الامام الشهيد محمد باقر الصدر أحد الكبار المجهولين في العصر الحديث

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

الصدر الشهيد عاش مظلوماً ومات مظلوماً ولمّا يزل مظلوماً، بعد مضي أكثر من عقد ونصف على استشهاده، ففي حياته لم تكتشفه قطاعات واسعة من الامة الاسلامية، وبالذات النخبة المثقفة والمتعلمة منها، إلا في جزر مغلقة ذات وجود محدود في الجامعات وبعض علماء الدين المستنيرين في الحوزة العلمية في النحف الاشرف، ولذلك حرمت الامة من استثمار مواهبه وقدراته الابداعية بتمامها.

اما بعد استشهاده فصحيح ان شهادته كانت عاصفة عنيفة تناهت أصداؤها الى مناطق شتى في العالم، غير ان ذلك لم يوجه الأنظار نحو فكره وابداعه المتعدد الابعاد، وانما تنبه الناس الى الدوافع السياسية والايديولوجية التي أدت الي تصفيته من قبل جلاد بغداد، وهكذا ظل ابداعه مهملاً لولا مبادرات فردية للتعريف بمدرسته وقراءة الابعاد التاسيسية في فكره، كان أبرزها الدراسة التي كتبها تلميذه السيد كاظم الحائري في مقدمة كتابه «مباحث الاصول»1، والكتاب الذي ألفته نخبة من الباحثين ونشرته دار الاسلام في لندن2، والعدد الخاص في مجلة قضايا اسلامية3، وأخيراً الكتاب الذي ألفه تلميذه الشيخ محمد رضا النعماني4. وما عدا ذلك لا نعثر على قراءات جادة لآثاره، ومراجعة وتقويم لأفكاره، واستجلاء خصائص مدرسته والتواصل مع مشروعاته التي لم تكتمل. ومن المؤسف ان تختصر مدرسته الفكرية باحتفالات جماهيرية تبجيلية ومقالات صحفية آنية، ربما تساهم في حجب الابعاد الحقيقية لمدرسته.

ولعل بعضهم يسقط في الوهم، فيحسب ان المفكر العالمي هو الاكثر شهرة، وليس الملتصق بهموم وآلام البشرية، ولا يدري ان الشهرة طالما اقترنت بالطواغيت والفراعنة وبعض السياسيين الذين تسببوا في عذابات وشقاء الانسان، أو اقترنت بنجوم السينما والرياضيين مثلاً، بينما ظل غير واحد من المبدعين الاحرار الذين عاشوا من أجل سعادة البشرية مجهولاً.

ويمكن القول ان الامام الشهيد محمد باقر الصدر هو واحد من هؤلاء الكبار المجهولين، فانه مع ما له من ريادة في تأسيس مشاريع فكرية وسياسية هامة، ومع انه ثائر رباني لا يخشى في اللّه لومة لائم، وهب حياته للدفاع عن العقيدة، والجهاد من أجل تجسيد أهدافها العظمى في تحرير المستضعفين، وأرخص دمه وأعار جمجمته للّه، ونازل أشرس طاغية في هذا العصر حتى خر صريعاً متوشحاً بدم الشهادة، الا انه لم ينل من الشهرة والعالمية ما ناله

الكثير من الاشخاص الذين لا تساوي قيمتهم ثمن الورق الذي يستهلك للكتابة عنهم، غير ان ذلك لا يعني غياب الشهيد الصدر عن ذاكرة المستضعفين والمجاهدين، فقد توهج دمه الزكي فتوغل في أعماق ضمير الاحرار والمظلومين، وأضحى شعلة مستديمة توقد روح الكفاح لدى المظلومين وسيظل انشودة للثوار مادامت المنازلة مستمرة بين الحق والباطل.

 عوامل النبوغ الفكري

أبصر الشهيد الصدر النور في الخامس والعشرين من ذي القعدة عام 1353 هجري الموافق 1933 م في مدينة الكاظمية ببغداد لاسرة علمية عريقة من جهة الأب والأم فقد كان أبوه السيد حيدر بن اسماعيل الصدر سليل آباء اشتهروا في الحوزات العلمية بالعطاء العلمي الوفير، وصفه الشيخ الطهراني بانه كان غزير العلم كثير الفضل «وكان دائم الاشتغال كثير المذاكرة، قلما دخل مجلساً لاهل الفضل ولم يفتح باباً للمذاكرة والبحث العلمي، وكان محمود السيرة حسن الاخلاق محبوباً عند عارفيه»5. كما وصفه السيد عبد الحسين شرف الدين بانه «كان من ذوي العقول الوافرة والاحلام الراجحة والاذهان الصافية، وكان وهو مراهق أو في أوائل بلوغه لا يسبر غوره ولاتفتح العين على مثله في سنه،.. يقبل على العلم بقلبه ولبه وفراسته، فينمو في اليوم ما لا ينمو غيره في الاسبوع، ما رأت عيني مثله في هذه الخصيصة»6. اما والدة الشهيد الصدر فهي ابنة الفقه الشيخ عبد الحسين آل ياسين الذي أصبح ابناؤه الثلاثة الشيخ محمد رضا والشيخ راضي والشيخ مرتضى من الفقهاء اللامعين، واسرة آل ياسين اسرة عريقة بالعلم وانجاب العلماء، وام الشهيد الصدر سليلة هذه الاسرة العلمية، غرست في هذه التربة وترعرعت في أفياء التقوى والفقاهة.

هذا هو المحيط الاسري الذي فتح عينيه في فضائه الشهيد الصدر، وهو وان فقد اباه في فترة مبكرة من حياته (سنة 1356 هجري)، بيد انه تربى في كنف امه العالمة الصالحة وأخيه الاكبر السيد اسماعيل7، فكان لاحتضانهما له اثر بالغ في امتصاص لوعة اليتم التي اكتوى بها وهو لم يبلغ الرابعة من عمره، مع ان اليتم ظاهرة تكللت بها حياة مجموعة من العظماء.

اما المحيط الاجتماعي الذي نشأ به الشهيد الصدر فبدأ في مدينة الكاظمية التي مكث فيها الى سنة 1365 هجري، ثم هاجر الى الحوزة العلمية في النجف الاشرف، وفي الفترة التي أمضاها في الكاظمية درس في مدرسة «منتدى النشر الابتدائية»، وباشر دراسة العلوم الحوزوية هناك وقرأ أغلب الكتب المعروفة في مناهج الحوزة بالسطوح من دون استاذ، فيما درس بعضها على أخيه السيد اسماعيل، ففي غرة السنة الثانية عشرة من عمره درس كتاب «معالم الاصول» على اخيه، وكان لفرط ذكائه يعترض على صاحب المعالم باشكالات دقيقة، كان اوردها الشيخ الخراساني في كتابه الكفاية على المعالم8. وبعد وصوله الي النجف تتلمذ على علمين من ابرز فقهائها آنذاك وهما: خاله الشيخ محمد رضا آل ياسين والسيد ابو القاسم الخوئي. وكانت النجف وقتئذ

في ذروة تألقها وتوهجها العلمي. فقد كانت تعيش عصر ازدهار حركة الدرس الاصولي والفقهي، بتظافر جهود الاصوليين الثلاثة الشيخ محمد حسين الاصفهاني الكمباني، والشيخ محمد حسين النائيني، والشيخ اقا ضياء العراقي، الذين تعاصروا وابدع كل واحد منهم جملة نظريات وآراء مبتكرة في اصول الفقه. فان الشهيد الصدر وان لم يدرك دروس هؤلاء الاعلام، الا انه ادرك المناخ العلمي الذي اثّر بنشاطهم العلمي التدريسي في الحوزة العلمية. فالتحم الصدر بهذه الاجواء وانفتح على افكارها وراح يستلهم تياراتها بفعالية متوثبة.

في هذا الضوء يتضح ان هناك تكاملاً بين دوري المحيط الاجتماعي العلمي والمحيط الاسري في ايقاظ روح الابداع في شخصية الشهيد الصدر، يضاف الى عامل المحيط الخارجي الموضوعي عامل أهم وهو العامل الذاتي أي الموهبة والعبقرية التي تفوّق بها الصدر على اعداد غفيرة انتسبت الى البيئة التي انطلق منها لكنها لم تتمكن ان تطاول قامة الصدر التي استطالت فبلغت ذرى المجد.

وقد ظهرت علامات النبوغ في فترة مبكرة من حياة الشهيد الصدر، يحكي أحد الطلاب الذين كانوا معه في المدرسة الابتدائية، انه كان في السنة النهائية من هذه المرحلة، فيما كان الشهيد الصدر في الصف الثالث الابتدائي، لكن الصدر «كان محط انظارنا نحن تلاميذ المدرسة صغاراً وكباراً، كما كان موضع تقدير واحترام معلميه، واكثر ما كان يلفت نظرنا هو اهتمام المعلمين به، دون استثناء، فقد كانت له شخصية تفرض وجودها وسلوك يحملك على احترامه والنظر اليه نظرة تختلف عن نظرتك لبقية زملائه، كنا نعرف عنه انه مفرط في الذكاء، ومتقدم في دروسه تقدماً يبز به زملاءه كثيراً او ندر نظيره. وما طرق اسماعنا ان هناك تلميذاً في المدارس الاخرى يبلغ بعض ما يبلغه من فطنة وذكاء، لذا اتخذه معلموه نموذجاً للطالب المجد والمؤدب والمطيع»9، ويصفه استاذه في هذه المرحلة بقوله: «كان شغوفاً بالقراءة، محباً لتوسيع دائرة معرفته، ساعياً بجدٍّ الى تنمية مداركه ومواهبه الفذة، لاتقع عيناه على كتاب الا وقرأه وفقه ما يحتويه، في حين يعز فهمه على كثير ممن انهوا المرحلة الثانوية، ما طرق سمعه اسم كتاب في ادب او علم او اقتصاد او تاريخ الا وسعى في طلبه، كان يقرأ كل شيء… كان شعلة ذكاء وادب، ومثال خلق قويم ونفس مستقيمة، ما فاه واللّه بحياته في المدرسة بكلمة الا وبعثت في نفس سامعها النشوة والحبور، وما التقت عيناه لفرط خجله مرة عيني احد مدرسيه، فهو لا يحدّث الا ورأسه منحن وعيناه مسبلتان»10. لقد كان لهذه الموهبة التي تفتحت في المرحلة الاولى من دراسته اثر بالغ في سرعة نضجه العلمي، اذ استطاع ان يحرق المراحل في مشواره العلمي، وانتهى الى نتائج بهرت الوسط الذي كان يتعلم فيه، فمثلاً توفر على استيعاب الفقه وأصبح من ذوي النظر ولم تعد لديه حاجة للتقليد قبل البلوغ، لذا لم يقلد أحداً عند بلوغه11. وهي مرتبة علمية لا يصل اليها الدارسون الأذكياء الا بعد جهود شاقة تتواصل سنوات عديدة.

ومما ينبغي التذكير به ان الموهبة والمحيط الاسري والاجتماعي لم توصل الشهيد الصدر الى القمة التي ارتقاها لولا عامل رابع منضم اليها، وهو الجدية والمثابرة والاصرار على مواصلة السير مهما كانت العقبات حتى بلوغ الهدف. فقد ذكر هو لبعض تلامذته انه كان «يقتطف أكثر من عشرين ساعة من الليل والنهار للتحصيل العلمي، وكان يقسمها بين المطالعة والكتابة والتفكير»12 ويتحدث عن مثابرته قائلاً: «انني في الأيام التي كنت أطلب فيها العلم، كنت أعمل في طلب العلم كل يوم بقدر عمل خمسة أشخاص مجدين»13. ولهذا يعود تسجيل حرارة جسمه لنصف درجة زيادة على المعدل أيام شبابه على الدوام14.

ودأب على هذا المنهج الصارم في المثابرة على عمله حتى نهاية حياته، فقد ورد في رسالة لاحد تلامذته كتبها قبيل استشهاده ببضعة سنوات (اني منذ أشرب كوب الشاي صباحاً أبدأ بالعمل الى الساعة العاشرة ليلاً)15.

 الربانية في شخصية الشهيد الصدر

اتسمت شخصية هذا الثائر الرباني بسمات مزيدة، جعلته نموذجاً واضحاً لتجسيد قيم الرسالة الاسلامية بتمامها، وتجلي اخلاقية الاسلام بصورة عملية.

وسنشير بايجاز الى ابرز هذه السمات، وهي:

1- الاخلاص:

تجلى الاخلاص بوضوح في سلوكه وفي عبادته وفي جهاده، فمثلاً يذكر تلميذه الشيخ النعماني انه كان يتحين الفرص للصلاة خلفه، الا ان الشهيد الصدر كان يتأخر أحيالناً جالساً في مصلاه مستقبلاً القبلة مطرقاً برأسه متأملاً بخضوع، وربما يستغرق ذلك نصف ساعة، ثم ينهض فجأة لأداء الصلاة، يقول النعماني فسألته ذات يوم عن سبب هذه الظاهرة، فقال: «اني آليت على نفسي منذ الصغر ان لا أصلي الا بحضور قلب وانقطاع، فأضطر في بعض الاحيان الى الانتظار حتى اتمكن من طرد الأفكار التي في ذهني، حتى تحصل لي حالة الصفاء والانقطاع، وعندها أقوم للصلاة»16. وينقل الشيخ النعماني واقعة اخرى تفصح عن وصوله الى مراتب عالية من مدارج السلوك الى اللّه تعالى، يذكر فيها انه لما نفد المخزون من الطعام أيام الحجز، واشتدت معاناتهم من آلام الجوع، عمدت عائلة الشهيد الصدر الى التقاط الخبز اليابس التالف، واعداده كطعام بالاستعانة بالماء المغلي، فكان الشهيد الصدر حينما يأكل منه يقول: «ان الذ طعام ذقته في حياتي هو هذا، لانه في سبيل اللّه عز وجل»17.

2- التواضع:

نشأ الشهيد الصدر في بيئة تضج بالالقاب والعناوين، حتى ان القارئ أحياناً لا يدرك اسم مؤلف الكتاب الا بعد قراءة نصف صفحة من الالقاب «وأطلق لقب علامة وامام وآية اللّه وحجة الاسلام على كل ذي جبة وعمّة، بلا مراعاة النظير حتى اختلط الحابل بالنابل، وتدنس الطاهر النقي، ورخص العالم التقي» بحسب تعبير الشيخ محمد جواد مغنية18. غير ان الشهيد الصدر وضع حداً فاصلاً لهذه الفوضى، وصدرت مؤلفاته بتمامها في طبعتها الاولى التي طبعت باشرافه وعلى غلافها (محمد باقر الصدر) فقط من دون أي لقب أو عنوان يسبق الاسم، كما أوعز لأحد تلامذته الذي كان يتابع ترجمة وطباعة كتابه (الاسس المنطقية للاستقراء) في ايران ان يذكر اسمه «بدون رتوش وجمل انشائية… ويقتصر على ذلك بدون القاب وانشاءات»19.

وأشار الشيخ النعماني الى ان «السيد الشهيد حينما أكمل كتابه (الفتاوى الواضحة) وأردنا ارساله الى المطبعة كتبت على الدفتر منها عبارة (تاليف سماحة آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر) فلما رأى ذلك شطب عبارة (سماحة آيه اللّه العظمى) وقال لي: لا حاجة الى ذلك قدمها الى الطبع بهذا الشكل»20.

3- الزهد والاباء:

روّض الشهيد الصدر نفسه على جشوبة العيش وخشونة الحياة، فظل يعيش حتى أيامه الاخيرة في دار صغيرة تعود الى احدى الاسر التي كانت قاطنة في النجف، ورفض بشدة كل العروض التي قدمت له من قبل بعض مريديه بالتبرع بشراء دار، فقد حدثنا تاجر مُحسن من أهالي الكويت انه ذهب بنفسه الى الشهيد الصدر وقال له: سيدي لي اليك حاجة أرجو أن تقضيها؟ فأجاب الشهيد الصدر: تفضل، قال المحسن: لدي أمنية أن اشتري لك داراً، من أموالي الخاصة لا من الحقوق الشرعية، فتبسم الشهيد الصدر ثم قال: اشتر لكن بشرط ان تشتري لكل طالب علوم دينية في النجف لا يملك داراً وأنا أحد هؤلاء، يقول فقلت له: ان هذا الشرط غير مقدور21. لم يجد معه كل رجاء والتماس في ذلك فلم يستجب لعروض اخرى في هذا المضمار22.

أما في ملبسه فقد كان يكتفي بالمقدار الضروري ولا يسعى لارتداء الملابس الفاخرة، حتى ان بعض محبيه كان يهدي له أرقى أنواع الاقمشة والالبسة، فلا يستخدم منها أية قطعة، ويعمد الى اهدائها للطلاب في النجف الاشرف، ممن يصعب عليهم مادياً شراء الملابس الجديدة، وقد ذكر الشيخ النعماني انه دخل معه احدى المرات الحمام فوجد بعض ملابسه الداخلية «الفانيلة» ممزقة، فاقترح عليه ان يبتاع له اخرى جديدة، فامتنع، وقال: هذه لا يراها أحد، وكان يقتصر في طعامه أحياناً على الخبز والماء فقط، بل كان يبعث بالخبز الساخن الجديد لخادمه فيما يأكل هو الخبز البارد23.

4- أقواله تتجسد بأفعاله:

اهتم الشهيد الصدر بتجسيد أقواله بأفعاله، فلم ينفصل سلوكه عن قناعاته واقواله مثلما ابتلي به بعض من ينبغي ان يكونوا في مقام القدوة والاسوة، من هنا حرص على ان يبقي نمط معيشته مماثلاً لعيش الطبقة الفقيرة، فمثلاً كان يمتنع عن شراء الفواكه لعائلته مطلقاً حتى يتمكن جميع الناس من شرائها، وكان يقول: «يجب علي وانا في هذا الموقع – يعني المرجعية – ان أكون في مستوى العيش بمستوى الطلبة الاعتيادي» 24. أما الاموال الوفيرة التي تصل اليه كحقوق شرعية، فقد كان يبادر الى انفاقها في مصارفها الشرعية على المحتاجين، وتنبه الى تثقيف أبنائه على ان هذه الاموال ليست ملكاً شخصياً لهم، ولذا يجب ان يبتعدوا عن العبث بها، يقول بهذا الصدد: «اني فهّمت ابنتي مرام ان هذه الأموال الموجوده لدينا ليست ملكاً لنا، فكانت هذه الطفلة البريئة تقول أحياناً: ان لدى والدي الاموال الكثيرة ولكنها ليست له، ذلك لكي لا تتربى على توقع الصرف الكثير في البيت بل تتربى على القناعة وعدم النظر الى هذه الأموال كأملاك شخصية»25.

وعندما تحدث معه الشيخ النعماني في فترة الاحتجاز عن امكانية الفرار والخلاص من سطوة الجلادين أجابه قائلاً: «حتى لو أن السلطة فكّت الحجز فسوف أبقى جليس داري، فليس منطقياً أن أدعو الناس الى مواجهة السلطة حتى لو كلفهم ذلك حياتهم، ثم لا أكون أولهم سبقاً الى الشهادة في الوقت الذي يستشهد فيه الشاب اليافع والشيخ الكبير من أمثال الشهيد المرحوم السيد قاسم شبر الذي جاوز التسعين من عمره»26.

5- الايثار والشفقة:

كان الشهيد الصدر يفيض عاطفة وشفقة على من حوله، ويرعاهم رعاية أبوية تختزن طاقة هائلة من الحنان والمودة، فمثلاً لما جرى اعتقاله في 17 رجب 1399 هجري اعتقل معه الشيخ المجاهد طالب السنجري، ولما اندلعت التظاهرة الاحتجاجية العنيفة في ذلك اليوم في النجف الاشرف، تم الافراج عنه، بيد انه رفض العودة الى النجف من دون الافراج عن رفيقه الشيخ السنجري، لكن مدير الأمن تمنّع لأول وهلة لأجل ان يثني الشهيد الصد ر عن ذلك، الا انه عندما لاحظ اصرار الشهيد الصدر على الافراج عن السنجري اضطر للافراج عنه، وقد عبر الشهيد الصدر عن هذه الحادثة قائلا: «كنت مصمماً على البقاء في مديرية الامن مدى الحياة اذا لم تفرج السلطة عن مرافقي»27.

وبلغت المشاعر الانسانية للشهيد الصدر ان يعطف على جلاوزة الامن الذين كانوا مكلفين بفرض طوق وحشي على داره، اذ يذكر الشيخ النعماني انه سمعه في أحد أيام الاحتجاز يقول: لاحول ولا قوة الا باللّه العلي العظيم، فقال له: (هل حدث شيء؟ فقال: كلا، بل كنت انظر الى هؤلاء – ويقصد قوات الامن – من خلال فتحة في الكسر الصغير في زجاجة النافذة فرأيتهم عطاشى يتصبب العرق من وجوههم في هذا اليوم من أيام الصيف الحار. فقلت: سيدي أليس هؤلاء هم الذين يطوقون منزلكم ويعتقلون المؤمنين الاطهار من محبيكم وأنصاركم، هؤلاء الذين روعوا أطفالكم وحرموهم من أبسط ما يتمتع به الأطفال ممن هم في أعمارهم؟ فقال: ولدي، صحيح ما تقول: ولكن يجب ان نعطف حتى على هؤلاء، ان هؤلاء انما انحرفوا لأنهم لم يعيشوا في بيئة اسلامية صالحة، ولم تتوافر لهم الاجواء المناسبة للتربية الايمانية، وكم من أمثال هؤلاء شملهم اللّه تعالى بهدايته ورحمته، فصلحوا وأصبحوا من المؤمنين)28.

6- الصبر والحلم:

ما فتئ خصوم الشهيد الصدر يواصلون كيل التهم والصاق الأكاذيب والافتراءات وافتعال الدعايات والاشاعات ضده منذ عام 1380 هجري عندما قاد المدعو حسين الصافي حملة دعائية ضد النشاط الاسلامي للشهيد الصدر، وجاء بعده من شنع بكتاب فلسفتنا واقتصادنا، وراح يحرض الآخرين ضدهما باعتبار ان الصدر أضر بهذا الفكر الامة، لانه ليس فكراً قرآنياً29.

ثم تفاقمت المواقف المناوئة في النجف لتحرك الشهيد الصدر، فعبر عنها في رسالة بالغة الدلالة لأحد أصحابه، كتبها في صفر سنة 1380 هجري، وجاء فيها: «لقد كان بعدك أنباء وهنبثة وكلام وضجيج وحملات متعددة جُندت كلها ضد صاحبك بغية تحطيمه… ابتدأت الحملات في أوساط الجماعة التوجيهية المشرفة على الاضواء أو بالاحرى لدى بعضهم ومن يدور في فكلهم فأخذوا يتكلمون وينتقدون ثم تضاعفت الحملة واذا بجماعة تنبري من أمثال (حسين الصافي) – ولا أدري ما اذا كانت هناك علاقة سببية وارتباط بين الحملتين أو لا – تنبري هذه الجماعة… فتذكر عني وعن جماعة ممن تعرفهم شيئاً كثيراً من التهم من الامور العجيبة» ويكتب أيضاً: «فقد حدثني شخص في الكاظمية انه اجتمع في النجف الاشرف فأخذ يذكر عني له سنخ التهم التي كالها حسين الصافي من دون مناسبة مبررة، وعلى كل حال عسى أن يكون له وجه صحة في عمله إن شاء اللّه»30.

ومن المؤسف ان أساليب محاربة الشهيد الصدر تنوعت وتعددت جبهاتها، وكان أمضاها وأعنفها تلك السهام التي تنطلق من داخل الحوزة في النجف الاشرف بعد تصديه للمرجعية العامة31، فقد ذكر الشيخ النعماني «ان أحد العلماء جاء الى بيت السيد الشهيد، وكان يتكلم بانفعال وعصبية ويحاسب السيد الشهيد على تصديه للمرجعية وطبعه الفتاوى الواضحة، وقد سجل نتائج تلك المحادثات من خلال رسالة بعثها الى أحد تلامذته»32.

وبلغت الوقاحة ببعضهم ان يبعث برسالة الى الشهيد الصدر أيام الاحتجاز مضمونها «اننا نعلم ان الحجز مسرحية دبّرها لك البعثيون، وأنت تمثل دور البطل فيها، والغرض منها اعطاؤك حجماً كبيراً في أوساط الامة، اننا نعلم انك عميل لامريكا، ولن تنفعك هذه المسرحية»!! فما كان من الشهيد الصدر الا ان قبض على لحيته ودموعه تسيل، وهو يقول: «لقد شابت هذه من أجل الاسلام، أفأُتّهم بالعمالة لأمريكا، وأنا في هذا الموقع؟!»33.

 معالم مدرسة الشهيد الصدر

تعرض الفكر الاسلامي الحديث لشيء من الاضطراب في الرؤية ولا سيّما ذلك الفكر الذي ظهر في النصف الاول من القرن العشرين، بعد هيمنة روح الانبهار بالتطور العلمي والتقني للغرب، فتمحورت جهود الاسلاميين على تبرير المفاهيم الاسلامية، بالاستناد الى النظريات والفرضيات المتداولة في الفكر الغربي، وشاعت وقتئذ نزعة تلفيقية راحت تمزج بين العناصر المحلية والعناصر المستعارة من البيئة الأوربية، غير ان هذه المرحلة لم تستمر بعد ان بزغ في سماء الفكر الاسلامي مفكرون روّاد أعادوا للعقل المسلم أصالته واستلهموا المقومات الذاتية للاسلام المتمثلة بالقرآن الكريم والسنة الشريفة والتراث الاسلامي، ولم ينكفئوا على الذات، وانما سعوا للاستضاءة بالقوانين العلمية الحديثة حيثما لزم ذلك. وكان الشهيد الصدر أحد هؤلاء المفكرين الذين اتسم تفكيرهم بالاصالة والعودة الى الجذور. وتميز انتاجهم باعادة بناء العلوم الاسلامية.

وفي الوقت نفسه تجاوز هذا التفكير السطحية وحالة التبسيط الساذجة التي طفحت في كتابات عديدة للاسلاميين، فتوغل تفكير الشهيد الصدر بعمق في دراسة مشكلات الامة واستكناه الأسباب الكامنة وراءها، وراح يقرأ التراث والنصوص المقدسة قراءة معمقة متأنية تغور في مداراتها القصية فتقتنص رؤى جديدة مبتكرة تحاكي متطلبات العصر ومقتضيات الزمان.

مضافاً الى سعيه الحثيث لوصل الفكر بالواقع وتجسير الهواة العميقة بين تعاليم الاسلام وسلوك المسلمين التي نجمت بسبب حالة الفصام النكد بين العلوم الاسلامية وحياة الناس، لما أضحت أصول الدين مجرد مفاهيم ميتافيزيقية محنطة منفصلة عن الحياة، فعمل الشهيد الصدر على استكشاف الابعاد الاجتماعية لأصول الدين، وبرهن على «ان المعنى الحقيقي للايمان ليس هو العقيدة المحنطة في القلب، بل الشعلة الحثيثة التي تتقد وتشع بضوئها على الآخرين»34. وشدد على تظهير البعد الثوري لأصول الدين وشجب المحاولات التي تحنط الايمان، والتي تصيِّر المعتقدات حقائق ميتافيزيقية مجردة بعيدة عن الواقع، واذا ما تجلت في الواقع فانها تختزل الايمان بطقوس فحسب، وأراد لايمان المسلم أن يتحول من طاقة كامنة الى طاقة متحررة، توقظ المسلم وتبعث في روحه فعالية متوثبة، وتنشله من حالة التخلف والضياع، وتسوقه نحو المقاومة والتحدي، وتعيد له الثقة بنفسه وهويته وأرضه وترابه35.

وبغية توظيف الفكر في خدمة قضايا الانسان هبط الشهيد الصدر بالفلسفة من طابعها التجريدي النظري البحت وحاول ان يبرز ارتباطها بالحياة الاجتماعية، وهذا ما نلاحظه بوضوح في كتاب «فلسفتنا» الذي كان أول عمل مهم له نشره سنة 1959 م، فانه مهَّد لهذا الكتاب الفلسفي ببحث تحليلي واسع في تفسير المشكلة الاجتماعية، حلل فيه هذه المشكلة وأسبابها وتحدث عن الاجابات والحلول التي ساقها الانسان في طوال تاريخه لها واخفاق هذه الحلول ثم انتهى للحديث عن التعليل الصحيح للمشكلة الاجتماعية الذي يقدمه الدين، وبيان حل الاسلام لهذه المشكلة. وهي المرة الاولى فيما نعلم التي يفتتح فيها مؤلف فلسفي اسلامي بحث المسألة الاجتماعية وجعل هذه المسألة مدخلاً للبحث الفلسفي36.

 نماذج من ابداع الشهيد الصدر

تعدد ابداع الشهيد الصدر بتعدد الحقول التي كتب فيها، ومع ان هذه الحقول امتدت لتشمل غير واحد من المعارف الاسلامية، فان ابداعه تجلى في سائر مؤلفاته، ففي كل واحد منها نلتقي بابتكار يصلح ان يطور كمنهج للبحث في ذلك الموضوع. وان كنا لا نزعم انه جاء بجديد في تمام ما كتب، لانه ليس هناك مبدع أو مفكر يبدأ في كل ميدان ببداية جديدة، وانما المبدع هو الذي يستأنف المشوار الذي تراكمت في مساره جهود الآخرين، وهو عندما يواصل، فتارة يقدم تفسيراً جديداً لبعض المفاهيم والمقولات الموروثة، واخرى يعيد بناء وترميم بعضها الآخر، وثالثة يتوسل لبيانها وتحليلها ببراهين وأساليب مختلفة، ورابعة يلتقط لمعات واضاءات متناثرة، فينظمها ويؤلف منها منظومة واحدة متماسكة، وخامسة ربما يبتكر طريقة جديدة في التفكير يفضي عبرها الي نتائج مغايرة لما ألفه السلف، والأخيرة أعمق تجليات الابداع. ويمكن القول ان الشهيد الصدر تحقق ابداعه في سائر هذه المناشط الخمس، غير ان الحديث عن ذلك لا تتسع له هذه المقالة السريعة. مع ان ذلك لا يمنعنا من اشارات محدودة لشيء من ذلك عبر نقاط، هي:

1- ابداعه في علم الكلام:

منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر تنادت صيحات في العالم الاسلامي تدعو الى اعادة النظر في علم الكلام، واعادة صياغة علوم العقيدة، وكان السيد جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالافغاني أول من أطلق تلك الصيحات ثم واكب صداه بعض تلامذته ومن جاء بعدهم، ولعل أوضح صياغة لهذه المسألة هي ما أفصحت عنها كتابات عبد الرحمن الكواكبي37، فهو وان لم يكن قد تتلمذ مباشرة على السيد جمال الدين، بيد ان دعوة الاخير عبر عنها الكواكبي أفصح تعبير بينما طمسها محمد رشيد رضا. ولم تتبلور صياغة نظرية ناضجة في هذا المضمار الا في مطلع العقد السادس من القرن العشرين على يد العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، ثم تلاه ببضع سنوات الشهيد الصدر الذي فُتحت على يديه معالم نظرية اخرى لصياغة «علم كلام جديد» مضافاً الى ممارسته تجربة تطبيقية في تشكيل علم الكلام الجديد في مقدمته المبتكرة للفتاوى الواضحة التي عمد فيها الى استبعاد المنهج المتداول في علم الكلام التقليدي في الاستدلال على اصول الدين، لأن ذلك الاستدلال كان مبنياً على منهج بعيد عن الحياة اليومية وما تزخر به من استدلالات كثيرة يسوقها الانسان كل حين لاثبات العديد من الحقائق في سلوكه العام أو في تفكيره العلمي، فكانت الحاجة ماسة الى ان يكون «منهج الاستدلال على وجود الصانع الحكيم هو المنهج الذي نستخدمه عادة لاثبات حقائق الحياة اليومية والحقائق العلمية، فما دمنا نثق به لاثبات هذه الحقائق فمن الضروري أن نثق به بصورة مماثلة لاثبات الصانع الحكيم الذي هو أساس تلك الحقائق جميعاً»38. كما ان مشروع الشهيد الصدر في اعادة تشكيل علم الكلام انصب على تجديد فاعلية الايمان، عبر دعوة المسلم الى اعادة بناء حياته الاجتماعية على اساس التوحيد، بنحو يتحرر فيه التوحيد من كونه فكرة مجردة لا حياة فيها أو تجربة باطنية لا تمت الى الواقع الاجتماعي بصلة، الى فكرة قابلة للتنفيذ، فالرؤية التوحيدية في فكر الشهيد الصدر تستند الى مجموعة أصول مركزية يؤدي بعضها للبعض الآخر، وتتواشج مع ابعاد اخرى تنبثق عنها او تلتقي بها في منظومة واحدة، تعود فيها الفروع بتمامها الى التوحيد، بحيث يكون التوحيد هو المنبع الذي تتفرع عنه تلك الاصول، وتتجسد فيه تلك الابعاد39.

2- ابداعه في التفسير:

ظل المنهج التجزيئي هو المنهج السائد لدى المفسرين منذ ولادة هذا الفن في القرن الأول الهجري، غير أن التطور الجديد في بنية المجتمع والدولة أضحى يتطلب ارساء أُسس منهج جديد في التفسير يستجيب للمستجدات الفكرية والحياتية، ويتجاوز الرؤية المشتتة للحقائق القرآنية، ويعيد نظمها في اطار نظرية موحدة، لأن الفهم التجزيئي للآيات كان «يقف دائماً عند حدود فهم هذا الجزء أو ذاك من النص القرآني ولا يتجاوز ذلك غالباً، وحصيلة تفسير تجزيئي للقرآن تساوي على أفضل تقدير مجموعة مدلولات القرآن الكريم ملحوظة بنظرة تجزيئية أيضاً، أي انه سوف نحصل على عدد كبير من المعارف والمدلولات القرآنية، ولكن في حالة تناثر وتراكم عددي دون ان نكتشف أوجه الارتباط، دون أن نكتشف التركيب العضوي لهذه المجاميع من الافكار، دون أن نحدد في نهاية المطاف نظرية قرآنية لكل مجال من مجالات الحياة»40.

ولو أردنا ان نؤرخ لحظة ولادة هذا اللون من التفسير، فسنجد ان المرحوم الدكتور محمد بن عبد اللّه درّاز هو صاحب المحاولة التطبيقية الاولى، اذ اختار لاطروحة الدكتوراه التي قدمها بالفرنسية من باريس، دراسة النظرية الاخلاقية في القرآن مقارنة بالنظريات الاوربية، واصطلح على المنهج الذي اتبعه في تدوين هذه الاطروحة «النظام المنطقي» وهو ما يوازي مصطلح «التفسير الموضوعي» عند الشهيد الصدر41.

لكن انجاز الشهيد الصدر برز في صياغة نظرية ذات اطار منهجي محدد لهذا اللون من التفسير، ثم ممارسة تطبيقات نموذجية لها بعد الفراغ من بنائها، بوسعنا القول انها المرة الاولى التي تتشكل فيها أُسس وملامح واضحة لهذه الطريقة في التفسير، تبتعد فيها عن الفوضى المنهجية التي تخبط فيها كل من يجمع بضعة آيات ثم يجمع تفسيرها تجميعاً كمياً فيصطلح على محاولته خطأ …التفسير الموضوعي».

3- ابداعه في أصول الفقه:

أصول الفقه من العلوم التي ابتكرها المسلمون، ولم يحاكوا بها العلوم في حضارات اخرى، وكأي فن بدأ هذا العلم بداية بسيطة ثمن ما فتئ ان نما وتطور واستطال افقياً ورأسياً، وأدى اقفال باب الاجتهاد عند المذاهب الاربعة الى توقف تطور هذا العلم، بينما واصل مساره التكاملي في الحواضر العلمية لمدرسة أهل البيت(ع)، خاصة منذ القرن الثالث عشر الهجري أي منذ عصر الشيخ الانصاري الذي اعتبره الشهيد الصدر رائداً لأرقى مرحلة من مراحل العصر الثالث – وهو عصر الكمال العلمي – وهي المرحلة التي يتمثل فيها الفكر العلمي منذ أكثر من مئة سنة حتى اليوم 42، وبعد الشيخ الانصاري واصل مساره تلامذته الذين تميّز منهم الشيخ الاخوند الخراساني والميرزا محمد حسن الشيرازي، ثم جاء بعد الخراساني تلامذته الثلاثة، وهم الشيخ

محمد حسين الاصفهاني والشيخ محمد حسين النائيني والشيخ آقا ضياء العراقي، الذين برعوا في أصول الفقه وساهم كل واحد منهم بآراء ونظريات مهمة فيه. وكان الشهيد الصدر تلميذاً للسيد الخوئي الذي هو تلميذ هؤلاء الاعلام الثلاثة، فبدأ باستيعاب تراث أسلافه، ثم انتقل الى مرحلة المراجعة والتقويم لهذا التراث، والتي قادته للابتكار، وفيما يلي تعداد عاجل لبعض عناوين ابداعاته:

أ – نظريته الجديدة في تفسير الأحكام الظاهرية بانها: «خطابات تعيّن الاهم من الملاكات والمبادئ الواقعية حين يتطلب كل نوع منها الحفاظ عليه بنحو ينافي ما يضمن به الحفاظ على النوع الآخر»43.

هذه النظرية وظفها في حل غير واحدة من الاشكالات، والتي من ابرزها كيفية الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، على اساس بيان نوع من التزاحم وهو «التزاحم الحفظي» في مقام حفظ ملاكات الاحكام الواقعية في صورة شك المكلف.

ب – صياغة نظرية محددة المعالم في سيرة المتشرعة وسيرة العقلاء:

بينما كان المشهور من الاصوليين يبحثها استطراداً في سياق مباحث اخرى من دون ان يكتشف أسسها وحدودها44.

ج – نظرية التعويض:

وهي نظرية تتصل بالبحث الرجالي، غير انه بحثها في علم الاصول في مبحث حجية خبر الواحد، وتعني هذه النظرية امكانية تعويض المقطع الضعيف من السند – في بعض الحالات – بمقطع آخر، وبحسب تعريف الشهيد الصدر «هي فرض التصرف في السند اما باعتبار المقطع الاول بما فيه من نقطة الضعف، أو باعتبار المقطع الثاني بما فيه من نقطة الضعف، أو باعتبار تمام السند واستبداله بسند آخر»45.

6- صياغة نظرية «حق الطاعة»:

في مقابل نظرية «قبح العقاب بلا بيان» التي تبناها مشهور الاصوليين. وذلك على اساس ما انتهى اليه في مبحث «حجية القطع» وكيف ان هذه الحجية ترتبط اثباتاً ونفياً بمولوية المولى وليس بذات القطع بما هو قطع46.

ه – نظرية القرن الاكيد في الوضع:

وهي النظرية التي فسّر فيها العُلقة الوضعية بين الالفاظ والمعاني وكيفية دلالة اللفظ على المعنى7 باعتبار «ان الوضع قرن مخصوص بين تصور اللفظ وتصور المعنى بنحو أكيد، لكي يستتبع حالة اثارة أحدهما للآخر في الذهن»47.

و – ابطال حكومة الاصول بعضها على بعض حينما تكون متوافقة في النتيجة، كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدة الطهارة48.

ز – امكان ورود الترخيص في جميع أطراف العلم الاجمالي:

مضافاً الى تحقيقات اخرى في مورد العلم الاجمالي، مثل عدم جريان اصالة الطهارة في ملاقي بعض أطراف الشبهة المحصورة49.

بقي ان نشير الى ان البحث الفقهي وطأ أرضاً بكراً على يد الشهيد الصدر. حينما تحركت عملية الاستدلال لديه نحو فقه النظرية فارتقت عملية الاستنباط نحو ذرى لم تدركها من قبل من لدن الفقهاء السابقين، وهذا ما نراه في الجزء الثاني من كتاب «اقتصادنا» الذي صاغ فيه نظرية الاسلام في الاقتصاد، و «البنك اللا ربوي في الاسلام» الذي بلور فيه نظرية الاسلام في المعاملات المصرفية50.

4- ابداعه في الفلسفة والمنطق:

في مطلع العقد الثاني من حياته، ألف الشهيد الصدر «رسالة في المنطق» وهو لما يتجاوز الحادية عشرة من عمره، أورد فيها مجموعة اعتراضات على المسائل المنطقية51. وبعد عدة سنوات من التحاقه بالحوزة العلمية في النجف أشار عليه استاذه السيد الخوئي ان يدرس الفلسفة الاسلامية بالشكل المتعارف في الحوزة، وطلب من الشيخ صدرا البادكوبي ان يعقد للشهيد الصدر حلقة خاصة يدرسه فيها كتاب «الاسفار الاربعة» لصدر الدين الشيرازي، فاستجاب الشيخ البادكوبي، وانعقدت الحلقة واستمرت خمس سنوات كما قيل52. ولم تنشأ رغبة استاذه السيد الخوئي هذه من الارتياب في موهبة تلميذه الصدر العقلية المتوهجة، ولا من شكه في قابليته ونبوغه في استيعاب آراء الفلاسفة وفهمها، وانما نشأ ذلك من اهتمام الاستاذ بمكانة تلميذه وحماية موقعه العلمي، لان التقاليد المتعارفة في الحوزة تستهجن تعاطي أي فن والتأليف فيه من دون الانتساب الى استاذ معروف، ولا سيما ان كان ذلك الفن من فنون المعقول53.  اما اسلوب الشهيد الصدر في دراسة الاسفار، فانه حسب قول الشيخ البادكوبي «اشترط عليَّ أن لا يتابعني في التدريس الرتيب لهذا الكتاب، بل طلب مني ان يقرأ عليَّ كل يوم صفحات من هذا الكتاب، ويسألني عما أشكل عليه فقبلت، وأنهى دراسته للكتاب بسرعة على هذا الشكل»54 والملاحظة الاساسية التي كان يبديها الشهيد الصدر على اسلوب استاذه البادكوبي هي: ان الشيخ كان يقوم ببيان وتفسير الافكار والآراء الواردة في (الاسفار) من دون ان يمارس تقويمها ونقدها55.

ويبدو ان الاسلوب التحليلي النقدي في دراسة العلوم، الذي يعتمد على «ان قلتَ قلتُ» هو السمة الغالبة بالنسبة للدرس الفلسفي وسائر مناشط الدرس العقلي والشرعي الاخرى في الحوزة، بيد ان هذا الاسلوب اضمحل بالتدريج بالنسبة الى دراسة المعقول والفلسفة بالذات، خاصة في العقود الاخيرة في النجف بعد ان هيمنت آراء صدر الدين الشيرازي على تفكير اساتذة الفلسفة وتلامذتهم، فأصبح هؤلاء الاساتذة ليسوا الا معلمين يمارسون المنهج التلقيني في تعليم الفلسفة من دون تقويم ومحاكمة.

وفي منتصف العقد الثالث من عمره اتجه لتأليف كتاب «فلسفتنا» التي واكب فيها مسار الفلسفة الاوربية برحلة نقدية منذ العصر الاغريقي حتى بداية القرن العشرين، ولا سيما اتجاهاتها المادية التي تبلورت في «المادية الجدلية» لكارل ماركس. وشاء اللّه أن يكون كتاب «فلسفتنا» أشحذ سلاح معرفي تمنطق به الاسلاميون في منازلتهم للتيار الالحادي الذي بات يجتاح البلاد العربية والعراق منها بالذات. من هنا طارت شهرة هذا الكتاب في الآفاق، وظل أهم كتاب ألف باللغة العربية في نقد أسس المادية الجدلية الى اليوم.

وفي العقد الرابع افتتح الشهيد الصدر حقلاً آخر في البحث العقلي لما اتجه لدراسة الاساس المنطقي لتكوين العلم، و «انكب على دراسة البرهان الارسطي، واطلع باستيعاب وعمق على نظريات المنطق الحديث في الاستقراء وأساسه المنطقي (حساب الاحتمال) فأوضح خلال (الاسس المنطقية للاستقراء) تهافت نظرية البرهان الارسطية، كما عالج ينبوع أخطاء التفكير الغربي في تفسيره لنظرية الاحتمال، وقدَّم بالتالي نظرية متكاملة في تفسير حساب الاحتمال، أقام على اساسها بناء متكاملاً لفهم جديد لنظرية المعرفة البشرية بكامل تفاصيلها، فثار على ارسطو في بيئة تقدس نظرية القياس الارسطية، وهضم قمة الانتاج الغربي، واقفاً على نقاط الضعف في تفكير أساتذة المنطق الحديث أمثال راسل وكينز، وأعطى للبشرية طرازاً جدبداً من التفكير»56 غير ما كان معروفاً بين المذهبين العقلي والتجريبي، ويمكن القول ان ولادة هذا المذهب الذي أسماه الشهيد الصدر ب«المذهب الذاتي للمعرفة» يعد واحداً من أعظم مكتسبات المعقول الاسلامي في العصر الحديث.

ضياء الدين أحمد (عبد الجبار الرفاعي)

الهوامش

(1) مباحث الاصول، تقريراً لابحاث سماحة آية اللّه العظمى الشهيد محمد باقر الصدر، تأليف: السيد كاظم الحائري، قم، 1407 هجري (ترجمة حياة السيد الشهيد الصدر ص 11 – 173).

(2) نخبة من الباحثين، محمد باقر الصدر، دراسات في حياته وفكره، لندن، دار الاسلام، 1416 هجري – 1996 م، 766 ص.

(3) قضايا اسلامية، العدد الثالث (1417 هجري 1996 م)، 638 ص (محور العدد: فكر الامام الشهيد الصدر: قراءات في الابعاد التأسيسية).

(4) النعماني، الشيخ محمد رضا، الشهيد الصدر سنوات المحنة وأيام الحصار، عرض لسيرته الذاتية ومسيرته السياسية والجهادية، قم، 1417 هجري، 350 ص.

(5) الطهراني، آغا بزرك، نقباء البشر في القرن الرابع عشر، مشهد، دار المرتضى، 1404 هجري ص 683.

(6) مجلة النجف، س 1، ع 3، (15 جُمادى الاخرة 1376 هجري 20 كانون الاول 1956 م).

(7) السيد اسماعيل الصدر، ولد في الكاظمية سنة 1340 هجري وهاجر الى النجف الاشرف، تلمذ على يد طائفة من الاعلام، من أبرزهم خاله الشيخ محمد رضا آل ياسين، والسيد أبو القاسم الخوئي، والسيد عبد الهادي الشيرازي، والسيد محسن الحكيم وأجازه بالاجتهاد السيد الشيرازي، ثم عاد الى مسقط رأسه الكاظمية، واسهم بتوجيه الشباب، ونشط في التبليغ والدعوة والتدريس، توفي سنة 1388 هجري، من آثاره: تعليقة على التشريع الجنائي في الاسلام للشهيد عبد القادر عودة (مطبوعة). ومحاضرات في تفسير القرآن، حققها اخيراً العلامة الشيخ سامي الخفاجي وصدرت في قم.

(8) مباحث الاصول، (مصدر سابق)، ص 24.

(9) المصدر السابق، ص 33 – 34.

(10) مجلة صوت الامة، س 2، ع 13 (رجب 1401 هجري).

(11) مباحث الاصول، ص 43، 52.

(12) النعماني، الشيخ محمد رضا، مصدر سابق، ص 80.

(13) مباحث الاصول. ص 47.

(14) النعماني، الشيخ محمد رضا، مصدر سابق، ص 81.

(15) قضايا اسلامية، ع 3 (1417 هجري 1996 م) ص 617.

(16) النعماني، الشيخ محمد رضا. مصدر سابق ص 121.

(17) المصدر السابق، ص 118.

(18) تجارب محمد جواد مغنية، اعداد، عبد

الحسين مغنية، بيروت، دار الجواد، 1400 هجري 1980 م، ص 290.

(19) قضايا اسلامية، ع 3، ص 621 – 622.

(20) النعماني، الشيخ محمد رضا، مصدر سابق، ص 72 – 73.

(21) التاجر هو الصديق الحاج كاظم عبد الحسين صاحب المشاريع الخيرية العديدة.

(22) النعماني، الشيخ محمد رضا، مصدر سابق، ص 116 – 117.

(23) المصدر السابق. ص 113 – 114.

(24) المصدر السابق، ص 114 – 115.

(25) باحث الاصول، ص 49.

(26) النعماني، الشيخ محمد رضا، مصدر سابق، ص 104.

(27) المصدر السابق، ص 134.

(28) المصدر السابق، ص 104 – 105.

(29) حسن، غالب، الشهيد الصدر رائد الثورة الاسلامية في العراق، طهران، وزارة الارشاد الاسلامي، 1402 هجري، ص 33 – 34.

(30) مباحث الاصول، ص 74 – 75.

(31) ذكر السيد محمد الحسيني تمادي بعض الحواشي في مواجهة الشهيد الصدر في بحثه الموسوم: الامام الصدر، سيرة ذاتية. المنشور في: محمد باقر الصدر، دراسات في حياته وفكره، لندن: دار الاسلام. ص 79 – 84.

(32) النعماني، الشيخ محمد رضا، مصدر سابق،

ص 177.

(33) المصدر السابق، ص 108 – 109.

(34) الصدر، السيد الشهيد محمد باقر الصدر، الاسلام يقود الحياة، طهران، وزارة الارشاد الاسلامي، ص 194.

(35) الرفاعي، عبد الجبار، المدلول الاجتماعي لأصول الدين، قضايا اسلامية، ع 3 (1417 هجري 1996 م)، ص 514.

(36) المصدر السابق، ص 510.

(37) انظر بحث «التوحيد أساس الحرية» في: الكواكبي، عبد الرحمن، ام القرى، بيروت: دار الرائد العربي، ط 2. 1401 هجري 1982 م، ص 80.

(38) الصدر، السيد الشهيد محمد باقر، موجز في اصول الدين: المرسل – الرسول الرسالة، تحقيق عبد الجبار الرفاعي، قم، انتشارات سعيد بن جبير، 1417 هجري، ص 63، 128.

(39) المصدر السابق، ص 41، 55.

(40) الصدر، السيد الشهيد محمد باقر، المدرسة القرآنية. بيروت، دار التعارف للمطبوعات ط 2. 1401 هجري 1981 م، ص 80.

(41). كسار، جواد علي. «المنهج الموضوعي: اشارات مقارنة بين درّاز والصدر ومكارم الشيرازي». قضايا اسلامية ع 3 (1417 هجري 1996 م) ص 68 – 87.

(42) مباحث الاصول، ج 1، ق 2، ص 57 – 59.

(43) الصدر، السيد الشهيد. دروس في علم الاصول: بيروت، دار الكتاب اللبناني، ط 1، 1978 م، ح 3، ج 1، ص 30 – 31.

(44) المصدر السابق، ص 183 – 193. وبحوث في علم الأصول: مباحث الحجج والأصول العملية. للسيد محمود الهاشمي، تقريراً لأبحاث آية الله العظمى السيد الشهيد محمد باقر الصدر. قم: المجمع العلمي للشهيد الصدر، 1405 هجري ج 1، ص 233 – 248.

(45) مباحث الاصول، ج 3، ق 2، ص 238، والعميدي، ثامر، «الجديد في علمي الدراية والرجال عند الشهيد الصدر». قضايا اسلامية ع 3، (1417 هجري 1996 م) ص 109 – 177.

(46) الصدر، السيد الشهيد محمد باقر، دروس في علم الاصول ح 1، ج 1. ص 49 – 54.

(47) المصدر السابق، الحلقة الثانية، ص 79.

(48) المصدر السابق، ص 331 – 442، ومباحث الاصول، ق 2. ج 1. ص 59 – 60.

(49) مباحث الاصول، ص 59 – 60.

(50) الرفاعي، عبد الجبار «منهج التأصيل النظري في فكر الامام الصدر». من كتاب: محمد باقر الصدر، لندن، دار الاسلام، ص 127 – 147.

(51) مباحث الاصول، ص 42.

(52) ذكر ذلك المرحوم السيد عبد العزيز الطباطبائي في مقابلة شخصية معه في قم في 1 رجب 1416 هجري

(53) ذكر ذلك الشيخ محمد رضا الجعفري في مقابلة شخصية معه في قم في 15 رجب 1416، كما ذكر المرحوم الطباطبائي: (انه عندما صدر كتاب «فلسفتنا» تساءل بعض الفضلاء في الحوزة الذين التقوا في منزل ابن الميرزا النائيني، هل درس محمد باقر الصدر الفلسفة كي يؤلف في الفلسفة؟ فأجابهم الشيخ صدرا البادكوبي الذي كان حاضر المجلس: لقد حضر عندي محمد باقر الصدر ودرس «الاسفار» خمس سنوات، ففوجىء معظم الحاضرين بهذا النبأ.

(54) الاشكوري، السيد نوري. «مقال حول استاذه الشهيد الصدر». مجلة الجهاد. ع 13.

(55) مقابلة الشيخ الجعفري المذكورة سلفاً.

(56) آل حيدر، حيدر. ماذا جاء حول كتاب فلسفتنا للشهيد الصدر؟، قم. مكتب الاعلام الاسلامي 1403 هجري. ص 47.