مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

مدخل : ثمة حقائق لا بد من تأكيدها لدى محاولة تقييم المفكر والمرجع الإسلامي الكبير آية الله السيد الشهيد الصدر (رض)، فيما تناولته أقلام الدارسين واتجاهاتهم وهم يرومون التعريف والإشادة بفكره أو مجرد استعراض نتاجاته في حقول المعرفة التي أنتج فيها السيد الشهيد فكراً جديراً بالدراسة والاهتمام والتقييم .

ولا تبدو أمامنا ثمة مشكلة تذكر لو أننا اتبعنا مناهجاً علمية وموضوعية لتقييم هذا الرجل العظيم ولو على غرار ما تقوم به المعاهد العلمية والجامعات الأكاديمية التي تتبع طرقاً أكثر موضوعية في الكشف عن تراث المفكرين والتحقيق فيه والتنقيب في خفاياه لاستخراج المزيد مما يختفي عادة على الدارسين والقارئين العاديين .

ولكن المشكلة تكمن – في الغالب – عندنا في تظافر جملة عوامل نجم عنها ذلك التقصير الفادح في تقييم هذا الرجل على نحو قصَّر في أو اكتشافه ولربما أدى إلى تشويه عن قصد أو من غير قصد، الأمر الذي أدى إلى شيوع حالة من الجهل فتحت الأبواب على مصراعيها للتشكيك والطعن والتحريف فيما أبدعه السيد الشهيد الصدر، وفيما هو رمز علمي وسياسي ذاع صيته في أهم مجالين استحوذا على اهتمامات الكثيرين من أرباب العلم والسياسة طيلة عقدين مضيا من الآن .

ورغم أن السيد الشهيد الصدر (رض) قد نال منزلة المرجعية الدينية بامتياز جيد فهو في الوقت ذاته نال مرتبة القيمومة الفكرية إلى درجة التي أضحى فيها مرجعاً فكرياً يرجع إليه في كل ما عجز عنه غيره. كانت الساحة الاجتماعية والفكرية بحاجة  – أيضاً – إليه بشكل نال إعجاب ودهشة الآخرين.

وفتح الأعين عليه من الأعداء والمتربصين الذين ضاقوا به ذرعاً فعجًّلوا بقتله ونفيه من الحياة وبصورة بشعة وكما أرادت ذلك الدوائر الدولية والاستكبارية .

وبالإضافة إلى ذلك كان السيد الشهيد الصدر (رض) صاحب مشروع سياسي وقائد ثورة منحها كل شيء حتى نفسه الزكية الطاهرة، حيث استهل حياته السياسية بتأسيس حزب إسلامي لمواجهة التداعيات الخطيرة التي كانت تمر بها الساحة العراقية إبان صعود المد الشيوعي والذي تلاه صعود البعثيين إلى السلطة في العراق، كما قاد بنفسه مواجهة حامية مع هذه السلطة بعد أن وضع اللبنات الأولى لتثوير شعبه من خلال المناهج التي أرساها لآلية المواجهة والقيادة، والتي توَّجها بوضع نفسه قرباناً على مذبح الثورة فراح – رحمة الله عليه – شهيداً يعتقد بأن دمه المسفوح سيكون له من الأثر ما كان من أثرٍ لدم جده الإمام الحسين (ع) المسفوح بكربلاء .

وبهذا أحكم مرجعيته – الأخرى – لأبناء العراق على صعيد منهج العمل السياسي القائم على الجهاد والتضحية .

ولا أراني زاعماً أنّ ذلك مما يستطيع أحد أن يقدح فيه، أو يقلل من شأنه، ولكني أزعم أن ثمة تقصير حصل في فهم وقراءة نتاجات السيد الشهيد (رض) نجم عن شيوع مناهج خاطئة اعتمدت في محاولات الفهم والقراءة وقد نتج عنها وبشكل قسري تضعيف لرمزيته إلى الجرأة عليه بزعم ((البحث العلمي)) تارة، و((النقد الثقافي)) تارة أخرى، وقد قيل في هذا الإطار ما قيل مما يثر العجب والاستهجان ويؤكد ما صدر فيه الحكم آنفاً منا. وضاع في خضم تداعيات هذه المناهج ما كان ينبغي فعله مما هو مألوف عالمياً لدى الشعوب التي تحترم قياداتها ومفكريها ومبدعيها حتى أن أحد الزملاء كتب ذات مرة في صحيفة كيهان العربي مستهجناً هذه الحالة عندما ذكر كيف أن تلاميذ ومردي المفكر الفرنسي سارتر قد ألفوا أكثر من مائة مؤلف حول فكر أستاذهم الفقيد في ذكراه السنوية الأولى وهم يشيدون به ويكثرون في مجاله شرحاً وتبياناً، وفي وقت لم يفعل مثل ذلك مع السيد الشهيد ولو لمرة واحدة حتى بعد مرور خمسة عشر عاماً على استشهاده (رض).

ولعلنا ما أردنا تصنيف العوامل والمسببات التي أنتجت هذه المناهج والحالات فيمكن إيجازها في نقاط ثلاث:

أولاً : العامل السياسي الجهوي.

ثانياً : الخطاب السياسي التحريضي .

ثالثاً : المهاجر وتأثيراتها الجانبية . .

فالعامل السياسي الجهوي يتلخص القول فيه، بانقسام المعارضة الإسلامية إلى قسمين أحدهما ينتمي إلى مدرسة السيد الشهيد وينتهج مناهجه في العمل والخطاب السياسي، والآخر الذي تموضع في اتجاهات ومدارس أخرى لا تخفي اختلافها ولو على نحو التعارض مع تيارات المدرسة الأولى والذي يجر تبعاً له الاختلاف قسراً ليس مع التيار فحسب، وانما مع المدرسة ورمزها حتى أن البعض ومن أجل إثبات الوجود يسعى لتقويض الآخر مع مرتكزه المعرفي الذي يستند إليه ولو كان ذلك هو السيد الشهيد ذاته .

أما الخطاب السياسي الذي طبع المرحلة الماضية من عمر المعارضة الإسلامية ولا يزال فهو بحكم طبيعة المرحلة وضروراتها، خطاب تحريضي تعبوي وظيفته تحريض الجماهير وتعبئتها باتجاه الأهداف الكلية للقضية الإسلامية في العراق، أو باتجاه الأهداف الجزئية للتيارات السياسية،  وفي كلتا الحالتين يضعف التركيز على جملة مسائل منها المسألة الثقافية والفكرية حيث يبقى السجال الدائر غالباً – سجالاً سياسياً أكثر من كونه سجالاًُ فكرياً أو ثقافياً ويصار إلى التعريف بالأشياء بمقدار ما تساهم في تعزيز الخطاب السياسي الذي طبع هذه المرحلة، ولم يستثن السيد الشهيد من هذه الظاهرة التي اختزلت المرجع القائد إلى حدود استعراض أفكاره ومواقفه دون التعمق في دراستها واستلهامها ورد الشبهات عنها .

أما ما يخص النقطة الثالثة، فإن هجرة العراقيين إلى منافي عديدة أدى على تعرضهم إلى عوامل ((تعرية)) وتأثير كثيرة ربما اخذ بعضها طابعاً سياسياً أو فكرياً أو حتى عقائدياً، انعكس بالتالي سلبياً على شرائح منهم فأمسى بعضهم يشكك في انتمائه وأصالته ومقومات وجوده كدالة على اليأس وبعد الشقة وانهيار الداخل بفعل ظروف المهاجر القاسية بطبيعتها، وهذا ما أنسحب بشكل من الأشكال على مسألة التعاطي مع السيد الشهيد والتشكيك بفكره ونظرياته وإبداعاته نزولاً عند ظروف الضغط النفسي الذي يذكي هذه الحالة ويزيد من تأججها.

بين السيد الشهيد وبافلوف

ومن أجل ذكر مصداق واحد – وهو ما يسع المجال له هنا ويفي بالغرض – انداح في اتجاه نقد أو تقويم ما قيل في فكر المفكر الكبير آية الله العظمى السيد الشهيد الصدر (رض)، و((نقد)) حتى بعض أفكاره، نذكر ما نشرته مجلة الفكر الإسلامي في عددها الثاني من سنتها الأولى، ص 283، حيث كتب فيها السيد علي مطر موضوعاً أورد فيه عدة ملاحظات نقدية لما قدمه سماحة السيد علي أكبر الحائري لكتاب علم الأصول للسيد الشهيد، الذي حقق منه الحلقتين الأولى والثانية، وما كان قد ادعاه من إبداعات أبدعها أستاذه السيد الشهيد اعترافاً منه بحقيقة موضوعية مثلها السيد الشهيد فيما أنتجه من فكر وعطاء ثر وعميق، إلا أن السيد مطر أنكر ذلك على السيد المحقق واستكثر قوله بحق أستاذه مؤدياً بذلك إلى إنكار حقوقاً طبيعية للسيد الشهيد ذاته فيما أبدعه وامتاز به من أفكار واستنتاجات في مجال علم الأصول وموضوعاته التي يتناولها عادة، نذكر على سبيل المثال مورداً واحداً مما أثاره في مقالته آنفة الذكر، حول نظرية (( القرن الأكيد)) التي وضعها السيد الشهيد (رض) حول تفسير الوضع اللغوي في علم الأصول والتي وضعها السيد المحقق بأنها ((من النظريات التي أبدعها السيد الشهيد (رحمه الله) في علم الأصول)) فقد رد عليه السيد مطر بقوله: ((المعروف أن هذه النظرية من إبداع بافلوف)) ! ؟

والمعروف أن العالم الفسيولوجي الروسي، ليفان بيتروفيتش بافلوف (849 – 1936) وضع الأساس الفسيولوجي في علم النفس في باكورة أعماله في هذا المجال كتابه الشهير ((الانعكاسات الشرطية)) وفيه وضع نظريته التي أخذت نفس الاسم التي استنتجها من تجاربه التي أجراها على الكلب حيث أن تقديم الطعام (منبه طبيعي) إلى الكلب يحدث استجابة طبيعية عنده هي سيلان لعابه، وعند تكرار هذه التجربة مع إقران دق الجرس (منبه شرطي) تحدث الاستجابة ولكن العالم بافلوف لا حظ فيما بعد أن استخدام المنبه الشرطي بمفرده (دق الجرس) يحدث نفس الاستجابة (أي سيلان اللعاب) وقد أسمى هذه الاستجابات بـ (الاستجابة الشرطية) .

إنّ هذه النظرية يمكن تلخيصها بشكل التالي وفق مراحل ثلاث :

1– كلب + منبه طبيعي (طعام) = استجابة طبيعة (سيلان اللعاب).

2- كلب + منبه طبيعي (طعام) + منبه شرطي (دق جرس) = استجابة شرطية (سيلان اللعاب).

3- كلب + منبه شرطي (دق جرس) = استجابة شرطية (سيلان اللعاب).

أما نظرية السيد الشهيد (رض) الـ ((القرن الأكيد)) في الوضع اللغوي، فهي تقوم على أساس واحد هو ارتباط شيئين في تصور الإنسان ارتباطاً مؤكداً بحيث يصبح بعد ذلك تصور أحدهما مستدعياً لتصور الآخر، فلو تصور الإنسان لفظة معينة وتصور معنى معين وربط بين هذين التصورين بنحو أكيد من خلال التكرار أو كثرة الاستعمال – يحصل بعد ذلك اقتران أكيد بحيث يصبح تصور أحدهما مستدعياً لتصور الآخر، يقول السيد الشهيد عن ذلك ((إن الوضع يقوم على أساس قانون تكويني للذهن البشري وهو: أنه كلما ارتبط شيئان في تصور الإنسان ارتباطاً مؤكداً أصبح بعد ذلك تصور أحدهما مستدعياً لتصور الآخر)) (2) . ويضيف (رض)، (( إن الوضع قرن مخصوص بين تصور اللفظ وتصور المعنى بنحو أكيد لكي يستتيع حالة إثارة أحدهما للآخر في الذهن ))(3)، ونلخص القول عن نظرية السيد الشهيد ((القرن الأكيد)) بالنقاط التالية :

إن هذه النظرية لا تعدو كونها عملية ارتباط أكيد بين تصوريين، تصور اللفظ وتصور المعنى .

إن هذه العملية برمتها تستند إلى ((قانون تكويني في الذهن البشري))  – كما أشار إلى ذلك السيد الشهيد في النصين السابقين – وبالتالي ليس في موضوعها مثير شرطي ولا استجابة شرطية ولا منبه طبيعي أو استجابة طبيعية على القاعدة التي أرساها بافلوف والتي أوضحناها في النقاط الثلاث السابقة وهذه صورة توضيحية لها: تصور اللفظ ((قرن أكيد)) تصور المعنى = اللفظ + المعنى،  فأين التشابه بين نظرية ((الاستجابة الشرطية)) وبين نظرية ((القرن الأكيد)) مع فرض أن هنالك ثمة تشابه، ومتى كان العالم الروسي بافلوف قد طبقها في مجال اللغة وما هي نظريته في هذا المجال .. أهي نظرية ((القرن الأكيد)) كما زعم السيد علي مطر، ان كان كذلك فنحن نطلب منه أن يدلّنا إلى مصدر واحد وبأي لغة كانت يصرح بأن نظرية ((القرن الأكيد)) هي لبافلوف أو هي من إبداعاته؟

اننا ما أردنا أن نطلق العنان لافتراضاتنا ونفترض أن السيد الشهيد استند بنحو ما في نظريته ((القرن الأكيد)) إلى نظرية ((الاستجابة الشرطية)) لبافلوف، فهذا لا يعني ن ما يبدعه السيد الشهيد سوف يسجل في قائمة إبداعات بافلوف أو في دفتر نفوسه وإذا ما جاز لنا قول ذلك، فسوف نؤسس لفوضى لا نظير لها في مجال العلوم والمعرفة حيث ستضيع في خضمها أنساب الاكتشافات والاختراعات والنظريات العلمية، وسيكون من الطبيعي أن يزعم أحد – مثلاً – بأن نظرية ((النسبية العامة أو الحديثة)) هي لنيوتن وليست لانشتاين، لأن نيوتن هو الذي وضع الأساس الذي استندت له نظرية النسبية العامة لانشتاين، فهل هذا صحيح ؟ فإن كان خطأ – وهو كذلك – فمن الخطأ أيضاً نسبة إبداعات السيد الشهيد (رض) ونظرياته لغيره هذا مع افتراض أن ثمة ارتباط بين الأسس التي أستند إليها السيد الشهيد وبين الأسس التي أبدعها غيره .

ــــــــــــــــ

(1) صحيفة لواء الصدر / العدد – 666/ ربيع الأول / 1415هـ.

(2) السيد الشهيد محمد باقر الصدر، علم الاصول، الحلقة الثانية، تحقيق مجمع الفكر الإسلامي، ط1، ربيع الأول 1412هـ – 1991، ص 74.

(3) المصدر السابق، ص 75.