لم يُعرف عن الشهيد الصّدر كونه مفسراً، ولم يترك أثراً تفسيرياً ضخماً كما هو المألوف في الاشتغال بالتفسير التجزيئي، إلا أنه ترك أفكاراً مهمة في هذا المضمار وقد كتب عدة أبحاث:
1ـ القرآن الكريم وأسماؤه.
2ــ نزول القرآن الكريم.
3ـ كيفية نزول القرآن على النبي (ص).
4ـ أسباب النزول.
5ـ المكي والمدني.
6ـ إعجاز القرآن.
7ـ التفسير والتأويل.
8ـ حول التفسير ومراحله وتطوره.
وقد ضمَّت هذه الأبحاث في كتاب (علوم القرآن) لغرض تدريسه في كلية (أصول الدين) في بغداد وأتمة السيد محمد باقر الحكيم.
9ـ الحرية في القرآن.
10ـ العمل الصالح في القرآن.
هذا فضلاً عن شرح آرائه في المنهج الموضوعي في تفسير القرآن.
التفسير، مراحله، واتجاهاته:
التفسير اصطلاحاً هو: علم يبحث فيه عن القرآن الكريم بوصفه كلاماً لله تعالى.
وبهذا الاعتبار يتميز عن علم (الرسم القرآني) الذي يعنى بكلامه تعالى من حيث أنه حروف، فيما يتميز عن علم (القراءة والتجويد) بوصفه معنياً بقراءة الكلام الإلهي.
وكلامه تعالى الذي اشتمل عليه القرآن الكريم وإن كان نزل بلسان عربي مبين، إلاّ أنَّ ذلك لا يعني ـ بالضرورة ـ أن يكون العرب متوفرين على فهمٍ كاملٍ وشاملٍ له، لأن كون الشخص من أبناء لغةٍ معينةٍ لا يعني إطلاعه عليها إطلاعاً شاملاً، واستيعابه لمفرداتها وأساليبها في التعبير، وفنونها في القول، وإنما يعني فهمه للّغة بالقدر الذي يدخل في حياته الاعتيادية، هذا مضافاً إلى أنَّ فهم الكلام واستيعابه لا يتوقف على المعلومات اللغوية فحسب، بل يتوقف إضافة إلى ذلك على استعداد فكري خاص، ومرانٍ عقلي يتناسب مع مستوى الكلام ونوع المعاني التي سيق لبيانها. كما أنَّ عملية فهم القرآن لا يكفي فيها النظر إلى جملة قرآنية، أو مقطع قرآني، بل كثيراً ما يحتاج فهم هذا المقطع أو تلك الجملة إلى مقارنة بغيره مما جاء في الكتاب الكريم، أو إلى تحديد الظروف والملابسات.
إذاً كان فهم القرآن الكريم يومذاك فهماً ساذجاً، تعوزه الدقة والتحقيق والتأمل الفكري، خاصة مع قيمومة النبي محمد (ص)، إلاّ أنَّ حاجة المسلمين إلى فهم القرآن بشكل أعمق سرعان ما تعمقت بعد وفاة النبي محمد (ص)، خاصة في ظل ظروف التوسع الإسلامي، وانتشاره في صفوف الأمم غير العربية التي لم تتوفر على أدنى مستوى لفهم القرآن، مضافاً إلى أنّ الخبرة الخاصة بالقرآن التي توفر عليها العرب أخذت بالتضخم والنمو نتيجة الشعور المتزايد بالحاجة إلى فهم القرآن، ومواجهة المشاكل الجديدة على ضوء مفاهيمه وأفكاره.
وتلبية مثل هذه الحاجة وتغطيتها تفتقر إلى قفزة نوعية، لا تتوافر في (الكادر) القرآني – إن صح التعبير – شروطها ومقدماتها، فإننا لو رجعنا إلى الوراء للتعرف على ثقافة المسلمين يومذاك لوجدنا أنها لا تتعدى حياتهم الاعتيادية، دون أن تبرز أية مظاهر توحي بالنضج الفكري، فاقتصر فهمهم للقرآن على ما اصطدم منه بحياتهم، على مستوى اللغة، أو على مستوى الحوادث التي شكّلت مناسبة صالحة لنزول عدد من الآيات، فضلاً عن عدد آخر من الآيات جاء في سياق الرد على مظاهر متخلفة شائعة.
ولكن شيوع ثقافة قرآنية ساذجة في حياة المسلمين، لا ينفي وجود ثقافة قرآنية عميقة وشاملة وناضجة، بل الأمر على العكس تماماً، وهو ما يؤكده المنهج التعليمي الذي سار عليه النبي (ص) في تعليم القرآن الكريم وتفسيره، المنهج الذي فرضته طبيعة الأشياء – على رأي الشهيد الصدر – وأوحت به حياة النبي (ص) المثقلة بالأعمال والأحداث، في ظرف زمني قصير، فاعتمد (ص) في تعليم القرآن وتفسيره للمسلمين مستويين مختلفين أحدهما المستوى العام الذي يفي بالحاجة الآنية، ومتطلبات الموقف العلمي في حياة المسلمين. وثانيهما المستوى الخاص الذي اشتمل على تفسير القرآن بأكمله بقصد إيجاد (النخبة) الصالحة لحمل تراث القرآن الكريم، والمندمجة به اندماجاً مطلقاً، بالدرجة التي تتيح لها أن تكون مرجعاً للأمة الإسلامية في فهم القرآن الكريم.
ومهما يكن من أمر فقد تأكدت الحاجة بعد وفاة النبي (ص) إلى فهم القرآن الكريم والتعمق فيه، على خطى وضع اللبنة الأولى لبناء علم جديد في حياة المسلمين الفكرية، وهو ما سمي فيما بعد بعلم التفسير.
ومن خلال قراءة تاريخية لتطور علم التفسير عند المسلمين، يمكن تقسيم المراحل التي مرَّ بها إلى:
المرحلة الأولى: وهي مرحلة الصحابة، إذ اشتغل عدد منهم عقيب وفاة النبي (ص) في تفسير القرآن الكريم، اشتهر منهم: أبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبو سعيد الخدري، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وكان أشهرهم عبد الله بن عباس، الذي توفر على ثقافة لغوية أهلته للتقدم على أقرانه.
وقد غلب على منهج الصحابة النقل عن رسول الله (ص) بشكل مسند، وربما في حالات أخرى، دونما إسناد. ولوحظ على ما نقل عنهم أنه اشتمل على أسانيد ضعيفة ومضامين منكرة، فضلاً عن غلبة المشكلة اللغوية يومذاك.
ويمكن تحديد المقطع الزمني لهذه المرحلة ابتداء بوفاة النبي (ص) أو قبيل ذلك ـ بقليل ـ وانتهاء إلى ما بعد منتصف القرن الأول الهجري.
المرحلة الثانية: مرحلة التابعين، وهي الطبقة التي تلت المفسرين من الصحابة، وقد اشتهر عدد منهم في هذا المجال، مثل: مجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وضحاك، وعدد آخر.
ويمكن تحديد المقطع الزمني لهذه المرحلة ابتداء من نهاية مرحلة الصحابة إلى منتصف القرن الثاني الهجري.
وقد غلب على منهجهم النقل عن النبي (ص) أو الصحابة، مع خلو نقلهم من الأسانيد في أحيان أخرى.
المرحلة الثالثة: وهي المرحلة التي ظهر فيها (المؤلفون) في التفسير من أمثال: سفيان بن عيينة، وشعبة بن الحجاج، ولعل أشهرهم ابن جرير الطبري المشهور، وقد استمرت هذه المرحلة إلى مطلع القرن الرابع الهجري.
المرحلة الرابعة: وهي مرحلة ظهرت فيها التفاسير العلمية، وفقاً لتنوع المشارب المعرفية، والاختصاصات الفكرية. وغلب في هذه المرحلة على التفاسير طابع الاهتمام بعلوم بعينها، كالنحو والبلاغة وعلم الكلام، الأخبار، ولعلّ من أشهر التفاسير في المرحلة تفسير الكشاف للزمخشري، والتفسير الكبير للفخر الرازي، وتفسر الثعلبي، وتفسير القرطبي، وتفاسير أخرى خلطت بين عدة علوم، ولم تقتصر على نوع معرفي واحد.
ويمكن الإشارة إلى أن مراحل التفسير عند المسلمين الشيعة تختلف عما عليه عند أهل السنّة، إذ استمرت مرحلة النقل عن الأئمة من أهل البيت نحواً من ثلثمائة سنة وفّرت لهم أحاديث كثيرة جداً، تنتمي سنداً ـ في النهاية ـ إلى رسول الله (ص) وهو حصيلة الاتجاه الخاص في التعليم الذي اتبعه (ص) لتعليم أهل بيته (ع). وقد تلت هذه المرحلة، مرحلة أوائل المفسرين، وهي مرحلة غلب عليها النقل عن رجال المرحلة الأولى التزاماً بالأسانيد. ثم ما لبث فيما بعد أن ظهرت التفاسير العلمية كما هو عند أهل السنة.
ومهما يكن من أمر، فقد بدا التطور ـ بشكل عام ـ واضحاً جلياً في حركة التفسير، تمخض عنه تراث فكري كبير أغنى المكتبة القرآنية، وبدا التنوع حقيقة ثابتة أملاها هذا التطور على مستوى المنهج والمضمون.
الشهيد الصدر يتابع معطيات هذا التطور فيقول: “”لا شك في تنوع التفسير، واختلاف مذاهبه، وتعدد مدارسه، والتباين في كثير من الأحيان بين اهتماماته واتجاهاته، فهناك التفسير الذي يهتم:
– بالجانب اللفظي والبلاغي من النص القرآني.
– وهناك التفسير الذي يهتم بجانب المحتوى والمعنى والمضمون.
– وهناك التفسير الذي يركز على الحديث ويفسر النص القرآني بالمأثور عنهم (عليهم السلام) أو المأثور عن الصحابة والتابعين.
– وهناك التفسير الذي يعتلج العقل أيضاً كأداة من عمق التفسير وفهم كتاب الله سبحانه وتعالى.
– وهناك التفسير المتحيز الذي يتخذ مواقف مذهبية مسبقة، يحاول أن يطبق النص القرآني على أساسها.
– وهناك التفسير غير المتحيز الذي يحاول أن يستنطق القرآن نفسه ويطبق الرأي على القرآن، لا القرآن على الرأي.
إلى غير ذلك من الاتجاهات المختلفة في التفسير الإسلامي””(1).
إنَّ هذه الاتجاهات المتباينة والمتنوعة بغض النظر عن مدى مصداقية بعضها، جاءت في سياق حركة دؤوبة، وتواصل مستمر مع كتاب الله تعالى، إلاّ أنَّ هذا التطور سرعان ما كفّ عن الاستمرار، وعجز عن مواصلة (المشوار) مع تفاقم الحاجة إلى فهم جديد للقرآن، في ظل بروز المعطيات الفكرية الجديدة للانتصارات التي حققتها المناهج المعرفية الحديثة، ونأى عنها المسلمون، ونأت عنهم.
لقد توقفت حركة التفسير عن الإبداع، والتمست طريقاً دائرياً، لا يفضي إلى نتائج عميقة وخطيرة، وبدا (المفسر) اليوم إما شارحاً أو خطيباً على حد تعبير بعض الباحثين المعاصرين.
وفي ظل هذه الأجواء طرح الإمام الشهيد الصدر (منهجاً) جديداً لتثوير حركة التفسير من جديد وانتشالها من (الأزمة) ذلك هو المنهج الموضوعي في التفسير، ولم يُعط الشهيد الصدر الفرصة الكافية لكتابة هذه الأفكار وتعميقها وتطويرها، فاستشهد وهي مسجلة بصوته على أشرطة (صوتية)، نقلت حرفياً ثم طبعت لتكون في متناول العلماء والباحثين. وهي عبارة عن محاضرات ألقاها عام (1979م/ 1399ه) على كبار العلماء في النجف الأشرف من تلامذته وغيرهم.
ننبه إلى أن عدداً من الكتابات ظهرت منذ وقت مبكر، حاولت التعرف على مفاهيم قرآنية من قبيل (الإنسان في القرآن الكريم)، و(أسلوب الدعوة في القرآن) و(معالم الحكومة الإسلامية) و.. إلاّ أن هذه الكتابات لم تكن منهجاً في التفسير بقدر ما كانت منهجاً في الثقافة الإسلامية طمحت إلى الردّ على تحديات الفكر الوافد، ولذلك بقيت خارج إطار (علم التفسير) بالرغم من ظهورها المبكر نسبياً.
وعلاقة الشهيد بالتفسير الموضوعي مبكرة سبقت العام الذي وضع فيه (الهيكلية) العامة للتفسير الموضوعي، فضلاً عما طرحه مبكراً في كتابه (فدك في التاريخ)، ودراسته حول ما أسماه بإرث المال في القرآن الكريم، وإرث النبوة، وقد كتب الشهيد الصدر عدة مقالات في السياق نفسه، حيث كتب (الحرية في القرآن)، (العمل الصالح في القرآن)
وقد أشار إلى التفسير الموضوعي بشكل واضح وصريح فيما كتبه كمقرر لمادة علوم القرآن لطلاب كلية أصول الدين ببغداد، وأتمه تلميذه السيد محمد باقر الحكيم، وقد نشر في مجلة رسالة الإسلام، ثم نشر مؤخراً بعنوان (دروس في علوم القرآن) وهذا الفصل الذي عُنون بــا(التفسير الموضوعي) وإن كان كتب ـ كما يبدو ـ بقلم السيد محمد باقر الحكيم إلاّ أنه من وحي أفكار أستاذه الشهيد الصدر.
الشهيد الصدر رصد حركة علم التفسير وتطوره ـ ووجد أن التفسير على الرغم من تنوعه وتباين اتجاهاته، إلاّ أنه ـ من زاوية منهجية ـ ظلَّ أسير منهج واحد، أسماه بالمنهج التجزيئي، ويريد به (المنهج الذي يتناول المفسر ضمن إطاره القرآن الكريم آية فآية، وفقاً لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف)(2)، ويلاحظ أن “المفسر في إطار هذا المنهج يسير مع المصحف ويفسر قطعاته تدريجاً بما يؤمن به من أدوات ووسائل للتفسير، من الظهور أو المأثور من الأحاديث، أو بلحاظ الآيات الأخرى، التي تشترك مع تلك الآية في مصطلح أو مفهوم، بالقدر الذي يلقي ضوءً على مدلول القطعة القرآنية التي يراد تفسيرها مع أخذ السياق الذي وقعت تلك القطعة ضمنه بعين الاعتبار من كل تلك الحالات”(3).
ولم يكن المنهج التجزيئي وليد ساعة، حيث مرّ بمراحل عديدة و”تدرج تاريخياً إلى أن وصل إلى مستوى الاستيعاب الشامل للقرآن الكريم.. وكان قد بدأ في عصر الصحابة والتابعين على مستوى شرح تجزيئي لبعض الآيات القرآنية وتفسير لمفرداتها. وكلما امتد الزمن ازدادت الحاجة إلى تفسير المزيد من الآيات إلى أن انتهى إلى الصورة التي قدّمه فيها ابن ماجه والطبري وغيرهما ممن كتب التفسير في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، وكانت تمثل أوسع صورة للمنهج التجزيئي في التفسير”(4).
وبشأن العوامل التي أسهمت في شيوع الاتجاه التجزيئي للتفسير يقول الشهيد الصدر: “ومما ساعد على شيوع الاتجاه التجزيئي للتفسير وسيطرته على الساحة قروناً عديدة، النزعة الروائية والحديثية للتفسير، حيث أن التفسير لم يكن في الحقيقة وفي البداية إلاّ شعبة من الحديث بصورة أو أخرى، وكان الحديث هو الأساس الوحيد تقريباً، مضافاً إلى بعض المعلومات اللغوية والأدبية والتاريخية، كان هو الأساس الوحيد مضافاً إلى بعض المعلومات التي يعتمد عليها التفسير طيلة فترة طويلة من الزمن”(5)، ثم ما لبث أن تطور التفسير التجزيئي على خلفية تعقد اللفظ وغموضه بمرور الزمن وتقادمه، فضلاً عن ازدياد الفواصل الزمانية وتراكم القدرات والتجارب البشرية.
ومهما يكن من أمر، فقد توقف التفسير التجزيئي في حركته التطورية وكف عن تجديد نفسه، وبدأ يستنفد أغراضه ويعلن نهاية (سيادته). أما الأسباب التي أدت إلى هذه النهاية فيمكن استنتاجها من مطاوي (حديث) الشهيد الصدر، والإشارة إليها على نحو الإجمال، فيما يلي:
1ـ لقد نشأ التفسير في ظل سيادة الحديث نشأة تبعية، وارتبط بما أثر عن الرسول (ص) والأئمة أو الصحابة، التابعين ارتباطاً وثيقاً، عجز التفسير ـ على خلفية هذا الارتباط ـ عن الانطلاق وطي خطوات كبيرة وأشواط بعيدة على طريق الإبداع والإجابة على تساؤلات خارج حدود المأثور، فقد كان التفسير ـ خاصة في بداياتة ـ تفسيراً لفظياً لا يطمح إلى أبعد من التعرف على المدلول اللغوي واللفظي للكلمة، وفهم بعض المصطلحات والمفاهيم ذات الارتباط العميق بهذه المداليل.
2ـ ومما أعاق حركة التفسير عن مواصلة التطور، غلبة الأهداف التجزيئية في حياة (المفسر) الذي وقفت رغبته الفكرية عند حدود هذا الجزء أو ذاك من النص القرآني، بقصد الكشف عن المدلول اللفظي الذي يحمله هذا النص أو ذاك، وهو وإن لم يستغن في فهمه لهذا الجزء أو ذاك عن أجزاء أخرى من القرآن، إلاّ أنه لا يعنى بها إلاّ في حدود الجزء موضوع بحثه، دونما رغبة في الحصول على تركيب نظري وعضوي لمجاميع فكرية تكشف عن الرؤى القرآنية في مجالات الحياة، بما لهذه الرؤى من قيمومة على الحياة.
وإن اتفق حصول المفسر على مركبٍ نظري ما فإنه ليس مستهدفاً بالذات في ظل سيادة المنهج التجزيئي، وانصرافه إلى نمط خاص من التفكير يعنى بالمفردات هنا أو هناك.
3ـ ومما شكّل مفارقة كبيرة في حركة التفسير (التجزيئي) ظهور التناقضات المذهبية العديدة في الحياة الإسلامية، التي ساعدت عليها طبيعة المنهج التجزيئي، الذي سمح لكل مفسر أن يفتش عن الآيات التي تعضد اتجاهه الفكري دونما التفات إلى الآيات الأخرى، بغية تحقيق مكاسب فكرية تسعفه في معركته مع الخصوم.
4ـ ومن أخطر ما أفرزه المنهج التجزيئي اختفاء قيمومة التصورات القرآنية على مجالات الحياة الإنسانية لجهة تضخم البحث النظري في التفسير وعناية المفسر بمشاكل لغوية أو كلامية، مع غياب الاهتمام بالمشاكل الآنية التي تواجه الإنسان المسلم ويفتش عن حلول لها، ومع ملاحظة المقطع الزمني الذي ساد فيه المنهج التجزيئي في تفسير القرآن (خلال ثلاثة عشر قرناً تقريباً) ندرك مدى الخطورة الحقيقية لهذا الإفراز.
يقول الشهيد الصدر “ساعد انتشار الاتجاه التجزيئي في التفسير على إعاقة الفكر الإسلامي القرآني عن النمو المكتمل وساعد على اكتسابه حالة تشبه الحالات التكرارية، حتى نكاد نقول إن قروناً من الزمن متراكمة مرت بعد تفاسير الطبري والرازي والشيخ الطوسي لم يحقق فيها الفكر الإسلامي مكاسب حقيقية جديدة، وظل التفسير ثابتاً لا يتغير إلا قليلاً خلال تلك القرون على الرغم من ألوان التغير التي حفلت بها الحياة في مختلف الميادين”(6).
التفسير الموضوعي:
ما البديل إذاً ؟! للخروج من الأزمة المنهجية في تفسير القرآن الكريم، وتثوير كتاب الله في حياة الإنسان المسلم من جديد؟
للإجابة على هذا التساؤل طرح السيد الشهيد منهج التفسير الموضوعي أو التوحيدي ويعني به أن المفسر “يبدأ من الموضوع والواقع الخارجي ويعود إلى القرآن الكريم”(7)، وهو توحيدي، “باعتبار أنه يوحِّد بين التجربة البشرية وبين القرآن الكريم، لا بمعنى أنه يخضع القرآن للتجربة البشرية، بل بمعنى أنه يوحد بينهما في سياق بحث واحد، لكي يستخرج نتيجة هذا السياق الموحد من البحث، المفهوم القرآني الذي يمكن أن يحدد موقف الإسلام تجاه التجربة أو المقولة الفكرية التي أدخلها في سياق بحثه”(8)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يسمى موضوعياً ” باعتبار أنه يختار مجموعة من الآيات تشترك في موضوع واحد”(9)، وهو توحيدي “باعتبار أنه يوحد بين مدلولات هذه الآيات ضمن مركب نظري واحد ليخلص بالتالي إلى تحديد إطار نظرية واضحة ترسمها تلك المجموعة القرآنية ككل، بالنسبة إلى ذلك الموضوع”(10)
والتوفر على صيغ نظرية قرآنية، أمر بالغ الأهمية، إذ “هناك اليوم ضرورة أساسية لاستخلاص وتحديد هذه النظريات، ولا يمكن أن يفترض الاستغناء عن ذلك. إذ أن النبي (ص) كان يعطي هذه النظريات ولكن من خلال التطبيق، ومن خلال المناخ القرآني العام الذي كان بينّه في الحياة الإسلامية، وكان كل فرد مسلم في إطار هذا المناخ، يفهم هذه النظرية ولو فهماً إجمالياً إرتكازياً، لأن المناخ والإطار الروحي والاجتماعي والفكري والتربوي الذي رسمه النبي (ص)، كان قادراً على أن يعطي النظرة السليمة والقدرة السليمة على تقييم المواقع والمواقف والأحداث”(11).
وقد غابت هذه الأجواء، وتغيرت معالم هذا المناخ، على خلفية التقادم الطويل، “حيث لا يوجد ذلك المناخ، وذلك الإطار، تكون الحاجة إلى دراسة نظريات القرآن والإسلام، حاجة حقيقية ملحة، خصوصاً مع بروز النظريات الحديثة، من خلال التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي بكل ما يملك من رصيد كبير وثقافة متنوعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية، وحيث وجد الإنسان المسلم نفسه أمام نظريات كثيرة في مختلف مجالات الحياة، فكان لابد لكي يحدد موقف الإسلام من هذه النظريات، أن يستنطق نصوص الإسلام، ويتوغل في أعماق هذه النصوص لكي يصل إلى الحقيقة سلباً وإيجاباً، لكي يكتشف نظريات الإسلام التي تعالج نفس هذا الموضوع التي عالجتها التجارب البشرية”(12). والتفسير الموضوعي هو وحده القادر على الإجابة والردّ على تحدّيات الفكر المعاصر، بما يتوفر عليه من منهج متكامل، وهدف كبير غير محدود في إطار مقطع قرآني واحد.
مقارنة:
ولعلّ بيان أوجه الافتراق بين المنهج الموضوعي والتجزيئي، تعزز ما انتهى إليه الشهيد الصدر بصدد قدرة المنهج الموضوعي على الوفاء بمتطلبات الحياة المعاصرة.
وقد حدد الشهيد الصدر أوجه الافتراق بين المنهجين، في نقطتين أساسيتين: نذكرهما على نحو الإجمال:
1ـ غلبة الطابع السلبي على دور المفسرين وفقاً للمنهج التجزيئي، لأنه يبدأ بتناول النص القرآني، دون أي افتراضات سابقة، ويحاول أن يحدد المدلول القرآني، على ضوء ما يسعفه به اللفظ، مع ما يتاح له من القرائن المتصلة والمنفصلة. ويعتقد السيد الصدر أن دور النص القرآني، في هذه العملية دور المتحدث، ودور المفسر، دور المصغي، يكتفي فيه المفسر بالاصغاء، فيما لا يكتفي المفسر وفقاً للمنهج الموضوعي بهذا الدور ولا يقنع به، بل يرقى إلى درجة أرفع، يدخل معها في حوار مع القرآن لاستنطاقه، من خلال واقعه الخارجي وما أنتجه العقل البشري في هذا المجال. “وهو يستهدف من ذلك أن يكتشف موقف القرآن من الموضوع المطروح والنظرية التي بإمكانه أن يستلهمها من النص، من خلال مقارنة هذا النص بما استوعبه الباحث عن الموضوع من أفكارٍ واتجاهات”(13).
2ـ كما يكتفي المفسر وفقاً للمنهج التجزيئي باكتشاف المدلولات التفصيلية وإبرازها دونما عناية بما وراء هذه المدلولات، فيما يطمح المفسر وفقاً للمنهج الموضوعي إلى اكتشاف ما هو أبعد من ذلك، من خلال عملية تركيب عضوي لعددٍ من المدلولات الفكرية، فيما يعرف بالنظرية اليوم، ينطلق المفسر في رحلته الفكرية من الواقع إلى القرآن، ومن القرآن إلى الواقع مرة أخرى، في عملية لإعادة قيمومة الكتاب الكريم على حياة الإنسان المسلم.
المنهج الموضوعي الذي طرحه السيد الشهيد الصدر ثورة منهجية رائدة ومسؤولة في وقت واحد، لا تتوقف آثارها عند حدود الفكر، بل تتعدى إلى الواقع العملي في حياة المسلمين. وهذه الآثار تكفي وحدها لتعزيز أهمية هذا الاتجاه على المستوى الفكري والحياتي بشكل عام.