ترتبط المعارف الدينية على اختلافها ارتباطا عميقا ووثيقا بمقولة «فهم النص» وتفسيره.
ويعتبر الفقه والكلام وتفسير القرآن الكريم من العلوم التي تعنى بهذه المقولة على نطاق واسع وكبير.
اننا لو تجاوزنا تفسير القرآن الذي يعتمد تماما على فهم النص لوجدنا ان الكثير من المسائل الفقهية والقضايا الكلامية وعلى مستوى واسع قد تبلورت عن طريق الرجوع الى المتون المقدسة، وفي الوقت نفسه نجد ان بعض الاستدلالات الفقهية والكلامية ليست حصيلة الفهم المباشر للايات والروايات وليس لفهم النص تاثيرا مباشرا فيها.
ان ارتباط المعارف الدينية بفهم وتفسير النص يدلل بوضوح على مدى الحاجة والضرورة لتشكيل وتدوين علم مشتمل على الاصول والضوابط والقواعد الحاكمة على فهم النص.
والضرورة المزبورة يمكن ادراجها في فرع من فروع المعرفة تحت عنوان مقدمات التفسير او مقدمات الكلام اومقدمات علم الفقه.
الا اننا نجد في العالم الاسلامي ان الابحاث التي ترتبط بفهم النص تطرح بشكل كلاسيكي غالبا في علم الاصول الذي يلعب دورا تمهيديا بالنسبة لعلم الفقه. الا اننا مع ذلك نلاحظ ان بعض الابحاث التي تتعلق بالالفاظ وفهمها تطرح و بشكل استطرادي في علم المنطق واحيانا في مقدمات بعض التفاسير، لكن مع ذلك فالسنة الرائجة والغالبة قائمة على بحث وتنقيح الابحاث المرتبطة بفهم النص في علم اصول الفقة ولا تزال امثال هذه المباحث تحوز على قسم مهم من الدراسات الاصولية.
اما في الوسط الغربي فقد لعب علم الهرمنيوطيقيا في بدايات ظهوره هذا الدور ايضا في القرن السابع عشر كفرع من فروع المعرفة التي تقوم بدعم ومساندة العلوم المبنية على اساس تفسير النص. لقد جرى وضع علم الهرمنيوطيقيا في كافة فروع العلوم كمرشد تدرج فيه اصول وقواعد ومنهج فهم وتفسير النص الذي يعنى به كل علم من هذه العلوم.
بيد انه وبمرور الزمان استفحل الراي القائل بعدم الحاجة الى تدوين كتب موجهة كهذه لكل فرع من فروع المعرفة وانه يمكن ضبط علم فهم النصوص مرة واحدة تحت عنوان «القواعد العامة في فهم النص»، وايجاد علم واحد آباسم نظرية فهم النص [الهرمنيوطيقيا] يوضح طريقة فهم وتفسير كل نص.
ولم تقف نظرية فهم النص في سيرها التاريخي عند هذا الحد، بل ظهرت اتجاهات متنوعة يحتاج الحديث عنها مفصلا الى مجال آخر.
ونظرا للتحولات الكثيرة التي طرات في دائرة هذا العلم فقد اصبحت نظرية فهم النص موردا لاهتمام الاتجاهات والمذاهب المتعددة.
وقد تسبب هذا الاهتمام بطرح اسئلة عديدة وجديدة، ومن ثم عرض نظريات تفسيرية جديدة تشكل جوابا مناسباعن تلك الاسئلة والنظريات والرؤى التفسيرية، كما اتضح انه لابد من ترميم النظرية التفسيرية الجامعة بنحويتبين وبوضوح فهم النص بحيث تظهر لفهم النص عند تحليل ماهيته ابعاد اخرى مختلفة.
اننا في هذا المقال ومن خلال عرض اهم الاسئلة التي تطرح اليوم فيما يرتبط بظاهرة فهم النص وتفسيره سوف نحاول تبيين النظرية التفسيرية للشهيد الصدر (قدس سره) والوقوف عند الجواب عن الكثير من تلك الاسئلة على ضوء هذه النظرية وتحليلها.
ومن الجدير ذكره ان نظرية الشهيد الصدر التفسيرية هي نفس النظرية الرائجة عند الاصوليين، والامتياز الوحيد الذي يمتاز هذا الشهيد السعيد به هو سبقه لغيره في الاهتمام بالاشارة الى بعض النكات الدقيقة المرتبطة بنظرية فهم وتفسير النص، مضافا الى بيانه الواضح والصريح لنظرية علماء الدين التفسيرية المقبولة لديهم.
وقد جعلنا محور الحديث في تحليل آراء الشهيد الصدر (قدس سره) كتاب «بحوث في علم الاصول» الذي يمثلدورة كاملة في سبع مجلدات لدرسه الخارج في الاصول.
تفسير النص والاسئلة الجديدة:
لقد شهدت دراسات الهرمنيوطيقيا المعاصرة نموا وتطورا ملحوظا في القرن العشرين وقدمت مجموعة كبيرة من الاسئلة فيما يتعلق بعمليات فهم وتحليل النص. ولم تكن هذه الاسئلة سوى اسئلة عامة ولا تستهدف فهم خصوص النصوص الدينية، بل تشمل ابحاثها المطروحة كل نص اعم من كونه ادبيا او قانونيا او تاريخيا اودينيا، وهذه الاسئلة ترسم في الواقع الابعاد التي يمكن طرحها في النظرية التفسيرية، فان كل نظرية تفسيرية لابدان تقدم جوابا واضحا عن تلك الاسئلة، لكي يمكن الحكم عليها بانها نظرية عامة في باب تفسير وفهم النص.
وسوف نشير هنا اشارة مختصرة لبعض تلك الاسئلة بدون التزام بمراعاة الترتيب فيها تبعا للتقدم والتاخرالمنطقي.
1- ما هو الهدف من الرجوع الى المتن والقيام بتفسيره؟ وهل نحن بصدد البحث عن مراد و مقصود المؤلف؟ هل نريد من متابعته ومماشاته فتح باب نحو عالمه الذهني؟ الا يمكن الاغماض عن مؤلف النص والمتكلم وصرف النظر نحو النص نفسه كامر واقعي مغاير للمؤلف الموجد لهذا النص والذي يتكلم معنا، وبالتالي صرف النظر عن العالم الذهني للمؤلف ومراده والتوجه نحو النص والشروع بتفسيره وفهمه؟
وبعبارة اخرى: هل يمكن اعتبار النص ظاهرة ناتجة عن الدرج الخاص للالفاظ والكلمات القابلة للتفسيرات المتعددة؟ وهل يمكن اعتبار مراد ومقصود المؤلف واحدا من تلك التفسيرات الممكنة لهذه الظاهرة، مع امكان التفسيرات الاخرى ايضا بحيث لا نكون ملزمين ومقيدين بالبحث عن فهم وتفسير مراد المؤلف من هذا النص، بل بامكاننا استنطاق النص وتفسيره بما يغاير حتى فهم ومراد المؤلف؟!
2- ما هو دور المفسر في فهم النص؟ وهل لابد ان يكون منفعلا مع النص صاغيا له فيما يكون هدفه الوحيد من ذلك هو درك ما يهتف به النص عن طريق معرفته بمعاني الالفاظ والاصول والقواعد الادبية؟ او انه يشترك بجد ويتدخل في ايجاد معنى النص ويكون لمخيلته دخل في ايجاد محتوى هذا النص؟
انه وعلى اساس بعض النظريات التفسيرية ليس المفسر حياديا بل ان له دورا مهما في عملية فهم النص، ووفقا لذلك فلا تمثل معرفته بعلم اللغة والاصول والقواعد الادبية والعقلائية العنصر الوحيد الحاكم على قانون المحاورة وفهم النص، بل ان له ولاستعداده الذهني دورا ايضا في تعيين محتواه.
3- هل هناك دور لخليفة المفسر ومعلوماته في عملية فهم النص؟ وهل يمكن الحصول على فهم خالص وصافي من الشوائب؟ وهل يمكن الحصول على الفهم المزبور للنص بحذف ما يفترضه ذهن المفسر وخلفياته العلمية؟
يعتقد البعض من المنظرين الهرمنيوطيقيين في المقام ان الفهم بشكل عام وفهم النص بشكل خاص يكون دائما مشوبا بفرضيات المفسر القبلية وبخلفيته العلمية، وان فهم النص متعذر مع استبعاد ما يعلمه المفسر، بل حقيقة الامر ان جميع التفاسير والافهام انما هي تفاسير بالراي، وان الفهم بدون التفسير بالراي غير ممكن.
4- ما هو منشا سوء الفهم والتفسير الخاطيء للنص؟ هل منشا ذلك ذهنية المفسر وخطا مخزوناته المعرفية في ذهنه او ان «لسوء الفهم» عللا واسبابا اخرى تفسر على ضوئها ظاهرة الفهم الخاطئ؟
5- ان بين المفسر للنص وبين النص نفسه فاصل زمني، فالنصوص الدينية ذات امتداد تاريخي غالبا ومعه فمن اين نعلم ان ما فهمه المفسرون مطابق لمحتوى النصوص ومعانيها الواقعية؟ اذ قد يكون ما فهمه المفسر لهذا النص متاثرا بثقافته المعاصرة ويكون هذا النحو من التفكير مغايرا للثقافة والتفكير المحيط والمعاصر للنص وتدوينه. وبعبارة اخرى كيف يمكن ملء الفراغ الزمني بين المفسر والنص وبالتالي كيف يمكن الحصول على فهم واقعي له؟
يعتقد البعض ان هذا الفراغ الزمني غير قابل للملا اساسا، وان الافق الفكري للمفسر وما يفهمه من معان متفاوت مع افق ومعنى النص، وبالتالي فليس لنا طريق نحو درك ما يطابق الواقع من حيث المعنى، والفهم المطابق للواقع من النص هو امر غير ممكن ابدا.
6- ما هو الظهور اللفظي وكيف يوجد وما هو محله من مقولة فهم النص؟
ان هذه الاسئلة التي هي اهم ما طرح في باب فهم النص لم نجد لها جوابا واحدا، وعليه فنحن لا نواجه نظرية تفسيرية واحدة، ومن هنا سوف نحاول في هذا المجال تقريب النظرية التفسيرية للشهيد الصدر(قدس سره) التي تطابق ما عليه علماء الاصول لنجد من خلال ذلك اجوبة واضحة لتلك الاسئلة، وسوف نتعرض اجمالا لنظريته التفسيرية ضمن تحليل الجهات الخمس التالية:
1- دور الظهور اللفظي في فهم النص:
ان العلاقة بين اللفظ والمعنى ووجود الدلالة اللفظية من اهم الاسس في نظرية فهم النص عند علمائنا الاصوليين، حيث يبدا فهم النص بدرك الظهور اللفظي الناشىء من العلاقة بين اللفظ والمعنى، وعلاقة اللفظ بالمعنى المتجذرة في وضع كل لفظ لمعنى او معاني خاصة تهيء الارضية لاستعمال الالفاظ لغرض تفهيم المعنى والمقصود، وبسبب هذا الاستعمال يمكن ملاحظة امرين:
الاول: ما يرتبط بالمخاطب والسامع وهذا ما يسمى بالدلالة والظهور.
الثاني: ما يرتبط بالمتكلم والمؤلف، وهذا ما يسمى بالاستعمال.
اما الاول اعني الدلالة: فقد تنشا من الوضع الخاص للفظ في معنى، وهذا ما يسمى بدلالة الالفاظ على المعنى الحقيقي، وتشكل الالفاظ هنا وبشكل مباشر بلا دخالة واسطة او قرينة الدلالة والظهور للكلام، وقد تدل الالفاظفيه على معان مجازية مما لا يكون ناشئا من الوضع بل يحصل ويتشكل بسبب ما يحف بالكلام من القرائن.
ان اللفظ بطبعه الاولي له صلة وثيقة بالمعنى الحقيقي، وهو ظاهر فيه.
اما علاقته بمعناه المجازي فهي في طول علاقته بالمعنى الحقيقي، فكل معنى مجازي مسبوق بمعنى حقيقي، والمناسبة بين المعنى الحقيقي واللفظ مناسبة مباشرة وغنية عن وجود واسطة، في حين ان المناسبة بين اللفظو المعنى المجازي والدلالة المتشكلة للكلام والقائمة على هذا المعنى المجازى تكون بحاجة دائما الى واسطة وقرينة.
بناء على ذلك ترجع دلالة اللفظ على المعنى سواء المعنى الحقيقي والمجازي الى نحو من العلية والسببية، اي انالوجود اللفظي الذهني سبب للوجود الذهني للمعنى، وهذا السبب يحصل في الاستعمال الحقيقي على اثر وضع الالفاظ للمعاني، اما في الاستعمال المجازي فياتي بمعونة القرينة.
ثم ان هناك في كل كلام دلالات وظهورات ثلاثة:
ا- «الظهور التصوري» الحاصل نتيجة السماع ورؤية اللفظ والذي يحصل في الذهن على اساس الوضع حتى لوكان المتلفظ به غير ذوي الشعور.
ب- «الظهور التصديقي الاستعمالي» الذي يدل على ارادة المتكلم والمنشئ (المؤلف) اخطار المعنى والمدلول التصوري في ذهن المخاطب، وشرط تحقق مثل هكذا دلالة وجود متكلم ومؤلف عاقل ذي قصد وارادة.
ج- «الظهور التصديقي الجدي» والذي يدل على ان المتكلم والمؤلف لا يقصد الهزل بل يقصد ويريد المعنى ومدلول الكلام قصدا وارادة جديين، وهذه الدلالة التصديقية اكثره محدودية واخص من الدلالة التصديقية الاولى، لوجود الظهور التصديقي الاولي في بعض الموارد مثل الهزل بدون ان يكون هناك قصد جدي بالنسبة للمعنى المفاد.
واما الثاني اعني الاستعمال: فكما ان هناك ثلاثة انواع من الظهورات والدلالات في جانب السامع والمخاطب فكذلك الامر في جانب المتكلم ومقولة الاستعمال هناك ايضا ثلاثة انواع من الارادة، وهي:
1- «الارادة الاستعمالية» التي لا يصدق الاستعمال بدونها، والمراد بها ارادة التلفظ بلفظ، ومن حيث ان هذا اللفظ وبحسب طبعه وذاته له صلاحية ايجاد صورة المعنى في الذهن.
2- «الارادة التفهيمية» والمراد بها ارادة تفهيم المعنى بسبب استعمال اللفظ واخطاره في ذهن المخاطب، والفرق بين هذه الارادة والارادة الاستعمالية هو في ان اخطار المعنى وتفهيمه في الارادة الاستعمالية شاني واقتضائي في حين ان ذلك في الارادة التفهيمية فعلي.
كما ان اللفظ في الارادة الاستعمالية يكون معدا فقط لاخطار المعنى في ذهن المخاطب، واما في الارادة التفهيمية فان مثل هذا القصد التفهيمي متحقق فعلا.
3- «الارادة الجدية» وهي توجد فقط في موارد تكون فيها الجملة المستعملة تامة، وهي اخص من موارد الارادة التفهيمية، فالشخص الهازل ذو ارادة تفهيمية وان لم يكن ذا ارادة جدية
ان الظهور الناشئ من الكلام حجة ومعتبر، ودليل هذه الحجية وهذا الاعتبار هو القاعدة والمبنى العقلائي المسمى ب «اصالة الظهور»، وهنا نواجه هذين السؤالين:
الاول: ما هو المراد من هذا الاصل العقلائي؟ واي ظهور ودلالة من هذه الظهورات الثلاثة حجة ومعتبر؟
الثاني: ما هو المناط في حجية الظهور؟ وما هو الوجه في منح العقلاء الحجية لظاهر الكلام؟
1-1: اصالة الظهور:
قربنا في بحث اقسام الظهور والدلالة الانواع الثلاثة لظهور الكلام. ان محتوى اصالة الظهور في نظر السيد الشهيد الصدر (قدس سره) هو اعتبار التطابق بين مدلول الكلام التصوري من جهة ومدلوله الاستعمالي مع المراد الجدي من جهة اخرى. والحقيقة هي ان الالفاظ وبسبب العلاقة بينها وبين المعاني كاشفة بشكل طبيعي عن المراد الاستعمالي للمعاني. اي ان للالفاظ وبالتبع ظهور تصديقي اولي، الا انه لما كان كشف الالفاظ عن طريق الظهور التصديقي الاولي امر ظني غير قطعي يطرح السؤال التالي: من اين جاء اعتبار هذا الظن وهذا الكشف؟ وما هو الدليل الذي يجعلنا نعتمد هذا الظن ونعتبر على اساسه المدلول التصوري للكلام متعلقا لارادة المتكلم التفهيمية؟
سنحاول هنا اثبات اعتبار مثل هذا الكشف والظن عند العقلاء، وذلك تمسكا بالقاعدة العقلائية المسماة باصالة الظهور، وعليه فمورد وموضوع اصالة الظهور في هذه المرحلة من الفهم هو الظهور والدلالة التصديقية الاستعمالية.
ومن جهة اخرى الظهور التصديقي الاستعمالي وبشكل طبيعي كاشف ظني عن المراد الجدي للمتكلم، والشاهد على ذلك هو ان عدم التطابق بين الظهور التصديقي الاستعمالي مع المراد الجدي في المحاورات بحاجة الى قرينة وشاهد، والا فالامر فيه وبشكل طبيعي هو ما ذكرنا، بمعنى ان ما قصد المتكلم تفهيمه انما هو المراد الجدي المقصود له، ولما كان هذا الكشف ظنيا وبحاجه الى دليل لاثبات حجيته واعتباره فقد تمسكوا هنا ايضا وللمرة الثانية باصالة الظهور باعتبار كونها اصلا عقلائيا، اي ان العقلاء يعتبرون مثل هذا الظن، ويرون ان الظهور التصديقي الاستعمالي كاشف عن المراد الجدي.
وعلى اساس هذا التقريب يكون موضوع ومورد اصالة الظهور الثانية الظهور والدلالة التصديقية الجدية، وبناء على ذلك فقد جرى استعمال اصالة الظهور في كل كلام في مرحلتين.
وعلى اساس هذا التحليل يكون دليل حجية الظواهر هو سيرة العقلاء، فانهم وطبقا لطبعهم العقلائي لا يكتفون في مقام التفهيم والتفاهم بالتصريحات والنصوص فقط بل ياخذون ظواهر الكلام ايضا بنظر الاعتبار، ويعتبرون ذلك امارة على كشف المراد الجدي للمتكلم، والشهيد الصدر هنا يعتمد على هذه النكتة وهي ان العمل بالظواهر وبمحتوى هذه السيرة العقلائية اصالة الظهور ليس تعبدا عمليا محضا من جهة العقلاء وانما هو على اساس ملاك الكاشفية والطريقية الموجودين في الظهور.
ان امارية الظهور في مقام الكشف عن المراد قائمة على اساس الغلبة النوعية، بمعنى ان المتكلمين نوعا آيستعملون الالفاظ في معانيها الحقيقية الا ان تكون هناك قرينة على الخلاف.
ثم ان المراد الجدي امر واقعي وللظهور كشف واقعي عنه الا انه ليس بتعبدي، وطبعا فان درجة هذا الكشف غير قطعية ولا يقينية وانما هي ظنية تصيب غالبا المراد الجدي.
ان الغلبة النوعية ومصادفة هذا الظن للواقع المراد الجدي يقتضيان اغماض العقلاء وبشكل عام عن احتمال عدم كشف الظهور للواقع واحتمال الخطا في فهم المراد عن طريق الظهور، وبناء على هذا الاعتبار الدائمي للظن الناشئ عن الظهور، يشكل هذا البناء العقلائي ما يسمى حجية الظهور (اصالة الظهور).
1-2: الظهور الذاتي، الظهور الموضوعي:
قسموا الظهور الى ذاتي وموضوعي، ويسمى الظهور الذاتي (Subsectre) بالظهور الشخصي ايضا، والظهورالموضوعي Obsective) ) بالظهور النوعي.
ان احد الابحاث التي اهتم بها الشهيد الصدر (قدس سره) اكثر من غيره والتي يمكن اعتبارها من ابتكاراته الاصولية هي هذه المسالة، وهي ان الظهور الشخصي هل هو موضوع ومحور اصالة الظهور او ان موضوع اعتبار الظهورات هو الظهور النوعي والموضوعي للكلام ؟
والمراد من الظهور الذاتي هو الظهور الحاصل في ذهن كل شخص شخص عند مواجهته للنص و الكلام، ومن الظهور الموضوعي، الظهور الذي يشترك في فهمه اهل العرف والمحاورة، بحيث ان كل افراد ذلك العرف ابنوعهم يفهمون ذلك الكلام على نحو واحد.
وقد لا يطابق الظهور الشخصي الظهور النوعي، وذلك لكون الانسان دائما في معرض التاثر بالظروف الاحوال والملابسات والمحيط الثقافي وغير ذلك، وهذا التاثر يوجد انسا ذهنيا خاصا في ذهن الانسان بحيث يصبح مايفهمه احيانا مغايرا لما يفهمه العرف ونوع البشر وعلى اساسه يفترق الظهور الذاتي عن الظهور الموضوعي.
ان الظهور الذاتي امر نسبي ولذلك يكون مختلفا من فرد لاخر، والسر في نسبيته هو انه لا واقع له سوى ذاك الذي في ذهن الاشخاص انفسهم، وبالتالي يكون تنوع الاذهان موجبا لتنوع الظهور الذاتي والشخصي، في حين ان الظهور الموضوعي حقيقة مطلقة وثابتة.
والظهور النوعي امر واقعي يحتم علينا فهمه ودركه وتشخيصه، ومن الممكن تحصيل هذا الامر الواقعي، ومعه يكون ما يبذله المفسر والمخاطب من جهد متجها نحو ادراك ذاك الامر الواقعي حقيقة.
ان السر في واقعية وثبوت هذا الظهور هو كونه مشتركا بين اهل العرف حصيلة قوانين ثابتة ومعينة جرى قبولها في مقام المحاورة والتخاطب لدى الجميع، وحينئذ فالظهور الموضوعي ظهور يشكل لدى جماعة من الافراد لغة خاصة ، ولذا فانه يعقل الشك في الواقعية التى يطلبها المخاطب والمتكلم ويبحثا عنها، وذلك لان من الممكن انلا يكون المخاطب والمفسر قد احرزا الظهور النوعي بل اخطا الطريق اليه.
ان عدم التطابق والانسجام بين الظهور الشخصي والنوعي يمكن ارجاعه الى احد سببين:
ا – عدم استيعاب الشخص لجميع نكات اللغة وقوانين المحاورة مما يؤدي بالتالي الى عدم القدرة على احراز الظهور النوعي.
ب – تاثره بشؤونه الشخصية ومحيطه الثقافي وعمله وغير ذلك فيحصل له انس ذهني خاص بحيث يشكل ذلك حجابا مانعا عن درك الظهور النوعي.
ومما لا ينبغي الشك فيه هو ان موضوع اصالة الظهور هو الظهور الموضوعي والنوعي للكلام، لان الملاك في حجية الظهور هو الكشف عن المراد الجدي وظهور حال المتكلم.
ان طريقية الظهور وكاشفيته انما هي في صراط درك حال المتكلم ومراده الجدي وهذا هو وجه ودليل اعتبارالظهور لدى العقلاء، ومن الواضح افتقاد الظهور الشخصي لهذه الطريقية والكاشفية، مضافا الى ان ظاهر حال المتكلم تبعيته لضوابط اللغة والعرف العام، ولم يجعل ذلك على اساس العرف الخاص للسامع القائم على اساس انس شخصي وذاتي مختص به، وذلك ان الظهور الشخصي نسبي ومتغير ومتعدد وغير منحصر في ضابطة واساسا المتكلم في الحالة الطبيعية لا يمكنه ان يطلع على خصائص الظهورات الذاتية والشخصية لكي يجعل مراده وفقا لها.
والواقع ان اول ما يتناوله اي مفسر ومخاطب هو الظهور الشخصي، اي ما يدور في ذهن كل شخص عند مواجهته للنص، والسؤال هو: انه كيف يمكننا ان نحرز الظهور النوعي، وما هو السبيل للسلوك بالظهور من الشخصية الى النوعية؟
لقد حصر الشهيد الصدر (قدس سره) احراز الظهور النوعي باحد طريقين:
الاول: التمسك بالاحراز التعبدي.
الثاني: التمسك بالاحراز الوجداني.
والمراد من الاحراز التعبدي هو التمسك بسيرة العقلاء، فان الظهور الذاتي والشخصي بحد ذاته امارة وكاشف عن الظهور الموضوعي، وهذا الكشف وتلك الامارية ظنيان، وذلك لاحتمال عدم التطابق بين الظهور الشخصي والظهور النوعي، الا ان السيرة العقلائية قائمة على جعل ما يتبادره كل شخص من الكلام هو الميزان في تشخيص الظهور الموضوعي وهي بالتالي قائمة على الغاء احتمال تاثر الظهور بالانس الذهني والشخصي.
اذا فالطبع العقلائي الاولي قائم على التعويل على الظهور الشخصي وطريقيته وكاشفيته عن الظهور النوعي، ولايمكن الاغماض عن هذا البناء العقلائي الا اذا قام الدليل على عدم تطابقهما، وهو ما يعبر عنه باصالة التطابق بين الظهور الشخصي والنوعي.
واما الطريق الثاني والذي هو التمسك بالاحراز الوجداني والمنهج التحليلي فانه يقوم على ملاحظة الظهورات الشخصية بالنسبة الى افراد متعددين ذوي ظروف وشرائط مختلفة، وفي حالة تطابق هذه الظهورات الشخصية واتحادها يتشكل اطمئنان بحساب الاحتمالات بكون هذا المعنى الواحد من اللفظ عند جميعهم منبثقا عن نكتة مشتركة الا وهي قوانين المحاورة العامة لا القرائن والظهورات الشخصية الناشئة من الانس الذهني والشخصي للافراد، وحينئذ فمنشا هذا الظهور انما هو استعمال اللفظ في معناه والعلاقة الواقعية بينهما لا القرائن الشخصية والانس الذهني، وذلك لاختلاف الظهور الشخصي في تلك الحالة وتعدده، وقد تقدم ان اختلاف الجو الثقافي والظروف الشخصية يؤديان الى اختلاف الظهور الشخصي.
1-3: حجية الظهور النوعي زمن الصدور:
تقدم ان موضوع الحجية هو الظهور الموضوعي، اما الظهور الشخصي والذاتي فهو بحد ذاته لا اعتبار به الا اذا كان كاشفا عن الظهور الموضوعي، والظهور الموضوعي هو في الواقع عبارة عن ذهن العرف العام الذي يعيشه نفس المفسر والمخاطب بالنص، وحينئذ نواجه السؤال التالي: قد لا يتحد العرف العام في الزمان الذي يعيشه المفسر مع العرف العام زمان صدور الكلام والنص، فما الوجه في اعتبار الظهور النوعي للعرف الذي يعيشه المخاطب متطابقا والظهور النوعي لزمان صدور النص؟
ومرجع هذا التساؤل عبارة عن احتمال زوال الظهور النوعي زمان تكون النص والكلام وتبديله ونقله الى الظهور النوعي في الزمان الذي يعيشه المخاطب والمفسر، ومعه فلابد من ملاحظة وتحليل هذا الاحتمال احتمال التغيير والنقل وهل انه قابل للدفع ام لا؟
لقد اجاب الشهيد الصدر (قدس سره) عن ذلك بجوابين هما:
الجواب الاول وهو غير خال عن الابهام، وهو قائم على اساس ادعاء البقاء الوجداني للظهور الشخصي الفعلي، فالظهور الشخصي للفظ يكون في مرحلة الدلالة التصورية عقلائيا كاشفا عن الظهور النوعي للفظ، ولما كانهذا الظهور الشخصي ما يزال قائما وجدانا فان احتمال النقل والزوال للظهور الموضوعي يكون منتفيا.
الجواب الثاني للشهيد الصدر (قدس سره) والذي نسبه الى جماعة من محققي الاصول قائم على اصل عقلائي يسمى بـ «اصل عدم النقل»، ومفاد هذا الاصل المعروف ايضا بالاستصحاب القهقرائي هو تحكيم وترسيخ ظاهر الكلام في الازمنة السابقة.
والجدير بالذكر ان احتمال تغيير الظهور النوعي ليس ناشئا دائما عن احتمال التغيير في المعنى الوضعي والحقيقي للالفاظ ولا نقل المعنى الحقيقي للفظ الى معنى آخر، وذلك لان الظهورات السياقية والتركيبية للكلام قائمة على اساس الاحتفاف بالقرائن المتصلة واللبية والارتكازات العقلائية والتي هي في معرض التغيير ايضا، فمع ان المسالة هنا ليست في احتمال التغيير والتبدل و وقوع النقل في المعاني الحقيقية للالفاظ الا ان احتمال تغيير الارتكازات والملابسات والجو الثقافي العام للعرف يؤدي الى احتمال وقوع التغيير في الظهور السياقي النوعي للكلام.
ومن هنا اقترح الشهيد الصدر (قدس سره) استعمال «اصل الثبات في الظواهر» بدل «اصل عدم النقل»، واعتبار السيرة العقلائية في هذا الباب اوسع من مجرد التغيير في المعاني الوضعية للالفاظ.
وكيف كان، فالنكتة العقلائية لهذا الاصل والسيرة العقلائية هي ندرة وقوع النقل والتغيير وبطؤهما بنحو لايشاهد الانسان العرفي بالرغم من معرفته وخبرته تغييرا ملموسا في اللغة من هذه الجهة.
والشاهد على وجود مثل هذا الاصل والسيرة بين العقلاء هو اهتمامهم اهتماما بالغا بالاسناد والوثائق للوقف والوصية والعهود والمواثيق القديمة ونحو ذلك، واكتفاؤهم في مقام قراءتها وتفسيرها وفهمها بالظهور الموضوعي لهذا الزمان مع وجود فاصل زماني بين زمان قراءة وتفسير متولي الاوقاف وقراء هذه المتون المكتوبة وبين زمان صدورها وايجادها.
2- الهدف من فهم النص:
المعروف في علم الاصول هو ان الهدف من الرجوع الى النص وتفسير وفهم الكلام هو تحصيل المراد الجدي للمتكلم ودرك المعنى الذي قصد بالتفهيم.
والمفسر والقارئ للنص بعد اعمال قواعد المحاورة والدقة في مضامين الكلام يحاول كل منهما الوصول الى ذلك المعنى النهائي للنص والذي هو عبارة عن المدلول التصديقي الجدي للكلام، فاذا قسمنا تاريخ فهم النص [الهرمنيوطيقيا] الى ثلاث مراحل المرحلة التقليدية الكلاسيكية والمرحلة الرومانطيقية ومرحلة الهرمنيوطيقيا الفلسفية نجد ان الهدف من تفسير وفهم النص في نظر علماء الاصول ينسجم مع نظرية فهم النص الكلاسيكية والرومانطيقية.
يعتقد العلماء المشتغلون بنظرية فهم المتن المكتوب في هاتين المرحلتين ان الهدف من فهم المتن والكلام هو درك مراد المؤلف والمتكلم.
وفي مقام القياس نجد ان الطريقة الرائجة المستعملة للوصول الى هذا الهدف في علم الاصول تتناسب تماما معالطريقة المتداولة في النظرية الكلاسيكية، وهي اكثر فاصلة عن نظرية الهرمنيوطيقيا الرومانطيقية، وذلك نظرا للتاكيد البالغ في علم الاصول على ضرورة الحصول على ظهور نوعي للكلام عن طريق اعمال القواعد العامة في الفهم والمحاورة والدقة في الالفاظ، في حين لا يكتفى بالتفسير القواعدي (كرامايتكال) للكلام والمتن في الرومانطيقية التي اسسها شلايرماخر وديلتاي، لانها ترى ضرورة ان يكون هناك نوع من التنبؤ والحدس الناشئين عن نوع من التفاعل مع المتكلم والمؤلف، ومن اجل الوصول الى الهدف المتوخى من التفسير تشترط اكيدا بذل الجهد وشيء من النفساوية من اجل الدخول الى العالم الباطني والذهني للمؤلف والمتكلم عن طريق مزاملته ومرافقته وجعل الانسان نفسه موضعه، ولذا تؤكد على لزوم معرفة الحياة الفردية للمتكلم وخصائص التاريخ الذي عاشه، فانه كلما كانت المعرفة بالمؤلف اوسع وكان قربنا من جوه الفكري ومحيطه اكثر كلما امكن فهمه ومماشاته اكثر، وحينها تتهيا ارضية الدخول الى باطن ذاته، ويتيسر الوصول الى الهدف من التفسير اكثر.
واننا لا نشهد مثل هذا التاكيد في علم الاصول على ضرورة المماشاة ودرك الجو الحاكم على زمان وذهن المتكلم، والاهتمام بجو نزول الاية وشان نزولها او الرواية مثلا انما هو لكون ذلك كالقرينة المتصلة في تشكيل الظهورللكلام، والا فانه يبقى في حد الظن او الحدس لا اكثر، ذاك الظن والحدس غير كاشف والذي لا يمكن التعويل عليه في تشخيص مراد المتكلم الجدي، ولابد حينئذ في فهم المراد الجدي والاقتراب من هدف التفسير من طي مسير الظهور للكلام، ومجارات المتكلم وحدها بامكانها ان تكون في حد الحدس والظن الشخصي ما دام لا يؤيدها الظهور.
يختلف الهدف من التفسير في نظرية فهم النص الفلسفي تماما مع النمط المتبع في علم الاصول، فان الهدف من تفسير النص في نظرية الفهم الفلسفي ليس هو الحصول على مراد المؤلف وانما الدخول في حوار معنائي مع النص، حيث تكون الكتابة والكلام مستقلين مع غض النظر عن المؤلف والمتكلم بذلك مورد اهتمام الجانبين المتحاورين المفسر والقارئ، والتفسير والفهم انما هما حصيلة هذا الحوار.
ولا يكون القارئ والمفسر للمتن في هذا التقريب ناظرا لمحتواه ومضمونه عن طريق درك الظهور بل يعتبرعنصرا فعالا، ويكون لرؤيته ونظره ومدركاته القبلية دخالة في حصيلة هذا الحوار لفهم المتن.
3- تاثير الخلفية العلمية في عملية الفهم:
نظرا الى ان الهدف من فهم المتن هو التوصل الى المراد الجدي للمتكلم والمؤلف عن طريق تنقيح الظهور الموضوعي، فان ذهنية المفسر ورؤيته الخاصة ليست فقط غير مساعدة على فهم المتن بل انها تحول دون الوصول الى المراد الجدي للمتكلم ايضا، ومع ذلك فان عملية فهم المتن لا تخلو من جملة معلومات وخلفية ذهنية للمفسر، وهذه المعلومات القبلية غير الناشئة من المتن تشكل عاملا مساعدا في عملية الفهم، وتوضيح ذلك يتوقف على ذكر اقسام الخلفية العلمية المتعلقة بفهم المتن.
الا انه واجمالا يمكن تقسيم المعلومات التي يتمتع بها القارئ للمتن الى خمسة اقسام، فان دخالة بعض تلك المعلومات يمكن ان يكون مقبولا ومعقولا في عملية الفهم، ويمكن ان تكون دخالة البعض الاخر منها مخلة وغير مبررة في العملية المزبورة.
1- المعلومات الالية القبلية التي تلعب دورا في عملية فهم المتن، فان التعرف على بعض القواعد الاصولية، علم المنطق، القواعد الادبية، اللغة، الاصول والضوابط الحاكمة على المحاورة والتخاطب العقلائي، كل ذلك من جملة المعارف القبلية الالية التي لا تلعب دورا في تعيين محتوى المتن وانما هي مجرد آلات يتوصل بها الى درك مضمونه فقط. والمعارف المزبورة لا تحمل المحتوى على المتن وان كان سبيل الوصول الى درك محتوى المتن مخدوشا بدونها.
2- المعلومات التي تؤثر في اثبات اصل الظهور للكلام. والبعض من هذه المجموعة مربوط بالارتكازات العقلائية الحافة بالكلام، وهذا النحو من الارتكازات هو بحكم القرينة المتصلة بالكلام، والتعرف عليها يساعد في تنقيح الظهور، ويختص البعض الاخر من تلك المعومات بالبراهين التي تقام احيانا لغرض اثبات او نفي ظهور معين للكلام، وكنموذج لذلك يمكن الاشارة الى بحث الاصوليين للصحيح والاعم وايضا مبحث المشتق، فانهم باقامتهم البرهان على استحالة تعقل وجود جامع بين افراد الصحيح والاعم او بين المتلبس والذي انقضى عنه زمان التلبس(في بحث المشتق)، يستدلون على نفي وضع الاسماء للجامع بين الصحيح والاعم او بين المتلبس والمنقضي عنه،وذلك لان اثبات ظهور الكلام في الجامع فرع امكان الوضع لذلك الجامع، وحيث لا يمكن الوضع ثبوتا، اذا فلا يمكن ان يكون للفظ ظهور في الجامع اثباتا.
3- قد تساعد معلومات المفسر عن المتكلم احيانا في فهم الكلام، وكنموذج على مثل هذه الخلفية العلمية يمكن ذكر الاعتقاد بكونه تعالى حكيما وعالما مطلقا، فان هذا الاعتقاد يعد ارضية اساسية للاخذ بعموم واطلاق كلامه تعالى، وللتمسك بجميع لوازم العبارات اللفظية والمنطقية.
4- قد تؤثر المعلومات والمعطيات القبلية اليقينية احيانا في فهم المراد الجدي من الكلام، وان لم تلعب دورا في تنقيح الظهور الموضوعي له، فهناك موارد يحرز فيها الظهور الموضوعي من الكلام للقارئ والمفسر، لكن ولعدم الانسجام بين هذا الظهور وبين الامر المسلم والقطعي عقلا لا يمكن ان يكون ذلك هو المعنى الظاهري من المراد الجدي للمتكلم، وحينئذ لابد من ايجاد الانسجام بين المراد الجدي للكلام والمعلوم القطعي، وغض الطرف بسبب تلك الخلفية العلمية عن هذا الظهور الموضوعي في فهم المراد الجدي.
5- القسم الخامس يختص بالمعلومات الظنية وغير اليقينية، وهي التي تدخل بواسطة المفسر سواء كان عالما بذلك ام لا في تنقيح محتوى الظهور الموضوعي او في درك المراد الجدي، والبحث المعروف ب «التفسير بالراي»هو من قبيل هذه المعلومات.
4- التفسير بالراي:
يقع تفسير المتن دائما في معرض آفة التفسير بالراي، ونظرية الاصوليين التفسيرية تؤكد على ضرورة اجتنابهذه الافة، فان دخالة اي نوع من المحاكمات والخلفيات العلمية للمفسر والقارئء تضر بعملية الفهم والدرك الصحيح للمتن، هذا في الوقت الذي تجيز فيه اغلب النظريات التفسيرية الحديثة في عملية فهم المتن المعاصرة دخالة عنصر التفسير بالراي لا بل تؤكد على ضرورته، فان تفسير المتن في نظر هؤلاء اساسا هو من مقولة التفسير بالراي، والتفسير بدون اعمال الراي وابداء النظر والخلفية العلمية امر غير ممكن.
الا ان تاكيد الاصوليين على ضرورة اجتناب اعمال الراي والتفسير على اساس المحاكمات المسبقة لا يعني عدم الدقة والتامل في محتوى المتن والظهور النوعي والاكتفاء بالنظر السطحي له.
والواقع ان الوصول الى المعنى الظاهري للمتن بحاجة في كثير من الموارد الى تدبر وتامل واعمال للنظر والتفات الى المناسبات والقرائن والارتكازات، سيما لو كان ذلك الظهور ظهورا سياقيا، وحينئذ الا توجب مثل هذه الامور عدم خلو التفسير للمتن عن التفسير بالراي؟
يجيب الشهيد الصدر (قدس سره) عن هذا السؤال، فيقول: ان الدقة واعمال الراي من جهة الشراح والمفسرين للنصوص انما هو لغرض التوصل الى الدال لا الى المدلول ومحتوى النص، بمعنى ان امعان النظر والتدبر يؤثران في استحصال النكات والالتفات الى الخصوصيات التي تعطي الكلام ظهورا في المعنى بحيث لو شرحها للاخرين والفتهم اليها لسلموا بالظهور في ذلك المعنى، وهذا ليس تفسيرا بالراي ابدا.
والسر في اختلاف آراء العلماء في فهم النص يرجع احيانا الى هذه الجهة بمعنى ان جماعة التفتوا الى بعض القرائن والنكات بسبب اعمال الدقة والتدبر، فيما كان عدم التفات الاخرين لذلك عائدا الى عدم دقتهم وغفلتهم مما ادى بهم الى فهم ظاهر الكلام بنحو آخر.
والنحو الاخر من التفسير بالراي هو الاهتمام بالجانب الذاتي والشخصي في قبال الجانب الموضوعي والنوعي والعمل بالظهور الشخصي بدل العمل بالظهور النوعي، وقد يكون ذلك غير متعمدا، فان الجزم بمعنى خاص وعدم الدقة في جوانب معنى الكلام جعل بعض المفسرين وبدلا من التسليم قبال النص يصب ذلك في قالب معنى خاص غافلا عن سائر الجوانب الاخرى للمعنى، وتفسير القرآن الكريم تفسيرا عرفانيا محضا او تفسير اخاصا آخر كالتفسيرات الكلامية المختلفة للقرآن الكريم هو نموذج آخر من التفسير بالراي.
5- حجية التفسير:
تواجه اغلب التوجهات المعاصرة في مجال تفسير المتن مشكلة الاعتبار والحجية للفهم والتفسير، وذلك انه معاستبعاد مراد المؤلف عن الميدان، والاعتقاد بدخالة الخلفية الذهنية للمفسر في عملية الفهم تعززت جنبة النزعة الذهنية والفعالية الشخصية للمفسر وانخدشت بالتالي الحيثية الواقعية العينية للكلام.
ان دور القارئ وذهنيته في نظرية الفهم المعاصر تتجاوز في الغالب دور المتن في تكوين الفهم، خصوصا لدى بعض الفرق التي تنكر الوجود المعنوي والنهائي للفظ في النص، حيث جعلوا من عملية الفهم لعبة للمعاني، فكان تفسير المتن لديهم نوعا من انواع لعبة الشطرنج اللامتناهية ذلك ان اللعب بالمعاني غير متناهي ابدا.
والملاحظ على هذه الفرقة هو ان الفهم العيني للمتن والكلام وجعله من الموازين المعتبرة يفقده الموضوعية، واما في النظرية التفسيرية للاصوليين فان الهدف من التفسير هو الحصول على فهم معتبر وحجة، والمراد منالحجية هنا هو معناها الاصولي، اي الفهم الذي يكون منجزا ومعذرا، وهذا الفهم الحجة والمعتبر يتشكل في وقت يكون فيه الظهور الموضوعي للكلام قائما على اساس الاصول والقواعد الحاكمة على المحاورات فيكون الفهم المتحصل بناء على ذلك فهما مضبوطا.
ان الحجية المنطقية التي هي بمعنى اثبات الحق والمطابقة للواقع غير الحجية الاصولية، ونحن في مقام تفسير المتن لسنا بصدد الحجية المنطقية، فلا يكون الفهم المعتبر الذي نعتمده في التفسير هو الفهم المطابق للواقع، وذلك لان هذا المعنى قلما يكون قابلا للاحراز والاثبات.
هذا، مضافا الى ان موارد الحجية الاصولية اعم منها في الحجية المنطقية، فقد يكون الفهم المعتبر غير مطابق للواقع والحق، اذ المهم في تفسير المتن هو مطابقة التفسير للمعايير الحاكمة على فهم المتن والمحاورة، وايضا كون المعنى متحصلا عن طريق الظهور الموضوعي دون اثبات حقانيته المنطقية.
وهذا المعنى للحجية منسجم ايضا مع وجود الاختلاف في الفهم والتفسير، فانه قد يكون للمتن الواحد عدة تفاسير في وقت واحد كلها حجة ومعتبرة لكن بشرط ان يكون الظهور الموضوعي لكل منها ممنهجا وذا شواهد عقلائية.
كلمة اخيرة:
لا يخفى ان الترقي الحاصل في كل فرع من العلوم والمعارف البشرية رهين جهد علمي بذله العلماء للجواب عن الاسئلة الجديدة المطروحة، وبعض تلك الاسئلة رهين الجهد العلمي للعلماء في ذلك الفرع، فيما البعض الاخر حصيلة الارتباط والعلاقة التي تربط كل فرع من فروع المعرفة بالفروع الاخرى.
ان تكامل الفلسفة ليس فقط رهين ما طرحه الفلاسفة من اسئلة، بل للمتكلمين وسائر العلماء ايضا دور في طرح تلك الاسئلة الجديدة والمناظرة مع الفلاسفة.
والمسالة في علم الاصول ايضا من هذا الوادي، فان الكثير من الاسئلة المطروحة في هذا المقال لم يتفاعل معها علماء الاصول بصورة مباشرة، ولم يكن جهدهم العلمي مبذولا في سبيل الاجابة عنها.
ان لعلمائنا الاصوليين نظرية تفسيرية خاصة لم يروا حاجة الى البحث في ابعادها، ومن هنا لم يعر علماؤنا الاصوليين اهمية وبشكل جدي لما يطرح اليوم من ابحاث جديدة في نظرية فهم النص التي شغلت اذهان الكثير، وما نقلناه عن الشهيد الصدر (قدس سره) في هذا المقال من نكات علمية دقيقة وقيمة ليس لها جذور في مباحثعلم الاصول الرائجة وانما هي نابعة من فطنته وذكائه (قدس سره) الخاصين، فانه لو اهتم علماء الاصول بمثل تلك الاسئلة بحيث تنقلب الى ابحاث جدية ورسمية في علم الاصول لشهدنا في القريب العاجل الثراء لهذه الابحاث، ولامكن عرض نظرية تفسير النص بابعادها المختلفة بوضوح اكثر، ولكانت هذه النظرية في مقام مواجهة الفرق الفكرية الاخرى ذات عطاء اكثر ثراء.
الشيخ احمد الواعظي