل، وسعى الى تحويل بعض جوانب اطروحته في المرجعية الموضوعية الى واقع عملي.

الثانية: الجماعات والفعاليات الاسلامية:

وقد عمل الشهيد الصدر على اعادة ترتيب أوضاعها ومراقبة عملها بصورة مباشرة، ودفعها نحو التكامل مع مرجعيته، ودعمها بالمال، كجزء من التحضير لمشروع الثورة.

الثالثة: الجماهير المسلمة:

ادى الصراع بين الواقع الاسلامي الذي يقوده الشهيد الصدر وبين النظام الحاكم على كسب تأييد الشعب، الى وضع مضطرب جداً في الساحة، وتلاطم في الافكار والأهواء والمصالح، وتمايز فاصل في الولاءات. وبات واضحاً ان عدم التكافؤ في الامكانات بين الطرفين، لم يحُل دون اعلان شرائح واسعة من الامة عن ولائها للشهيد الصدر، والتعبير عن ذلك بوسائل مختلفة.

هذه الركائز كانت مواد التفجير وعناصر الثورة المنتظرة، والتي كان الشهيد الصدر يتسلسل في الاعلان عنها. ومن اهم الخطوات التي اقدم عليها في هذا المجال:

1ـ افتى بحرمة الانتماء للحزب الحاكم والتعاون معه تحت أي عنوان، ولو كان انتماءً شكلياً.

2ـ افتى بحرمة دخول الطالبات الى الجامعات بدون الالتزام الكامل بالحجاب الاسلامي.

3ـ افتى بحرمة الصلاة خلف رجال السلطة المتلبسين بزي علماء الدين.

4ـ استنفر تلامذته وممثليه ووكلاءه للعمل بين الجماهير في مناطق البلاد، وتعبئتها ضد السلطة.

5ـ ارسل أحد أبرز تلامذته الى خارج العراق، ليكون ممثلاً عنه لدى قيادةالثورة الاسلامية في ايران، والفصائل الاسلامية والجماهير في المهجر، لعمل برنامج موحد.

وقد ترتب على هذه الخطوات تحولات وأحداث كبيرة، بدأت في نيسان 1979، واستمرت حتى حزيران 1979، حيث شهدت الاوضاع منعطفاً كبيراً. ورداً على ذلك، قامت السلطة بهجومها الثالث الكبير على الحالة الاسلامية، فأخضعت تلاميذ السيد الصدر وممثليه تحت الرقابة المشددة واعتقلت قسماً منهم، وأخذت تراقب رواد المساجد، والمشاركين في الشعائر الدينية، وكل من يشتبه بعدم ولائه للسلطة. كما قام النظام بالتضييق على السيد الصدر نفسه ومنعه من مزاولة بعض نشاطاته، الى حد محاسبته على مجلس الفاتحة الذي اقامه على الشهيد الشيخ مرتضى المطهري، بذريعة ان المطهري شخص ايراني.

وخلال ذلك، سرت شائعة قوية في اوساط المسؤولين الايرانيين، بشأن عزم الشهيد الصدر على مغادرة العراق، فأبرق اليه الامام الخميني طالباً منه عدم مغادرة العراق: «انني لا أرى من الصالح مغادرتكم مدينة النجف الاشرف مركز العلوم الدينية، وانني قلق من هذا الامر .. آمل ان شاء الله ازالة قلق سماحتكم». فأبرق الشهيد الصدر مجيباً: «اني استمد من توجيهكم الشريف نفحة روحية، كما أشعر بعمق المسؤولية في الحفاظ على الكيان العلمي للنجف الاشرف». وحقيقة الامر ان السيد الصدر لم يكن ينوي ترك البلاد، وهو ما صرح به لتلامذته20. وقد انتشر هذا الموضوع (شائعة مغادرة الصدر العراق وتبادل البرقيتين بين الامام والشهيد) بسرعة مذهلة في العراق من اقصاه الى اقصاه، فاستثمرته الفعاليات الاسلامية، وحشّدت الجماهير على شكل وفود لزيارة السيد الصدر في النجف واعلان البيعة والولاء له، واستمرت وفود البيعة بالتقاطر على القائد تسعة أيام متتالية. ولم تكن السلطة تتوقع هذا الولاء للمرجعية الدينية، والذي انعكس في الخارج بقوة ايضاً، مما دفع السلطة الى اجراءات اكثر حزماً، بل اجراءات فاصلة. وبالفعل فقد انفجر الوضع، فبعد يوم واحد من انتهاء وفود البيعة، اقدمت السلطة على اعتقال السيد الصدر، واقتادته الى العاصمة محاطاً بسيارات قوى الامن المدججة بالسلاح. وكان الهدف هو حمل السيد الصدر على المساومة أو التصفية. اما الذي حال دون تنفيذ حكم الاعدام فهو انتظار ردود فعل الشعب. وعلى اثر ذلك، فجرت بنت الهدى الصدر (شقيقة الشهيد) الموقف، وأعلنت للملأ عن اعتقال أخيها، فخرجت التظاهرات في صباح اليوم نفسه في اكثر من أحدى عشرة مدينة، وهي تطالب باطلاق سراح الصدر. وعرفت الاحداث هذه بـ «انتفاضة رجب» التي تعد علامة مميزة في تاريخ التحرك الاسلامي في العراق في هذا القرن، لما لها من أبعاد شديدة العمق. وقد اعتبر النظام الحاكم هذا الانفجار ثورة حقيقة، قد نجحت لولا الاجراءات القمعية الشديدة التي اتخذتها السلطة. ونتيجة الضغط الجماهيري، اطلق سراح الامام الصدر، وكان ذلك اول نتيجة ايجابية للانتفاضة، مما حمل السلطة على الاعتقاد بضرورة اتخاذ اجراءات مناسبة قبل الاقدام على عمل مشابه في المستقبل.

وعلى اثرها بقي الشهيد الصدر محتجزاً في بيته طيلة تسعة أشهر، منعته السلطة خلالها من مزاولة حتى اعماله العادية، كالتدريس والصلاة، ومنع حتى الاطباء من زيارته، رغم تدهور حالته الصحية، وقامت السلطة باخلاء الدور المحيطة ببيته، وزرعت المنطقة برجال الامن، ونصبت اجهزة التصوير والتنصت داخل منزله، رغم ان الزيارات اليه كانت ممنوعة بتاتاً، حتى من أقاربه.

وخلال ذلك قامت السلطة بجملة اعتقالات واسعة، شملت ما يقرب من ثمانية آلاف اسلامي، اعدم منهم (86)، وحكم على المئات بالسجن المؤبد او بمدد مختلفة. وكان من بين المعدومين عدد من تلامذة وممثلي الشهيد الصدر. ثم اعتقلت السلطة اكثر من ثلاثة آلاف اسلامي آخر، اعدمت منهم (40) شخصاً، وحكمت على الآخرين بين السجن المؤبد والسجن لمدد مختلفة. وحينها لم يكن أمام الشهيد الصدر سوى الافتاء بوجوب الكفاح المسلح وجوباً كفائياً، دفاعاً عن النفس. كما دعا في ندائه الاول الذي أصدره في منتصف حزيران 1979 الشعب العراقي مواصلة طلباته الى النظام «مهما كلفه ذلك من ثمن، لان هذا دفاع عن النفس .. دفاع عن الكرامة…دفاع عن الاسلام». وحينها تحركت الفصائل الاسلامية معلنة الكفاح المسلح، وباتت العمليات العسكرية المضادة للسلطة تمارس بشكل يومي، الا انها لم تكن تردع النظام أو توقفه عند حدود معينة من القمع والارهاب، بل كانت تستفزه للمزيد من الهستيريا.

وقد عملت الجمهورية الاسلامية في اطار واجبها تجاه الشعب المسلم الجار، على دعم الواقع الاسلامي فيه، ومحاولة رفع جزء من الضيم عنه، فحاول الامام الخميني ارسال ممثل عنه الى الشهيد الصدر، كما حاول السفير الايراني في بغداد زيارته، الا ان المحاولتين فشلتا. ثم اتصل به مندوب عن الامام الخميني تلفونياً، حيث أجاب خلال الاتصال السيد الصدر على برقية الامام الخميني بقوله : «واني اذ لا يتاح لي الجواب على البرقية، لأني مودع في زاوية البيت، ولا يمكن أن أرى أحداً أو يراني أحد».

وأخذت معاناة الشهيد الصدر من حالة الوعي في الحوزة العلمية تأخذ طابعاً آخر، فقد كان متقدماً عليها بأشواط كبيرة للغاية، كما كانت السبب في عدم تفاعل كثير من اوساط الحوزة مع مشروعه التغييري، الأمر الذي كان يحول دون استمراره أو نجاحه، بل كانت عبئاً ثقيلاً عليه.

رائحة الموت في كل مكان

كانت اوضاع النظام غير المستقرة، تتسبب في قلق الدوائر الاستكبارية، الأمر الذي نتج عنه تغيير في قمة هرم السلطة، فحل صدام حسين محل أحمد حسن البكر، كحل تفرضه المرحلة، والتي لابد ان تكون حاسمة، ويتم خلالها استئصال اي تحرك اسلامي مضاد ـ حسب الدوائر الاستكبارية ـ ويذكر ان الأحداث انطلقت برؤية بريطانية للأوضاع الجديدة. وتلخص السيناريو بتقديم قائمة الى البكر تضم (300) شخصية اسلامية، بينها السيد محمد باقر الصدر، للتوقيع على اعدامها، ومقابل رفض البكر، هدده نائبه بالمصير نفسه. وحدث خلاف في قيادة الحزب الحاكم، ادى الى تسلّم النائب للسلطة الاولى، واعتقال جميع القادة المعارضين في النظام، فاعدم (22) منهم. وحينها فتحت ابواب مرحلة جديدة من المعاناة امام الواقع الاسلامي21.

وكان الوضع مهيّأً للانفجار ضد النظام، الا ان اعتقال السيد الصدر في بيته، وفصله عن العالم الخارجي، كان يحتم وجود بديل للسيد الصدر في قيادة الانفجار واستثماره، الا ان واقع الحال كان يؤدي الى خيبة أمل كبيرة، جعلت الشهيد الصدر يعيش مرارة يصعب وصفها22. وفي الوقت نفسه كانت السلطة مستمرة في قص أجنحة حركة الصدر، لتقضي على أي رد فعل محتمل حين اعتقاله واعدامه. فبلغ عدد الذين تمت تصفيتهم من الاسلاميين حتى نهاية عام 1979، اكثر من ثلاثة آلاف شخص. ثم تصاعدت بشكل كبير في الاشهر الاولى من عام 1980، حتى تقول صحافية مصرية عاشت احداث تلك الفترة بتفاصيلها: «كنت طيلة الشهور قبل ابريل 1980، اسمع عن الاعدامات الجماعية التي يساق لها الشباب المسلم : 300، 400 شاب يومياً»23. وكان معظم الشهداء، من تلامذة السيد الصدر ووكلائه وأنصاره وجمهوره. ورافقت حملات الاعدام حرب نفسية شديدة مارستها السلطة ضد الصدر، حيث كانت تخبره يومياً بأسماء المعدومين من المقربين اليه وأنصاره، امعاناً في ايلامه والتنكيل به، وهو محاصر في بيته.

وتحركت المنظمات الدولية لحقوق الانسان تحركاً صورياً للدفاع عن معاناة السيد الصدر، ولكن دون أي جدوى، فقد ذكر تقرير منظمة العفو الدولية بأن الماء والكهرباء قد قطعا عن دار آية الله الصدر، وان الطعام يجلب له مرة واحدة في الاسبوع، ولا يسمح له بمغادرة الدار، حتى الذهاب الى المسجد، وكذلك لا يسمح له باستقبال الزوار من اصدقائه او طلابه، ولم يسمح ايضاً بزيارة الطبيب له رغم تدهور حالته الصحية، وتم اشغال الدور المحيطة ببيته بعناصر الأمن24. بل اصبحت عائلة الصدر في حالة يرثى لها حين قطع عنها الطعام نهائياً.

وحاولت السلطة قتل السيد الصدر عدة مرات وهو في بيته، كي لا تتورط علناً بدمه، فحفرت نفقاً تحت البيت، في محاولة لهدمه، كما ارسلت ضابطاً لاغتياله، الا ان الضابط تاب على يديه، فأعدمته السلطة، ثم عاودت المحاولة اكثر من مرة، الا انها كانت تفشل بسبب اخطاء فنية بسيطة. وفي هذه المرحلة فكّر الشهيد الصدر في تشكيل القيادة النائبة التي تتكون من عدد من تلامذته البارزين والشخصيات الاسلامية المعروفة، لتأخذ على عاتقها قيادة التحرك الاسلامي في فترة حجزه أو بعد استشهاده، الا ان عوامل معينة ـ لا مجال للخوض فيها ـ حالت دون تحقيق هدفه25.

الاستشهاد .. خاتمة الملف

لا يمكن ان يكون الموت خاتمة حياة الرجال العظام الذين صنعوا تاريخ الانسانية، فهؤلاء يظلون أحياء بأفكارهم ومشاريعهم، وبالأجيال التي أوجدوها وصاغوا شكلها ومضمونها، لتحمل همّ الفكرة والمشروع من بعدهم. والشهيد الصدر أحد الذين يقفون في مقدمة صنّاع التاريخ الاسلامي. فبرغم ان السلطة كانت تهدف من وراء اعدامه الى تصفية الواقع الذي صنعه، ومحو اسمه وفكره من ذاكرة الامة، الا ان الذي حصل هو العكس تماماً. ومن هنا لا يمكن ان نعد استشهاده خاتمة للملف السياسي في مشروعه، اللّهم الا من باب الممارسة الواقعية للعمل السياسي، فان الشهادة كانت خاتمتها بالفعل.

حين خففت السلطة من حجم الحصار على السيد الصدر وداره، كان المراقبون يعتقدون ان هذا الحدث هو عملية جس نبض اخرى لردود الفعل. فجاءت ردود الفعل هذه المرة أيضاً على خلاف ما توقع النظام، فقد اقبلت عليه الجماهير بكثافة على مرأى ومسمع من النظام، رغم ما فعله من اجراءات الارهاب والقمع والقتل. فأعادت وضع الحجز على ما كان عليه من قبل. وفي نهاية آذار 1980، اصدرت قيادة النظام قراراً بابادة التحرك الاسلامي تحت ذرائع قانونية، وكان السيد الصدر أبرز المستهدفين في هذا القرار. وجاء القرار ورقة ضغط جديدة بيد السلطة في مفاوضاتها مع السيد الصدر، اذ طرحت عليه ثلاثة شروط، مقابل عودته الى الحياة الطبيعية، والا فانه سيعدم. وتلخصت الشروط بالغاء الفتوى التي اصدرها الصدر بحرمة الانتماء لحزب البعث، والبراءة من الامام الخميني والامتناع عن دعم الثورة الاسلامية في ايران، والبراءة من التحرك الاسلامي والافتاء بحرمة الاشتراك فيه. فرفض السيد الصدر الشروط. ثم تنازل النظام عن شروطه واكتفى بواحد فقط يختاره الصدر نفسه، فرفض أيضاً، وطرد ممثلي السلطة، وامتنع عن مقابلتهم فيما بعد، وحينها كان يتوقع اعدامه في أي وقت، حيث قال: «اني اتمنى وأرجو الله أن يرزقني الشهادة، فان الدم لم يعد له شيء.. متى يتورط هؤلاء بدمي»26.

واعتقل الامام الصدر في 6 نيسان 1980 وارسل الى بغداد فوراً بعد احتجاز عائلته. واتخذت السلطة اجراءات مكثفة لخنق أي ردود فعل تجاه اعتقاله كما حدث في 17 رجب، لعل من ابرزها: حملات التهجير الواسعة الى ايران، والتي شملت آلاف العوائل العراقية، اذ بدأت في اليوم السابق على اعتقال السيد الصدر، وحملات الاعتقال العشوائية الرهيبة التي لم يشهد تاريخ العراق مثيلاً لها، والتعتيم الاعلامي الشديد عن حادث الاعتقال، وبث الاشاعات السلبية ضد السيد الصدر وحركته. فحين اعتقل السيد الصدر كان الشعب في الوسط والجنوب مشغولاً بنفسه، فبين معتقل ومهجّر وملاحق، أو مدعو لتسليم جثة أحد ذويه، أو يودع أهله وأقاربه المهجرين، أو يبحث عن معتقل من ذويه. كما ان 90./. من تلامذة الصدر والمقربين والشخصيات الاسلامية العاملة، كانوا أيضاً بين معتقل أو معدوم أو متخف أو مهاجر خارج العراق.

وفي الاقبية السرية لمديرية الامن العام والقصر الرئاسي تعرّض الامام الصدر الى صنوف التعذيب النفسي والجسدي ثلاثة ايام متتالية، شارك فيه رئيس النظام نفسه، بغية حمل الصدر على المساومة. ثم اقدم رئيس النظام في 8 نيسان 1980 على تفريغ رصاصات مسدسه في قلب ورأس السيد محمد باقر الصدر، فسقط مضرجاً بدمائه27.

ان اعدام السيد الصدر قضية ذات ابعاد واسعة، تاريخية وحضارية ودينية وسياسية، فجذورها الحضارية تمتد عبر قرون طويلة من الصراع بين الاسلام واعدائه، وجذورها التاريخية ممتدة في عمق المشروع السياسي الطائفي الذي طرحه العثمانيون لادارة العراق وحوّله الانجليز الى نظام سياسي ظل قائماً منذ عام 1920، اما الدينية فلها علاقة بأهداف الحزب الحاكم في تصفية الوجود الديني التغييري في البلاد، وسياسياً يتمثل في القضاء على المعارضة الثورية وقيادتها. ويصور مصدر غربي مجمل هذه الابعاد بقوله: «ان النظام وضع في حسابه ان ما يثيره هذا العمل من امتعاض بين صفوف (المسلمين) هو أقل بكثير من تحول آية الله الصدر الى خميني العراق»28.

علي المؤمن

الهوامش

(1) تسمية الحرب الاستعمارية اقرب الى الواقع من تسمية الحرب العالمية، لان الحرب الاولى (كما الثانية) اقتصرت على الدول الاستعمارية الكبرى في اوربا، ولم يشمل ميدانها سوى اجزاء من الكرة الارضية، وكانت اهدافها استعمارية وتوسعية صرفة.

(2) انظر: الملحق الاحصائي في كتاب: سنوات الجمر للكاتب نفسه، بيروت، دار المسيرة، ص 413.

(3) النداء الثالث للشعب العراقي الذي وجهه الشهيد الصدر في أيلول 1979.

(4) المصدر نفسه.

(5) لعل حسن العلوي في كتابيه: التأثيرات التركية في المشروع القومي، والشيعة والدولة القومية في العراق، أفضل من بحث في الجذور التأريخية لتأسيس النظام السياسي الطائفي في العراق ومضامينه وصيغه.

(6) من النداء الثالث للشهيد الصدر، مصدر سابق.

(7) المؤمن، سنوات الجمر، مصدر سابق، ص 26 ـ 27.

(8) المصدر نفسه ، 44 ـ 46.

(9) السيد محمد باقر الحكيم، من نظرات جماعة العلماء، ص 18.

(10) مجلة العمل الشعبي (العراقية)، 7/4/1969، نقلاً عن مذكرات حردان التكريتي، ص 38.

(11) انظر: المؤمن، سنوات الجمر، مصدر سابق، ص 91 ـ 99.

(12) انظر: الامام الخميني، الحكومة الاسلامية، طهران، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الامام الخميني.

(13) انظر: محمد السماك، من هو صدام التكريتي؟ امريكا، 1982، ص 64.

(14) سنوات الجمر، مصدر سابق، ص 143 ـ 144.

(15) الاسلام يقود الحياة، ص 12.

(16) هرايرد كمجيان، الحركات الاصولية في العالم العربي، ص 146.

(17) المصدر نفسه، ص 148.

(18) مضمون برقية وزارة خارجية الجمهورية الاسلامية المرقمة 4 ـ 104 ـ 50 ـ 2 ـ 3 في 4/4/1979.

(19) انظر: السيد محمد باقر الصدر، اطروحة المرجعية الصالحة، والسيد كاظم الحائري، مباحث الاصول، قم، مكتب الاعلام الاسلامي، ج 1 ق2، ص 94 ـ 95.

(20) انظر: المؤمن، سنوات الجمر، مصدر سابق، ص 165.

(21) السماك، من هو صدام التكريتي، مصدر سابق، ص 32 ـ 35.

(22) ـ أفضل من يصوّر معاناة الشهيد الصدر النفسية في هذه المرحلة، الشيخ محمد رضا النعماني في كتابه سنوات المحنة وايام الحصار.

(23) صافيناز كاظم، يوميات بغداد، ص 24.

(24) في حوار خاص اجراه الكاتب مع الشيخ النعماني مدير مكتب السيد الشهيد الصدر وقد رافقه خلال فترة الاقامة الجبرية.

(25) المصدر نفسه.

(26) بيان المنظمة المرقم 14 ـ 14 ـ 79 في 17/10/1979.

(27) انظر: من هو صدام التكريتي؟، ص 38 ـ 39.

(28) مجلة مدل ايست ستديس، كانون الثاني 1985، ص 10.