اتجه النظام العراقي بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران محاصرة النجف الأشرف لنزع دورها العلمي والقيادي في تعبئه الأمة وتهيئتها لخطها الجهادي على المستويين الفكري والسياسي، فاستكمل ما كان قد بدأه منذ عام 1968 من طرد طلبة العلوم الدينية غير العراقيين إلى بلادهم إلى قتل وسجن التلامذة النابهين من خيرة المؤمنين في العراق المسلم.. كما ضيق على المراجع وكبار العلماء ومنعهم حتى من صلاة الجمعة فضلاً عن التدريس.
وأبرز هؤلاء شهيدنا العظيم الشهيد الثالث السيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه الذي منع من إقامة الصلوات في مقام جده أمير المؤمنين (ع) في النجف الأشرف وبقية مساجد المدينة المقدسة ووضعت عليه المراقبة الشديدة لملاحقة طلابه وزوراه فلجأ إلى أسلوب على أشرطة «كاسيت» على غرار ما كان بفعل الثورة الإسلامية السيد الخميني حفظه الله. ووصلت إلى خارج العراق مجموعة أشرطة تحوي أربعة عشر درساً في تفسير القرآن الكريم مع مقدمة هي بمثابة نظرية الشهيد في اعتماد تفسير جديد للقرآن على أساس الموضوعات لا على أساس تسلسل الآيات والسور كما هو مألوف ومعروف في كتب التفاسير والذي سماه «التفسير التجزيئي».
وقد قامت دار التوجيه الإسلامي في بيروت بطبعها ونشرها في كتابعنوانه «مقدماته في التفسير الموضوعي للقرآن».
وبامكاننا أن نعتبر أن هذا الكتاب هو آخر إنتاج الشهيد رحمه الله وهو لم يضعه كتاباً وإنما حديثاً شفوياً مسجلاً.
يعرض الشهيد رحمه الله في مقدمة الدرس الأول لأهم أنواع التفسير المعروفة عندنا حتى اليوم والتي يتجه كل منها اتجاهاً معيناً قد يلتقي مع الاتجاه معيناً قد يلتقي مع الاتجاه الآخر أولاً يلتقي، «فهناك التفسير الذي يهتم بالجانب اللفظي والأدبي والبلاغي من النص القرآني، وهناك التفسير الذي يهتم بجانب المحتوي والمعنى والمضمون، وهناك التفسير الذي يركز على الحديث ويفسر النص القرآني بالمأثور عن الرسول (ص) وأهل بيته (ع) أو عن الصحابة والتابعين «وهناك التفسير الذي يعتمد كأساس من أسس التفسير. وهناك التفسير المتميز الذي يتخذ مواقف مذهبية مسبقة، وهناك التفسير غير المتحيز الذي يحاول أن يستنطق النص القرآني ويطبق الرأي على القرآن لا القرآن على الرأي وهكذا…».
من هذا يمكن أن نبرز اتجاهين رئيسين لحركة التفسير في الفكر الإسلامي ونطلق على أحداهما اسم «الاتجاه التجزيئي في التفسير» وعلى الآخر اسم «الاتجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير».
حسب الاتجاه الأول أي «التجزيئي»، يتناول المفسر ضمن إطاره القرآن الكريم آية فآية وفقاً لتسلسل تدوين الآيات في المصحف فيفسر قطعاته تدريجاً بما يؤمن به من أدوات ووسائل بالقدر الذي يلقي ضوءاً على مدلول القطعة التي يراد تفسيرها مع أخذ السياق الذي وضعت تلك القطعة التي يراد تفسيرها مع أخذ السياق الذي وضعت تلك القطعة ضمنه بعين الاعتبار في كل الحالات.
والتفسير التجزيئي تدرج تاريخاً إلى أن وصل إلى مستوى الاستيعاب الشامل للقرآن الكريم بالطريقة التجزيئية وكان قد بدأ في عصر الصحابة إلى أن انتهى إلى الصورة التي قدم فيها ابن ماجه والطبري وغيرهما كتبهم في التفسير في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع وكانت تمثل أوسع صورة لهذا المنهج.
وهذا المنهج كان يستهدف في الأصل فهم مدلول اللفظ الذي كان في البداية ميسراً لعدد كبير من الناس ثم بدأ اللفظ يتعقد من حيث الخبرات والتجارب وتطور الأحداث والأوضاع من هنا توسع التفسير التجزيئي تبعاً لما اعترى النص القرآني من غموض ومن شك في تحديد مدلول اللفظ حتى تكامل بالطريقة التي نراها في موسوعات التفسير، لأن كثيراً من الآيات بمرور الزمن أصبح معناها ومدلولها اللفظي بحاجة إلى إبراز أو تجربة أو تأكيد ونحو ذلك، وفي هذا السياق نلفت النظر إلى أن المفسر لم يقطع نظره عن سائر الآيات ولا يستعين بها بل يستعين بها كما يستعين بالروايات والأحاديث، ولكن هذه الاستعانة تتم بقصد الكشف عن المدلول اللفظي الذي تجمله الآية المطروحة للبحث.
إن المفسر كان يقف دائماً عند حدود فهود هذا الجزء أو ذلك من النص القرآني ولا يتجاوز ذلك غالباً، وكانت النتيجة أن حصلنا على أعداد كبيرة من المعارف والمدلولات القرآنية، لكن في حالة تناثر وتراكم عددي دون أن نكشف أوجه الإرتباط أو التركيب العضوي لهذه المجاميع من الأفكار.
لقد أدى هذا التناثر ونزعة الاتجاه التجزيئي الى الظهور التناقضات المذهبية العديدة في الحياة الإسلامية، لأنه كان يكفي أن يجد هذا المفسر أو ذلك آية تبرر مذهبه لكي يعلن عنه ويجمع حوله الأنصار والاشياع كما وقع في كثير من المذاهب الكلامية كمسألة الجبر والتفويض والاختيار مثلاً.
المنهج المتقرح:
وهو ما يمكن أن نقول إنه نظرية جديدة لتفسير القرآن الكريم وقد أطلق عليها الشهيد رحمه الله اسم «الاتجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير».
فما هو الرأي في هذا الطرح الجديد؟
يقول رضوان الله عليه:
«هذا الإتجاه لا يتناول: تفسير القرآن آية آية كما في الطريقة التي يمارسها التفسير التجزيئي، بل يحاول القيام بالدراسة القرآنية لموضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية فيبين ويبحث ويدرس مثلاً عقيدة التوحيد في القرآن الكريم أو عقيدة النبوة أو عن المذهب الاقتصادي أو عن سنن التاريخ أو عن السماوات والأرض في القرآن وهكذا..
«ويستهدف التفسير التوحيدي أو الموضوعي من القيام بهذه الدراسات تحديد موقف نظري للقرآن الكريم وبالتالي للرسالة الإسلامية من ذلك الموضوع من موضوعات الحياة أو الكون، فالدراسة الموضوعية هي التي تطرح موضوعاً من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية.. وتتجه إلى درسه وتقييمه من زاوية قرآنية للخروج بنظرية قرآنية بصدده، وبخلاف المفسر التجزيئي فإن المفسر التوحيدي والموضوعي لا يبدأ في عمله من النص بل من واقع الحياة فيركز نظره على موضوع من الموضوعات ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل وما قدمه الفكر الإنساني من حلول وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ومن نقاط فراغ ثم يأخذ النص القرآني، لا ليتخذ من نفسه بالنسبة إلى النص دور المستمع والمسجل فحسب، بل ليطرح بين يدي النص موضوعاً جاهزاً مشرقاً بعدد كبر من الأفكار والمواقف البشرية ويبدأ مع النص القرآني حواراً: المفسر يسأل والقرآن يجيب المفسر على ضوء الحصيلة التي استطاع أن يجمعها من خلال التجارب البشرية النافعة، يستهدف من ذلك أن يكشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح والنظرية التي بإمكانه أن يستلهمها من النص خلال مقارنة هذا النص بما استوعيه الباحث عن الموضوع من أفكار واتجاهات.
من هنا كانت النتائج مرتبطة دائماً بتيار التجربة البشرية لأنها تمثل المعالم والاتجاهات القرآنية لتحديد النظرية الإسلامية بشأن موضوع من مواضيع الحياة، فعملية التفسير الموضوعي عملية حوار مع القرآن الكريم واستنطاق له، وليست عملية استجابة سلبية بل استجابة فعالة وتوظيفاً هادفاً للنص القرآني في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى والحصول على الاجابة القرآنية عليها إن أول أوجه الاختلاف الرئيسية بين الاتجاه التجزيئي في التفسير والاتجاه الموضوعي أن الأول يكون فيه دور المفسر دوراً سلبياً يستمع ويسجل بينما الثاني وظيفته في كل مرحلة وفي كل عصر أن يجمل بينما الثاني وظيفته في كل مرحلة وفي كل عصر أن يحمل كل تراث البشرية الذي عاشه ويضعه بين يدي الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. هنا يلتحم القرآن مع واقع الحياة، لأن التفسير يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن لا أنه يبدأ من القرآن وينتهي في القرآن فيكون عملية منعزلة عن الواقع بل هذه العملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرآن بوصفه القيم والمصدر الذي يجدد على ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة إلى ذلك الواقع فتبقى للقرآن حينئذ قدرته على القيمومة والعطاء المستجد بشكل دائم «قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً».
فعطاء القرآن لا ينفد بينما التفسير اللغوي ينفذ لأن اللغة لها طاقات محدودة وليس هناك تجدد في المدلول اللغوي ولو وجد تجد فلا معنى لتحكيمه على القرآن ولا معنى لأن يفهم القرآن من خلال لغة جديدة أو ألفاظ تحمل مصطلحات جديدة.
إن حالة عدم النفاد تكمن في منهج التفسير الموضوعي لأننا نستنطق القرآن كما قال أمير المؤمنين (ع):
ألا إن منه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم»
نموذج من التفسير على أساس النظرية المقترحة (1)
إن خط علاقات الإنسان مع الطبيعة مختلف مشكلة وقانوناً عن خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، فكل واحد منهما مستقل استقلالاً نسبياً عن الخط الآخر، لكن هذا الاستقلال النسبي لا ينفي التفاعل والتأثير المتبادل إلى حد ما بين هذين الخطين، فلكل منهما لون من التأثير الطردي أو العكسي على الخط الآخر، وهذا التأثير يمكن إبرازه ضمن علاقتين قرآنيتين:
العلاقة الأولى تبرز مدى تأثير خط علاقات الإنسان مع الطبيعة على خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان. والعلاقة الثانية تبرز من الجانب الآخر مدى تأثير علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان على علاقات الإنسان مع الطبيعة.
فبالنسبة للخط الأول.. كلما نمت قدرة الإنسان على الطبيعة واتسعت سيطرته عليها وازداد اغتناءاًَ بكنوزها ووسائل انتاجها، تحققت بذلك امكانية أكبر فأكبر للإستغلال على خط علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، «كلا ان الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى»(2)
هذه الآية تشير إلى هذه العلاقة وهي أن الإنسانية بقدر ما تتمكن وتستقطب الطبيعة وتتوصل إلى وسائل إنتاج أقوى أدوات توليد أوسع تكون انعكاسات ذلك على حقل علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان على شكل امكانيات وإغراءات وفتح الشهية للأقوياء لكي يستغلوا الضعفاء.
إن المجتمع الذي يعيش على الصيد باليد والحجارة لا يمارس أدواراً خطيرة من الاستغلال الاجتماعي وإن كانت هناك امكانية الاستغلال موجودة لكن بشكلها الفردي..أما في الجانب الآخر، في المجتمع المتطور صناعياً استطاع الإنسان أن يخضع الطبيعة لإرادته فوفرت له الآلات المتطورة والمعقدة إمكانات أو بمصطلح الفلاسفة ما بالقوة فكان على الإنسان أن يخرج ما بالقوة إلى ما بالفعل وذلك على عهدة الإنسان ودوره التاريخي على الساحة الاجتماعية، فالإنسان هو الذي الرأسمالي المستغل، فالآلة هي التي تهيء له فرصة تفتح شهيته وتوقظ مشاعره وهنا الفرق بيننا وبين المادية التاريخية التي تعتقد بأن الآلة هي التي تصنع الاستغلال وتصنع النظام المناسب لها ولكننا نحن لا نرى دور الآلة هو دور الصانع وإنما دورها هو دور الإمكانية ودور توفير الفرصة والقابلية. وأما الصانع الذي يتعرف سلباً وإيجاباً، أمانة وخيانة، صموداً وانهياراً إنما هو الإنسان وفقاً لمحتواه الداخلي، ووفقاً لمثله الأعلى ولمدى التحامه مع هذا المثل الأعلى.
هذه هي العلاقة الأولى، وأما العلاقة القرآنية الثانية التي تمثل وتجسد تأثير علاقات الإنسان مع الطبيعة، فمؤداها أنه كلما جسدت علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان العدالة وكلما استطاعت أن تستوعب قيم هذه العدالة وأن تبتعد عن أي ولون من ألوان الظلم والاستغلال، ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة وتفتحت الطبيعة عن كنوزها وأعطت المخبوء من ثرواتها ونزلت البركات من السماء وتفجرت الأرض بالنعمة والرخاء، وهذه العلاقة هي ما شرحه القرآن الكريم في نصوص عديدة، قال سبحانه وتعالى:
«وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً» (الجن – آية 16) .
«ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم (المائدة – آية 66) .
«ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا فتحنا عليهم بركات من السماء الأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (الأعراف – آية 96).
هذه العلاقة مؤداها أن علاقات الإنسان مع الطبيعة تتناسب عكسياً مع ازدهار العدالة في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان، فكلما ازدهرت العدالة أكثر فأكثر ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة، وكلما انحسرت العدالة عن الخط الأول انحسر الازدهار عن الخط الثاني أي أن مجتمع العدل هو الذي يصنع الازدهار في علاقات الإنسان مع الطبيعة ومجتمع الظلم هو الذي يؤدي إلى انحسار تلك العلاقات.
ومن ثم يعود الشهيد رحمه الله فيتعرض للمجتمع الذي يتبنى مثلاً أعلى حقاً كما هو الحال في مجتمع التوحيد وشمولية الوحدة في مجتمع الإيمان بالله العي الأعلى وانتفاء كل الفوارق والحدود وزوال النظرة المحدودة القائمة على العرق أو الجنس أو القومية أو الجغرافية أو الطبقية.
«وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون» (الأنبياء آية 92).
«إن هذه أمتكم أمة واحدؤ وأنا ربكم فاتقون» (المؤمنون آية 52).
ثم الفرق بين هذا المجتمع الذي يتبنى المثل الأعلى الشامل الكامل والمجتمع الذي يتبنى المثل المنخفض المحدود المفرق والظالم والذي يسميه القرآن مجتمع فرعون أو الفرعونية:
«إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً» (القصص – آية 4).
حيث تبنى العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان على أساس الظلم والإستغلال والتجزئة وبعثرة الإمكانيات وهدر الكرامة الإنسانية وتجميدها عن الإبداع وعملية التجزئة للمجتمع في سلم من ست درجات ولكل درجة شاهدها من القرآن الكريم (الدرس الثالث عشر من الكتاب).
ــــــــــــــ
(1) في العدد الثامن من مجلة المنطلق نشرنا واحداً من دروس الكتاب على أساس التفسير الموضوعي هو: السنن التاريخية (الدرس السادس).
(2) سورة الفلق– الآية (6-7).