تمهيد
ترتكز أفكار المفكرين الكبار عادةً على أسس واحدة تشتمل مختلف النشاطات التي قاموا بها، وهو ما تعزّزه المركزية الموجودة في عالم الفكر إلى حدّ معين، والترابط والتماسك المحكمين بين العلوم والمعارف على مختلف أصعدتها، ونفس الكلام ـ وربما بشكل أوضح ـ الفكر الديني بمختلف مجالاته، مع الاعتراف الكامل بالخصوصيات التي يتمتّع بها كل فرعٍ علميٍّ دينيٍّ لوحده.
وهذا ما يلاحظه الإنسان لدى قراءة شخصيةٍ فكريةٍ دينيةٍ ذات دورٍ نهضويٍّ كبيرٍ في عالم الفكر والثقافة والوعي، من أمثال الشهيد السيّد محمد باقر الصدر «ره»، فكما سنلاحظ هناك خيوط معرفية واحدة تقريباً حكمت المنهاج الفكري الذي سار عليه الصدر بعد أن أصّله بمفرده أو مع الآخرين، والمنهاج الفكري الذي غلب على جهود المفكّرين المسلمين في القرن العشرين تميّز بالطابع المعرفي غالباً، وهو ما كان للشهيد الصدر دورٌ بارزٌ فيه أيضاً.
ستحاول هذه المقالة الإطلال على أبرز معالم التفكير الكلامي عند السيد الصدر من زاوية منهجية، وعندما يُتحدث عن مميزات أو سمات أو معالم منهجية لعلم الكلام عند الشهيد الصدر فلا يُهدف إلى اكتشاف مواطن إبداع أو سمات مفرّدة وكأن لا تجارب مشابهة بمقدارٍ أو بآخر، بل يُقصد تلمّس ما انطبعت به منهجية هذا العلم في هذه المدرسة الفكرية دون إحداث قطيعةٍ كاملةٍ مع التجارب الأخرى.
وبالرغم من تعدّد معالم التفكير الكلامي عند السيد الصدر لكن هذه المقالة سوف تقصر النظر على بعضها نظراً لضيق المجال.
وعلى أية حال فأبرز معالم المنهج عند الشهيد محمد باقر الصدر هي كالتالي:
1ـ الانطلاق المعرفي، والبداية المنهجية
امتازت الفلسفة الحديثة والمعاصرة عموماً باستعاضتها مباحث الوجود وملحقاته بمباحث المعرفة وتوابعها فتركزت الجهود المكثفة منذ ديكارت وحتى عصرنا الراهن على البناء المعرفي للفكر البشري، وتحوّلت المعرفة نفسها إلى مادة للدراسة والتحليل.
ولم يكن الأمر كذلك في الفلسفات السابقة بما فيها الفلسفة الإسلامية والفلسفة المدرسية في القرون الوسطى، بالرغم من أنّ مباحث المعرفة في الفلسفة الإسلامية لم تكن بالقليلة، فقد توزّعت هذه المباحث في أبواب الوجود الذهني وعلم النفس الفلسفي، وفي مباحث العقل والعاقل والمعقول وكذلك في مباحث الإلهيات بالمعنى الأخص لدى الحديث عن صفات الباري بما فيها صفة العلم، هذا علاوةً على المنطقيات المهتمّة بهذا الصعيد، بيد أنّ هذا الكم الكبير من دراسات المعرفة لم يبرز إلى السطح كمنطلقٍ لتأسيس الفكر والمنظومة الفكرية، فلم ينطلق الفيلسوف من قراءة الجهاز المعرفي إلى قراءة الوجود بل اتصل مباشرةً بالوجود نفسه ليجعل منه مادةً وموضوعاً لفلسفته “الموجود بما هو موجود”، أما المنطقيات فكانت أطرها محددة مفروغاً عنها نسبياً وإن كانت هناك نقاشات في تفاصيلها وجزئياتها وهو ما أزال مبررات الحاجة لدى الفيلسوف للقيام بإعادة تصنيع منطقي.
لكن الوضع كان مختلفاً في أوروبا الحديثة وأوروبا النهضة والآلة فقد ضربتها عاصفة الشك نتيجة تطوّرات العلوم الطبيعية التي هزّت أركان المعرفة الأرسطية والبطليموسية و… كان الوضع مختلفاً وكانت الحاجة أكبر إلى إعادة النظر في جهاز المعرفة الإنسانية.
وبالرغم من النفوذ الغربي في العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر، إلا أن علم الكلام الإسلامي لم يقم بإعادة تشكيل وانتاج لمعرفياته، ربما لأنه لم يعش ظروف أوروبا في تلك المرحلة، فالآليات التي اتبعها جمال الدين الأفغاني في “الرد على الدهريين” وكذلك الشيخ محمد عبد في “رسالة التوحيد” وغيرها وهكذا غيرهم وصولاً إلى العلامة الطباطبائي والشهيد المطهري لم تحدث فيها تغييرات بنيوية هامّة على الصعيد المعرفي فبقيت مرجعية النص من جهة ضمن آليات القراءة المستمدّة من علم أصول الفقه، كما بقيت مرجعية المنطق الأرسطي من جهةٍ أخرى ـ إلى جانب المنحى الإشراقي ـ ثابتة حتى لدى أرقى أشكال التفكير الفلسفي عند صدر المتألهين والذي تمثله الطباطبائي والمطهري تمثلاً رائعاً، ولعل هذا هو مقصود بعض الباحثين من أن مشروع الصدر الفكري النهضوي كان متقدماً على مشروع الطباطبائي والمطهري من حيث قدرة المواجهة خاصّةً على صعيد المنهج والأطروحة[1] ، وإن كان هناك مجال كبير للنقاش في هذا التقييم من حيث اعتبار الطباطبائي والمطهري أصحاب دور محدد بنطاق الخاصة ومن حيث الإيحاء بضعف تجربتهما على الصعيد الفكري العام، وهو ما يمكن قبوله مع أمثال كاشف الغطاء والبلاغي والمظفر، لكن القراءة التاريخية للمطهّري واستاذه تكشف عن معطيات مختلفة لا أقل في تلك المرحلة.
لكن ذلك ـ أي إعادة الانتاج المعرفي ـ لا يعني بالضرورة فشلاً أو مشكلةً بقدر ما يؤكّد على عدم وجود محاولات لبَنيَنَة المعرفة الدينية من جديد، وربما ذلك لعدم قناعة بذلك كما تحكيه مناقشات المفكرين المسلمين للمنطق الديالكتيكي والوضعي والتجبريبي أو تفضيلاً للوضع السائد.
لكن القضية عند الشهيد محمد باقر الصدر كانت مختلفة، فالمنطق الفكري العام ـ وبالأخص المنطق الكلامي ـ عنده كان منطلقاً فلسفياً معرفياً ايبستمولوجياً، وهذا معناه تلقائياً تبدّلاً جوهرياً في آليات التفكير الكلامي وهو ما تحكيه بوضوح نتاجاته أيضاً كما سيلاحظ.
وهذه هي نقطة التمايز بين الصدر وكل من الطباطبائي والمطهري وورثتهما الحاليين على الصعيد الفلسفي من امثال الشيخ عبدالله الجوادي الآملي والشيخ محمد تقي مصباح اليزدي وآخرين، فالطباطبائي والمطهري قرءا موضوعة المعرفة في “أسس الفلسفة والمذهب الواقعي” وغيره من النتاجات لكنهما نقدا كافة الاتجاهات التي تبتعد عن الفلسفة العقلية، ولهذا عندما أتيا إلى مباحث إثبات وجود واجب الوجود استخدما الآلية الفلسفية العقلية الكلاسيكية المدرسية مع إجراء تطوير داخلي كما حصل مع الطباطبائي في تطويره صياغة برهان الصديقين[2] والمطهري في برهان النظم[3] ، وهكذا الحال مع الجوادي الآملي في كتابه المخصص لاثبات وجود الله تعالى رغم انه استعرض فيه مختلف انواع الأدلّة القديمة والحديثة الشرقية والغربية[4] ، فنقطة التمايز كَمُنت في أن موضوعة المعرفة لم تحضر في نفس المبحث الكلامي عدا بعض النقاط المتصلة بمنكري وجود الواجب[5] ، ولهذا نلاحظ أن الشهيد مطهري خصص مقدّمة البحث حول مسألة الصانع وجوداً وصفاتاً بنقد المنهج الحديثي الحنبلي الذي كانت لديه مواقف من النظر العقلي في قضايا الصانع وصفاته فيما ظهرت البراهين الفلسفية والكلامية المعروفة في البحث[6] ، بالرغم من أن ستة أو خمسة مقالات من أصل أربعة عشرة مقالة تشكل كتاب أسس الفلسفة ـ الذي يمثل المستوى الأكثر حداثة فلسفياً ـ كانت مخصّصة لقراءة موضوعة المعرفة[7] ، وهذا معناه أن موضوعة المعرفة كانت تمثّل ـ بالرغم من الاهتمام الكبير الذي أولاها اياه الشهيد مطهري ـ مادة قراءة والا فإن المنهج المعرفي كان ناجزاً لدى هؤلاء المفكرين وهو المنهج العقلي المعروف، بيد أن المسألة كانت مختلفة إلى حد معين عند الشهيد الصدر فقد حصل هناك تمازج واضح عنده بين مبدأ وجود الله تعالى والبرهنة عليه وبين التعديل المعرفي أو في البداية القراءة المعرفية، وهو ما يتجلّى في أكثر من موضع، فالصدر كان يهدف في فلسفتنا نقد التفسير المادي الماركسي للعالم فلم يتمكن اثناء بحثه من تجاهل النظام المعرفي، لقد خصص القسم الاول من كتابه لبحث نظرية المعرفة ولم يتمكن من تجاوز النظرية حتى الفصل الأخير من الكتاب الذي خُصص لدراسة مسألة الإدراك[8] ، أما “الأسس المنطقية للاستقراء” والذي يعد انموذجاً متقدماً على الصعيد المعرفي فلم تكد فكرة اثبات الصانع لتنعزل عن كل المشروع المعرفي الذي أطلقه الصدر في هذا الكتاب، فقد أدخلت كفصل أو جزء من فصل فيه[9] وصرّح الشهيد باعتبارها هدفاً له[10] ، وهكذا الحال في “موجز أصول الدين” الذي يعرضه الصدر لغير المختصين في الفكر والمعرفة، فمجدداً لم يتمكن الصدر ـ نظراً لعمق المزاوجة الحاصلة في ذهنه ـ من الفصل بين الجهاز المعرفي وبين المنظومة الكلامية فأغرق كتابه هذا بتحليل النظريات المعرفية ولو بصورة موجزة حيث عالج فيه التجريبية والوضعية والديالكتيكية ولم تخلُ مباحثه الأولى من إشارات متواصلة لهذا التمازج[11] .
ولا نعني بهذا التمازج مجرّد توظيف الصدر بناه المعرفية فحسب فهذا ما فعله أيضاً كل الفلاسفة بمن فيهم الطباطبائي والمطهري ومن قبلهم الأفغاني، وانما نقصد حشره عامداً على ما يبدو موضـوعة المعرفة في علم الكلام نظراً لسياق تاريخي يفرض ذلك في المرحلة الراهنة، فعندما أعالج كمتكلم اثبات نبوة النبي محمد لم يعد يكفي لي الآن أن أقرر الدليل وفق بُناي المعرفية المقررة ربما في مكان آخر، بل لا بد أن أقدم في مشروعي الكلامي الموقف المعرفي الذي اختاره.
ولا يبدو بحسب الظاهر أن الشهيد الصدر كان يصدُر عن حركة مستقلّة في موضوع المعرفة وعلومها، إذ من المرجح جداً أن طبيعة الخلاف الايديولوجي الحديث بين الدين وخصومه هي التي فرضت عليه ـ لا أقل في البداية أو في غير كتاب الأسس ـ إقحام مسألة المعرفة في الجسم الكلامي، فالصدر لم يتواجه ومدارس كلامية تتخذ نفس المنطق أساساً لعملياتها الذهنية كما هو الحال في قواسم المنطق بين المعتزلة والأشاعرة أو بين الشيعة والسنة، بل شعر بوضوح أن هناك أزمة تخاطب سوف تحدث لو لم يقم علم الكلام بإعادة رسم جهازه المعرفي أو لا أقل لو لم يحضر هذا العلم هذا الجهاز في كلامياته، وهذا ما جعل الصدر محاطاً بنظريات المعرفة الغربية ولم يتمكّن من مناقشة إلحادية ماركس وستالين وماوتسي تونغ دون أن ينهي موقفه من حسية جون لوك ومثالية جورج باركلي وتجريبية جون ستيورات ميل ووضعية أوغست كونت ونقدية عمانوئيل كانط وغيرهم…
بل ترقّى الصدر مع “الاسس المنطقية للاستقراء” حيث مارس منهجاً معرفياً منطقياً جديداً طبقه أيضاً في “موجز أصول الدين”، كما ودخل معترك الصراع المنطقي لا لغرض تبديد أزمة التخاطب بل لغرض إعادة رسم الخارطة المنطقية عنده.
فالعنصر الأساسي في كلام الصدر يكمن في إدخال المعرفة ليس فقط كأساس ومنطلق يطالب علم الكلام أو المتكلم ـ مباشرة أو لا بالمباشرة ـ باتخاذ موقف واضح حياله، مما يدفع إلى اجتهاد معرفي وليس فقط إلى خبرة في المعرفة كموضوعة علمية، فالمتكلم لا يحتاج فقط إلى أن يخبرُ المنطلق الأرسطي لكي يعرف كيف ينظم أفكاره بقدر ما هو بحاجة إلى أن يعيد إنتاج المنطق عامّة ضمن اجتهادٍ واضح وعقل غير مستقيل، ليس هذا هو العنصر الاساس فقط بل دمج علم المعرفة بعلم الكلام كان هو الاهم أو فلنقل دمج علم الكلام بعلم المعرفة، ففي زعم الكاتب هنا فإن الشهيد الصدر متكلم في فلسفتنا والاسس المنطقية بدرجة كبيرة وليس فقط فيلسوفاً، لأن الوظائفية التي وضعت لعلم الكلام والتي مثلت عنصر وحدته كانت موجودة في فلسفتنا وبدرجة معينة في الأسس، فالبرهنة على اصول المعارف وشرحها ودفع الشبهات عنها كانت اُموراً حاضرة بقوة وهادفية في نتاجات الصدر الفلسفية أيضاً، وهذا ما يبرر النظر الى هذه النتاجات على انها نتاجات كلامية إلى جانب كونها فلسفية.
اذن ثمة تمايز بين الصدر والآخرين، فالصدر حاول دمج الكلام والمعرفة فيما فصل الآخرون بينهما، والسياق التاريخي هو الذي فرض على الصدر هذا الدمج إلى جانب الغائية الدينية كما سنراها شاخصةً في كلامياته ومعرفياته، والا فمن الطبيعي أن يكون الفصل هو الخطوة الأكثر منطقيةً، فعلم المعرفة له ميزاته ولا ينبغي إقحام المسائل العقائدية والدينية فيه فيما علم الكلام له أهدافه وأغراضه وموضوعاته المستقلة التي تشكّل مادة لبحث المعرفي لا مجالاً له تماماً كما الفيزياء والكيمياء مادة للقراءة المعرفية.
ومن هنا يشتد احتمال تأثير الظرف التاريخي في هذا الدمج الذي حاوله الصدر، والسبب في ذلك يعود إلى جدة موضوعة المعرفة امام المتكلم، فعندما جاء المتكلم في القرن العشرين لاثبات وجود الله مثلاً رأى أنه لم يعد يقف أمام ملاحدة القرون الغابرة، لقد وجد إلحاداً بررته قضية المعرفة ولولا قضية المعرفة التي سادت منذ القرن السادس عشر لما وجد امامه سيلاً من المدارس والتيارات الرافضة أو المشككة بوجود الله تعالى، فلم يكن امام المتكلم بدٌ من ان يعالج بنفسه هذا الموضوع لانه في الحقيقة هو الذي يقف برهاناً لنفي وجود الله تعالى أو الغيب والروح والملائكة و… فنقده، ومن هنا لم يقم المتكلم بإنتاج جديد مهم جداً لبراهين اثبات وجود الله تعالى أو غيره بل أعاد طرح نفس البراهين بصيغ حديثة، وهذا معناه أن مشكلته لم تكن في قيام دليل على نفي وجود الله بل في قيام تصور معرفي ينفي أو يشكك في هذا الوجود وفرقٌ بين الأمرين.
إذن الظرف التاريخي كان هو السبب وراء عملية الدمج التي قام بها الصدر، واذا ما زالت مبررات هذا الظرف كما هو الحال في الفترة الراهنة ـ حيث انهارت الماركسية من جهة وهدأت نسبياً فورة الايديولوجيات من جهة ثانية ونضجت الرؤية المعرفية اكثر من جهة ثالثة مع جيلين معرفيين تمثلا مرحلة الستينات والسبعينات من جهة والثمانينات والتسعينات من جهة ثانية مع سروش ولاريجاني وحنفي وأبو زيد و… ـ فإن الأنسب تأسيس فرع علمي مستقل مدرج بالدراسات الفلسفية الدينية يُعني بشؤون المعرفة على أن يجتهد فيه المتكلم ولا يستقيل نظراً لنوع من التشابك بين قضايا العلوم الدينية تفرض اجتهادات متنوعة لا اجتهادات تخصصية في المرحلة الراهنة، فكما لم يعد يكفي اجتهادٌ في علم الفقه من دون اجتهادٍ في أصول الفقه، لم يعد يكفي اجتهاد في الشريعة وأصولها دون اجتهاد في الفلسفة والكلام بدرجة من الدرجات كما يطرحه مشروع “فلسفة الفقه” المعاصر[12] .
لكن الصدر عالج في معرفياته علم المعرفة الأولية لا الثانوية، فقد قرأ المعرفة الانسانية من زاوية حقيقة العلم والادراك وقيمة المعرفة والمعلومات و… قبل مرحلة ظهور المعرفة، وهناك قراءة ثانية تتسم بالتاريخية تعالج ظاهرة المعرفة البشرية بعد تكوّنها وهو ما تميزت به تجربة الدكتور سروش لاحقاً، واذا كنا نرى الفصل ما بين المعرفة وعلم الكلام فإنما نراه في النوع الأوّل من المعرفيات وهو الذي عالجه الصدر والمطهري والطباطبائي و… لا في النوع الثاني الذي ركّزت عليه جهود الدكتور عبدالكريم سروش والشيخ صادق لاريجاني وغيرهم، فإن النوع الثاني الذي يدرس ظاهرة المعرفة الدينية ويأخذها بالتحليل والمقارنة والمقاربة والنقد والتقييم و… يمكن بل من الضروري عده جزءاً من كيان علم الكلام بصيغته الحديثة كما يلاحظ لدى قراءة أطروحة علم الكلام الجديد.
2ـ النظرية المعرفية “منطق الاستقراء”
يعد الشهيد محمد باقر الصدر المفكّر الاسلامي الوحيد ـ ربما ـ الذي أسس لنظرية معرفية جديدة وخاصّة مهما كان الموقف من نظريته، فقد رفض الصدر الرؤية الأرسطية المدرسية في قراءة المعرفة وهي الرؤية القائمة على افتراض وجود قبليات عقلية عديدة ذات إنتاج عقلي بحت تكمن صحتها في اضطرار العقل إليها وعلى رأسها البديهيات العقلية الاولية كاستحالة اجتماع النقيضين ومبدأ العلية والسنخية و… كما رفض الصدر أيضاً المنهج التجريبي الحديث في قراءته لظاهرة المعرفة والذي كان يعتمد الحس والتجربة والملاحظة فقط أساساً للمعرفة ضمن صيغ محدودة.
ونقطة الإنعطاف في تجربة السيد الصدر المعرفية هي مشكلة الاستقراء، لقد وضع كل من المنطق الأرسطي والمنطق التجريبي نظريته الخاصة وموقفه الخاص من الاستقراء وتحديد يقينيته وشروط وكيفية هذا اليقين، فأعاد المنطق الأرسطي الاعتماد على القبليات فيما قدّم المنطق التجريبي تصوراته لحل المشكلة سيما الطرق الأربع التي اقترحها جون ستيورات ميل، لكن الصدر سجل ملاحظاته على الطرفين معاً مخصصاً حوالي ربع كتابه “الأسس المنطقية للاستقراء” لنقد هذين الاتجاهين[13] .
ومشكلة الاستقراء التاريخية ـ كما يوضحها الصدر وآخرون ـ تكمن في عملية القفز من الخاص إلى العام، ففي الاستقراء بمراحله الاولى تجميع للظواهر الجزئية حيث يلاحظ تمدد الحديد “أ” بالحرارة كما يلاحظ تمدد الحديد “ب” أيضاً بها وهكذا الحال في الحديد “ج” و”د” و”هـ” و… لكن المشكلة تكمن في القاعدة “كل حديد يتمدد بالحرارة”، كيف ومن أين حصلنا عليها؟
فكل الحديد لم يقع تحت استقرائنا حتى نحكم عليه بالتمدّد لدى مواجهته الحرارة وهذا ما يعني ان ما استقرأناه غير ما استنتجناه، وهذه المغايرة مغايرة بين الضيّق الدائرة والاوسع دائرةً، بين المفردات والقاعدة، إذن فكيف عالجنا المشكلة وحفقنا مبررات هذه الطفرة؟[14] .
والحل الذي ارتآه الصدر في أطروحته ـ التي أطلق عليها اسم المذهب الذاتي للمعرفة ـ يعتمد على مرحلتين يسمي إحداهما مرحلة “التوالد الموضوعي” وثانيتها مرحلة “التوالد الذاتي”، ويرى الصدر أن المرحلة الاولى تسبق المرحلة الثانية وبانتهائها إلى القمة الممكنة لها تبدأ المرحلة الثانية بنظره.
ويعتمد التوالد الموضوعي على نظرية الاحتمال الرياضية التي قرأها الصدر وكان له رأي فيها وفي بديهياتها، إذ يرى الصدر أن المفردات الجزئية تخضع نتيجة عنصر المراكمة على مركز واحد إلى عمليات حسابية رياضية معقدة تنمو فيها النسبة الاحتمالية المطابقة الواقع ضمن قواعد خاصة في عملية النمو وقواعد خاصة في قياس القيم الأولية أيضاً، وهكذا تصل القيمة الاحتمالية الى درجة عالية جداً حيث تبدأ نشاطات التوالد الذاتي الذي يعني ما يشبه العملية السيكولوجية الذاتية في الذهن البشري، فكأن هناك اوتوماتيكية خاصة تحكم العقل البشري بحيث يقفز تلقائياً من الدرجة الاحتمالية العالية إلى مرحلة اليقين.
لكن هذا اليقين الذي يتحدّث عنه الصدر ليس اليقين الأرسطي البرهاني أو اليقين الرياضي الذي «البرهاني» يستبطن علماً بالقضية وعلماً آخر باستحالة خلافها، بل يهدف الصدر من اليقين ما يسميه هو اليقين الموضوعي الذي يميزه عن اليقين الذاتي، فاليقين الذاتي هو تلك الحالة النفسية الجازمة في نفس الانسان، احساس بالتأكّد والاطمئنان والقاطعية بصرف النظر عن منشأ هذا اليقين، اما اليقين الموضوعي فهو ذاك اليقين الذي نشأ عن معطيات موضوعية تبرر من الناحية المنطقية تحصيل التأكد والطمأنينة.
وكما يقول الصدر نفسه: “وإنما نريد باليقين الذي نتساءل عن مدى قدرة الاستقراء على إيجاده، اليقين الموضوعي، فهل هناك مبررات موضوعية لكي يحصل التصديق الاستقرائي على أعلى درجة ممكنة وهي درجة الجزم واليقين؟ أي أن درجة اليقين هل هي درجة صحيحة وموضوعية للتصديق الاستقرائي أو لا؟ فإن كانت صحيحة وموضوعية فاليقين بالقضية الاستقرائية يقين موضوعي، وإن كانت غير صحيحة ولا موضوعية فاليقين بالقضية الاستقرائية ـ إذا وجد في نفس الإنسان ـ فهو يقين ذاتي بحت”[15] .
اذن الصدر عدّل ـبالدرجة الاولى ـ من مفهوم اليقين، فأخرج منه عنصر الاستحالة لعكس القضية، ومن ثم سهل عليه نسبياً أن يوفق بين معطيات مرحلة التوالد الموضوعي واليقين النهائي بالقضية الخاضعة للاستقراء.
وفي ضوء هذه القراءة للاستقراء أعاد الصدر إنتاج المعرفة البشرية ففسّر كلاً من القضية التجريبية والحدسية والمتواترة والمحسوسة والاولية والفطرية ضمن منهجه المعرفي[16] ، مخضعاً النشاطات العقلية ـ لا أقل أغلبها ـ للعمل الاستقرائي.
هذه صورة جد موجزة عن البنية المعرفية للصدر، وهي بنية لم تكن مع الصدر منذ البداية، ففي فلسفتنا ـ الذي يحكي عن المراحل الأولى من العمر الفكري للصدر ـ كان يرى أن ما يراه المذهب العقلي الذي ذهب إليه الحكماء المسلمون هو الصحيح فوافق من جهة على نظرية الانتزاع الفلسفية في تفسير المعرفة التصوّرية كما أيد من جهة أخرى القبليات التي آمن بها المذهب العقلي أيضاً[17] . وبعد ذلك عدل الصدر عن هذا التفسير الفلسفي الاسلامي المدرسي للمعرفة ليخرج بالمذهب الذاتي للمعرفة مع “الأسس المنطقية للاستقراء” لكنه ـ على رأي أحد الباحثين[18] ـ عدل عن متبنياته في “الأسس” في دراسته المصغّرة حول المهدوية حيث وردت فيه هذه العبارة: “واما على ضوء الأسس المنطقية للاستقراء فنحن نتفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة في أن الاستقراء لا يبرهن على علاقة الضرورة بين الظاهرتين، ولكنا نرى أنّه يدل على وجود تفسير مشترك لاطراد التقارن أو التعاقب بين الظاهرتين باستمرار، وهذا التفسير المشترك كما يمكن صياغته على أساس افتراض الضرورة الذاتية كذلك يمكن صياغته على اساس افتراض حكمةٍ دعت منظّم الكون الى ربط ظواهر معينة بظواهر أخرى باستمرار، وهذه الحكمة نفسها تدعو أحياناً إلى الاستثناء فتحدث المعجزة. “[19] .
وبقطع النظر عن المراحل الفكرية للشهيد الصدر على صعيد موضوعة المعرفة، فإن النقطة الجديرة بالتركيز عليها هنا هي توظيف الصدر نظريته المعرفية في العلوم الدينية بما فيها علم الكلام، فقد طبّق الصدر هذه النظرية في كلّ من علم أصول الفقه وعلم الفقه وعلم الحديث والرجال وعلم الكلام أيضاً، فعلى صعيد علم الأصول أعاد الصدر انتاج وسائل الاثبات ضمن قراءة استقرائية فدرس الاجماع والشهرة والتواتر والسيرة بشقيها العقلائي والمتشرعي على اسس استقرائية[20] ، كما آمن بما أسماه الدليل الاستقرائي المباشر الذي يقوم على تجميعات فقهية واسعة تلتقي في مركز واحد تحصل اليقين بالمركز نفسه[21] وهو ما قدم تجارب مهمة فيه في كتابه “اقتصادنا” عندما درس مبدأ “العمل اساس الملكية في الإسلام”[22] ، وهو ما يترك اثراً كبيراً على التفكير الفقهي أيضاً، وعلى صعيد علم الرجال وظّف الصدر نظرية الاحتمال في تصحيح مراسيل الحسن بن محمّد بن سماعة عندما قاس نسبة احتمال اجتماع ثلاثة من شيوخه من الكذابين او غير الموثقين في رواية واحدة[23] ، وهكذا علم الكلام كما سنرى بالتفصيل.
وحصيلة القول أن واحدة من أهم إبداعات الصدر هي العقل الاستقرائي الذي حمله ووظفه في مختلف العلوم الدينية العقلية والنقلية، ولعله لو سنحت له الفرصة اكثر لقام بتوظيفات اكثر وأوسع وربما اهم وأعمق أيضاً، وعلى حد تعبير أحد الباحثين المختصين بالفكر المعرفي للشهيد الصدر إن هناك “موضوعان تأسيسيان في فكر الصدر وهما فقه النظرية والنزعة الاستقرائية”[24] ، “وهذه الاطروحة ـ دون مبالغة في القول ـ نقلتنا مع بعض وجوه مشكلات الاستقراء ونظرية الاحتمال ما يقرب من ثلاثة قرون واختزلت المسافات الزمنية التي تفصلنا عما عليه الوضع في غرب القارة «الكرة» في وجوه أخرى أكثر من قرن”[25] .
ولا نعني بذكر هذا الانجاز للصدر صحته وبالمطلق فهذا ما ليس من شأننا هنا، بل قد تعرّضت نظرية الصدر هذه لمجموعة انتقادات كان من بينها ما سجله الدكتور عبدالكريم سروش عليها مما اشتمل في جزء مهم منه ملاحظة ان الصدر اعتمد على بعد نفسي سيكولوجي لاقامة مذهبه المعرفي[26] ، ويرى سروش بان لا حل لمشكلة الاستقراء ويطلق متهكماً “اذا كنا نؤمن بدليلٍ للاستقراء يلزمنا أن نستقرأ كل هذه المحاولات الفاشلة لمعالجة مشكلة الاستقراء، ونستنتج ان مشكلة الاستقراء بحكم الاستقراء غير قابلة للعلاج وان الاستقراء لا يوفر يقيناً موضوعياً ولا يقيناً منطقياً، والحل الوحيد هو أن نرفع ايدينا عن طرح حل له”[27] ، وقد نقد هذه المحاولة النقدية للدكتور سروش السيد عمار أبو رغيف في كتابه “الاسس المنطقية للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش” مسجلاً على الدكتور سروش نسبته الى الصدر ما لا يراه من افكار اولاً وخطئه في استنتاج الاساس السيكولوجي للنظرية ثانياً مما يؤكده الصدر في نصوصه التي نقلها الدكتور سروش نفسه على حد تعبير السيد عمار ابو رغيف[28] .
وممن سجل نقده على النظرية المعرفية الدكتور جميل قاسم أيضاً في إحدى دراساته[29] ، لكن نظرية الاحتمال بقيت ـ كما يذكر زكي الميلاد[30] ـ الجانب الاقل شهرة في فكر الشهيد الصدر، بل والاقل يتماً، وهي مقولة صحيحة، اذ لم يقرأ هذه النظرية من اتباع مدرسة الصدر نفسه ولم يهتم بها إلا القلّة القليلة من امثال السيد كاظم الحائري[31] والسيد عمار ابو رغيف والاستاذ يحيى محمد، وهي نقطة جديرة بالتأمل والقراءة لمعرفة مدى نفوذ تيار المنطق الارسطي في التفكير الديني عامةً.
ومما تقدّم نلاحظ أن الصدر مارس اجتهاداً معرفياً ومنهجياً، اجتهاداً بكل ما للكلمة من معنى، صحيح أن علم الكلام المعاصر كله امتاز بمعالجة موضوع المنهج فلم يقتصر التطوّر الكلامي في القرن العشرين على المراكمة المضمونية الناجمة عن التزايد الكمي للموضوعات والمسائل والأفكار بل علاوة على ذلك برز إلى السطح بشكل واضح التطوّر المنهجي كما يراه بعض الكتّاب[32] ، لكن المنهج ـ كما يقوله هذا البعض أيضا[33] ـ كان هو الأكثر شخوصاً في نتاجات السيد الصدر، بل يمكننا أن نضيف بأن المنهج كان اكثر اجتهاديةً واستقلاليةً وتأصيلاً في فكر الصدر كله مهما كان الموقف من نظريته المعرفية ككل.
لقد تنبّه الصدر ـ وربما آخرون على ما يبدو ـ لإشكالية المنهج واشكالية المذهب الفكري العام كنقطة خلاف جوهرية في الصراع مع الغرب، لم يكن الخلاف مع الغرب في روحه خلافاً مسائلياً أو مفرداتياً أو جزئياً بل كان في روحه خلافاً في الإطار المذهبي وهذا ما يعني خلافاً في المنهج والعقل المعرفي بالدرجة الأولى، فلن تُحل مشكلة الخلاف حول هذه المفردة من مفردات حقوق الإنسان أو تلك المفردة ما دامت الأطر المذهبية التي تحكم منهاج التفكير هنا وهناك متباينة، وهذا يعني ان الحل يكمن في التشكيل المذهبي القائم على تقديم افق معرفية عامة حول الله والانسان والطبيعة والاجتماع كما يشير اليه العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين[34] ، فما لم يتم الفراغ من تأصيل هذه القواعد العامة فسيكون من الصعب جداً التوصل إلى نتائج مرضية على مستوى الحوار في المفردات لان من شأن هذا الأمر ان يخلق أزمة تخاطب حقيقية، وهكذا الحال على صعيد علم الكلام كما يراه السيد محمد خاتمي[35] فإن اقحام موضوعة المعرفة في علم الكلام يفرض عرض الموقف الكلامي كمذهب لا كمفردات، فهناك فرقٌ بين المسائل الكلامية والمذهب الكلامي تماماً كما هو الفرق بين المسائل الفقهية والمذهب الفقهي، فكما عمل الصدر في الفقه على عرض المذهب الفقهي في كتابه “اقتصادنا” كذلك سعى إلى عرض المذهب الكلامي في معرفياته، والصراع مع الغرب صراع مذاهب لا صراع مفردات.
وعندما يقال صراع مذاهب فلا يُهدف إلى نفي الضرورة في المسألة الكلامية بقدر ما يهدف إلى إعادة ترتيب الأولويات، فالمسألة الكلامية على ضرورتها تبقى في الدرجة الثانية من حيث الاهمية والتراتبية.
وعلى أية حال أصّل الصدر للمنهج في نظرية الاستقراء وحاول المساهمة في إعادة إنتاج جديدة للمنظومة الكلامية وأبرز محاولات التطبيق التي رامها الصدر في علم الكلام يمكن إيجازها هنا فقط لأجل تكشف طبيعة المنهج ودوره وإلا فإن الدخول في المفردات الكلامية خارج عن هدف هذه المقالة.
وأبرز التطبيقات الكلامية هو كالتالي:
التطبيق الأوّل:
وهو أهم تطبيق استهدفه الشهيد الصدر، اثبات الخالق، وقد شرحه في اكثر من موضع من مؤلفاته[36] ، وحصيلة ما أتى به الصدر هنا هو أنه بعد أن حاول شرح منهجه في الإستدلال اختبر هذا المنهج على ظاهرة يومية مبسطة وهي صورة تسلّم الإنسان الاعتيادي رسالة بالبريد فهو عندما يقوم بقراءتها يعرف أن الرسالة من أخيه، وهذا ما يعتبره الصدر تجربة استقرائية سريعة في الذهن قائمة على ملاحظة تطابق اسم مرسل الرسالة مع اسم الاخ وتطابق طريقة الكتابة الموجودة فيها مع كتابة الاخ، كما وتطابق المنهج والاسلوب والاملاء والخط و… مع ما هو عند الأخ، كما وتطابق المضمون والمحتوى مع أمور تنسجم جداً مع كون الاخ هو الذي أرسلها نتيجة تطابق الحاجات والرغبات والإخبارات وهكذا…. وبعد هذه المرحلة يمر الصدر بالمراحل الاخرى التي توصله الى القطع بكون الرسالة من الاخ ثم يعيد تطبيق المنهج الموثوق به على الكون والعالم في قضية علمية كمثال ثاني بعد ذلك يدخل الصدر مجال البرهنة على وجود الله تعالى يعتمد فيه الخطوات التالية:
الخطوة الاولى: ملاحظة توافق مطرد بين عدد كبير وهائل من الظواهر المنتظمة وبين حاجة الانسان ككائن حي لتيسير الحياة له ويذكر لذلك مجموعة من الامثلة من قبيل درجة بعد الشمس وقشرة الارض وكمية الهواء وبعد القمر والتركيب الفسلجي للإنسان و…
الخطوة الثانية: “نجد أن هذا التوافق المستمر بين الظاهرة الطبيعية، ومهمة ضمان الحياة، وتيسيرها في ملايين الحالات، يمكن أن يفسر في جميع هذه المواقع بفرضية واحدة، وهي: أن نفترض صانعاً حكيماً لهذا الكون، قد استهدف ان يوفر في هذه الأرض، عناصر الحياة، وييسر مهمتها، فإن هذه الفرضية تستبطن كل هذه التوافقات.
الخطوة الثالثة: نتساءل إذا لم تكن فرضية الصانع الحكيم ثابتة في الواقع، فما هو مدى احتمال أن تتواجد كل تلك التوافقات، بين الظواهر الطبيعية، ومهمة تيسير الحياة، دون ان يكون هناك هدف مقصود؟ ومن الواضح أن احتمال ذلك يعني افتراض مجموعة هائلة من الصدف، وإذا كان احتمال أن تكون الرسالة المبردة إليك في مثال سابق، من شخص آخر غير أخيك، ولكنه يشابهه في كل الصفات بعيداً جداً؛ لأن افتراض المشاهبة في ألف صفة ضئيل بدرجة كبيرة في حساب الاحتمالات، فما ظنك باحتمال أن تكون هذه الأرض التي نعيش عليها، بكل ما تضمه، من صنع مادة غير هادفة، ولكنها تشابه الفاعل، الهادف الحكيم في ملايين ملايين الصفات.
الخطوة الرابعة: نرجح بدرجة لا يشوبها الشك، أن تكون الفرضية التي طرحناها في الخطوة الثانية صحيحة، أي ان هناك صانعاً حكيماً.
الخطوة الخامسة: نربط بين هذا الترجيح وبين ضآلة الاحتمال التي قررناها في الخطوة الثالثة. ولما كان الاحتمال في الخطوة الثالثة، يزداد ضآلة، كلما ازداد عدد الصدف التي لابد من افتراضها فيه ـ كما عرفنا سابقاً ـ فمن الطبيعي أن يكون هذا الاحتمال ضئيلاً، بدرجة لا تماثلها احتمالات الخطوة الثالثة في الاستدلال على أي قانون علمي؛ لأن عدد الصدف التي لابد من افتراضها في احتمال الخطوة الثالثة هنا، أكثر من عددها في أي احتمال مناظر، وكل احتمال من هذا القبيل، فمن الضروري أن يزول”[37] .
التطبيق الثاني:
وهو تطبيق لم يكن بنفس صراحة التطبيق الأول لكنه يخضع لأطر المنهج الاستقرائي، الا وهو التطبيق في مجال التعرّف على صفات الخالق تعالى، “حينما نؤمن بالله سبحانه وتعالى خالقاً للكون، ومربياً له، ومنظماً لمسيرته وفق الحكمة والتدبير، ينتج عن ذلك طبيعياً أن نتعرف على صفاته من خلال صنعه وابداعه، ونقيم خصائصه بما تشع به مصنوعاته من دلالات، تماماً كما نقيم أي مهندس على أساس الصفات التي تميز انتاجه الهندسي، ونقيم المؤلف على ضوء ما يحويه كتابه من علم ومعرفة، ونحدد شخصية المربي عن طريق ما أودع فيمن رباهم من شمائل وخصال.
وبهذا نستطيع أن نأخذ لمحة عما يتصف به الصانع العظيم من علم وحكمة وحياة وقدرة وبصر وسمع؛ لأن ما في نظام الكون من دقة وابداع يكشف عن العلم والحكمة، وما في أعماقه من طاقات يدل على القدرة والسيطرة، وما في أشكاله من ألوان الحياة ودرجات الإدراك العقلي والحسي يدل على ما يتمتع به الصانع من حياة وإدراك، ووحدة الخطة والبناء في تصميم هذا الكون والترابط الوثيق بين مختلف جوانبه تشير الى وحدة الخالق ووحدة الخبرة التي انبثق عنها هذا الكون الكبير”[38] .
التطبيق الثالث:
وهو التطبيق الذي مارسه الصدر في مجال إثبات نبوّة الرسول الاكرم محمد حيث قدم في البداية مثالين أحدهما مثال الرسالة وثانيهما مثال الالكترون، وقد ذكر في مثاله الاول تسلم رسالة من صبي ريفي يدرس في مدرسة ابتدائية لكن الرسالة تشتمل على لغة حديثة وعبارات مركزة وبليغة وقدرة فنية فائقة في تنسيق الافكار وعرضها بصورة مثيرة، وهذا يعني ان مستلم الرسالة سوف يجزم استقرائياً بان كاتب الرسالة هو شخص مثقف واسع الاطلاع وقوي العبارة ويحدد الصدر هذا الاستدلال بأربعة خطوات:
“الاولى: ان كاتب الرسالة صبي ريفي، ويدرس في مدرسة ابتدائية.
الثانية: أن الرسالة تتميز بأُسلوب بليغ، ودرجة كبيرة من الاجادة الفنية، وقدرة فائقة على تنسيق الأفكار.
الثالثة: ان الاستقراء يثبت في الحالات المماثلة، أن صبياً بتلك المواصفات التي تقدمت في الخطوة الأولى، لا يمكنه أن يصوغ رسالة بالمواصفات التي لوحظت في الخطوة الثانية.
الرابعة: يستنتج من ذلك إذن، أن الرسالة من نتاج شخص آخر، استطاع ذلك الصبي بشكل وآخر، أن يستفيد منه ويسجله في رسالته”[39] .
ثم يعود الصدر لتطبيق المنهج على نبوة النبي محمد صلياللهعليهوآلهوسلم فيلاحظ مجموعة عناصر هي:
1ـ بيئة النبي: ان الظروف المحيطة بالنبي صلياللهعليهوآلهوسلم كانت جاهلية عارمة حضارياً وعلمياً وثقافياً وحتى اقتصادياً الى درجة انتشار ظاهرة الامية على نطاق واسع فيها.
2ـ شخصية النبي: حيث لم يكن يقرأ ولا يكتب ولم يكن ثمة ما يميزه عن قومه سوى سلوكه النظيف.
3ـ رسالة النبي: حيث تميزت بسمات ابرزها:
أ ـ النمط الفريد في معرفة الخالق وصفاته وافعاله ودور الانبياء و…[40] .
ب ـ القيم والمفاهيم المتعلقة بالحياة والانسان والعمل والروابط الاجتماعية، “فأبن مجتمع القبيلة ظهر على مسرح العالم والتاريخ فجأة، لينادي بوحدة البشرية ككل، وابن البيئة التي كرست ألواناً من التمييز والتفضيل على اساس العرق والنسب والوضع الاجتماعي، ظهر ليحطم كل تلك الألوان، ويعلن أن الناس سواسية كأسنان المشط ﴿إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ «الحجرات: 13»، وليحوِّل هذا الاعلان إلى حقيقة يعيشها الناس أنفسهم، ويرفع المرأة الموؤدة إلى مركزها الكريم كانسان، تكافىء الرجل في الانسانية والكرامة.
وابن الصحراء التي لم تكن تفكر إلاَّ في همومها الصغيرة، وسد جوعتها، والتفاخر بين أبنائها ضمن تقسيمها العشائري، ظهر ليقودها إلى حمل اكبر الهموم، ويوحدها في معركة تحرير العالم، وانقاذ المظلومين في شرق الدنيا وغربها من استبداد كسرى وقيصر.
وابن ذلك الفراغ الشامل، سياسياً واقتصادياً، بكل ما يضج به من تناقضات، الربا، والاحتكار، والاستغلال، ظهر فجأة ليملأ ذلك الفراغ، ويجعل من ذلك المجتمع الفارغ مجتمعاً ممتلئاً، له نظامه في الحكم وشريعته في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ويقضي على الربا، والاحتكار، والاستغلال، ويعيد توزيع الثروة، على أساس أن لا تكون دُولة بين الأغنياء، ويعلن مبادىء التكافل الاجتماعي، والضمان الاجتماعي، التي لم تناد بها التجربة الاجتماعية البشرية، إلاَّ بعد ذلك بمئات السنين.
وكل هذه التحولات الكبيرة، تمت في مدة قصيرة جداً نسبياً، وفي حساب التحولات الاجتماعية”[41] .
ج ـ تضمن الرسالة تاريخ الانبياء واهمهم مع عدم كون القصص القرآنية استنساخاً لما في العهدين لمن يلاحظ الكتب الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن.
د ـ عنصر البلاغة القرآنية.
وهنا يقوم بممارسة الاستدلال حيث يؤكد الصدر على ما يلي:
“أن هذه الرسالة بتلك الخصائص التي درسناها في الخطوة الثانية، هي أكبر بدرجة هائلة من الظروف والعوامل التي مر استعراضها في الخطوة الاولى، فإن تاريخ المجتمعات وان كان قد شهد في حالات كثيرة، انساناً يبرز على صعيد مجتمعه، فيقوده ويسير به خطوة الى الأمام، غير أننا هنا لا نواجه حالة من تلك الحالات، لوجود فوارق كبيرة.
فمن ناحية: نحن نواجه هنا طفرة هائلة وتطوراً شاملاً في كل جوانب الحياة، وانقلاباً في القيم والمفاهيم التي تتصل بمختلف مجالات الحياة الى الأفضل، بدلاً عن مجرد خطوة الى الأمام. ان مجتمع القبيلة طفر رأساً على يد النبي الى الإيمان بفكرة المجتمع العالمي الواحد، وان المجتمع الوثني طفر رأساً الى دين التوحيد الخالص، الذي صحح كل أديان التوحيد الأخرى، وأزال عنها ما علق بها من زيف وأساطير. وأن المجتمع الفارغ تماماً تحول الى مجتمع ممتلىء تماماً، بل الى مجتمع قائد يشكل الطليعة لحضارة أنارت الدنيا كلها.
ومن ناحية أخرى إن أي تطور شامل في مجتمع، إذا كان وليد الظروف والمؤثرات المحسوسة، فلا يمكن أن يكون مرتجلاً، ومفاجئاً، ومنقطع الصلة عن مراحل تمهّد له، وعن تيار يسبقه ويظل ينمو ويمتد فكرياً وروحياً حتى تنضج في داخله القيادة الكفوءة لتزعُّمه، وللعمل من أجل تطوير المجتمع على أساسه.
إن دراسة مقارنة لتاريخ عمليات التطور في مختلف المجتمعات، يوضح أن كل مجتمع يبدأ فيه هذا التطور فكرياً على شكل بذور متفرقة في أرضية ذلك المجتمع، وتتلاقى هذه البذور، فتكون تياراً فكرياً، وتتحدد بالتدريج معالم هذا التيار، وتنضج في داخله القيادة التي تتزعمه، حتى يبرز على المسرح كواجهة لجزء يعيش في المجتمع، تناقض الواجهة الرسمية التي يحملها المجتمع، ومن خلال الصراع يتسع هذا التيار حتى يسيطر على الموقف.
وخلافاً لذلك نجد أن محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم في تاريخ الرسالة الجديد لم يكن حلقة من سلسلة، ولم يكن يمثل جزءاً من تيار، ولم تكن للأفكار والقيم والمفاهيم التي جاء بها بذور أو رصيد في أرضية المجتمع الذي نشأ فيه، وأما التيار الذي تكوَّن من صفوة المسلمين الأوائل على يد النبي، فقد كان من صنع الرسالة والقائد، ولم يكن هو المناخ المسبق الذي ولدت فيه الرسالة وتكوّن القائد، ومن أجل ذلك نجد أن الفارق بين عطاء النبي، وعطاء أي واحد من هؤلاء، لم يكن فارق درجة كالفوارق التي تبدو بين بذرة وأخرى من البذور التي تكوّن التيار الجديد، بل كان فارقاً أساسياً لا حدّ له، وهذا يبرهن على أن محمداً لم يكن جزءاً من تيار، بل كان التيار الجديد جزءاً منه.
ومن ناحية ثالثة يبرهن التاريخ على أن القيادة الفكرية والعقائدية والاجتماعية لتيار جديد، إذا تركزت كلها في محور واحد، من خلال حركة تطور فكري واجتماعي معين، فلابد أن يكون في هذا المحور من القدرة والثقافة والمعرفة ما يتناسب مع ذلك، ولابد من أن يكون تواجدها فيه طبقاً لما يعرف عادة من أساليب في حياة الناس، ولابد من ممارسة متدرجة أنضجته ووضعته على خط القيادة لذلك التيار، وخلافاً لذلك نجد أن محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم قد مارس بنفسه القيادة الفكرية والعقائدية والاجتماعية، دون أن يكون تاريخه كإنسان أمي لم يقرأ ولم يكتب، ولم يعرف شيئاً من ثقافة عصره، وأديانه المتقدمة، يرشحه لذلك من الناحية الثقافية، ودون أن تكون له أي ممارسات تمهيدية لهذا العمل القيادي المفاجىء.
وعلى ضوء ذلك كله ننتهي إلى الخطوة الرابعة، التي نواجه فيها التفسير الوحيد المعقول والمقبول للموقف، هو افتراض عامل اضافي وراء الظروف والعوامل المحسوسة، وهو عامل الوحي، عامل النبوة الذي يمثل تدخل السماء في توجيه الأرض”[42] .
الصدر والفلسفة العقلية وعلم الكلام
كما تقدّم سابقاً فالصدر صاغ لنفسه نظرية معرفية ويمكن التعبير مشروعاً معرفياً، وقد كان هذا المشروع على حساب المنهج العقلي الكلاسيكي المرعي الاجراء في علم الكلام الرسمي السائد، فتحفظ من جملة نشاطات للمنطق الأرسطي وأعطى مزيداً من الدور للاستقراء في تفسير وتوجيه المعرفة البشرية اكثر بكثير مما كان عليه حال الاستقراء مع المنطق القديم.
لكن نقطة جديرة بالانتباه إليها هنا وهي أن الشهيد الصدر لم يلغ بالكامل الدور الفلسفي العقلي والمنطق الأرسطي، أي أن المنهج الاستقرائي الذي اتبعه لم يلغ إمكانية الاستفادة من الفلسفة العقلية والمنطق القديم، ففي كتابه “موجز أصول الدين” الذي دوّن بعد تبنّي الصدر منطق الاستقراء ذكر الصدر نمطين من الاستدلال على وجود الله تعالى، أحدهما ـ كما صرّح نفسه ـ المنهج العلمي القائم على الاستقراء وحساب الاحتمالات، وثانيهما المنهج الفلسفي ـ بحسب تسميته أيضاً ـ القائم على معطيات عقلية تسبق التجربة إضافة إلى المبادىء الرياضية[43] ، فاستحضار الصدر للمنهج الفلسفي المدرسي في إثبات الخالق يؤكد أنه لا يدعو أو لا يعمل على تحييد الفلسفة العقلية الكلاسيكية عن الساحة حتى لو لم يكن يرى أحياناً صحة قبلية بعض القضايا التي ترى الفلسفة والمنطق المتداولين بأنهما سابقين للتجربة والملاحظة.
والذي نهدفه من هذا الكلام هو أن الشهيد الصدر لم يقف ـ لا أقل عملياً ـ في نظريته المعرفية التي ندّعي بأنها مشروع مصالحة بين العلم والدين كما سنلاحظ قريباً… لم يقف موقف المعارض الشديد للفلسفة العقلية بالمعنى الذي يمكن لنا فيه تصنيفه بأنه سعى للقطيعة معها كما هو الحال في جملة دارسين عرب اتخذوا مواقف فيها نوع من التشدد إزاء المنطق الأرسطي وبعضها مواقف ساخرة من أمثال الدكتور علي الوردي وأنصار المنطق الوضعي العرب[44] ، فصحيح أن الصدر اجرى تعديلات منطقية جوهرية لكنه لم يستبعد النمط الفلسفي في ممارسات البحث والتفكير، أي أنه ـ وإلى المرحلة التي نال فيها شرف الشهادة في سبيل الله تعالى ـ كان أقرب الى الشخص الذي يحدث ثغرة كبيرة في جدارٍ ما يعود فيملأها بمادة أخرى من الشخص الذي يزيل الجدار والبناء كلّه ثم يستبدله بوضع وبناء جديد، لا أقل هكذا كان الحال من الناحية الميدانية مع الصدر حتى لو وافقنا ـ وهو ما يستقرب جداً ـ على ان مشروع الصدر من شأنه لو سرنا مع تداعياته الطبيعية ان يحدث تغييراً واسعاً في العلوم الدينية كلّها، لكن ما يستدعيه المشروع شيء وما مارسه صاحبه شيء آخر، ففي علم الكلام أبقى الصدر على النمط الفلسفي في التفكير الى حد معين، واستمر نفوذ هذا النمط واضحاً وكبيراً في تفكير الصدر الأصولي والفقهي وهو ما يمكن تفسيره أولاً بمحاولة ميدانية للحيلولة دون ممارسة إقصاء كامل مما من شأنه أن يخلق للصدر مشاكل كثيرة علمية وعملية في وسط السلك العلمي الديني الذي حصر مرجعيته الفكرية بهذا النمط من التفكير سيما وأن الصدر كان إنساناً تدريجياً في عملية التغيير كما تشهد به تغييراته في علم الاصول[45] وبعض عباراته ونصوصه[46] وهو ما يستدعي منه التريث وعدم حرق المراحل بسرعة، كما يمكن تفسير تصرّف الصدر ثانياً بالمحدودية في التجربة والتي لم تفسح له المجال لانفاذ نمط تفكيره الجديد إلى كافة الميادين التي استحكم فيها النمط الآخر الذي تربّى الصدر نفسه عليه، وهذا معناه أن هناك فرقاً كبيراً بين اساس ابتكار نظام معرفي جديد وبين النجاح في تطبيقه فإن مجرد تقديم الصورة النظرية للموضوع لا تعني سهولة الممارسة في التطبيق والإنفاذ.
ووفقاً لذلك قد لا يتمكّن الدارس للصدر من تحصيل القناعة بما أثاره بعض قارئيه ـ وهو الباحث الجزائري الدكتور محمد عبد اللاوي في محاولة منه لمنح الصدر قيمةً معرفيةً عاليةً ـ من أن الصدر انطلق من قطيعةٍ ايبستمولوجية مع الكلام القديم والعلوم الأخرى العقلية وربما مجمل الفكر الإسلامي[47] ، لأن هذا الرأي ربما يلاحظ أهمية المعطيات التي قدّمها الصدر، لكن واقع الأمر كان مختلفاً، فالصدر لم يقم بأية قطيعة «حتى بالمفهوم الإيجابي للكلمة» بل على العكس من ذلك تماماً عبّرت دراسات الصدر سيما الأصولية والفقيهة والرجالية وغيرها عن استمراريةٍ في نمط التفكير مع إحداث تعديلات جوهرية حسّاسة، وبالتالي فإذا لم نكن قادرين على تصنيف الصدر في عداد التيار الكلاسيكي فإنه بالتأكيد ليس مصنفاً في عداد تيار القطيعة وأنه انبثق من منظومة مستحدثة بالكامل.
ومن الناحية الفنية أخيراً تميُّز ما فعله الصدر في محافظته نسبياً على المنهج العقلي هو تطبيقه هذا المنهج كرديف للنظريات الفلسفية الحديثة، وهو ما كان يجيده الشهيد المطهري أيضاً، بحيث أن القارئ لا يحس بوجود فارق في نمط التفكير بين تفسير الفلسفة الإلهية العقلية للعالم والوجود القائم ـ كما عرضه الصدر ـ على قانون السببية وأكملية العلة من المعلول وبين التفسير الذي قدّمته كل من المادية الميكانيكية القائم على تفسير الظواهر وفق عمليات الحركة المتبادلة بين جزيئات العالم والكون، والمادية الجدلية الديالكتيكية القائم على مبدأ التناقض الداخلي[48] ، وهذه المحاولة في إعادة الصياغة على الأقل كان لها دور بارز في إعادة إحياء التفكير الفلسفي الكلاسيكي بشكل جديد في عالمنا الإسلامي المعاصر وهو ما يمكن ان يكون للعلامة الطباطبائي دور الريادة والأسبقية فيه.
الميزة المنهجية في القراءة العقائدية للشهيد الصدر
والذي ميز منهج الصدر في الدراسة العقائدية ـ وهو نتيجة طبيعية للتعديل المنطقي عنده ـ هو شروعه ـ كما لاحظنا ـ في قراءة الظاهرة الكلامية من المفردات الصغيرة، وهذا ما يخالف المنهج العقلي الكلاسيكي الذي جرى استخدامه من طرف الفلاسفة والمتكلمين المسلمين، فالطريقة الفلسفية السائدة كانت من الناحية العملية ـ غالباً ـ تسقط القضايا من أعلى، أي أن ثمة ما هو أساس ناجز يعبّر عن معادلات كبروية في التفكير، لكن هذه المعادلات المرتكزة في الذهن ليست ذات حضور في الوعي بالنسبة للانسان الاعتيادي وانما هي ـ بصيغتها المفاهيمية ـ مخزنة في اللاوعي إن صح التعبير، فمبدأ عدم التناقض ومبدأ العلية ومبدأ السنخية بين العلّة والمعلول ومبدأ استحالة الدور والتسلسل ومبدأ الحاجة والفقر في الممكنات و… كلها مبادئ يمكن للعقل أن يوافق عليها ونحن لا نناقش فعلاً فيها، لكن منطق الاستدلال فيها يحتاج من الذهن إلى نفض اللاوعي حتى تطفو هذه القضايا والمعادلات في سياقها المفاهيمي إلى سطح التفكير ليجري توظيفها، وهو أمرٌ قد يكون سهلاً أحياناً وصعباً أحياناً أخرى.
إذن مشكلة المنهج المدرسي أنه يضطر إلى تبسيط الفكرة حتى يحظى بالموافقة عليها لأنه أبعد عن الطريقة اليومية في مواجهة الأمور بالنسبة للفرد العادي، لكن الحال يختلف في منهج الشهيد الصدر في معالجة أمهات المسائل الاعتقادية كوجود الباري والنبوة الخاصة و… إن المواد التي يقوم الصدر باستخدامها أولياً هي مواد حاضرة يباشرها الانسان المعاصر، إنها المفردات الصغيرة الحسية والعملية التي يعيشها الإنسان كل يوم، فمثلاً المثال الذي استخدمه الصدر لتقريب منهجه واختباره في إثبات الصانع وهو مثال الرسالة المتقدّم، هذا المثال مفرداته الحسية ظاهرة وحاضرة وكل ما يقوم به المنهج هنا هو تقديم صورة جديدة لنفس المفردات، أي أن المعادلة نفسها واضحة، وإلى جانب وضوحها بسيطة وخاضعة للمارسة اليومية من قبل كلّ الناس، ومعنى ذلك أنه ليس ثمة قضايا كبيرة كالمعادلات المتقدّمة تبتعد أحياناً بالإنسان عن النسق اليومي لحياته، وانما ظواهر حسية أقدر على تحقيق عنصر المباشرة معها، وهو ما ينسجم مع فلسفة خاصة للصدر عرضها في تحليله لظاهرة الوحي حيث رأى فيها أن الحس أقدر على تربية الإنسان من العقل المجرّد، بل يراه المربي الوحيد للبشر ضمن صيغة خاصة[49] ، وهذا معناه أن الصدر ينسجم مع نفسه حينما يختار المنهج الحسي ـ بهذا المعنى للكلمة وهو ما يسميه البعض بالواقعية في المنهج[50] ـ في معالجة مهمات المسائل العقائدية، بل يرى الصدر أن هذا المنهج هو نفسه المنهج الذي استخدمه القرآن الكريم في اثبات الصانع[51] ، فقد استخدم القرآن الظواهر الحسية كطريق وبداية وأساس معاً للوصول إلى معرفة الله تعالى، ولم يقم باستحضار كبريات وقضايا تعميمية أكبر من حجم الظواهر البسيطة اليومية للاستدلال.
إذن الميزة التي تسجل هنا لصالح منهج الصدر في البرهنة العقائدية هي أنه أقرب إلى النمط اليومي للتفكير، ولا يُقصد هنا القول بأنه أقرب إلى الصحة انطلاقاً من قربه من الوجدان اليومي الحاكي عن الجانب الفطري في نمط التفكير الانساني كما لا يقصد القول بأنه أفضل وأدق من الناحية المنطقية والفلسفية إذ من الواضح أن المنهج الفلسفي والعرفاني يرفض عدّ مثل هذا النمط من التفكير ـ بعيداً عن مشكلة الاستقراء نفسها ـ على انه الأفضل وذلك انطلاقاً من النظريات الفلسفية العديدة المتصلة بالوجود وبدلالة ذات الواجب عليه وهو ما دفع الفكر الفلسفي العقلي الاسلامي إلى تفضيل برهان الصديقين الذي طرحه الملا صدرا نتيجة اعتباره مستوى أرقى من البرهنة[52] ، إذن لا يُقصد لا هذا ولا ذاك، وإنما يُقال إن هذا النمط من الاستدلال قادر على الفعالية والتأثير أكثر لملامسته التفكير اليومي فهو لا يحتاج بصورته العادية إلى كثير جهد بقدر ما تحتاجه بعض البراهين الكلامية والفلسفية ولا نقول كلها وانما الطابع العام فيها، ومن هنا قد يصعب تبسيط البرهان الفلسفي الكلامي أحياناً ولا يصعب توضيح البرهان الاستقرائي.
ففرق بين برهان صدر المتألهين على اثبات واجب الوجود «والمعروف ببرهان الصديقين» والبرهان الاستقرائي هنا، فبرهان الصدّيقين بصيغته الصدرائية يختزن مباحث أصالة الوجود والماهية ومباحث الوحدة والمراتب والتشكيك في الوجود و…[53] وهي مفاهيم معقدة وطويلة، أما البرهان الاستقرائي فهو برهان بسيط عملي سهل ويومي، ومن هنا كان منهج الصدر العقائدي ـ والمعرفي عموماً ـ منهجاً ينطلق من الواقع إلى العقل كما يعبر بعض الباحثين[54] لا من العقل الى الواقع كما كان عليه الصدر نفسه في فلسفتنا انسجاماً مع الموقف الفلسفي العام، وبالتالي فالخطاب العقائدي للصدر خطاب عام كما يراه بعض قارئي الصدر[55] وليس خطاباً للخواص والفلاسفة فحسب، وهذه العمومية ليست نابعة من الخطاب نفسه في جانبه الشكلي وانما من المنهج نفسه أي من العناصر المعرفية للخطاب لا العناصر الصياغية فيه فحسب.
وهذا التعديل في الخطاب يعدّه هذا البعض ضرورةً عملانيةً كانت انسجاماً واستجابة لتغيرات منهج الاستدلال على الصعيد العالمي[56] وهو ما سنلاحظه بشكل اكثر تفصيلية عند الحديث عن العلم والدين في منهج الصدر العقائدي.
ويبقى أن نشير الى ان الصدر يرى ـ كما هو الموقف الديني عموماً ـ في اثبات وجود الباري مثلاً قضية فطرية وغاية في البساطة كما تشير إليه بعض الآيات القرآنية التي استعرضها الصدر نفسه، ومن هنا فهو يرى بأن إقامة الادلة وتجشم عناء البرهنة إنما هو أمر نابعٌ من طبيعة الاحداث التي مرت على اوروبا الحديثة والنهضة[57] ، وهذه النقطة من الصدر تؤكد أنه سعى في منهجه العقائدي على ايجاد تناغم ومماهاة بين الواقع العلمي الحقيقي للقضية العقائدية ـ لا اقل بعضها ـ وبين المنهج الاستدلالي الذي جاء رداً على تطوّرات تاريخية معينة كان لثورة الشك الحديث دورٌ فيها، كما كان لمرحلة الشك اليوناني دور في تقعيد الفكر والمعرفة على يد سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم، فالصدر حينما يدعي الفطرية يحاول ان ينسجم معها، أي ان فطرية مسألةٍ عقائدية معينة يفترض ان في العقل والوجدان البشري مفردات التصديق بها، وهي بالتأكيد ـ وانسجاماً مع هذه الفطرية ـ مفردات بسيطة وسهلة، فكيف يكون مبدأ وجود الباري تعالى مبدأً فطرياً ثم نلاحظ ان المتكلم أو الفيلسوف يقدّم لنا برهاناً في غاية التعقيد والحاجة الى سلسلةٍ طويلةٍ من المقدمات؟ إننا لا نرفض هذا البرهان لكن يحقّ لنا التساؤل عن براهين اكثر انسجاماً مع السمة الفطرية للمسألة، والفطرة مهما طمست بيد أنها تبقى حاضرة بشكلٍ أو بآخر، ومن هنا فعمومية الخطاب العقائدي الصدري استجابة لفطرية المحتوى أيضاً دون أن ننفي هذه السمة عن بعض البراهين الكلامية والفلسفية الأخرى كبرهان السببية بصيغته المبسطة، لكن الحديث هنا عن منهج أي عن طابع عام لا عن حالةٍ أو حالات محدودة.
3ـ العلم والدين، إشكالية التعارض وأزمة العلاقة
سادت العلاقة بين الدين والفلسفة في القرون السالفة أزمة في العلاقة وحصلت تجاذبات عديدة على هذا المسار، وسجلت في هذه الأزمة سجالات طويلة وحادة كان أبرزها تجربة أبي حامد الغزالي في “تهافت الفلاسفة” وغيرها، وهناك خلاف في وجهات النظر كان سائداً في الحقيقة بين اتجاهات معرفية ثلاثة في العالم الاسلامي تجاذبت الفكر والمعرفة والحقيقة، اتجاهٌ يرى النص مصدراً رئيسياً للمعرفة ولو اعترف بمصدر آخر فإنما يعترف به ضمن إطار النص أو بما لا يتعارض والنص في بُعده الظاهري، واتجاه يرى العقل أساساً لكل النشاط المعرفي ويصرّ على مرجعيته العليا في الحكم على كافة الأمور، ومن ثم يقبل بتطويع النص وتكييفه وفق الناتج العقلي دائماً، واتجاه ثالث يتحفظ على كلا الاتجاهين الأوّلين حين يرى بأن القلب والشهود الباطني هو الاساس في العملية المعرفية، وبين هذه الاتجاهات الثلاثة برزت اتجاهات توفيق وجمع وانتقائية ولو بجانبها الإيجابي.
لن نركز هنا كثيراً على هذا الأمر، وسواء وافقنا على ان ابن رشد هو الذي أوقع المصالحة بين اتجاه العقل واتجاه النص أو ذهبنا إلى ان صدر الدين الشيرازي هو الذي حقق هذا التصالح وتمثل ذلك الملا حاج هادي السبزواري في أرقى نماذجه كما يراه بعض آخر، فإن الذي يبدو هو أن هذا التعارض ما يزال حاضراً كمنهج ولو ضمن صيغ جديدة، لا بمعنى أننا نوافق على واقع التنافي بين الدين والعقل والشهود وانما بمعنى ان الزاوية التاريخية لهذا التنافي ما تزال موجودة بدرجة من الدرجات، فالعقلانية المحدثة ـ كنموذج ـ شاهد واضح على نوع من التنافي الخارجي بين الدين والعقل، واذا قلنا بأن الشيرازي قد انهى قروناً من التخاصم او ابن رشد فإن ذلك حصل على اقرب تقدير منذ ما يقارب الأربعة قرون، أي في نفس الفترة تقريباً التي ظهرت فيها القطيعة بين الدين والعلم الحديث في أوروبا النهضة، موجات كبيرة من النقد اللاذع يوجهها العلم للدين «المسيحي لا أقل» مما يفرض على الدين التراجع تدريجياً عن مجال سلطانه المعرفي قبل غيره، وبالتالي ان تظهر فيه اتجاهات رومانطبقية تعمد في نهاية المطاف إلى إفراغه من أي بعد خبري لتعيد إنتاجه في إطار سلوكي شعوري إحساسي بحت كما حصل مع اتجاهات واسعة في الدين المسيحي، ثمة مفارقة عجيبة أن يبدأ تعارض الدين والعلم في الغرب من حيث انتهى ـ وفق تصوراتنا ـ صراع النص والعقل في الشرق المسلم، بيد أن المشكة عادت بالظهور حتى في الشرق المسلم بعد ذلك، صحيح أن الدين الاسلامي لم يقيد نفسه بأخبار كونية بنفس الحجم الذي كان موجوداً قروسطياً في موضوع مركزية الأرض أو الشمس وغيرها، لكن العلم بمفهومه الجديد لم يعد تعبيراً عن العلوم الطبيعية فحسب بل اتسع نطاقه ليشمل وبدرجة عالية العلوم الإنسانية أيضاً سيما بعد اتكاء اتجاهاتٍ واسعةٍ في هذه العلوم على المناهج التجريبية والحسيّة كالمدرسة السلوكية في علم النفس التي اعتمدت الجانب الفسلجي أساساً لنشاطاتها، ولم يعد العلم تعبيراً عن معارض للدين من حيث هو كمٌ من المعلومات التي قد نتناقش في أنها تعارض هذا الدين أو لا، وإنما أصبح العلم تعبيراً عن منهج فكري يستبعد في حساباته النص والكلمات السماوية، وهذه هي نفس المعاناة التي كانت موجودة بين الفلسفة والدين، فالخلاف الفلسفي لم يكن في قضية علم الله بالجزئيات أو المعاد الروحاني والجسماني، أو قدم العالم أو… وانما كان في عمقه خلافاً حول المنهج وبالتالي حول أولويات الأطر المرجعية الفكرية، والخلاف في مسألة قدم العالم لم يكن سوى تمظهر وتجلي لذلك الخلاف المنهجي تماماً كما كان الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة بين أهل الحديث والاعتزال.
إذن من ناحية عملية هناك أزمة علاقة بين الدين والعلم، بين منهج التفكير الديني ومنهج التفكير العلمي «بعيداً عن المهرب المتداول من ان واقع الدين لا يعارض الحقيقة عندما يصيب العلم»، وإلا فما هي كل تلك الخلافات الواسعة بين التيارات الثقافية على امتداد العالم الاسلامي؟ الا تنطق التيارات المعارضة للدين أو المتحفظة إزاءه بالمنطق العلمي سواء أصابت في التوظيف أو لم تصب، صح المنطق العلمي أساساً أو لم يصح؟
اذن الحديث هنا عن الناحية العملية، هناك واقع تنافي بين الكثير من القضايا العلمية والقضايا الدينية، كيف يمكننا التوصل إلى حل جذري دون التنازل عن مرجعية النص أو العقل أو غيرهما حتى يتسنى لنا اطلاق كلمة مصالحة؟ إن توظيف شعار مركزية الارض كنموذج غير موجود على الصعيد الاسلامي لا يحل المشكلة، لان هذا مجرد نموذج يمكن العثور على نموذج آخر على مستوى آخر، وبالتالي فالأزمة ما تزال قائمة، إن قراءة سريعة لأنماط التفكير الموجودة ما بين تيار الدين وتيار العلم في ساحتنا يكشف عن الهوة السحيقة في التباعد مهما كان موقفنا من هذه الأنماط، وبالتالي فهناك خلاف منهجي في طريقة التفكير لابد من حلّه أو رفض أحد الطرفين.
لكن من الممكن أن يكون جانب العلوم الطبيعية اليوم أكثر أماناً من العلوم الإنسانية، بيد أن المرحلة التي سبقت المرحلة التي نعيش كانت العلوم الطبيعية فيها أكثر تجلياً ولو بحسب زعم المعارضين للدين، لقد قدّم الماديون الميكانيكيون ومن بعدهم الماديون الجدليون نظرياتهم عن الكون والانسان والحياة اعتماداً على معطيات فيزيائية وكيميائية وذرية وفسلجية و… وقدّموا أنفسهم للعالم على انهم الوكلاء الحصريون للمعرفة العلمية، وهكذا الحال في تيارات أخرى عديدة.
لقد كانت صورة الموقف مختلفة بعض الشيء عما هو عليه الحال اليوم سيما في المرحلة التي سبقت القرن العشرين حيث كانت نتائج العلوم الطبيعية شديدة التنافي والعلوم الدينية، ومن هنا كانت الضرورات تتركز بشكل أكبر على الجانب الطبيعي للدين، أي نظرة الدين عن الكون ورؤيته للعالم كواقع حقيقي بعيداً عن عالم الاعتباريات ومجالات الاخلاق والقانون والاجتماع و…
وفي هذا الجو بالذات جاء مشروع السيد محمد باقر الصدر المعرفي الذي يسجل له نقطة امتياز جديدة حيث أحدث تقارباً شديداً بين المنهج العقائدي والمنهج العلمي الحديث، فقد نجح الصدر الى حد بعيد في قلب قسم من المعادلة التاريخية التي كانت تحكي عن تناقض بين العلم والدين، لقد كان منطق التفكير الديني عموماً منطقاً لا يتلاءم من حيث أدواته وآلياته والمنطق العلمي السائد، واحد أهم اسباب ذلك اعتماد منطق أرسطو اساساً لعمليات التفكير وهو ما رفضه العلم الحديث بشدة، فجاءت محاولة الصدر حلاً للمشكلة على هذا الصعيد، فحتى اليوم هناك من يرى في تنحية المنطق الأرسطي تنحية للفكر الاسلامي عموماً، لكن الصدر نجح في تنحية المنطق الأرسطي «طبعاً جوانب أساسية منه» دون ان يضعف من موقف الدين، وأعاد تشكيل العلاقة بين العلم والدين بعيداً عن عنصر الإرباك هذا، لقد كان هناك إحساس بوجود دين وعلم وكل واحدٍ منهما له تفكيره وتعاطيه مع الأمور، هذه الغربة كان لها بعض الايجابيات فلم تجرف الدين في تيار التحوّلات العلمية السريعة التي حصلت سيما ما بين القرن العشرين وما سبقه، لكن جملة من السلبيات كانت في انتظار سوء العلاقة هذه، ومن هنا كان تطوّر العلم وتقدمه محسوباً كتراجع للمنهج الآخر وكان ذلك يصب عملياً في ضرر القضية الدينية، ولذلك كان منهج الصدر بداية ممتازة لكسر جدار الجفاء بين الدين والعلم، فالسبب الذي دعى الصدر ـ كما سنرى ـ لتأليف الاسس المنطقية للاستقراء أو فلنقل أحد الاسباب كان عبارة عن إثبات الصانع، لقد كانت النتيجة الأخرى التي رافقت هذا الإثبات من الأهمية بمكان[58] ، فقد اعتقد الصدر ان مشروعه هذا لم يعد فقط مدّ جسور الثقة بين العلم والدين فحسب بل إنه يمركزهما على أسس واحدة، إن أية هزّة تصيب المعارف الدينية العقائدية في الصميم المنهجي سوف تترك أثراً بالغاً على وضعية العلم كله، وهو ـ أي هذه الوحدة المنهجية ـ ما يشكل نقطة البدء في إعادة التوازن بين الدين والعلم على غرار تجربة ابن رشد وصدر المتألهين.
كما ومن شأن هذه الوحدة تفريغ مدّعيات المدارس الفكرية المعارضة للاتجاه الميتافيزيقي في التفكير، فما صنعه الصدر يحول دون الفصل الذي قامت به المدرستان الماركسية والوضعية بين الميتافيزيقا والعلم حيث طرحت الماركسية نفسها كمذهب علمي لتنفي العلمية عن الدين، فيما طرحت الوضعية العلم نفسه بصورةٍ تفرّغ القضايا الميتافيزيقية من المضمون العلمي، لأن هذه القضايا لا معنى لها وبالتالي فليست قابلة للحديث عن خطئها وصوابها.
وكتعبير عن هذه المصالحة يلاحظ منهج الصدر في إثبات المسائل الاعتقادية متأثراً بالمنهج العلمي الحديث ومنسجماً معه، إذ يقوم هذا المنهج على تقديم فرضية مسبقة لتفسير مجموعة ظواهر طبيعية، ثم يحاول أن يرى مدى قدرة هذه الفرضية على تفسير كل هذه الظواهر، فإذا فسّرتها كلّها أخذ بها نتيجة منهج علمي معين، وقد مارس الصدر هذه الآلية في موارد عديدة في علم الكلام وعلى رأسها اثبات الصانع الحكيم كما تقدّم، وكذلك في مناقشة الموقف الاستشراقي من بشرية ومحمدية القرآن الكريم حيث كان ـ أي الصدر ـ يضع تفسيراً مقابلاً للتفسير الاستشراقي، ويرى مدى امكانية تبرير كل المعطيات الموجودة وفقه[59] ، فإذا تمّ له ذلك أبطل مقولة المستشرقين لان قيمة الفرضية وفق المنهج العلمي تكمن الى حد بعيد في قدرتها على تفسير الظواهر كلها والاتساق معها دون افتراضات زائدة وبأقل حجم من التأويل…
والشهيد الصدر عندما ينحو هذا المنحى الذي يقترب كثيراً جداً من طبيعة تعاطي العلم الحديث مع المشكلات التي يواجهها لا يغيب عنه إلباس مشروعه لباساً دينياً نصياً، بمعنى أنه لا يفوته اكتشاف التأييد الشرعي النصي لمنهج تفكيره حيث يؤكد في دراساته القرآنية على قضية العلم ونفي التقليد ويعرّج على مسألة النظر في الأنفس والآفاق على انها نماذج لطرح قرآني علمي معاً أي لجماع نصي وعقلي[60] .
لكننا عندما نوافق على هذه العناصر الايجابية في مشروع الصدر على هذا الصعيد لا نعني بأن اشكالية العلاقة بين العلم والدين قد تلاشت حتى لو تمت الموافقة على مشروع الصدر في تفاصيله، لان معارضة العلوم الانسانية للدين ما يزال قائماً بالرغم من تعدد الاتجاهات داخل هذه العلوم، فعندما نقول بأن العلم والدين يعيشان سوء علاقة لا نعني بذلك أن الدين يجب أن يتكيف والعلم كما يراه البعض أو أن العلم يصمت عند حدود وأسوار النص الإلهي المقدّس كما يراه البعض الآخر، وانما نستهدف إصلاحاً ما خارج العلوم الانسانية وخارج الدين هو الذي سيتكفل تحسين العلاقة، فالصدر حينما قدّم حلاً للعلاقة لم يذهب الى النص الديني أو إلى مفردات العلوم الطبيعية وانما استهدف إصلاحاً من الخارج كمُن في رد المنطق الارسطي والتجريبي معاً أو القيام بتحديد جديد لمساحات العمل يمكنها ان تحل المشكلة كما هو الحال في نظرية “توقعات البشر من الدين”[61] الحديثة الظهور في الوسط الإسلامي والتي تعطي إيحاء ببدء عمل الدين عندما تبدأ الحاجة إليه، وهو ما يفصل نسبياً بين مساحة العلم والدين لأن المفترض أن الحاجة لن تكون موجودة في المجال الذي يدلي فيه العلم بدلوه.
إذن إصلاح العلاقة لا يعني التطويع كما لا يعني أية قداسة للمصالحة نفسها من شأنها أن تضع حلاً اعتبارياً اجتماعياً ونفسياً دون أن تعمد الى حل جذور المشكلة معرفياً.
فالمصالحة التي قام بها الصدر يمكن التعبير عنها بأنها أولية ما تزال في مرحلة البدايات وإلا فإن شوطاً كبيراً جداً لابد من قطعه للوصول إلى حل لهذه المشكلة العالقة، فالعلم ليس ملحداً والدين ليس جهلاً ومن هنا تبدأ القضية.
4ـ الآخر في الخارطة المعرفية الكلامية
يمكن القول بأن عدم تمثل الآخر ـ وهي مسألة ناجمة غالباً عن اصطباغ الجهود الكلامية بالطابع الجدالي كما سنرى لاحقاً ـ كان واحداً من عناصر المعاناة المؤلمة التي عاشها علم الكلام قروناً من الزمن، وأدّت الى ضعف روح الموضوعية والحياد العلمي فيه، فالخلافات الكلامية بين الطوائف الإسلامية شاهدٌ بارزٌ على هذه المعاناة، ففي الكثير من الأحيان كان الإسقاط هو الحاكم علىالموقف كلّه، وكان تفسير الآخر من منطلق الحكم عليه هو الأساس للتقييم، أي أنني أحكم على الآخر ثم أفسّره ثم اتجه لتقييمه ناقداً له، فيما المطلوب هو تفسير الآخر تفسيراً يماهي الواقع ويحاكيه ثم تقييمه ثم الحكم عليه، فهذا الانعكاس في المسار المنطقي لفهم الآخر والحكم عليه شكل عائقاً جذرياً في نمو علم الكلام كما وأدخله في أتون الصراع اللفظي، وصارت عمليات النقد والتقييم والدفاع والرد منخرطةً في كثير من الأحيان في إطار جدال حول المفهوم والمصطلح، وهذا يعني أن علم الكلام قد وظّف جهوده أحياناً في إطارٍ صياغي بحت فكانت الحملات والحملات المضادة أشبه بالنسبة لكل طرف بالعاصفة في فنجان لأنها من وجهة نظره تفسير مغلوط لموقفه.
إذن هناك إشكالية منهجية، اشكالية فهم الآخر، اشكالية تمثله ومماهاته ومحاكاته، اشكالية اسقاط الذات في عملية الفهم…، هذه الاشكالية تحول دون تحقق الحل لها جملة أمور صبغت تجربة الكلام المعاصر «وان كنا سنلاحظ الوضع ملاحظة علمية» أبرزها:
1ـ ما قدمناه من سيادة النمط الجدالي الذي يؤدي إلى طفو مفاهيم النقد والابطال وصرع الآخر مهما كلّف الثمن، وقد تجد مبررات دينية حتى لتشويش صورة الآخر في الذهن تنطلق منها الأطراف من مفهوم “أهل البدعة” الوارد في بعض الروايات ضرورة التشهير بهم وبهتانهم وغيبتهم والوقيعة بهم[62] مما يسوّغ دينياً ـ عندما يتسع مفهوم أصحاب البدع في الذهن المتشرعي ـ تجميد مقولة فهم الآخر لصالح مقولة صرعه والإطاحة به.
2ـ عدم اعتماد المصادر الاصلية في فهم الآخر وهو ما نلاحظه حتى في تجربة الكلام المعاصر، فإذا أخذنا على سبيل المثال تجربة الشهيد مرتضى مطهري في نقد الفكر الماركسي وجدناه «سيّما في أسس الفلسفة» يعتمد على بعض الشخصيات الإيرانية البارزة التي تبنت أو تخصصت في هذا الفكر من أمثال الدكتور “أراني” والسيد فروغي، ويبرر الشهيد مطهري ذلك بأن ما كتبه الدكتور “أراني” يعد افضل ما كتب حول المادية الديالكتيكية بل أفضل مما كتبه ماركس وإنجلز ولينين وغيرهم، ومن هنا يرى بأن الماركسيين الإيرانيين لم يتمكّنوا من الكتابة بأفضل مما فعله الدكتور “اراني” وذلك بالرغم من ان “اراني” قد توفي قبل خمسة عشر سنة من بداية كتابة المطهري تعليقته على “أسس الفلسفة” التي نقد فيها المذهب الماركسي وركز كل جهوده في هذا الكتاب عليه، أي أن وفاة الدكتور أراني كانت في الثلاثينات من القرن العشرين[63] .
واعتماد مفكّرٍ ايراني مهما بلغ حجم تفوّقه الفكري يعد نقطة ضعف، لأن المفترض في قراءة الآخر ملاحظة أولاً أكثر من مصدر وثانياً الرجوع إلى المصادر الأم ذات الدرجة الأولى لا المصادر ذات الدرجة الثانية التي تنقل عن المصادر الأم حتى لو اختزنت المصادر الثانوية عناصر ايجابية كثيرة فإن هذا إنما يبرر استدعاءها لا تغييب المصادر الأخرى الهامة.
وهكذا الشهيد الصدر عندما يطالع المنطق الوضعي في دراساته فهو يقف في قراءته لهذا المنطق في حدود الدكتور زكي نجيب محمود[64] الباحث المصري المعروف دون أن يمد التجربة بالموقف الوضعي في مصدره الأصلي منذ أوغست كونت وحتى هانزهان ونويرات وفيليب فرانك ورودولف كارناب وان اتى على ذكر الفريد آير[65] ، واذا توجهنا ناحية العلامة الطباطبائي نجد درجة اكبر من الغموض، فالعلامة لم يرشد التجربة الى أي مصدر إلا نادراً ولا تعرف إلا بجهود الآخرين المصادر التي اعتمد عليها، وجهود الآخرين من امثال السيد هادي خسروشاهي والشيخ علي أحمد الميانجي اللذين دوّنا هوامش توضيحية توثيقية للكثير مما كتبه العلامة سيما على صعيد علم الكلام وحواراته مع الدكتور كوربان[66] ، هذه الجهود لا يحرز أن الطباطبائي قد لاحظ مصادرها في حكمه على الآخر وهو ما يفسّر أيضاً عدم نقل الطباطبائي النصوص الحرفية للآخرين وكلماتهم.
وعلى خط علم الكلام في النطاق السني نجد أيضاً تجربة الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد[67] وغيرها فراغاً من المصادر والتوثيق والنصوص الحرفية التي تكشف مدى عكس التجربة لتفهمها الآخر وتمثله في ذاتها، هذا فضلاً عن التجارب الأخرى العديدة التي لا حاجة لتكرار أسمائها.
وهذه المشكلة لها أسبابها العديدة:
1ـ منها ما هو قديم يعود لطبيعة المنطق الدعائي المضاد للتيارات الكلامية المخالفة، فهذا المنطق عادةً ما لا يستحضر الآخر بنفسه، لأن استحضار الآخر دعاية له واعطاء صورة قد تكون حسنة عنه فيما استحضار قراءتنا للآخر هو الانسب في هذا المنطق.
2ـ ويمكن ان تكون هناك اسباب عامة أخرى ابرزها غياب المنهج الأكاديمي الحديث في الدراسة والتحقيق من التوثيق ونقل النصوص الحرفية واحياناً تتبع نفس المصادر التي كان بعضها غير متوفر عند الكاتب نفسه، فالطريقة القديمة في علم الكلام وغيره بما في ذلك علم الفقه الاسلامي لم تكن تعتمد على ذلك، ولذلك فنحن نلاحظ بشكل كبير نقل النسبة الى فلان دون ان نجد جزماً بهذه النسبة، ولهذا ضاعت أحياناً الآراء الحقيقية لعلماء كبار كما هو الحال في ائمة المذاهب الاربعة الذين كثرت فتاواهم بكثرة الروايات الناقلة عنهم فتجد أحمد بن حنبل يفتي بكذا على رواية وبشيء آخر على روايةٍ أخرى، وهو ما يستدعي اليوم تحقيقات مستأنفة للتحقق التاريخي[68] ، وهذا ما نجده أيضاً في الفقه الشيعي بدرجة أضعف نسبياً لدى ملاحظتنا كثرة النسبة الى فقيه انطلاقاً مما حكي عنه لا مما لوحظ مباشرةً في كلماته، لكن هذه الطريقة ـ على مشاكلها ـ كانت اكثر دقةً أحياناً من منهج جملة من المتكلمين المعاصرين، فدقة القدماء سيما في مجال الفقه كانت تستدعي منهم التمييز بين النسبة المحكية عن عالم ديني وبين التحقق الواقعي من مقولاته، فكانت تتميز عبارة “ذهب اليه فلان” عن عبارة “نسب الى فلان أو ذهب اليه فلان فيما حكي عنه أو هو المنسوب لفلان” بل حتى تتميز بدقة طبيعة موقفه فيقال “قوّاه فلان «أي قال على الاقوى» واستنسبه «الانسب» واستظهره «على الاظهر» وجزم به «قطعاً…» ومال اليه و…” وهو ما لا نجده أحياناً كثيرة في كلامياتنا المعاصرة فتنسب فكرة إلى الماركسية وهي في الحقيقة مقولة لمفكّر ماركسي مصري أو ايراني لا يعلم تبني الاتجاه الماركسي العام لها، ويجزم بذهاب الحسيين الى قول نقلاً عن موسوعة ميسّرة غير تخصصية وهكذا…
وفي الحقيقة بالرغم من اننا نحتمل جداً ان المتكلمين المعاصرين ـ لا سيما منهم رجال الدين ـ قد تأثروا بالحالة الاكاديمية القديمة في عدم التوثيق والمراجعة و… غير اننا نلاحظ حتى تراجعاً نسبياً عما كان عليه الحال في الماضي.
وإذا تجاوزنا الاعذار فإن ذلك لا ينفي النقص في التجربة بالمعنى الذي ذكرناه، كما لا ننفي وجود عناصر قوّة اخرى على هذا الصعيد كما هو الحال مع السيد محمد باقر الصدر في فلسفتنا حيث وثق الموقف المادي من مصادره الهامة مع لينين وماركس وانجلز وغارودي وماوتسي تونغ وستالين وغيرهم.
وكما هو الحال في تجارب حديثة اخرى كتجربة الدكتور حسن حنفي كما تلاحظ في كتابه “من العقيدة إلى الثورة” وغيره[69] ، وتجربة الدكتور عبدالكريم سروش وكذلك معارضيه[70] ، يمكن القول إن التيار الجديد في علم الكلام الذي برز في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين اتسم بتجاوز هذه المشكلة إلى حد جيد وأحياناً ممتاز وهو ما لابد من تسجيله هنا.
3ـ اعتماد اللغة الوسيطة في معرفة الآخر، أي الرجوع إلى المصادر المترجمة في الغالب أو دائماً وهو ما نلحظه منذ الأفغاني وحتى تجربة أواخر الثمانينات، فالمصادر إما كلها مترجمة الى اللغة العربية أو إلى اللغة الفارسية وحتى بين الفارسية والعربية كانت المصادر تخضع أحياناً للترجمة، واعتماد اللغة الوسيطة ظاهرةٌ شملت العديد من المتكلّمين في الفترة الأخيرة من بينهم العلامة الطباطبائي والمطهري والصدر وعبده ومغنية وغيرهم.
والترجمة لا تشكل عيباً إذ يصعب لانسان ان يتعرّف على الفكر الماركسي من مصادره ما لم يتقن اللغات الصينية والروسية والألمانية والفرنسية وهو ما لا يمكن إلزام المتكلم به لكن الترجمة مهما بلغت من الدقة ينتابها في الكتب الحساسة نوعٌ من الخطر، فالمعادلة تقول ان المترجم يقف على مفترق طرق إما يحافظ على الاصل فيتورط في رداءة النص في لغته الثانية انطلاقاً من أزمة الحرفية واما يجيد عرض النص باللغة الثانية مع الاعتذار عن بعض الخصوصيات في اللغة الأم[71] ، هذا زيادة على ان الترجمة ليست نقلاً للكلمات بقدر ما هي نقل للفكر والثقافة وانماط التعاطي المنعكسة في تراكيب الجمل، والترجمة العربية للفكر الغربي عموماً ـ على حد رأي الدكتور عبدالله العروي ـ ترجمة رديئة وناقصة[72] ، ومن هنا تقتضي الامانة من علم الكلام أن يقرأ الآخر من موقعه ولو بقدرة المتكلم على لغة جديدة واحدة على الأقل كالانكليزية في حياتنا المعاصرة اليوم، وهو ما يخفف من بعض المشكلات التي قد تنجم عن اللغة الوسيطة، والأصعب من ذلك أحياناً تعدد اللغة الوسيطة وهو ما يخلق مشاكل مضاعفة كما يشير إليه أحد الكتّاب الإيرانيين المهتمّين بترجمة الفكر العربي[73] .
نعم هناك ظاهرة جديدة تمثلها الدكتور حنفي وسروش وملكيان ولاريجاني وأبو زيد وغيرهم تمثلت في التعرّف على الآخر من مصادره وهو ما صبغ ايضاً جملة نتاجات الفكر المغربي العربي نتيجة ظروف تاريخية وجغرافية، وهذه الوضعية الجديدة تعد انطلاقة جيدة وأحياناً ممتازة نحو تبديد المشاكل المعرفية في الحوار مع الآخر الكلامي وغيره.
4ـ قدم بعض المصادر التي يستكشف منها الآخر، وهي ملاحظة توجه ووجهت الى جملة متكلمين كبار معاصرين من بينهم السيد محمد باقر الصدر سواءٌ على مستوى التجربة الكلامية أو على مستوى مجمل التجربة الفكرية.
5ـ غياب روح الثقة والاحترام المعرفي، وهذه أهم أزمة يعيشها علم الكلام، ويرجع سببها الى أمرين:
أحدهما: الإرث التاريخي فيما يخص الجانب المذهبي من علم الكلام، وهو إرث في غاية الثقل والتعقيد ومن الصعب جداً التجرّد عنه بهذه البساطة مهما اطلق الانسان شعارات الموضوعية والإنصاف، وعلى رأي الدكتور علي الوردي في “مهزلة العقل البشري”[74] فإن العلماء في هذا المجال يبدؤن مقدّمات كتبهم بادعاء التجرّد والموضوعية والإنصاف العلمي بيد أنهم مع ذلك ـ من وجهة نظره ـ يصلون الى نفس ما توصلوا له سلفاً ومنذ البداية، وهو ـ أي الوردي ـ يعتبر ذلك مجرّد كلمات لا معنى لها، ومن هنا فهو يرتئي استبدال مفهوم الموضوعية بمفهوم الشك، وهذا كلام دقيق الى حد معين لان مفهوم الموضوعية لن يتسنى له لعب دور افي لحياة العلمية ما لم يكن الانسان في مرحلة شك حقيقي اثناء البحث، وإلا فمن الصعب له تجاوز الذات ومساواة النظر اليها وإلى الآخر. وهذا معناه أن المتكلم ـ فيما نهدف هنا ـ لا يمكنه تجاوز اثقال الموروث ما لم يدخل نفسه في إطار شك علمي حقيقي وليس شكلياً، واذا وافقنا الدكتور الوردي على مقولته فنحن نوافقه في ان موضوعة الموضوعية اصبحت في كثير من الاحيان موضوعة مفرغة، والسبب في ذلك الازدواجية التي يمارسها الباحث إزاء الموضوع الذي يقرأه أو يتحاور فيه، فعندما يكون الباحث ملتزماً بفكرةٍ معينةٍ فهذا معناه أن يقينه بهذه الفكرة سيكون حاضراً في عمق حواره الفكري حول الموضوع الذي كان له يقين به، وهذا يعني أن الحياد حال الحوار الذاتي الأحادي الطرف أو الخارجي المتعدد الأطراف انما هو حياد شكلي ما يلبث أن يتبدد حينما تصل المسألة إلى النقطة الحرجة، وهذا ما نشاهده بوضوح في الحوار الكلامي عموماً مهما اتسم اطراف الحوار بالموضوعية الشكلانية، وبالتالي فالمنفذ الوحيد للموضوعية الجوهرية الحقيقية هو اعادة انتاج مفهوم الشك العلمي لا حال الحوار مع الآخر ـ أي آخر واي حوار ـ فقط بل في كل الحالات، وهو ما يعني تبدلات خطيرة جداً في مفاهيم اليقين والايمان والقطع و…، ولا سبيل للحل إلا من خلال جماع مبدأين معرفيين هما:
1ـ مبدأ اليقين الموضوعي الذي أسس له الصدر نفسه على الصعيد الاسلامي وهو كما تقدّم سالفاً يقوم على انسجام المعطيات مع اليقين، فنحن يمكننا الاستعانة بهذا المقدار من المفهوم لاستبعاد الواقع في الإطار العلمي، سيما حينما نتكلم عن معارف نظرية بطبعها الاولي، فبدل ان انطلق من تطابق المعطى الذهني مع الخارج انطلق من معطيات اليقين نفسه الى نفس اليقين، واترك مطابقة الخارج في احتمال الخطأ بمعنى الاحتمال الضئيل كما شرحه الصدر نفسه. وهذا معناه ان الحوار الكلامي سوف يعزل عن الواقع بمعنى من المعاني وسيبقى في إطار النظم العلمي بهذا المعنى، وهو ما يشكل عنصراً اساسياً لاستبعاد الدوغمة وامثالها.
2ـ مبدأ العلم الاجمالي الفوقاني، وهو مبدأ يتجاوز دائماً مفردات البحث العلمي ليقرأ المجموع قراءة كلية، وحينما اقرأ تجربتي العلمية على مر سنوات فسوف أتأكد يقيناً من انني قد وقعت في عدد كبير من الاخطاء في حياتي، وهذا العدد الكبير سوف اقدمه كمعطى رياضي لما هو ناجز عندي الآن مما لدي قناعة به ليتشكل عندي علم إجمالي بالخطأ في بعض افكاري بحساب الاحتمال، فإذا كانت مجموع أفكاري الالف مثلاً وعلمت تفصيلاً بخطأ مائة منها على مدى تجربة خمس سنوات تقريباً، فإن هذا سوف يشكل عندي علماً اجمالياً بوقوع اخطاء جديدة عندي بنسبة 10% خلال السنوات الخمس القادمة أو اقل بقليل، وعندما أفعّل هذا العلم الاجمالي ستتغير نظرتي لكل مفردة من مفردات اليقين عندي وسأقدر على الجمع بين يقيني بالمفردة واحتمال الخطأ مستعيناً الى حد معين بمبدأ اليقين الموضوعي المتقدم.
إذن الموضوعية في حالة مواجهة الموروث تكمن في تعديلات جوهرية معرفية لا في توجيهات اخلاقية مهما بلغت من القوّة فلن تقدر على مواجهة اليقين الذي يحكم عليها من خلال تمثيله الواقع.
فما اشار له الوردي في محلّه ضمن هذه الصيغة، لا يمكن خوض حوار منتج ـ لا جدال ـ إلا بهذه الطريقة، وان كان من سلبيات هذا الوضع ما لا بد من التفكير في حله لا سيما قضية الايمان الديني.
ثانيهما: إحساس الخطر الحاضر الممزوج لدى البعض بشيء من عقدة النقص والحقارة، وهو ما يتمثل في العلاقة مع الغرب، هناك ازمة ثقة بالغربي ليست ناشئة من موروث تاريخي بهذا الحجم الموجود في الصراعات المذهبية بل من خطر معاصر تمثله الاستعمار والامبريالية واخيراً العولمة والكوننة والأمركة، وقد ادت سلسلة التجارب الى القلق من أي شيء يرد من الغربي لأن طبيعة الصراع لها دخالة اساسية في هذا الموضوع، هذا القلق الإسلامي العام من الغرب وهذا الخوف على الهوية والأصالة والذات والخصوصية و… يحولان دون القدرة على تبديد ازمة الثقة في العلاقة مع الآخر، سيما بعد تجارب فاشلة وقاسية في الاستفادة من النتاج الغربي جسدته تيارات علمانية وليبرالية متطرفة جعلت المتكلم بالخصوص حذراً جداً إزاء عملية الاستيراد العلمي والثقافي.
المتكلم اليوم مهزوم هزيمة حضارية وبالتالي فمن الصعب ان نقنعه بتوازن ثقافي ما مع الآخر في ظل لا توازن حضاري وسياسي وعسكري و…، اذا اردنا ان نكون واقعيين يجب ان نقول ان المسألة في غاية الحساسية ومن الخطأ التعامل معها بسطحية وسذاجة وعفوية وتسرّع واستعجال و…، كون المتكلم والمفكر الاسلامي عموماً في وضع مأساوي كالوضع المعاصر سيما ما قبل تجارب النصف الثاني من القرن العشرين تجعلنا نتعامل مع افرازاته في مستوى الثقة والعلاقة على درجة عالية من الحذر والتحفظ والتدقيق، اما العمل المبتسر فهو لا يعطي أية نتائج مستقرّة على المدى البعيد.
ومن هنا من الضروري التفكير بحل جذري لهذه الاشكالية أحسب أنه يعتمد على منهج سيكولوجي تربوي أكثر منه معرفي معا لمشكلة في جوهرها نفسية وليست معرفية.
إذن ازمة الثقة بشقيها المتقدمين تفرض النظر الى الآخر بنوع من السلبية وهو ما يصعب من تمثله والتكيف معه، وهو ما نجده لدى بعض المتكلمين في هذا العصر فالشيخ محمد جواد مغنية واضح في ممارسته نمطاً هجومياً على الآخر يصعب الشعور بالهدوء معه، والدكتور سروش يعبر عن حالة مشابهة في تعامله بنوع من الفوقية أو النرجسية مع الاتجاهات المخالفة له في الجدل الكلامي، لكن المطهري ـ على الحملات التي عنده أحياناً والتي تتسم بالعنف في تقييم الآخر سيما الماديين الجدليين ـ يمتاز بنوع من التفهم الافضل، لكن الشهيد الصدر كان الأبرز ـ وإلى حدٍّ ما العلامة الطباطبائي ـ دون أن نعطي صبغة إطلاقية على الأمور، فقد امتاز الطباطبائي بعدم ذكره حتى اسماء اصحاب الآراء المخالفة له، وتعاطى بروح مرنة واخلاقية عالية مع الافكار المناهضة له، لكن الصدر في تقدير الكاتب كان الأكثر روعةً على هذا الصعيد من خلال السمات التالية:
أ ـ ان العرض الذي كان يقوم به الصدر لشرح وتفسير المواقف المعارضة له بما فيها المواقف الالحادية المنكرة لأصل وجود الله تعالى كان عرضا أميناً جداً، بل يمكن القول بإنه كان اكثر تنظيماً وجمالاً من عرض الخصم نفسه، فضلاً عن انه كان يركز بشكل واضح على النصوص الحرفية للآخرين، وقد بلغ الحال بالشهيد الصدر في عرضه لمواقف الآخرين الكلامية وغيرها ـ سيما كتاب اقتصادنا ومباحث الكلام المدرجة في علم أصول الفقه ـ ان منح القارىء إحساساً بتبنيه الموقف نفسه وهو ما يعود ويبدده من خلال مناقشاته التي تتسم بهدوء تام ينم عن نوع من السلطة المعرفية على ما يفكّر فيه.
ب ـ عدم حضور العنف والعدوانية والهجومية والقسوة والتسخيف والتشهير والشك الاخلاقي والتسقيط و… في كلامياته إطلاقاً، وهو ما قد لا نجده في بعض كتابات المعاصرين له أيضاً، فقد عالج الصدر موضوعات اتسمت بالحساسية المفرطة، فمن جهة طرق باب الخلاف الكلامي المذهبي كمسألة الامامة والمهدوية ومن جهةٍ أخرى خاض في الخلاف الحاد ـ ذي الطابع السياسي والاجتماعي الذي كان يلقي بظلاله على مجمل الحراك الثقافي ـ مع التيارات الملحدة في قضايا الوجود الإلهي والغيب، ومع كل ذلك لم يتسم بالظاهرة الانفعالية وهو ما يعبر عن ثقة معرفية وفهم للآخر وقراءة علمية له وتعامل أكاديمي مع المعلومات والأرقام لا النوايا والاخلاق.
إن القدرة على تمثل الآخر واحترامه تبعاً لذلك وممارسة امانة وموضوعية وانصاف عالية معه أمر لا يمكن اختباره في أي متكلم ـ فضلاً عن غيره ـ إلا عندما تبتعد المسافة جداً بين المتكلم وبين الآخر، أما عندما تكون المسافة قريبة فإن درجة كشف الاختبار سوف تكون اضعف، اذ حتى أكثر التيارات دوغمائيةً ونرجسيةً وتعصباً وانغلاقاً وتحجراً على أي ساحة وصعيد علمي ومعرفي تمارس الاعتدال والوسطية مع التوجهات القريبة منها، فالمحك والمختبر الحقيقي لقياس درجة فهم الآخر وتفهمه إنما يكمنان في حالة ممارسة الاعتدال والوسطية مع ابعد التيارات عنا، والتيار الإلحادي كما التيار السني على الصعيد المذهبي يعدان اكبر اختبار لمتكلم شيعي منصف وحيادي ومعتدل في مرحلة الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن العشرين، فضلاً عن ان الصدر كما تشير له دراسات مرتبطة بحياته السياسية والاجتماعية وكما وثقه تلاميذه ومعاصروه كان يمارس على الصعيد الداخلي «حوزوياً ومرجعياً» درجة عالية من التفهم والصبر والتحمل والاعتدال ورفض الانفعالية والسماح بظواهر التسيب والانفلات للأمور [75] ، وهو ما يجعلنا نضع الصدر في قائمة الصدارة على هذا الصعيد إلى جانب العلامة الطباطبائي الذي واجه هو الآخر مشكلات داخلية عديدة تمثلت في معاناته من ظاهرة التحفظ بل والرفض لمنطق التفكير الفلسفي وممارسة تدريس هذا المنطق في المعاهد والحوزات الدينية، بل حتى محاربة أو تهميش مشروعه القرآني الذي تمثل فيما بعد تفسيره الشهير “الميزان في تفسير القرآن” حيث تعرّض هذا الكتاب بعد إصدار الجزء الاول منه للكثير من حملات النقد اللاذع والرفض الشديد من جانب بعض التيارات التي كان لديها تحفظات على بعض هذه المناهج بقطع النظر عن الموقف من الطرفين.
حيدر حب الله
[1] عبد الجبار شرارة، منهج الشهيد الصدر في دراسة المسائل الاعتقادية، مجلة قضايا إسلامية، مؤسّسة الرسول الأعظم، العدد الثالث، 1996م، ص 40.
[2] تعليقة الطباطبائي على الأسفار6: 14، 15، 40، نقلاً عن رسالة التشيّع في العالم المعاصر، مقال العلامة الطباطبائي السيرة الفلسفية، الشيخ جوادي الآملي، ص461، مؤسسة أمّ القرى للتحقيق، الطبعة الأولى، 1418هـ، ترجمة جواد علي كسّار.
[3] أنظر مجموعه آثار4: 64 ـ 111، انتشارات صدرا، إيران، الطبعة الثانية، 1995م.
[4] عبدالله جوادي آملي، “تبيين براهين اثبات خدا تعالى شأنه”، سلسلة بحوث فلسفة الدين، نشر مركز الإسراء، الطبعة الاولى، وقد استعرض المؤلف في هذا الكتاب مختلف انواع براهين إثبات وجود الله تعالى من قبيل برهان النظم وبرهان آنسلم وبرهان الفطرة، والبراهين الأخلاقية، برهان الامكان والوجوب، وبرهان الحركة والحدوث، برهان الامكان الفقري، برهان الصديقين، برهان المعجزة برهان التجربة الدينية.
[5] لقد استعرض الشيخ عبدالله الجوادي الآملي في كتابه المتقدم حول اثبات وجود الله تعالى مجموعة من المقدمات المرتبطة بالعلم والسفسطة ونحو ذلك، وهذه نقطة امتياز بيد أنها متأخرة عن تجربة الشهيد الصدر كثيراً نسبياً، كما تجدر الإشارة إلى أن العلامة الطباطبائي والشيخ المطهري قد سبقا الصدر زمنياً في دراسة موضوعة النعرفة حسب الظاهر من تاريخ تأليف كل من فلسفتنا وأسس الفلسفة، كما أنهما تعرضا أيضاً في مباحث إثبات واجب الوجود لبعض قضايا المعرفة لكن حضور المعرفة عند السيد الصدر داخل المنظومة الكلامية كان أكبر وحافلاً بالمعطيات أكثر، هذا هو المقصود بالذات لنا هنا.
[6] أنظر أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، ترجمة السيد عمار ابو رغيف، نشر مؤسسة ام القرى للتحقيق، الطبعة الأولى، 1421هـ. ق، بيروت، ج3: 206 ـ 221، كما وانظر براهين الصديقين وارسطو وابن سينا والنظم والحدوث وبرهان الفارابي.. في نفس الكتاب 3: 273 الى مباحث وحدة الواجب ص363، وكذلك انظر بداية الحكمة: 156 ونهاية الحكمة: 268 ـ 272، وانظر المصدر الفارسي في مجموعة آثار أستاذ شهيد مطهري6: 879 ـ 989 و933 وص1012.
[7] والمقالات هي الفلسفة والسفسطة، العلم والادراك، قيمة المعلومات، ظهور الكثرة في الادراكات، الادركات الاعتبارية «وماهي الفلسفة»، انظر مجموعة آثار 6: 57 ـ 456..
[8] انظر القسم الاول من فلسفتنا، نظرية المعرفة: 57 ـ 203، وانظر مسألة الادراك من الكتاب: 271 ـ 400.
[9] محمد باقر الصدر، الاسس المنطقية للاستقراء، مؤسسة دار الكتاب الاسلامي، الطبعة الاولى، 1410 هـ. ق، ص401 ـ 413.
[10] الاسس المنطقية للاستقراء: 469.
[11] موجز أصول الدين «أو المرسل والرسول الرسالة»، تحقيق ودراسة عبدالجبار الرفاعي، 2001م، ص121 ـ 145.
[12] يرى الشيخ مهدي المهريزي ـ أحد أبرز المنظّرين لفكرة ومشروع فلسفة الفقه ـ بأن واحدة من موضوعات هذا العلم المقترح الذي يُعنى بالدراسة الخارجية للفقه تختلف عن الدراسة الفقهية الداخلية هي تأثير الرؤية الكونية على اجتهاد الفقيه، أنظر مهدي المهريزي، مدخل إلى فلسفة الفقه، سلسلة كتاب قضايا إسلامية معاصرة 5، ترجمة خالد توفيق، نشر مؤسسة الأعراف، الطبعة الأولى، 1998م، ص 4 ـ 5 و36 ـ 37.
[13] انظر الاسس المنطقية للاستقراء: 13 ـ 119.
[14] انظر الاسس المنطقية للاستقراء: 6 ـ 17.
[15] الاسس المنطقية للاستقراء: 329.
[16] انظر الاسس المنطقية للاستقراء: 383 ـ 400 و415 ـ 442.
[17] فلسفتنا: 68 ـ 69 و70 ـ 74 و162 ـ 166.
[18] أنظر يحيى محمد في مقالة ” المهمل والمجهول في فكر الشهيد الصدر ” مجلة قضايا اسلامية معاصرة، العدد: 11 ـ 12: 154 ـ 164.
[19] بحث حول المهدي ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1990م، ج11: 27.
[20] انظر دروس في علم الأصول، الحلقة الثانية: 166 ـ 184، وبحوث في علم الاصول، تقرير السيد محمود الهاشمي، 4: 233 ـ 248 و305 ـ 338، ومباحث الاصول، تقرير السيد كاظم الحائري 21: 93 ـ 131 و281 ـ 331.
[21] محمد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد محمد باقر الصدر ج3: 170 ـ 171، واشار له في ابحاثه حول التواتر المعنوي بإشارات غير تأسيسية راجع بحوث في علم الأصول 5: 337.
[22] اقتصادنا: 533 ـ 537.
[23] أنظر بحوث في شرح العروة الوثقى4: 295 ـ 296، محمّد باقر الصدر، نشر مجمع الشهيد الصدر العلمي، إيران، الطبعة الثانية، 1408هـ ق، وللاطلاع أكثر على جهود الصدر التجديدية في الرجال والدراية يمكن مراجعة مقال “الجديد في علمي الدراية الرجال عند الشهيد الصدر”، ثامر هاشم حبيب العميدي، مجلة قضايا إسلامية، العدد الثالث، 1996م، 109 ـ 177.
[24] مجلة قضايا إسلامية، العدد 3، 1996م، مقالة “التأسيس في فكر السيد الشهيد محمد باقر الصدر”، عمار أبو رغيف، ص32.
[25] منطق الاستقراء، السيد عمار ابو رغيف، نشر مجمع الفكر الاسلامي قم، الطبعة الاولى، 1410 هـ. ق، ص7.
[26] انظر كنموذج الاسس المنطقية للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش، نص مقالة سروش المترجمة من طرف السيد عمار ابو رغيف ص69 ـ 74، وانظر الاصل الفارسي للمقالة في كتاب “تفرّج صنع” الدكتور عبدالكريم سروش ” مباني منطق استقراء از نظر شهيد آية الله محمد باقر صدر” ص: 458 ـ 461، نشر مؤسسة فرهنكي صراط «ايران»، الطبعة الثالثة، 1994م.
[27] المصدر السابق: 283 والمصدر الفارسي: 467.
[28] السيد عمار ابو رغيف، الاسس المنطقية للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش، نشر مجمع الفكر الاسلامي، 1409هـ الطبعة الاولى ص93 و94 و97 و…
[29] الدكتور جميل قاسم، نقد نظرية المعرفة عند السيد محمد باقر الصدر، مجلة المنهاج، بيروت، العدد 17، 2000م، ص135 ـ 150.
[30] زكي الميلاد، السيد محمد باقر الصدر وتجديدات الفكر الاسلامي المعاصر، مجلّة الكلمة، العدد 27، 2000م، ص19، وانظرها ايضاً في مجلة المنهاج، العدد 17، 2000م، ص28.
[31] من خلال مجموعة محاضرات ما تزال على اشرطة الكاسيت في حوالي ثلاثين شريطاً موجودة في مكتبه في مدينة قم في إيران.
[32] حبيب فياض، التجديد في المنهج الكلامي عند الشهيد الصدر، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 11 ـ 12: 136.
[33] م. ن: 137.
[34] مجلّة الكلمة، العدد الخامس، خريف 1994م، حوار مع الشيخ محمّد مهدي شمس الدين حول مناهج التأصيل الإسلامي المعاصر، ص 122 ـ 124.
[35] د. محمد خاتمي، بيم موج، المشهد الثقافي في ايران، مخاوف وآمال، دار الجديد، الطبعة الثالثة، 1999م، ص100 ـ 101، وانظر ايضاً قضايا اسلامية معاصرة، العدد: 11 ـ 12 ص30 ـ 31، وانظر المصدر الفارسي، بيم موج، نشر سيماى جوان، 1372 هـ. ش طهران، ص121 ـ 122.
[36] انظر الاسس المنطقية للاستقراء: 401 ـ 413، وانظر الصيغة التي اشرنا اليها في ” موجز أصول الدين “: 153 ـ 171.
[37] ” موجز اصول الدين “: 167 ـ 168.
[38] م. ن: 193.
[39] م. ن: 203.
[40] م. ن: 205 ـ 209.
[41] م. ن: 210 ـ 211.
[42] م. ن: 214 ـ 216.
[43] م. ن: 145 ـ 146.
[44] أنظر مواضع عديدة من كتاب الدكتور علي الوردي، مهزلة العقل البشري، نشر إنتشارات الشريف الرضي، إيران، الطبعة الأولى، 1997م.
[45] انظر بصدد النزعة المراحلية عند الصدر في علم الاصول مقالة ” معالم الابداع الأصولي عند الشهيد الصدر”، حيدر حب الله، مجلة فقه أهل البيت، العدد: 20، 2001م، ص229 ـ 276، خصوصاً الصفحات 234 و246.
[46] انظر كنموذج دورس في علم الاصول، الحلقة الاولى: 26، بحوث في شرح العروة الوثقى1: 1 ـ2.
[47] الدكتور محمّد عبد اللاوي، فلسفة الصدر، مؤسّسة دار الإسلام، لندن، الطبعة الأولى، 1999م، ص 14 ـ 15، ويمكن مراجعة البحث نفسه في مجلة الفكر الجديد، لندن، العدد 17، 1998م، معالم فلسفة جديدة في كتابات الصدر، ص316.
[48] موجز أصول الدين: 178 ـ 190.
[49] الوحي، انظر موجز أصول الدين: 224 ـ 225.
[50] حبيب فياض، التجديد في المنهج الكلامي عند الشهيد الصدر، مصدر سابق: 140.
[51] الاسس المنطقية للاستقراء: 470.
[52] يرى الفكر الفلسفي العقلي بانه كلما نجحنا في الاستدلال على وجود الذات الإلهية بصورة أكثر تجرداً عن غيرها كلما تقدمنا خطوة الى الامام أكثر، وهو ما يصرح به الشهيد مطهري لدى بحثه حول برهان الصديقين وفق اتجاه الفلسفة الصدرائية، انظر أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، مصدر سابق ج3: 330، التعليقة، وانظر الاصل، مصدر سابق: 982.
[53] أنظر الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، صدر الدين محمّد الشيرازي، الطبعة الرابعة، 1990م، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ج6: 14 ـ 16، وانظر المناقشات إلى ص24.
[54] يحيى محمد، المهمل والمجهول في فكر الصدر، قضايا اسلامية معاصرة، العدد 11 ـ 12: 161.
[55] سلسلة رواد الإصلاح1، منهج الشهيد الصدر في تجديد الفكر الاسلامي، عبدالجبار الرفاعي، مؤسسة التوحيد للنشر الثقافي، ايران، الطبعة الاولى 1998م، ص117، ويمكن مطالعة الفكرة نفسها في مقدمة موجز اصول الدين للباحث نفسه ص82.
[56] م. ن: 114، ومقدمة الموجز: 78 ـ 79.
[57] موجز أصول الدين: 112.
[58] الاسس المنطقية للاستقراء: 469.
[59] انظر تراث الشهيد الصدر، 19 المدرسة القرآنية، قسم علوم القرآن الذي قرره السيد محمد باقر الحكيم عن دروس السيد الصدر، اشراف المؤتمر العالمي للامام الشهيد الصدر، نشر مركز الابحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر، الطبعة المحققة الأولى، 1421 هـ. ق، مباحث المكي والمدني: 257 ـ 272.
[60] م. ن: 243 ـ 244.
[61] راجع بصدد هذه النظرية وما يتصل بها كلاًّ من الدكتور عبدالكريم سروش، “بسط تجربة نبوي” والسيد حسين غفاري في “انتظارات بشر از دين”.
[62] الحر العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة؛ ج16: 267، كتاب الأمر والنهي، أبواب الأمر والنهي، باب 39 «باب وجوب البراءة من أهل البدع وسبهّم وتحذير الناس منم وترك تعظيمهم مع عدم الخوف» الحديث الاول.
[63] مجموعة آثار شهيد مطهري6، المقدمة 51 ـ 52.
[64] الاسس المنطقة للاستقراء: 83 ـ 85.
[65] فلسفتنا: 100 ـ 101.
[66] انظر العلامة الطباطبائي في كتاب الشيعة «نص الحوار مع المستشرق كوربان»: 257 ـ 524، وكتاب رسالة التشيع في العالم المعاصر: 157 ـ 286، والكتابان ترجمة جواد علي كسّار.
[67] انظر رسالة التوحيد، تحقيق الدكتور محمد عمارة، دار الشروق، بيروت، 1994م، الطبعة الأولى، ويلاحظ القارئ الهوامش كلها أو أغلبها من تأليف الدكتور عمارة نفسه.
[68] وهو مـا تقوم به مؤسسات كبـيرة اليوم وشخصيات مهمة على صعيد انتاج جديد فني للتراث القديم والمعاصر كما في مؤسسة أهل البيت لاحياء التراث ومؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين ومؤسسة دار الفكر ووجود شخصيات امثال الدكتور محمد عمارة الذي اعاد إخراج موسوعات هامة كمجموعة آثار الشيخ محمد عبده والسيد جمال الدين الافغاني وغيرهم الكثير على الصعيد الاسلامي العام، وأمثال السيد هادي خسروشاهي الذي اعاد تنظيم آثار السيد جمال الدين الافغاني، ومؤسسة صدرا التي اعادت تنظيم مجموعة آثار الشهيد مطهري والمؤتمر العالمي للشهيد الصدر الذي يعيد انتاج آثار الصدر كلها ومؤسسة نشر واحياء آثار الامام الخميني وغير ذلك.
[69] امتاز حنفي بتوثيق كافة مصادر الفكر القديم الذي درسه مسجلاً عشرات المصادر كما بيّنها في الجزء الخامس: 555 ـ 570.
[70] يـلاحظ قبـض وبسط تئوريك شريعت، بسط تجربة نبوي، صراطهاى مستقيم و… للدكتور سروش، ومعرفت ديني، قبض وبسط در قبض وبسط ديكر، فلسفه تحليلي ضروراتها ودلالاتها للشيخ صادق لاريجاني، ونقدي بر قبض وبسط، للسيد محمد حسين الطهراني أو نور ملكوت القرآن للمؤلّف نفسه، ترجمة حسن إبراهيم، ص 164 إلى آخر الكتاب.
[71] انظر عبدالله العروي، الايديولوجيا العربية المعاصرة، الطبعة الثانية، نشر المركز الثقافي العربي، 1999م، المقدّمة سيّما ص 9.
[72] م. ن: المقدمة.
[73] مجلة أصداء، العدد: 3، 2000م، الارتباط الثقافي بين ايران والعالم العربي، الضرورات والموانع، محمد مهدي خلجي، ترجمة جهاد فرحات: 146 ـ 147، وانظر المصدر الفارسي في مجلة كيان، العدد 38: 47.
[74] الدكتور علي الوردي، مهزلة العقل البشري، مصدر سابق: 36.
[75] انظر على سبيل المثال ما دوّنه تلميذه الشيخ محمّد رضا النعماني في كتاب “الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيّام الحصار”، الطبعة الأولى، 1996م، خصوصاً الصفحات 67 ـ 69 و108 ـ 109 و175 و177 ـ 178 و302، وراجع أيضاً السيد محمّد الحسيني في مقالة “الإمام الصدر سيرة ذاتية” المدرجة في كتاب “محمّد باقر الصدر دراسة في حياته وفكره” دار الإسلام، لندن، الطبعة الأولى، 1996م، سيما الصفحات 79 ـ 84 و97 و99.