تمهيد
تفرّد الشهيد محمد باقر الصدر من بين العلماء والمحقّقين في رفضه لنظريّة «قبح العقاب بلا بيان» وتبنّيه نظريّة «حقّ الطاعة»، معتمداً في نفيه كونَ الأولى «عقليّة» على عدم حكم العقل بقبح العقاب مع عدم البيان، ولإثبات نظريّته الخاصة، ذكر دليلين:
الدليل الأوّل: عدمّ تمسّك القدماء بـ«قبح العقاب بلا بيان»:
الدليل الأوّل كان عدم تمسّك الكثير من الفقهاء ـ خاصةً القدماء منهم ـ بهذه القاعدة، إذ لو كانت كذلك لأدركوها واستندوا إليها، وحيث إنّ أحداً لم يتمسّك بها منذ زمن الشيخ الصدوق (381هـ) حتى زمن الشيخ الوحيد البهبهاني (1205هـ)، فهذا يعني أنّها ليست عقليّة [1].
من هنا، يتضّح أنّ «قبْح العقاب» ليست قاعدةً عقليّة كليّة، وهذا يعني الحؤولة دون إمكان توظيفها في جملةٍ من العلوم، من قبيل «الفقه» و«الأصول» و«الكلام» و«التفسير».
ويمكن المناقشة في هذا الدليل من وجوه:
الوجه الأوّل: إنّ عدم إدراك بعضٍ من الفقهاء المتقدّمين لهذه القاعدة وعدم تمسّكهم بها وعدم طرحهم لها لا يمكن أن يكون ـ في نفسه ـ دليلاً على عدم كونها «عقليّة»؛ وذلك لإمكان نجومه عن أسباب عديدة، وعدم إدراك القاعدة العقليّة لا يعني على الإطلاق عدم كونها عقليّةً.
الوجه الثاني: إنّ البحث التاريخي يدلّل على تعرّض القدماء لهذه القاعدة، لكن بتعابير مختلفة كما عند الطوسي في تفسيره حيث قال: «فإنّه لا يحسن من الله تعالى مع ذلك أن يعاقب أحداً إلا بعد أن يعرّفه ما هو لطف له ومصلحة لتزاح علّته..»[2]، ومن الواضح أنّ مراد الشيخ الطوسي من قوله «لا يحسن» «عدم الحسن العقلي»، بمعنى حكم العقل بعدم صحّة معاقبة الله تعالى العبدَ دون حجّة وبيان.
الوجه الثالث: إنّنا نعتقد أنّ عدم طرح قاعدة «قبح العقاب» بشكل واضح ومباشر من قبل متقدّمي الفقهاء لا يرجع إلى عدم إدراكهم لها، بل إلى غناهم عنها، بعد أن كان سبيلهم إلى إثبات البراءة والإباحة العقليّة تمسّكهم بقاعدة «قبح التكليف بلا بيان»، حيث كانت مستندهم في الذهاب إلى البراءة لا «قبح العقاب»، يقول السيّد المرتضى في مقام الاستدلال على البراءة: «وقد كنّا اعتمدنا من بعض كتبنا عند الكلام على هذه الطريقة على أنّ التكليف بلا أمارة مميّزة متقدّمة قبيحٌ، وإنْ عَلِمَ المكلِّف أنّ المكلّف تتّفق الإصابة منه، وضربنا لذلك المثل بمن كلّف غيره أن يخبره بما في البيت من غير أمارة..»[3].
وفي مقام الاستدلال على البراءة العقليّة، تمسّك بعضٌ آخر أيضاً بهذه القاعدة ـ أعني «قبح التكليف بلا بيان» ـ ، أو بقاعدة «قبح التكليف بما لا يطاق»، أو بقاعدة «عدم الدليل دليلٌ على العدم» وأمثال ذلك، ولمّا كان الغرض من إجراء البراءة نفي التكليف والمسؤوليّة والعقاب عن المكلّف، كان من الطبيعيّ تمسّكهم بالأدلّة المتقدّمة لا «قبح العقاب»؛ لأن مفاد «قبح التكليف بلا بيان» مثلاً نفي التكليف عن المكلّف، وهو مقتضى أصل البراءة.
إنّ نفي «العقاب» وإن كان لازماً لنفي «التكليف»، إلا أنّهم وجدوا أنفسهم في غنىً عن التمسّك بقبح العقاب بلا بيان من أجل إثبات براءة الذمّة من التكليف؛ وذلك لانتفاء العقاب تلقائيّاً لدى إجراء «قبح التكليف بلا بيان» بعد أن كانت قاعدة قبح العقاب من لوازم قاعدة قبح التكليف التي لا تنفكّ عنها، وعليه، فعدم تصريح القدماء بقاعدة «قبح العقاب» لا يمكن ـ والحال هذه ـ أن يكون دليلاً على عدم حكم العقل بقبح العقاب.
الوجه الرابع: لو سلّمنا عدم استناد القدماء إلى «قبح العقاب بلا بيان» في مقام إثبات البراءة، إلا أنّهم ـ على أيّة حال ـ ملتزمون بإثبات البراءة والإباحة في مورد الشكّ في أصل التكليف، ودليلهم على ذلك إمّا «قبح التكليف بلا بيان» وإمّا «عدم الدليل دليلٌ على العدم» وإما «قبح التكليف بما لا يطاق» أو غير ذلك من أدلّة البراءة. فكيف يخالف الشهيد الصدر الفقهاءَ قاطبة، من السلف حتى المعاصرين، ذاهباً إلى الاحتياط في الشبهات البدويّة[4].
والسؤال المثار هو أنّه كيف يدّعي حكمَ العقل بذلك مع أنّ أحداً من فقهاء السلف لم يحكم به؟ فإنّ ما أثاره على مسلك «قبح العقاب بلا بيان» يجري بعينه هنا؛ إذ لو كان الاحتياط في الشبهات البدويّة حكماً عقليّاً لحكم به فقهاء السلف، ولو كان الصدر يركن إلى أفكار المتقدّمين ومتبنّياتهم، فلماذا خالفهم في هذا المورد وحكَمَ بالاحتياط؟ والحال أنّ جملةً من الفقهاء مثل الشيخ الصدوق والشيخ الطوسي والسيّد المرتضى وعشرات الفقهاء الآخرين ـ من الماضين حتى المعاصرين ـ قد حكموا بالبراءة في مورد الشبهات البدويّة، حتى أنّ الشيخ يوسف البحراني على الرغم من كونه أخباريّاً، قال بهذا الصدد: «إنّ البراءة الأصليّة على قسمين: أحدهما أنّها عبارة عن نفي الوجوب في فعل وجوديّ إلى أن يثبت دليله، بمعنى أنّ الأصل عدم الوجوب حتّى يثبت دليله، وهذا القسم ممّا لا خلاف ولا إشكال في صحّة الاستدلال به والعمل عليه؛ إذ لم يذهب أحد إلى أنّ الأصل الوجوب..»[5].
هذا لو بنى الصدْر على الاعتماد على آراء المتقدّمين وفتاواهم، أما لو لم يكن بناؤه على ذلك، فكيف يصحّ تمسّكه بعدم التفات المتقدّمين إلى هذه القاعدة للقول بعدم كونها «عقليّة»؟!
وعلى أيّة حال، فقد حكم الفقهاء قاطبةً ـ من السلف حتى المعاصرين ـ بنفي التكليف وتمام آثاره حال فقدان النصّ والدليل ـ أي حال «اللابيان» ـ وأفتوا على وفق البراءة والإباحة العقليّة، ولم يحكموا بالاحتياط إلا إذا تمّت الحجّة على وجود التكليف المحتمل، أمّا في موارد الشبهات البدويّة فقد حكموا بالبراءة، ولم يذهبوا إلى منجزيّة الاحتمال، كما تفيده كلمات المفيد، والمحقق[6].
أمّا الفاضل التوني، فقد نسب القول بالقاعدة إلى المعتزلة، فضلاً عن جملة فقهاء الشيعة[7].
ومن مجموع هذه الكلمات وغيرها، يظهر أنّ أكثر الفقهاء ـ إن لم نقل كلّهم ـ لم يقولوا بتنجيز الاحتمال للتكليف حال فقدان الحجّة والبيان، من هنا قالوا بإجراء البراءة العقليّة في الشبهات البدويّة.
الوجه الخامس: لو فرضنا ـ بناءً على رأي الصدر ـ عدم جريان البراءة العقليّة في الأحكام الشرعية لتعارض قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» مع أصل «حقّ الطاعة» لاقتضائه الاحتياط في موارد احتمال التكليف والشبهات البدويّة، لكن مع ذلك، هل يصلح هذا ليكون دليلاً على نفي إدراك العقل للقاعدة نفياً كلّياً؟ وهل يكفي هذا المقدار لنفي أساسها؟ ولو فرضنا عدم جريانها نتيجة معارضة «حقّ الطاعة» لها، فيكف يمكن أن يكون هذا دليلاً على عدم جريانها عند الموالي العرفيّين والأجهزة التقنينيّة البشريّة؟ ففي هذه الموارد ليس هناك حقّ طاعة كي يعارض القاعدة ويسقطها عن الحجيّة، من هنا، نجد أنّ عرف الناس والموالي العرفيّين والروابط الاجتماعيّة قائمة على الاستناد إلى هذه القاعدة لرفع العقوبة ونفي التكليف، وهذا ما يقرّره الشيخ الأنصاري في مقام الاستدلال على القاعدة[8].
الوجه السادس: إنّ وقوع التعارض بين القاعدة و«حقّ الطاعة» ـ على ما يقرّره الشهيد الصدر ـ يعتبر في حدّ نفسه اعترافاً ضمنيّاً بجريان القاعدة لولا تعارضها مع أصلٍ آخر، وسقوط قاعدةٍ بعد المعارضة لا يمكن أن يكون دليلاً على عدم ثبوتها، بل على العكس من ذلك فإنّه دليلٌ على ثبوتها ضمن دائرة محدودة؛ لأن التعارض فالتساقط فرع الثبوت.
الوجه السابع: تفيد بعض الآيات القرآنية أنّ القاعدة أصل عقلائي رائج حتى بين الأمم السالفة، وأنّها كانت مستنداً في أيدي الناس في مقام احتجاجهم، وهنا نشير إلى بعض هذه الآيات، منها:((وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى< (طه: 134)، >يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ< (المائدة: 19)، >رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)) (النساء: 165).
ومن خلال هذه الآيات وآيات وروايات أخرى مشابهة، نجد أنّ الناس كانوا يحتجّون على عدم عملهم ـ ومن ثمّ على عدم استحقاق العقاب ـ بعدم وجود بيان على التكليف وعدم تماميّة الحجّة، وهذه الاحتجاجات تعدّ إشارةً إلى حكم العقل بالقاعدة، وأنّهم كانوا يدركونها، وإلا فما معنى أن يعتبر الله تعالى «عدم البيان» حجّةً «للناس» «على الله»؟ فإنّ هذا الأمر لا يستقيم إلا أن تكون هذه الحجّة حجّةً «عقليّة» لا «تعبّديّة شرعيّة».
إلى هنا، نكون قد فرغنا عن مناقشة الدليل الأوّل الذي أقامه الشهيد الصدر على عدم كون القاعدة عقليّةً، والنتيجة التي وصلنا إليها هي أنّ هذه القاعدة قاعدةٌ عقليّة يحكم بها العقل بغضّ النظر عن الأحكام والأدلّة والتعبّد الشرعي.
الدليل الثاني: اختلاف الفقهاء حول دائرة جريان القاعدة:
ذكر الصّدر أنّ الاختلاف الحاصل بين الفقهاء حول سعة جريان القاعدة المذكورة وضيقها دليل على عدم بداهتها؛ ففريق منهم لم يُجرها في الشبهات المفهوميّة، وهو ما لم يرتضه فريقٌ آخر، وبعضهم لم يجرها في الشبهات الموضوعيّة، وذلك خلافاً لبعضٍ آخر، وهذا الاختلاف الحاصل بينهم كافٍ للتدليل على أنّ هذه القاعدة ليست من الأمور الفطريّة والمسلّمة[9].
وفي اعتقادنا، لا يمكن أن يكون الاختلاف في تحديد سعة أو ضيق قاعدةٍ ما دليلاً على عدم صحّتها؛ إذ من الممكن أن يكون لكلّ قاعدة ـ إلى جانب المصاديق القطعيّة الواقعة ضمنها ـ مصاديق مشكوكة تقع محلاً للبحث ومدى شمول تلك القاعدة لها، ومثال ذلك الشكّ الحاصل في حُسن شيء أو قبحه فيما لو كان هذا الشكّ ناشئاً من الشكّ في كون الفعل من مصاديق العدل كي يكون حَسَناً أو من مصاديق الظلم كي يكون قبيحاً، فهل يمكن الالتزام في هذه الحالة بأنّ الشكّ في هذا المصداق الخاص موجبٌ للشكّ والترديد في أصل حسن العدل وقبح الظلم؟ أم أنّ حكم العقل بحسن العدل وقبح الظلم قائمٌ على كلّ حال لا يسري إليه الشكّ؟ إذاً فوقوع المصداق محلّ البحث في مدى شمول قاعدةٍٍ ما له لا يوجب سراية الشكّ إلى أصل تلك القاعدة الكليّة.
وعليه، فبحث الفقهاء في نطاق القاعدة من هذا القبيل؛ فهم قد سلّموا بأصلها وكبراها الكليّة، ووقفوا على مصاديقها القطعيّة والواضحة حيث يحكم العقل بقبح العقاب بشكل قطعي، وذلك من قبيل حكم العقل بقبح العقاب على تكليفٍ أو قانون لم يصدر التكليف به أو تشريعه من قبل الشارع المقدّس أو أيّ مشرّع آخر، إذ مع عدم وجود التكليف والتشريع لا يصدق «التخلّف» عن أدائه كي تصحّ المؤاخذة عليه، ففي هذا المورد يحكم العقل بشكل قطعيّ بقبح العقاب لوضوح صدق عنوان «اللابيان»، من هنا فرغ الفقهاء عن أصل القاعدة، وتلقّاها طرفا النزاع بالقبول.
يقول المحقّق العراقي: «لنا على ذلك حكم العقل بقبح العقاب من دون حجّة وبيان وهذه قاعدة مسلّمة عند العدليّة ولا شبهة لأحد فيها..»[10]، ويقول الشيخ عبدالكريم الحائري: «هذه القاعدة ممّا تطابق عليها العقلاء على اختلاف مللهم ومذاهبهم وتباين أذواقهم ومستوياتهم وتشعّب أزمانهم وبيئاتهم»[11].
إنّ هذه الكلمات تحكي عن إدراك عقلائي للقاعدة مسلّم به عند الجميع، أمّا ما يقع لديهم محلاً للبحث فهو المراد من «البيان» المذكور فيها: هل هو البيان الواقعي للتكليف حتى مع عدم وصوله إلى المكلّف أم هو البيان الواصل إليه؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى مجراها، وهل أنّها تجري في «الشبهات التكليفيّة» فقط أم تجري في «الشبهات الموضوعيّة» أيضاً؟ وهذه الموارد من البحث لا توجب التشكيك في أصل إدراك العقل لها، والقول بأنّ «كلّ هذه التشكيكات توحي بأنّ القاعدة ليست فطريةً ومسلّمة»[12]، وتقع هذه النزاعات والأبحاث في أكثر ـ إن لم نقل جميع ـ القواعد العقليّة وغير العقليّة، الأصوليّة وغير الأصوليّة.
ومن مجموع ما تقدّم اتّضح أنّ القاعدةَ عقليّةٌ يدركها عقل الإنسان مهما كان مذهبه ومشربه، فهو العقل يحكم بقبح عقاب المكلّف غير المقصّر في تحصيل التكليف على تخلّفه عن أداء تكليفٍ لم تقم لديه حجّة أو بيانٌ عليه من قبل الشارع المقدّس أو أيّ مشرّع آخر، وعدم قيام الحجّة على قانون ما يعتبر حجّةً في أيدي الناس يحتجّون بها في المحاكم القضائيّة كافّة بلا أدنى إشكال، أما البحث في حدود هذه القاعدة فأمر آخر نتركه لفرصةٍ أخرى.
قاعدة «حقّ الطاعة» من مدركات العقل العملي
يقول الشهيد الصّدر: «أمّا الوجه الثاني، فهو قياسٌ لحقّ الطاعة الثابت للمولى سبحانه وتعالى على حـقّ الطاعـة الثابت للأمر العقلائيّ، وهو قياس بلا موجب; لأن حقّ الطاعة للأمر العقلائيّ مجعولٌ لا محالة من قبل العقلاء، أو أمر أعلى، فيكون محدّداً ـ سعةً وضيقاً ـ تبعاً لجعله، وهو عادةً يجعل في حدود التكاليف المقطوعة، وأمّا حقّ الطاعة للمولى سبحانه فهو حقّ ذاتيّ تكوينيّ غير مجعول، ولا يلزم من ضيق دائرة ذلك الحقّ المجعول ضيق دائرة هذا الحقّ الذاتيّ، كما هو واضح، فالمعوّل في تحديد دائرة هذا الحقّ على وجدان العقل العملي، وهو يقتضي التعميم»[13]، ويقول: «ونحن نؤمن في هذا المسلك بأنّ المولوية الذاتية الثابتة لله سبحانه وتعالى لا تختصّ بالتكاليف المقطوعة، بل تشمل مطلق التكاليف الواصلة ولو احتمالاً، وهذا من مدركات العقل العملي، وهي غير مبرهنة، فكما أنّ أصل حقّ الطاعة للمنعِم والخالق مدرك أوّليّ للعقل العملي غير مبرهن كذلك حدوده سعةً وضيقاً، وعليه فالقاعدة العملية الأوّلية هي أصالة الاشتغال بحكم العقل ما لم يثبت الترخيص الجادّ في ترك التحفّظ..»[14].
ويمكن المناقشة في كلامه من وجوه:
الوجه الأوّل: لا شكّ أنّ للمولى الحقيقي ـ الله تعالى ـ حقّ الطاعة على عبيده، وهو من الحقوق الثابتة له تعالى، نعم، وقع الكلام في منشأ هذا الحقّ، حيث يُرجعه المتكلمون عادةً إلى «شكر المنعم»، إلا أنّنا نرى أنّ ملاكي: المالكيّة والربوبيّة، هما أساس الحقوق جميعاً، وإليهما يرجع حقّ الطاعة، ومعنى ذلك أنّ الله تعالى لمّا كان مالك وربَّ الموجودات جميعها ـ ومنها الإنسان ـ فإنّ مالكيّته وربوبيّته التكوينيّة تقتضي تسليم الجميع له في الأمور التشريعيّة.
وبناءً عليه، فالكلام في أنّ لله تعالى حقَّ الطاعة تكويناً وتشريعاً على عباده خارجٌ عن محلّ البحث، وما يقع محلاً له هو مدى شمول هذا الحقّ للموارد التي لا تكليف فيها للمولى، ثمّ الموارد التي ليس للمكلّف فيها حجّةٌ على التكليف، وهل أنّ حقّ الطاعة يشملها بحيث تكون المخالفة موجبةً لاستحقاق العقاب؟ وهذا في حقيقة الأمر أوّل الكلام؛ لأن حقّ الطاعة فرعُ وجود تكليف واجب الطاعة، إذ لو لم يكن هناك تكليف، فما هو الذي يُطلب من العباد طاعته؟ وعليه فإنّ انتفاء حقّ الطاعة حال عدم وجود التكليف يكون من باب السالبة بانتفاء الموضوع؛ لأن موضوع الطاعة هو وجود التكليف والإرادة التشريعيّة للمولى، وحيث لا وجود لهما، فلا وجود لحقّ الطاعة.
إضافةً إلى ذلك، لو أصدر المولى تكليفه وتعلّقت إرادته التشريعيّة بالفعل أو الترك، فلا مناص أمام المكلّف ـ لدى عزمه على امتثال التكليف ـ من التفاته إلى الإرادة التشريعيّة ونوعها، بغية معرفة متعلّقها وامتثاله، أمّا لو بقي ـ على الرغم من فحصه الشديد ـ جاهلاً بهذا الإرادة، فهل يبقى مجالٌ للحديث عن حقّ الطاعة؟ إنّ هذا الحقّ لا يمكن أن ينجّز تكليفاً غير منجّز؛ لأن موضوعه هو التكليف المنجّز، ومع عدم تنجّزه فلا موضوع لحقّ الطاعة، ومن المعلوم أنّ الحكم لا يُثبت موضوعه، وإنّما يحمل عليه بعد إحرازه عن طريق العلم أو أيّ طريق عقلائي معتبر آخر، ثمّ بعد ذلك يأتي الحديث عن العقاب على مخالفته.
الوجه الثاني: عندما نرجع إلى العلاقات القائمة بين الموالي والعبيد العرفيّين والعقلائيّين، نجد أنّ حقّ الطاعة مشروط بوصول التكليف من المولى إلى العبد، وهم يرون أنّ العقاب على تكليفٍ لم يصدر بعدُ من المولى أو صدر ولم يصل، عملٌ قبيح، وهو ما لا يخالف فيه أحدٌ حتى الشهيد الصدر نفسه[15]، نعم يبقى إشكاله على قياس مولويّة المولى الحقيقي وحقّ طاعته على مولويّة الموالي العرفيّين؛ لأن مولويّة المولى الحقيقي مولويّة تكوينيّة وحقيقيّة، خلافاً للمولويّة الاعتباريّة للموالي العرفيّين[16].
وهذا الكلام ممّا لا غبار عليه عندنا؛ إذ إنّنا لا نريد قياس مولويّة المولى تعالى إلى المولويّات العرفيّة، لكنّنا نقول: إنّ العقل كما يعتبر حقّ طاعة المولى العرفي مشروطاً بالبيان ووصول التكليف إلى المكلّف، فكذلك الأمر بالنسبة إلى المولى الحقيقي، وواقع الأمر أنّ تعليق حقّ الطاعة على وصول التكليف إلى المكلّف وتنجّزه يرجع إلى طبيعة هذا الحقّ لا إلى نوع المولويّة، تماماً كما هي الحال بالنسبة إلى حكم العقل باستحقاق العقاب على مخالفة المولى بغضّ النظر عن كونه مولى حقيقيّاً أو غيرَ حقيقيّ، فملاك العقوبة هو التخلّف عن أداء التكليف، إذاً، فالعقاب على التكليف غير الصادر أو الصادر غير الواصل قبيحٌ، ولا فرق في ذلك بين المولى الحقيقي والمولى الاعتباري.
وممّا تقدّم، اتّضح أنّه لا دخالة لنوع المولويّة في تحديد قبح العقاب أو عدمه؛ لأن ما يسوّغ العقاب هو تخلّف المكلّف عن أداء التكليف، والتخلّف إنّما يصدق بعد وصول التكليف إلى المكلّف بالطرق الشرعيّة والعقلائيّة، وقيام الحجّة عليه، وتماميّة البيان لديه، وفي غير هذه الحالة يكون عقابه قبيحاً وفقاً لما تقرّره القاعدة.
الوجه الثالث: إنّنا نعتقد أنّ نزاعنا مع الشهيد الصدر يرجع إلى نزاع صغروي؛ وذلك لاعتقاده بأنّ احتمال التكليف بالنسبة إلى المولى الحقيقي منجّز له، وأنّه يجب العمل على وفق مؤدّاه؛ وعليه فلا يكون عدم التمسّك بالقاعدة في هذا المورد ناشئاً عن عدم إدراك العقل لها، بل لكون الاحتمال ـ بناءً على رأي الشهيد الصدر ـ بياناً على التكليف، فيكون بذلك رافعاً لموضوع القاعدة، ونحن ملتزمون بارتفاع موضوعها عند قيام الحجّة على التكليف وتماميّة البيان عليه، نعم يبقى الكلام في كفاية احتمال التكليف ـ ولو لم يكن احتمالاً عقلائيّاً ـ من أجل إثبات التكليف وتنجيزه.
وعلى كلّ حال، فلو لم نذهب إلى تنجيز الاحتمال، أو لم نحتمل التكليف أصلاً، أو قطعنا بعدم التكليف، أفلا تجري القاعدة، ويحكم العقل بقبح العقاب؟ وفي النتيجة يبقى الكلام في أنّ احتمال التكليف هل هو بيانٌ عليه كي يرتفع موضوع القاعدة أم أنّه ليس كذلك، فتجري القاعدة بعد تحقّق موضوعها وهو اللابيان؟
القاعدة عند الشكّ في حجيّة الدليل
من الواضح عدم حجيّة ما لم يقم دليل قطعيّ على حجيّته، أمّا حال الشكّ في هذه الحجيّة، فليس بوسعنا الحكم بوجودها، وترتيب الأثر عليها؛ لأن الفرض عدم قيام الدليل.
لهذا يعتقد الشهيد الصّدر أنّ الشكّ في الحجيّة مساوقٌ لعدمها[17]، وليس بوسع الشارع أو أيّ مقنّن آخر، إلزام المكلّفين بما يحتملون حجيّته، وعليه لا يكون لاحتمال الحجيّة أيّ أثر عمليّ، وهذه النتيجة ناجمة عن حكم العقل بقاعدة قبح العقاب؛ إذ ما لم يقم البيان وتتمّ الحجّة على طريق مشكوك الحجيّة، فلا يحكم العقل بحجّيته، بل يحكم بقبح العقاب على مخالفته ما دام مشكوك الحجيّة، لأن صرف احتمال الحجيّة لا يمكن أن يعدّ بياناً عليها، فتجري القاعدة ما دام البيان القطعيّ منتفياً، وعلى هذا الأساس حكمنا في مورد الشك في حجيّة الدليل بعدم حجيّته.
تعارض قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» مع مبدأ «حقّ الطاعة»
طرح الشهيد الصّدر هذه الشبهة في مقام عدم مصادقته على القاعدة، وخلاصة ما ذكره أنّ الله تعالى هو المالك للبشر، وعليهم جميعاً إطاعته بمقتضى مولويّته، وله عليهم حقّ الطاعة الذي يقف على رأس جميع الحقوق التي مآلها في الحقيقة إليه، وفي حالة احتمال التكليف، فإنّ حقّ الطاعة يحكم بالاحتياط ولزوم الإتيان بالتكليف المحتمل بعد عدم جريان البراءة عنه، وفي هذه الحالة لا يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان؛ لأنّه إنّما يحكم بذلك عندما لا يكون الاحتمال منجّزاً، أمّا والحال أنّه منجّز ببركة حقّ الطاعة، فإنّ الاحتياط لازم.
فخلاصة ما يراه هذا الشهيد المدقّق والمحقّق أنّ لزوم امتثال التكاليف بحكم العقل متوقّف على وجوب إطاعة أوامر المولى، ووجوب الطاعة ناشئ من حقّ الطاعة، ولمّا كان الله تعالى هو المولى والمالك الحقيقيّ للإنسان، فإنّ له عليه حقّ الطاعة، وهو يشمل التكاليف المظنونة والمشكوكة، بل والمحتملة والموهومة، فضلاً عن المقطوعة، وفي النتيجة فإنّ هذا الحقّ يقتضي الاحتياط في «الشبهات البدويّة» ما لم يرد ترخيصٌ عبر الأدلّة الشرعيّة. وعليه فلا يبقى موردٌ لجريان البراءة العقليّة، خاصّة قاعدة قبح العقاب.
ويمكن المناقشة في ما أفاده الصدر من وجوه:
الأول: إنّ كلامه إنّما يصحّ حال احتمال التكليف، لكي يُصار بعد ذلك إلى الحكم بتنجيزه طبقاً لحقّ الطاعة، والقول بلزوم الاحتياط والإتيان بالتكليف المحتمل. أمّا لو قامت الحجّة الشرعيّة على نفي التكليف، فلا يبقى موردٌ لحقّ الطاعة[18]، وذلك من باب «السالبة بانتفاء الموضوع»، لأن جريان هذا الحقّ متوقّفٌ على وجود التكليف أو الحكم ولو على نحو الاحتمال، ثم بعد ذلك يكون منجّزاً، أما حال عدم وجود التكليف، فكيف يمكن لحقّ الطاعة إلزام المكلّف بالطاعة؟ ثمّ ما هو الشيء الذي عليه امتثاله تحقيقاً للطاعة؟ إذاً يشترط وجود التكليف ولو احتمالاً من أجل تحقيق موضوع حقّ الطاعة.
وبناءً عليه، ففي حال عدم تماميّة الحُجّة على المكلّف إزاء التكليف الإلزامي، لا يجري حقّ الطاعة؛ نظراً لعدم تحقّق موضوعه، وبالتالي لا يمكن للعقل أن يحكم باستحقاقه العقوبة، وفي النتيجة، فإنّ قاعدة قبح العقاب تقرّر أنّ عقاب شخصٍ لا يقين لديه بوجود التكليف، أو أنّ الحجّة قائمةٌ لديه على عدم وجوده، عمل قبيحٌ على المولى تعالى أو أيّ مشرّع آخر. وكذلك الحال فيما لو احتمل التكليف ولم يتمكّن من الوصول إليه بعد الفحص الشديد، فإنّ العقل يحكم بقبح عقابه على تخلّفه عنه، وإن كان له وجودٌ في لوح الواقع.
الثاني: قال الشهيد الصدر إنّ العقل يحكم بالاحتياط بملاك حقّ الطاعة، ما لم يقم دليلٌ شرعي على الترخيص، ونحن نسأله عن المراد من الدليل الشرعي الرافع لموضوع هذا الحقّ، هل يقتصر على الآيات والروايات أم أنّه أعمّ من ذلك؟ فإن قال بانحصار الدليل الشرعي بالأدلّة النقليّة، فإنّ استدلاله على لزوم الاحتياط سينهار؛ لأنّ هذا الاستدلال مبنيٌّ على إدراك العقل لحقّ الطاعة وحكمه بلزوم إطاعة المولى الحقيقي، وبالتالي الاحتياط والاشتغال، بينما يلزم من القول بانحصار الدليل الشرعي بالأدلّة النقليّة اعتبار حكم العقل أيضاً من جملة الأدلّة الشرعيّة، فتكون الأدلّة الشرعيّة أعمّ من الأدلّة النقليّة والعقليّة والطرق العقلائيّة المعتبرة، وذلك كي يثبت لزوم الاحتياط عن طريق أصل حقّ الطاعة وحكم العقل[19]، وأمّا لو كان مراده من الدليل الشرعي ما يشمل جميع الحجج والطرق العقلائيّة والشرعيّة، فما ينجّز في هذه الحال هو ما قامت عليه الحجّة، فيجب بادئ الأمر إحراز حجيّة كلّ طريق وتنجّزه، ثمّ بعد ذلك نحكم ـ بمقتضى حقّ الطاعة ـ بلزوم الامتثال والطاعة.
وسؤالنا هو: ما هو الدليل على تنجّز التكليف المحتمل أو المتوهّم؟ وكيف يتنجّز التكليف بمجرّد الاحتمال حتى لو كان هذا الاحتمال في غاية الضآلة، بحيث يجب على المكلّف امتثاله ويكون مستحقّاً للعقاب على المخالفة؟ وعلى كلّ حال، فما الدليل على أنّ احتمال التكليف أو الشكّ في أصله، طريقٌ إلى تنجّز التكليف، وحجّة عقلائيّة وشرعيّة معتبرة عليه؟ فإن قلت: إنّ سبيلنا إلى ذلك هو حقّ الطاعة، قلنا: إنّ هذا الحقّ لا يمكنه تحقيق موضوع نفسه. وبشكل عام، فإنّ حقّ الطاعة يجري في موارد ثبوت التكليف على المكلّف ودخوله في عهدته، حيث يُحكَمُ وفقاً لأصل حقّ الطاعة بلزوم إطاعة التكليف المنجّز، أما طريق تنجّز التكليف، فحقّ الطاعة قاصرٌ عن تعيينه، وكلامنا كلّه يدور حول هذه النقطة، حيث نطالب بتقديم الدليل على كون احتمال التكليف كافياً لتنجيزه كي يدخل في دائرة حقّ الطاعة؟
إضافةً إلى ذلك، فإنّ العقل والعقلاء ـ وهم طريقٌ معتبر إلى إثبات التكليف وتنجّزه ـ يحكمون بأنّ احتمال التكليف لا أثر له في تنجيزه، خاصةً إذا كان ذلك بعد الفحص واليأس عن الوصول إليه؛ ولذا جاز للمكلّفين الاستناد إلى حكم العقل بجواز مخالفة التكليف المحتمل، واحتجاجهم بحكمه هذا في مقام إثبات معذوريّتهم.
الثالث: لو تنزّلنا وقلنا بشمول حقّ الطاعة للتكاليف المحتملة والموهومة في مورد الله تعالى، مولى الإنسان ومالكه الحقيقي، فما بالُ الأحكام والمقرّرات التي يتّخذها المجتمع؟ ففي هذه الموارد لا سبيل إلى القول باتساع دائرة حقّ الطاعة ليعارض قاعدة قبح العقاب بلا بيان؛ فلو أراد الجهاز القضائي معاقبة من خالف القانون دون أن يكون القرار المعيّن لهذا القانون صادراً، أو أنّه صدر لكن لم يتمّ إبلاغه إليه، ففي هذه الحالة يحكم العقلاء قاطبةً بقبح معاقبته؛ لأنّه في نظرهم لم يرتكب جُرماً كي يستحقّ عليه العقاب، ويرجع ذلك إلى أنّ عنوان «الجرم» إنّما يصدق حال مخالفة القانون، وحيث لم تتمّ المصادقة على القانون بعدُ، أو أنّه لم تقم عليه الحجّة والبيان لدى المكلّف، فلا يصدق عنوان المخالفة كي يسوغ العقاب.
ولعلّه لهذا السبب لم يذهب الشهيد الصدر إلى تنجيز الاحتمال للتكليف في مورد التكاليف العقلائيّة، حيث يقول: «ولا شك أنّه في التكاليف العقلائية عادةً تكون المولوية ضيقة ومحدودة بموارد العلم بالتكليف..» [20]، فكيف يصحّ له ـ في مقام استخلاص النتيجة العامة ـ القولُ بأن لا أساس لقاعدة قبح العقاب، وأنّ العقل والعقلاء لا يدركون حكماً من هذا القبيل، وذلك حيث يقول: «وهكذا يتلخّص أنّه لا أساس لقاعدة «قبح العقاب بلا بيان»، فلا موجب للذهاب إلى البراءة العقلية في الشبهات بل العقل يحكم بلزوم الاحتياط فيها جميعاً..» [21].
وكان حسناً في هذا المقام أن يشير ـ على الأقلّ ـ إلى جريان القاعدة في التكاليف العقلائيّة والمقرّرات الاجتماعيّة، ولو كان العقل يحكم فعلاً بها في التكاليف العقلائيّة، يأتي دورنا لنقول: إنّ الأحكام العقليّة غير قابلة للتخصيص، فتجري القاعدة متى ما تحقّق موضوعها، وهو اللابيان، وهذا بنفسه كاشفٌ عن أنّ محض احتمال التكليف لا يمكن أن يكون بنظر العقل منجّزاً له، نعم، لو كان الاحتمال معتدّاً به عند العقلاء بحيث تقوم الحجّة به، لم تجر القاعدة نظراً لارتفاع موضوعها، فيجب على المكلّف الفحص، فإذا حصل عنده اليأس عن الوصول إلى التكليف، عادت القاعدة المذكورة للجريان.
الرابع: عطّل الشهيد الصدر قاعدة قبح العقاب؛ حيث تمسّك بحقّ الطاعة، وذهب إلى لزوم الاحتياط، أمّا في موارد عدم جريان حقّ الطاعة، فلا يبقى سبيلٌ إلى الاحتياط؛ وذلك لبقاء «قبح العقاب» دون أيّ معارض، ومن المعلوم أنّ الآيات والروايات الدالّة على البراءة الشرعيّة تكفّ حقّ الطاعة عن الجريان في مورد احتمال أصل التكليف أو الشكّ فيه، ومن ذلك قوله تعالى: >وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً< (الإسراء: 15)، وغير ذلك من الآيات والروايات المشابهة والحاكمة على حقّ الطاعة واللاغية له. من هنا كانت الإفادة من هذا الحقّ غير ممكنةٍ في الشبهات البدويّة، وهو صريح عبارة الشهيد الصدر نفسه[22].
وبعد الالتفات إلى هذه المسألة، لا يبقى شكٌّ في جريان القاعدة في مورد الشبهات البدويّة والشكّ في التكليف؛ لأنّه بعد ملاحظة هذه النصوص الشرعيّة يسقط حقّ الطاعة عن الاعتبار بعد كونه معارضاً لقبح العقاب حسب رأي الشهيد الصدر، وفي النتيجة تبقى قاعدة «قبح العقاب» بلا معارض، وتكون حاكمةً وفق مؤدّى الآية الكريمة: >وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً< (الإسراء: 15)[23].
الخامس: إذا كان مجرّد احتمال التكليف منجّزاً، وكان الاحتياط واجباً نزولاً عند حقّ الطاعة، لما كان بوسع أيّ فقيه الحكم بانتفاء الاحتمالات العارضة ابتداءً على الذهن، كما في موارد احتمال التخصيص، والتقييد، والنسخ، والإبهام والإجمال، واحتمال الشرط، والجزء، والسبب، والرافع، والمانع.. إذ يرى الصدر أنّ حقّ الطاعة موجبٌ لتنجّز الاحتمال، وكلّما شكّ الإنسان في التقييد، والتخصيص، والنسخ، والإبهام، والإجمال وأمثال ذلك، وجب عليه الاحتياط بموجب ذلك، والحال أنّ أيّاً من الفقهاء ـ حتى الصدر نفسه ـ لا يلتزم بذلك، ولو بنينا على الالتزام به لسدّ باب الأحكام والفتاوى والقضاء وحلّ الخصومة وفصل الدعاوى.
وهذا يشير إلى أنّ احتمال التكليف غير منجّز، بل ينبغي أن يكون الاحتمال عقلائيّاً، وواصلاً إلى حدّ التنجّز، وأن يتمّ بيانه على التكليف عقلاً وشرعاً كي يكون منجّزاً له، وإلا فلا سبيل إلى الحكم بوجود التكليف بمجرّد احتماله، وبناءً عليه، تكون أدلّة الاحتياط ـ بعد الفراغ عن تماميّتها ـ منصرفةً عن موارد الاحتمالات غير المنجّزة.
السادس: يقول الشهيد الصّدر إنّ احتمال التكليف منجّز، وأنّه يلزم ـ والحال هذه ـ الحكم بالاحتياط، وفي مقام الجواب نتساءل عن منشأ لزوم الاحتياط تبعاً لاحتمال التكليف؟ ما هو الدليل على ذلك؟ ولو كان مراده أنّ منشأ ذلك هو أدلّة الاحتياط، أوردنا عليه:
أولاً: إنّه نفسه قد ناقش هذه الأدلّة جميعاً، وقدّم أدلّة البراءة عليها، وهذا يظهر أنّه لا يرتضي كون الاحتمال منجّزاً للتكليف.
ثانياً: بأيّ دليل أمكن لأدلّة الاحتياط ـ التي يمتنع أن تكون بنفسها محقّقةً لموضوعها ـ أن تشمل موارد الشبهات البدويّة والشكّ في التكليف كافّة؟ نعم، لو ثبت أصل التكليف بطريق معتبر، حكم دليل الاحتياط بلزوم الفراغ اليقيني، وما لم يحصل للمكلّف يقينٌ بفراغ ذمّته عن التكليف، لم يمكنه تجاوزه، وبحسب التعبير الأصولي، فإنّ «الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني»؛ إذاً لا شكّ بشمول أدلّة الاحتياط لمثل هذه الموارد، أمّا شمولها لموارد الشبهات البدويّة ـ خاصةً بعد الفحص وعدم الوقوع على بيان أو حجّة معتبرة ـ فهو أوّل الكلام.
السابع: نحن نعلم أنّ حقّ الطاعة من حقوق الله تعالى على عباده، والتي اختصّ بها بملاك الخالقيّة والمالكليّة والربوبيّة، ولنفرض صحّة كلام الشهيد الصدر فيما يخصّ احتمال التكليف المولوي وكونه منجّزاً، لكن ما هي الحال بالنسبة إلى حقوق الإنسان على أبناء نوعه؟ فهل يكفي في هذه الحال احتمال تعلّق الحقّ في الذمّة كي يحكم بثبوت ذلك الحقّ أمّ أنّ ثبوته متوقّف على الحجّة المعتبرة؟ ولو أنّ شخصاً شكّ ابتداءً في ثبوت حقٍّ للغير في ذمّته، فلا شكّ أنّ العقل والعقلاء ـ على حدّ سواء ـ يحكمون بفراغ ذمّته ما لم يقم على اشتغالها به بيان وحجّة معتبرة، وأنّ عقابه على ذلك الأمر غير الثابت قبيح، وكذلك الحال فيما لو شكّ القاضي بأنّ شخصاً شرب الخمر، أو أنّه ارتكب محرّماً من المحرّمات، فلو كان مجرّد الاحتمال منجّزاً للتكليف، فهل للقاضي إقامة الحدّ عليه استناداً إلى الاحتمال أم أنّ عليه إحراز البيان والحجّة الشرعيّة والعقلائيّة على ارتكابه ذلك الجُرم أولا ترتفع العقوبة في هذا المجال استناداً إلى «قبح العقاب»؟
هذه الأمور كلّها بمثابة الشاهد على ما ندّعيه من أنّ صرف احتمال التكليف غير منجّز، وأنّ العقلاء في علاقاتهم الاجتماعية والحقوقيّة يشترطون في المطالبة بالحقوق وإجراء المقرّرات قيام البيان والحجّة المعتبرة، وفي غير هذه الحال، لا يرتّبون أيّاً من الآثار واللوازم الحقوقيّة.
الثامن: يبدو أنّ النزاع المتقدّم نزاعٌ صغروي؛ لأن حقّ الطاعة في الشبهات البدويّة وفي نظر الشهيد الصّدر بيانٌ على التكليف[24]، حيث يجب على المكلّف الاتيان بالتكليف عملاً منه بهذا الحقّ، ولو تمّ هذا الكلام منه، فلا يبقى موضوع للقاعدة؛ لأن موضوعها «اللابيان»، وبحسب الفرض فإنّ حقّ الطاعة بيانٌ على التكليف، ونحن نعلم أنّ عدم جريان القاعدة لا يرجع إلى عدم إدراك العقل لها، بل إلى عدم تحقّق موضوعها؛ إذاً حيث يصدق «اللابيان» تجري القاعدة، وحيث تقوم الحجّة الشرعيّة أو العقليّة على التكليف لا تجري، أمّا متى يصدق «اللابيان» ومتى لا يصدق؟ فهذا بحث آخر، وفي النتيجة، ليس بوسع الصدر إنكار كبرى قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» المسلمّ بها، أو التشكيك فيها.
التاسع: إنّ بوسعنا النقض على الشهيد الصّدر بعدم التزامه وعمله بحقّ الطاعة في كثير من الموارد، من قبيل التزامه بأنّ الأصل عند الشكّ في الحجيّة هو عدم الحجيّة، وكذلك الشكّ في التخصيص، والتقييد.. حيث ذهب إلى عدم تنجّز هذه الاحتمالات، بينما يحكم حقّ الطاعة ـ على مبناه ـ بالاحتياط في موارد الشكّ والعمل وفق مؤدّاه، سواء كان الشكّ في التكليف ناجماً عن الشكّ في حجيّة الدليل، أو عن الشكّ في التخصيص والقيد الزائد أو أمور أخرى من هذا القبيل.
«قبح العقاب بلا بيان» من الصدوق حتى البهبهاني؛ رصد تاريخي
على الرغم من أنّ قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» غير موجودة في كلمات المتقدّمين بهذا العنوان، وأنّها إنّما بحثت تحت هذا العنوان في كلمات المتأخرين، إلا أنّه يمكن العثور عليها في طيّات العديد من البحوث الفقهيّة؛ حيث كانت فيها دليلاً من أدلّتهم، ومن أهمّ هذه الموارد: 1 ـ الحكم بالبراءة العقليّة عند الشكّ في التكليف. 2 ـ الحكم بالإباحة العقليّة عند عدم الدليل على الحكم الشرعي. 3 ـ الأصل في الأشياء الإباحة. 4 ـ عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة. 5 ـ عدم جواز إثبات حكمٍ شرعي إلا بدليل شرعي.
إضافةً إلى هذه الأبحاث، من الممكن العثور عليها لدى حديثهم عن الأدلّة العقليّة على الإباحة والبراءة؛ حيث كانت هذه القاعدة من أهمّ أدلّتهم على ذلك، ومن هذه الموارد العقليّة بحثهم في قبح التكليف بما لا يطاق، وأصالتي: البراءة والإباحة، وعدم الدليل دليل العدم و..
وفيما يلي نستعرض أهمّ المحطّات التاريخيّة التي مرّت بها هذه القاعدة:
الشيخ الصدوق (305 ـ 381 هـ)
يظهر بعد البحث والمراجعة أنّ أحداً قبل الشيخ الصدوق لم يتمسّك بهذه القاعدة أو ما شابهها، من هنا نبدأ كلامنا من زمنه؛ فقد أفرد في كتاب: الاعتقادات باباً تحت عنوان «باب الاعتقادات في الحظر والإباحة»؛ حيث قال: «اعتقادنا في ذلك أنّ الأشياء كلّها مطلقة حتى يرد في شيء منها نهيٌ»[25]، وما يستفاد من هذه الكلمات أنّه طالما لم يصل من المولى حكمٌ تحريمي، فلا يجوز البناء على حرمة الفعل ومعاقبة مرتكبه؛ لأن الأصل فيه «الإباحة».
ولم يتعرّض الصدوق لدليل هذا الأصل، إلا أنّنا نجزم أنّه لم يعتقد به من غير دليل، فيبقى علينا البحث عن مستنده في ذلك، ويمكن القول: إنّ مستنده قاعدةَ «قبح العقاب بلا بيان»؛ لأن الصدوق يرى أنّه طالما لم يصل بيانٌ وحكم من الشارع على حرمة أمرٍ ما، فلا يجوز البناء على حرمته واعتباره منهيّاً عنه، وإسناد الحرمة إلى المولى؛ لأن الشارع ـ بحسب الفرض ـ لم يحرّمه، بل يجب البناء على الإطلاق والترخّص فيه، وهذا الأصل ليس سوى قاعدة «قبح العقاب»، وحيث لا حكم تحريميّ في موارد الشبهات البدويّة، فلا عقاب؛ لأن الأخير فرغ التخلّف عن أداء التكليف، وهو فرع وجود التكليف نفسه، وفي النتيجة لا يصحّ عقاب المكلّف على ارتكاب أو ترك فعل لم يصله حكمه، وهذا هو معنى القاعدة، إذاً فقد طرحت هذه القاعدة على ألسنتهم منذ قرون.
إلا أنّ الشهيد الصّدر حمل الإباحة في كلام الصدوق على الإباحة الشرعيّة[26].
وهذا الكلام غير تام؛ إذ يرد عليه:
أولاً: إنّ حمل كلام الصدوق على الإباحة الشرعيّة خلاف الظاهر؛ لأن الإباحة الشرعيّة بحاجةٍ إلى دليل شرعيّ، شأنها في ذلك شأن غيرها من الأحكام الشرعيّة، وديدن الشيخ الصدوق قائمٌ على التعرّض إلى الأدلّة الشرعيّة من كتاب وسنّة؛ إذاً لا يصحّ حمل كلامه على الإباحة الشرعيّة لمجرّد ذهابة إلى الإباحة والترخيص، والواقع إنّ مراد الصدوق أنّه طالما لم يصل دليلٌ من الشارع على الحرمة، حُكِم بالإباحة والجواز، ولا يمكن حمل كلامه على الإباحة الشرعيّة؛ لأنها نفسها تحتاج إلى دليل، وبحسب الفرض لم يصلنا دليلٌ من الشارع، وإلا لو كان لدينا دليلٌ على الإباحة لحكمنا بالإباحة، ولم يبقَ مجال للحديث عن «الأصل»، والحال أنّ الصدوق عيّن الأصل في مقام رفع الشكّ؛ حيث قال ـ على ما تقدّم ـ : «إنّ الأشياء كلّها مطلقة حتى يرد في شيء منها نهيٌ».
إنّ الذهاب إلى الإطلاق والترخيص بعنوان «الأصل» يكشف عن أنّ مراده من الإباحة ليس الإباحة الشرعيّة، من هنا ركن الشيخ المفيد لدى شرحه كلام الصدوق إلى الدليل العقلي؛ فاستدلّ به على كلام أستاذه، ولو كان الأستاذ ناظراً إلى الإباحة الشرعيّة لكان حقّاً على المفيد الاستناد إلى دليل شرعيّ واحد من كتابٍ أو سنّة لإثبات الإباحة الشرعيّة بدل الاستناد إلى الدليل العقلي، وهذا شاهدٌ آخر على أنّ الصدوق لم يكن ناظراً إلى الإباحة الشرعيّة.
وفي ما يلي نصّ كلام المفيد موضحاً كلام أستاذه في الحظر والإباحة: «فأمّا بعد استقرار الشرائع، فالحكم أنّ كلّ شيء لا نصّ في حظره فإنّه على الإطلاق؛ لأنّ الشرائع ثبّتت الحدود وميّزت المحظور على حظره؛ فوجب أن يكون ما عداه بخلاف حكمه»[27].
ثانياً: لنفرض أنّ مراده الإباحةَ الشرعيّة، مع ذلك من الممكن أن يكون مستنده في ذلك قاعدتا: قبح التكليف بلا بيان وقبح العقاب بلا بيان، ويرجع ذلك إلى أنّ الأحكام الشرعيّة ليست جزافيّةً، بل ذات ملاكات يُدرك العقل السليم كثيراً منها؛ وعلى هذا الأساس، فحكم الشارع بالإباحة في الشبهات التحريميّة مردّه إلى فقدان البيان على التحريم وعدم تماميّة الحجّة عليه، بحيث يكون عقاب المكلّف غير الملتفت إلى التكليف قبيحاً.
ثالثاً: إنّ الإباحة الشرعيّة ـ كغيرها من الأحكام الشرعيّة ـ إنّما تسند إلى المولى إذا كانت مجعولةً من قبله، بمعنى توقّف ثبوتها على حكم الشارع بها، وإلا فلا إباحة شرعيّة مع عدم وصولها، والحال فيها نظير ما في الوجوب والحرمة الشرعيّين من توقّفهما على جعل الشارع، وعليه، تفتقر الإباحة الشرعيّة إلى الجعل المولوي، شأنها في ذلك شأن غيرها من المجعولات الشرعيّة، من قبيل الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة، والشيخ الصدوق لم يعتبرها مجعولاً شرعيّاً كي نحمل كلامه عليها، بل قد يكون ذهب إلى الإباحة على أساس حكم العقل بذلك؛ حيث قال: «إنّ الأشياء كلّها مطلقة حتى يرد في شيء منها نهيٌ»؛ وعليه لا يمكن حمل كلامه على الإباحة الشرعيّة.
وما ينبغي التنبيه إليه أنّ الصدوق وإن كان قد ذهب إلى الإباحة في مورد الشبهة التحريمة، إلا أنّنا نعلم أن لا خصوصيّة للحرمة في المقام؛ وعليه أمكننا الحكم بالإباحة متى ما شككنا في جعل الوجوب ولم نحصل على دليل عليه بعد الفحص، ويمكننا تسرية النكتة التي ذكرناها سابقاً في مورد الشبهات التحريميّة إلى الشبهات الوجوبيّة، فقد ذهبنا هناك إلى الإباحة حال فقدان الدليل على الحرمة، إذ لا تصحّ نسبة الحرمة المشكوكة إلى المولى وتصحيح العقاب عليها، وكذلك الحال في الشبهات الوجوبيّة، من هنا حكم المحقّق الحلّي بالإباحة في كلا الموردين؛ فقال: «ومنه القول بالإباحة لعدم دليلٍ على الوجوب والحظر»[28]، من هنا أيضاً، يمكن الحكم بالإباحة عند الشكّ في الاستحباب أو الكراهة، طالما أنّه لا دليل من الشارع عليهما.
الشيخ المفيد ( 336 ـ 413 هـ)
يقول الشيخ المفيد ـ في توضيح كلام أستاذه الصدوق ـ : «فأمّا بعد استقرار الشرائع، فالحكم أنّ كلّ شيء لا نصّ في حظره فإنّه على الإطلاق؛ لأن الشرائع ثبّتت الحدود وميّزت المحظور على حظره فوجب أن يكون ما عداه بخلاف حكمه»[29].
يستفاد من هذا النصّ الحكم بالإطلاق والترخيص في حالات عدم تقرّر النهي والحرمة من قبل الشارع وعدم ورود النصّ بالمنع، وفي مقام إثبات مدّعاه، استدلّ المفيد بأنّه بعد أن ثبّتت الشرائعُ حدودها وميّزت المحظورات، فما لم تحكم فيه الشريعة بالوجوب أو التحريم لزم حمله على خلافه، أي الحكم بالإباحة؛ لأنّه لم يصل ـ بحسب الفرض ـ دليلٌ أو بيان على الحكم الإلزامي من قبل الشارع، وفي هذه الحال، كيف يمكن الحكم بالإلزام وتوجيه هذا الحكم إلى المكلّف؟ وهذا في الواقع هو مفاد «قبح العقاب بلا بيان»، وفي النتيجة يكون العقاب على ما لم يحرّمه الله تعالى في غير محلّه.
وليس مراد المفيد من الإباحة والإطلاق الإباحةَ الشرعيّة؛ لأنّها في نفسها مجعولٌ شرعيّ يحتاج إثباته إلى دليل شرعيّ، وبحسب الفرض لا دليل شرعيّ يدلّ على الإباحة، خاصةً وأنّ المفيد في مقام إثباته للإباحة لجأ إلى دليل عقلي لا شرعي، فيكون ناظراً إلى الإباحة العقليّة لا الشرعيّة؛ إذ معنى الإباحة العقليّة حكم العقل بالإباحة، والعقل يحكم بها عندما تكون إباحة الفعل مستندةً إليه، ويدرك جيّداً أنّه ما لم يقم بيانٌ على الإلزام الوجوبي أو التحريمي، فإنّ المؤاخذة على الفعل أو الترك تقبح، وتكون نتيجة هذا الحكم العقلي الإطلاقَ وترخيص المكلّف في الفعل أو الترك.
ولدى بحثه عن جواز تأخير بيان العام، ذهب المفيد إلى عدم الجواز، قائلاً: «ولا يجوز تأخير بيان العموم؛ لأن العموم موجبٌ بمجرّده الاستيعاب، فمتى أطلقه الحكيم ومراده التخصيص ولم يبيّن ذلك فقد أتى بألغاز»[30]، وبعبارة أكثر وضوحاً، متى ما أصدر الشارع أو أيّ مشرّع آخر حكماً أو قانوناً عاماً، وجب عليه التخصيص فيما لو لم يكن مراده تمام الأفراد، ومتى ما شككنا في التخصيص لزم الرجوع إلى العام لبقائه على ظهوره في الاستيعاب، حتى يرد البيان على التخصيص.
ودليل الشيخ المفيد على ذلك أنّ العام الظاهر في الاستيعاب، إن كان صادراً على هذا النحو، وكان مراد المشرّع بعض أفراده لا كلّها، ومع ذلك لم يصل منه دليلٌ على التخصيص، سيكون ذلك منه نحواً من الألغاز أو ما شابه، وهو ما يحكم أيّ عاقل بقبحه؛ لأن حكمة المشرّع ـ خاصةً الله تعالى ـ تقتضي بيان التخصيص إن كان مراده بعض أفراد العام، وإلا فمع عدم الدليل على التخصيص، لا يمكن رفع اليد عن عموم العام والحمل على الخاصّ.
وعلى هذا الأساس، لا يمكن ـ حال الشكّ في المخصّص ـ رفع اليد عن ظهور العام، لتماميّة البيان على العام وعدمه على الخاص، وإذا كانت قاعدة «قبح العقاب» لا تجري في مورد العام لوجود البيان، فإنّها تجري في مورد الخاصّ، وينتج عن جريانها رفع الشكّ في المخصّص، ومع عدم التكليف، لا مبرّر للعقاب.
يقول المفيد في حرمة أكل الربا وجزاء ذلك:«ومن أكل الربا بعد الحجّة عليه في تحريمه عوقب على ذلك حتّى يتوب منه»[31]، وعلى ذلك جرى الشيخ الطوسي تبعاً لأستاذه؛ إذ يقول: «ومن أكل الربا بعد الحجّة عليه في تحريمه، عوقب على ذلك حتّى يتوب»[32]، ومن هاتين العبارتين يستفاد تقييد المفيد والطوسي المعاقبةَ على أكل الربا بموارد قيام الحجّة على الحرمة وتماميّة الدليل عليها، أمّا في حالة عدم قيام البيان والحجّة، فيقبح العقاب.
وباعتقادنا، من الممكن أن تكون قاعدة «قبح العقاب» هي المبنى الفقهيّ لهذا الحكم؛ لأنّ العقل يحكم بقبح معاقبة من لم يلتفت إلى التكليف ولم يقم لديه بيانٌ وحجّةٌ عليه، أو أنّه ـ بشكل عام ـ لم يصله، ونحن نرى أنّ العقلاء عامّةً يبنون على هذا الأصل في علاقاتهم الاجتماعيّة والحقوقيّة، ويحتجّون به أيضاً.
الشيخ الطوسي (385 ـ 460 هـ)
في كثير من المواضع استدلّ الشيخ الطوسي على فتواه بأصالة الإباحة، وحكم بأنّه متى فقد الدليل على الحرمة أو الوجوب، فإنّ مقتضى الأصل الإباحة ما لم يثبتا، ونشير هنا إلى بعض هذه الموارد:
1 ـ في مقام الاستدلال على جواز التمشّط بالعاج واستعمال المداهن منه، قال: «دليلنا: إنّ الأصل الإباحة في جميع الأشياء، فمن ادّعى التحريم فعليه الدلالة»[33].
2 ـ حول عدم وجوب السواك قال:«دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضاً الأصل براءة الذمّة، وإيجاب ذلك يحتاج إلى دليل»[34].
3 ـ حول استحباب التسمية على الطهارة قال:«دليلنا: إنّ الأصل براءة الذمّة، وشغلها يحتاج إلى شرع، وليس في الشرع ما يدلّ على وجوب التسمية»[35].
4 ـ حول التمندل من نداوة الوضوء يقول:«دليلنا على جوازه: إنّ الأصل الإباحة، والحظر يحتاج إلى دليل»[36].
من هذه التعابير المختلفة يستفاد الحكم بالبراءة عن الوجوب والحرمة في الشبهات الوجوبيّة والتحريميّة، وهو معنى الإباحة، وكما تقدّم فإنّ المراد من الإباحة هو الإباحة العقليّة لا الشرعيّة؛ لأن الطوسي استند إلى مجموعة أمور هي: أ ـ فقدان الدليل الشرعي على الوجوب والحرمة. ب ـ الأصل القاضي ببراءة الذمّة عن التكليف. ج ـ توقّف إثبات الإلزام الوجوبي أو التحريمي على إقامة الدليل عليه. د ـ توقّف اشتغال الذمّة بالتكليف على حصول الجعل الشرعي.
وهذه الأدلّة الظاهرة في فتاواه تعدّ من سنخ الأحكام العقليّة لا الشرعيّة، فالمراد من الإباحة والبراءة في كلام الطوسي الإباحة والبراءة العقليّة، ومدرك هذه الإباحة ليس سوى قاعدة قبح التكليف بلا بيان وقبح العقاب بلا بيان، ويرجع ذلك إلى أنّه في موارد عدم جعل التكليف الإلزامي والتي لم يصل فيها بيانٌ من الشارع، يحكم العقل بالإباحة والبراءة وبقبح الإلزام أو العقاب على مخالفة التكليف المحتمل.
والشيخ الطوسي وإن لم يسند هذه الأدلّة إلى العقل، إلا أنّ من الممكن القول باستناده إليه، وذلك لأنّه عندما يقول: «وإيجاب ذلك يحتاج إلى دليل» أو «شغلها يحتاج إلى شرع» أو «والحظر يحتاج إلى دليل» وأمثال ذلك، فإنّ هذه الأقوال تدلّ جميعاً على أنّه مع عدم تماميّة الحجّة وقيام البيان والدليل على الإلزام ـ وجوباً أو حرمةً ـ لا يمكن توجيه التكليف إلى المكلّف ولا إفتاؤه بالإلزام، وليس مآل هذا الكلام سوى حكم العقل بالبراءة عن التكليف، والعقل إنّما يحكم بالبراءة كذلك لقبح التكليف بلا بيان، ومع عدم تنجّز التكليف يقبح العقاب على مخالفة التكليف المحتمل، إذ كيف يعاقب المكلّف على تكليف لم يتوجّه إليه؟! وفي النتيجة يمكن القول: إنّ الطوسي قد استند في فتواه إلى هاتين القاعدتين واللتين نجدهما بعد ذلك بقرونٍ في كلمات الوحيد البهبهاني، حيث يقول في استدلاله على البراءة العقليّة:«دليل المجتهدين حكمُ العقل بقبح التكليف والمؤاخذة ما لم يكن بيان»[37].
ولا تفوتنا الإشارة إلى التزام الشيخ الطوسي بإجراء أصالتي البراءة والإباحة في الشبهات الوجوبيّة والتحريميّة على حدٍّ سواء، وذلك في مقابل الشيخين الصدوق والمفيد اللذين اقتصرا على إجرائها في الشبهات التحريميّة، وإن كان ملاك إجرائهما لها في المورد الأخير يصلح للتعدّي إلى مورد الشبهات الوجوبيّة، الأمر الذي قلناه سابقاً.
وقد علّق الطوسي العقاب على أكل الربا بقيام الحجّة في التحريم على آكله، حيث قال: «ومن أكل الربا بعد الحجّة عليه في تحريمه، عوقب على ذلك»[38]، وكأنّه يرى أنّ العقاب على أكل الربا مع عدم الحجّة على تحريمه قبيحٌ، ومن الممكن أن يكون مستنده في ذلك هذه القاعدة؛ إذ كيف يُعاقَب على الحرمة هنا مَنْ لا بيان لديه عليها؟!
ولا بأس بالتنبيه إلى عدم تفرّد الطوسي في الإفتاء بذلك؛ حيث ذهب إليه أيضاً شيخه المفيد[39] وغيره من الفقهاء، من قبيل القاضي ابن البرّاج الطرابلسي [40]، وابن إدريس [41]، وأبي زكريا يحيى بن سعيد الهذلي[42]، وغيرهم.
ومن الممكن أن يكون الطوسي وغيره من الفقهاء قد اعتمدوا على ما رواه الحلبي عن الإمام الصادق%[43].
وبطبيعة الحال، فإنّّنا نعلم أنّ هذا الحكم وغيره من الأحكام ليس تعبّداً محضاً، بل يقف خلفه ملاك خاص، هو باعتقادنا قاعدة «قبح العقاب»، وواقع الأمر أنّ الإمام% قد استند في حكمه بعدم إقامة الحدّ على هذه الكبرى الكليّة العقليّة؛ وذلك لأن أيّ عاقل يدرك بوضوح توقّف العقاب على البيان وتماميّة الحجّة بحيث لا يصحّ العقاب على ما لم تقم عليه الحجّة، ولو كانت الرواية هي مستند الطوسي وغيره في الفتوى المتقدّمة، فإنّ مآلها إلى حكم العقل بالقاعدة.
ولا يفوتنا هنا التنبيه إلى أنّ تعليق الفقهاء العقاب على العلم بالحرمة وإن كان في مورد أكل الربا، إلا أنّ الروايات عدّت ذلك إلى مورد الزنا وشرب الخمر، ومنه يعلم تعيّن حمل ما أفتوا به على المثال، خاصةً وأنّه قد وردت السرقة في روايةٍ أخرى ضمن ما ورد[44].
وبطبيعة الحال، فمن الممكن، بعد أخذ الملاك المتقدّم بعين الاعتبار ـ أعني حكم العقل بالقاعدة ـ التعدّي إلى موارد أخرى مشابهة، غير أنّه لم يتّضح لدينا السبب الذي حدا بالفقهاء إلى الاقتصار على الإفتاء بذلك في مورد أكل الربا، حتى إنّ بعضهم لم يتعرّض لذلك حتّى في مورد الربا.
وقد كنّا أشرنا إلى أنّ من جملة المسائل الأصوليّة التي حظيت باهتمام القدماء مسألة «أصالة الإباحة والحظر»؛ فقد ذهب أكثر الفقهاء ـ ومنهم الطوسي ـ في الشبهات التحريميّة إلى الإباحة، مستندين في كثيرٍ من فتاواهم إلى إليها بوصفها أصلاً وقاعدةً كليّة، وقد قلنا: إنّ مرادهم منها الإباحة العقليّة لا الشرعيّة، وهو ما صرّح به الطوسي؛ إذ قال:«أمّا الكلام في الحظر والإباحة، فعندنا وعند أكثر من خالفنا طريقه العقل»[45]، ومراده من ذلك أنه قبل أن يكون للشرع حكم في مورد الحظر، فإنّ الدليل على الإباحة أو الحظر ـ بناءً على من يذهب إليه ـ سيكون حكم العقل بأحدهما لا الشرع، ناسباً إلى فقهاء الشيعة كافّة وأكثر فقهاء أهل السنّة القول بأنّ هذه المسألة عقليّة.
ويعتبر هذا الكلام خير شاهد على دعوانا كون مرادهم من الإباحة في الشبهات التحريميّة الإباحة العقليّة لا الشرعيّة، وأنّ طريق إثباتها العقل لا الشرع، إذ لم يصل من الشرع دليلٌ بحسب الفرض حتى تثبت الإباحة أو الحظر بالخطاب الشرعي، ونحن نعلم أنّ الإباحة الشرعيّة تحتاج إلى دليل يُثبتها، شأنها في ذلك شأن الوجوب والحرمة الشرعيّين، والفرض عدم وصول دليل، ولو قام لما برزت الحاجة إلى تأسيس الأصل، بل لحكمنا في هذا المورد أيضاً بالإباحة الشرعيّة كما في سائر الموارد التي يقوم فيها دليل شرعي عليها، إذاً، فالحاكم بالإباحة في الشبهات مطلقاً ـ حال حكمنا بذلك ـ ليس سوى العقل.
وبناءً على ذلك، على القائلين بأصالة الإباحة أو الحظر على حدّ سواء اللجوء إلى حكم العقل في مقام إثبات دعواهم، وهو ما فعله الطوسي، إذ قال:«طريقه العقل»، ونحن نعلم أنّ الأحكام العقليّة ليس جزافيّةً بل تستند إلى الإدراكات العقليّة، والعقل أيضاً يحكم بوضوح بقبح تنجّز التكليف حال عدم وجوده أو حال عدم تماميّة الحجّة والبيان عليه، وكذا العقاب، وينتج عن ذلك حكمه بالإباحة إزاء الفعل والترك، ثمّ إنّ الطوسي وإن لم يصرّح بالطريق العقلي المثبت للإباحة العقليّة، إلا أنّه من الممكن القول:إنّ حكم العقل بها من أبرز مصاديق قاعدتي:«قبح التكليف بلا بيان» و«قبح العقاب بلا بيان».
مع الشهيد الصدر في قراءته التاريخية
وحول التطوّر التاريخي لقاعدة «قبح العقاب بلا بيان»، يقول الصدر: وأمّا فيما بعد الصدوق، فالمفيد والطوسي لم يظهر منهما تبنّي هذه القاعدة العقليّة، بل قد يستشمّ من كلامهما العكس»[46]. وكلامه هذا محلّ تأمّل، وذلك:
أولاً: كيف ينسب الصّدر العكس إلى الطوسي والمفيد، مع ذهابهما إلى الإباحة العقليّة في الشبهات التحريميّة؟! وإثبات الإباحة العقليّة من غير طريق القاعدتين المتقدّمتين أمرٌ غير ممكن، كما فصّلناه.
ثانياً: إنّ الطوسي صرّح نوعاً ما في تفسيره «التبيان» بقاعدة «قبح العقاب بلا بيان»؛ حيث قال: «وقوله >وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً< (الإسراء: 15) إخبارٌ من الله أنّه لا يعاقب أحداً على معاصيه حتى يستظهر عليه بالحجج وإنفاذ الرسل ينبّهونه على الحقّ ويهدونه إليه ويرشدونه إلى سلوكه استظهاراً في الحجّة؛ لأنّه إذا اجتمع داعي العقل وداعي السمع إلى الحقّ تأكّد الأمر وزال الرّيب فيما يلزم العبد» إلى قوله: «فإنّه لا يحسُنُ من الله تعالى ـ مع ذلك ـ أن يعاقب أحداً إلا بعد أن يعرّفه ما هو لطفٌ له ومصلحة؛ لتزاح علّته»[47].
إنّ الجملتين المتقدّمتين تشيران بوضوح إلى القاعدة العقليّة، وهما ـ إضافةً إلى ذلك ـ موافقتان لمفاد الآية المباركة؛ لأنّها تدلّ على عدم العقاب مع عدم البيان، وعندها يمكن القول: إنّ ما ورد في الآية إرشاد إلى حكم العقل بالقاعدة، ولعلّ قوله: «إخبارٌ من الله أنّه لا يعاقب أحداً على معاصيه حتى يستظهر عليه بالحجج»، إشارة منه إلى إرشاديّة الآية، لا تأسيسها للقاعدة، ولذا قال في ذيل كلامه: «فإنّه لا يحسُنُ من الله تعالى ـ مع ذلك ـ أن يعاقب أحداً إلا بعد أن يعرّفه ما هو لطفٌ له»، ومن الواضح أنّ مراده من قوله: «لا يحسُنُ» عدم الحسن العقلي، بمعنى أنّه يقبح لدى العقل معاقبة شخص حتّى تتمّ الحجّة عليه، ومن خلال ما بيّناه، اتّضح أنّ مراده من قوله حكم العقل بالقاعدة، حيث صاغه بهذا القالب وطرحه بهذه العبارة.
السيّد المرتضى (355 ـ 436 هـ)
في موارد مختلفة من إفتائه بالجواز وعدم الحرمة أو عدم الوجوب، اعتمد السيّد المرتضى على فقدان الدليل والنصّ، قائلاً: إنّه ما لم يقم دليلٌ على الحكم، لا يمكن الإفتاء به، ومرجع ذلك هو الحكم بالبراءة في موارد الشكّ في التكليف، وتحسن الإشارة إلى موردين هما:
1ـ قال ـ لدى حديثه عن الدليل على عدم بطلان الوضوء بخروج المذي والوذي ـ : «إنّ نقض الطهر حكم شرعيّ لا محالة لا يجوز إثباته إلا بدليل شرعيّ، ولا دليل على أنّهما ينقضان الوضوء»[48].
2ـ وفي مقام تعيين أقلّ الطهر بين الحيضتين، وأنّه عشرة أيام أو أكثر، أفتى بالعشرة، مستدلاً عليه: «فإنّ المدّة التي ذهبنا إليها، وهي عشرة أيّام، مجمع عليها، وعلى من ذهب إلى الزيادة عليه الدلالة، ولا حجّة في ذلك تعتمد»[49].
وكما نلاحظ، فقد حكم في مورد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر بالبراءة عن الأكثر؛ وذلك لقيام الدليل على الأقل فيكون حكمه قطعيّاً، أمّا الأكثر فإنّنا لمحلّ الشكّ منه، احتجنا إلى الدليل على إثباته، ومع عدم الدليل على الزائد، لا يقع متعلّقاً للتكليف، أمّا مراده من الدليل الشرعي فالبيان والحجّة الشرعيّين، وفي النتيجة، فإنّ إثبات أيّ أمر في الشرع، وضعي أو تكليفي، منوطٌ ـ في نظره ـ بالدليل والحجّة الشرعيّين، ومع عدمهما لا يمكن إسناده إلى المولى، وبناءً عليه، فإثبات العقاب على مخالفته سيكون ـ وبطريقٍ أولى ـ محتاجاً إلى البيان. ومقتضى ما ذكرناه عدم صحّة التكليف والعقاب مع عدم البيان.
ومن الجدير ذكره أنّ المرتضى لم يقصر إجراء البراءة على موارد الشكّ في التكليف، بل عدّاه إلى موارد الشكّ في الأحكام الوضعيّة، من هنا نجد أنّه في مورد الشكّ في انتقاض الوضوء وبطلانه ـ وهو حكمٌ وضعي لا تكليفيّ ـ حكم بالبراءة لفقدان الدليل والنصّ. وعلى هذا الأساس قلنا: إنّ رأيه في مورد الشكّ في العقاب ـ وهو حكم وضعي ـ هو البراءة ما لم يقم عليه بيان، وهذا هو مفاد قاعدة «قبح العقاب».
يقول المرتضى فيما يتعلّق بـ«قبح التكليف بلا بيان»:«وقد كنّا اعتمدنا في بعض كتبنا عند الكلام على هذه الطريقة على أنّ التكليف بلا أمارة مميّزة متقدّمة قبيحٌ، وإن علم المكلِّف أنّ المكلّف تتّفق الإصابة منه، وضربنا لذلك المثل بمن كلّف غيره أن يخبره بما في البيت من غير أمارة»[50]، فالمستفاد من هذا النصّ أنّه صاغ «قبح العقاب» في قالب «قبح التكليف»، ويظهر أيضاً اعتقاده بأنّ على المكلّف أن يكون على علم بالتكليف قبل امتثاله له حتى يمكن توجّهه إليه؛ وأنّ على المقنّن ـ أو بحسب تعبيره: المكلِّف ـ بيان التكليف إلى المكلّف ببيان وافٍ وكامل ـ وبحسب تعبيره: بأمارة مميّزة ـ كي يكون منجّزاً عليه؛ وأنّ التكليف في غير هذه الحالة سيكون قبيحاً، ثمّ ضرب لقاعدة «قبح العقاب» مثالاً صاغها به على أنّها أمر عرفيٌّ، واعتبرها موافقةً لبناء العقلاء.
وكما ذكرنا سابقاً، فإنّ القول بقبح التكليف بلا بيان يقطع السبيل إلى القول بالعقاب على التكليف المحتمل؛ لأنّه مع عدم تنجّزه ببركة «قبح التكليف»، ومع قبح تعلّق هذا التكليف في ذمّة المكلّف، يكون العقاب عليه قبيحاً بطريق أولى؛ لوضوح أنّ موضوع العقاب هو التخلّف عن أداء التكليف، ومع عدم توجّه التكليف، تنتفي العقوبة من باب السالبة بانتفاء الموضوع.
ويرى المرتضى أنّ الوجوب حال تعلّق الأمر بعدّة أمور، وإن تعلّق بها جميعاً، إلا أنّه يكون على نحو التخيير، ويقول في ردّه على القائلين بوجوب أحد هذه الأمور على نحو الوجوب غير المعيّن:«إنّ الواجب من الكفّارات لو كان واحداً لا بعينه لوجب أن يجعل الله تعالى للمكلّف طريقاً إلى تمييزه قبل أن يفعله؛ لأن تكليفه أن يفعل واحداً لا بعينه من جملة ثلاث، يجري مجرى تكليفه ما لا يطاق»[51].
وممّا استدلّ به المرتضى يفهم أنّ تنجّز التكليف وتوجّهه منوطٌ بالبيان الذي عبّر عنه بالتمييز، وأنّ على الشارع الحكيم أن يجعل للمكلّف طريقاً إلى تمييز الواجب قبل الإتيان به، وفي غير هذه الحال يلزم التكليف بما لا يطاق؛ لأنّه تكليف بما لا حجّة عليه؛ وبناءً عليه، فالتكليف بلا بيان ولا تمييز قبيحٌ؛ وما لم يتوجّه التكليف إلى المكلّف، لم يصحّ عقابه على مخالفته له؛ إذ مع عدم توجّه التكليف؛ للزوم التكليف بما لا يطاق، يكون العقاب على مخالفته قبيحاً بطريق أولى.
ويقول المرتضى حول طرق إثبات المضارّ الدنيويّة والأخرويّة: «المضرّة على ضربين: عاجلة و آجلة، فالعاجلة يعلم فقدها لفقد طرق العلم بها أو الظّنّ لها، و للعلم أدلّة و طرق، و للظّنّ أيضاً أمارات وطرق، فإذا فقد كلّ وجوه العلم والظّنّ، قطع على انتفاء المضرّة العاجلة. و لولا صحّة هذه الطّريقة لم يعلم انتفاء المضرّة عن تصرّفنا و تجاراتنا و كثير من أفعالنا. و تجويز المضرّة في الفعل من غير أمارة عليه يلحق بظنّ أصحاب السّوداء. و أمّا المضرّة الآجلة فهي العقاب، وإنّما يعلم انتفاء ذلك لفقد السّمع الّذي يجب أن يرد به لو كان ثابتاً؛ لأن اللّه تعالى لابد أن يُعلمنا ما علينا من المضارّ الآجلة التي هي العقاب الّذي يقتضيه قبح الفعل، وإذا فقدنا هذا الإعلام قطعنا على انتفاء المضرّة الآجلة أيضاً»[52].
ويستفاد ـ بوضوحٍ ـ من كلامه هذا أنّه مع فقدان الطرق الظنيّة والعلميّة المعتبرة ـ أي البيان ـ على وجود المضارّ الدنيويّة والعقوبات الأخرويّة، لا يمكن توجيه العقاب إلى المكلّف؛ إذ لا بيان عليه، ومع عدمه، يكون العقاب قبيحاً؛ لذا تراه يقول:«لأنّ اللّه تعالى لابد أن يُعلمنا ما علينا من المضارّ الآجلة التي هي العقاب»، والمراد من «اللابديّة» في كلامه هو اللابديّة العقليّة، بمعنى إناطة ثبوت العقاب بقيام البيان عليه، وإلا ـ ومع عدم تماميّة الحجّة ـ لا يصحّ العقاب. وقد استفاد المرتضى من قاعدة «قبح التكليف بلا بيان» في موارد فقهيّة وأصوليّة مختلفة، فحكم بجملة من الأحكام الفقهيّة والأصوليّة بما ينسجم معها، وقد أشرنا إلى أنّ «قبح العقاب» من لوازم «قبح التكليف» غير المنفكّة عنها، ومتى ما قبح التكليف بلا بيان، قبح كذلك العقاب بطريقٍ أولى. وهناك نصوص أخرى أيضاً دالّة، تراجع[53].
المحقّق الحلّي (602 ـ 676 هـ)
أفتى المحقّق الحلّي في مورد فقدان الدليل والنصّ على الحكم بانتفاء الحكم، معتبراً أنّ عدم الدليل دليلٌ على عدم الحكم؛ إذ يقول: «الثاني أن يقال: عدم الدليل على كذا فيجب انتفاؤه، وهذا يصحّ فيما يعلم أنّه لو كان هناك دليل لظفر به، أمّا لا مع ذلك فإنّه يجب التوقّف ولا يكون ذلك الاستدلال حجّة، ومنه القول بالإباحة لعدم دليل الوجوب والحظر»[54].
وما يفهم من كلامه، ذهابه إلى البراءة في الشبهات البدويّة ـ وجوبيّةً كانت أو تحريميّة ـ وكذلك تقييده لجريان البراءة بفحص الفقيه عن الدليل وحصول الاطمئنان لديه بأنّه لو كان لبان، وحيث لم يصل من الشارع دليلٌ على الوجوب أو الحرمة، تعيّن الحكم بالإباحة.
باعتقادنا أنّ الحكم بالإباحة حال فقدان الدليل على الإلزام، من مصاديق الإفتاء بعدم الحكم حال فقدان النصّ والدليل. وبشكلٍ عام فإنّ البراءة المحكوم بها في هذا المورد لا يمكن أن تكون براءةً أو إباحة شرعيّة؛ لأنّ الحلّي لم يُثبتها عن طريق الأدلّة الشرعيّة، بل البراءة العقليّة، من هنا عدّ هذه الموارد من موارد «استصحاب حال العقل» في مقابل «استصحاب حال الشرع»، وهذا يعني أنّه حكم بالبراءة على أساس حكم العقل، وعلى الرغم من إمكان المناقشة في إلحاق هذه الموارد بـ«استصحاب حال العقل»، إلا أنّ المتحصّل من المجموع هو أنّ المحقّق حكم بالبراءة على أساس العقل لا الشرع. ويرجع هذا الحكم إلى قاعدة «قبح التكليف بلا بيان»؛ لتوقّف الحكم بالوجوب أو الحرمة على الدليل، فيحكم حال فقدانه بعدم التكليف، ومع عدمه يقبح العقاب؛ لأن العقاب فرع العصيان، والعصيان فرع مخالفة الحكم الإلزامي، والحكم الإلزامي ـ وجوباً أو حرمة ـ محتاج إلى الدليل، وعملاً بمبدأ: عدم الدليل دليل العدم، يحكم بنفي الإلزام يتبعه نفي العقاب.
ومن الممكن الإشكال على المحقّق بأنّ عدم الدليل لا يمكن أن يكون دليلاً على العدم؛ إذ من الممكن وجوده في لوح الواقع دون وصوله إلينا، فيلزم ـ عقلاً ـ القول: إنّ عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.
وجواباً على هذا الإشكال يقال: إنّ ما ينجّز التكليف على المكلّف ويجعله فعليّاً في حقّه هو البيان الواصل لا البيان الواقعي؛ إذ لو حكم الشارع في لوح الواقع بحرمة شيءٍ أو وجوبه، ولم يكن للمكلّف سبيلٌ للوصول إليه، فهل يمكن القول بتنجّز هذا التكليف عليه أم أنّ له الحكم بعدم تنجّزه عملاً بقبح التكليف بلا بيان؟ فالحكم إن كان منجّزاً بوجوده الواقعي، فلا معنى لقيام الأحكام الظاهريّة مقام الواقعيّة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى جريان الأصول العمليّة عند الشكّ في الحكم الواقعي، وما نراه في موارد معيّنة من قيام أحكام ظاهريّة خاصّة مقام الواقعيّة، يكشف عن عدم تنجّز الواقع بما هو واقع.
وبناءً عليه، يُشرط تنجّز الأحكام بوصولها إلى المكلّف من الطرق العقلائيّة والشرعيّة المتعارفة، شرط عدم تقصيره في تحصيلها، ومع عدم وقوفه على الدليل بعد الفحص، يحكم بعدم تنجّز التكليف ظاهراً، وذلك بمقتضى «قبح التكليف» الموازية لـ«قبح العقاب»؛ وعليه يكون معنى قاعدة «عدم الدليل دليلُ العدم» أنّ عدم الدليل وفقدان النصّ دليلٌ على عدم تنجّز التكليف لا عدم وجوده واقعاً؛ فلا يبقى مجالٌ للإشكال بما ذكر.
وفي النتيجة نجد أنّ قاعدة «قبح التكليف بلا بيان» هي المستند الأساس لقاعدة «عدم الدليل دليلُ العدم»؛ إذ مع فرض عدم ظفر المكلّف بالدليل عبر الطرق المتعارفة، يكون التكليف الموجّه إليه مصداقاً للتكليف بلا بيان، وهو ما يقبّحه العقل، فلا يكون منجّزاً، ومع عدم تنجّزه، يقبح العقاب عليه بطريق أولى، فإنّ العقاب موضوعه المخالفة، ومع فقدان الدليل الملزم لا مخالفة.
يقول الحلّي؛ لإثبات البراءة العقليّة: «فاعلم أنّ الأصل خلوّ الذمّة عن الشواغل الشرعيّة، فإذا ادّعى مدّعٍ حكماً شرعيّاً، جاز لخصمه أن يتمسّك في انتفائه بالبراءة الأصليّة، فيقول: لو كان ذلك الحكم ثابتاً لكان عليه دلالةٌ شرعيّة، لكن ليس كذلك، فيجب نفيه ولا يستمرّ (أي لا يتمّ) هذا الدليل إلا ببيان مقدّمتين: إحداهما: أنّه لا دلالة عليه شرعاً، بأن (نضبط) طرق الاستدلالات الشرعيّة ونبيّن عدم دلالتها عليه. والثانية أن (نبيّن) أنّه لو كان هذا الحكم ثابتاً لدلّت عليه إحدى تلك الدلائل؛ لأنّه لو لم يكن عليه دلالة، لزم التكليف بما لا طريق للمكلّف إلى العلم به وهو تكليف بما لا يطاق، ولو كان عليه دلالة غير تلك (الأدلّة) لما كانت أدلّة الشرع منحصرة فيها، لكن قد بيّنا انحصار الأحكام في تلك الطرق، وعند هذا يتمّ كون ذلك دليلاً على نفي الحكم»[55].
ويريد من البراءة الأصليّة البراءةَ العقليّة لا الشرعيّة، وقد استند في إثباتها إلى قاعدة: عدم الدليل دليلُ العدم، وهي عبارة عن التكليف بلا بيان، ولإثبات الأخيرة استند إلى «قبح التكليف بما لا يطاق»؛ لأنّ تنجيز التكليف الواقعي على المكلّف دون وصوله إليه بحيث يعاقب على مخالفته، تكليفٌ بما لا يطاق. وبيانه أنّ تحقيق المكلّف لإرادة المولى إنّما يكون ميسوراً حال توفّره على ما يدلّ على تلك الإرادة، ومن هنا كان تكليفه بما لا دلالة عليه تكليفاً بما لا يطاق؛ وعلى هذا الأساس حكمنا عقلاً بقبح التكليف بلا بيان، وبطريقٍ أولى قبح العقاب.
إلى غيرها من النصوص الدالّة في كتبه، فلتراجع[56].
ومن مجموع ما نقلناه ]في المتن والهامش[ عنه، يتّضح أنّه يذهب إلى البراءة في موارد الشكّ في أصل التكليف، وأنّ مراده منها البراءة العقليّة لا الشرعيّة؛ لاستناده فيها إلى جملة أدلّة عقليّة من قبيل عدم الدليل دليل العدم، وقبح التكليف بلا بيان، وقبح العقاب بلا بيان، ومن الواضح انتفاء العقاب حال عدم تنجّز التكليف المحتمل.
العلامة الحلّي (647 ـ 726 هـ)
يقول العلامة الحلّي في مورد الشكّ في أصل التكليف: «الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة؛ لأنّها نافعة خالية عن أمارة المفسدة، ولا ضرر على المالك في تناولها فكانت مباحة»[57]، فقد ذهب إلى البراءة حيث لا حكم إلزاميّ للشارع، وكذلك في موارد الشكّ في أصل التكليف، ولا يتوهّم أنّ مراده من الإباحة هنا الإباحة الشرعيّة؛ وذلك لدليلين:
أولاً: إنّ الإباحة إنّما تكون شرعيّةً حال حكم الشارع بها، والفرض عدمه كي يصحّ حملها عليها.
ثانياً: إنّ العلاّمة استدلّ على الإباحة بدليلٍ عقلي، مفاده أنّ الأشياء حال كونها نافعةً ولا ضرر على المالك في تناولها، يُحكَمُ بإباحتها وجواز تناولها، فيكون الحكم حال عدم البيان والأمارة على المفسدة هو الإباحة، وهي عبارة عن الإباحة العقليّة، وعليه، يكون قد استند هنا إلى عدم قيام الأمارة على المفسدة، فيقبح العقاب.
يقول العلاّمة في موضعٍ آخر: «قد وقع الإجماع على أنّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة وإلا لزم تكليف ما لا يطاق»[58]، ومن الواضح أنّه استند في ذلك إلى دليلين: أوّلهما الإجماع، وثانيهما حكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق، ويقصد من الإجماع هنا الإجماع الاصطلاحي، أي الإجماع الكاشف عن قول المعصوم%، أو لا أقل بمعنى اتفاق الفقهاء، وقد قالوا: إنّ الإجماع دليلٌ حيث لا دليل.
ومع الأخذ بعين الاعتبار استناده إلى دليل العقل؛ فمن الممكن أن يكون هذا الدليل بعينه مُستَنَدَ المجمعين، فيكون الإجماع مدركيّاً؛ وعليه يكون مراد العلامة أنّ الفقهاء اتّفقوا على عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإلا كان التكليف بما لا يطاق، ولهذا نجده حكم بعدم تكليف الغافل؛ حيث قال: «وكذلك الغافل غير مأمور؛ لأن تكليف من لا يعلم الخطاب حال التكليف، تكليف بما لا يطاق»[59].
ومن هذين النصّين، يظهر أنّ العلاّمة أناط تنجّز التكليف بوصوله إلى المكلّف، وأنّ تكليفه مع عدم البيان غير ممكن؛ لأن تنجّزه حينئذٍ يكون تكليفاً بما لا يطاق، إذ كيف يكلّف الشارع من لم يقم لديه البيان والعلم بما قد أنيط تنجّزه بالعلم؟ وكيف للمكلّف امتثال تكليف الشارع غير المتوجّه إليه بمقتضى قبح التكليف بما لا يطاق؟ وبعد ذلك يكون العقاب عليه وبطريق أولى قبيحاً.
المحدّث يوسف البحراني (1186 هـ)
يقول المحدّث البحراني حول جريان البراءة عند الشكّ في التكليف: «إنّ البراءة الأصليّة على قسمين: أحدهما أنّها عبارة عن نفي الوجوب في فعلٍ وجوديّ إلى أن يثبت دليله، بمعنى أنّ الأصل عدم الوجوب حتى يثبت دليله. وهذا القسم ممّا لا خلاف ولا إشكال في صحّة الاستدلال به والعمل عليه؛ إذ لم يذهب أحدٌ إلى أنّ الأصل الوجوب؛ لاستلزام ذلك تكليف ما لا يطاق»[60].
والبحراني صاحب الحدائق، وخلافاً لكثيرٍ من الأخباريّين، التزم ـ على الأقلّ ـ بجريان البراءة في الشبهات الوجوبيّة، مقيماً ثلاثة أدلّة ـ بحسب نصّه السابق هي: 1ـ اتفاق الفقهاء. 2ـ الأصل الأوّلي في موارد الشكّ في التكليف يقتضي نفي التكليف لا إثباته؛ ولذا لم يحكم أحدٌ بأصالة الوجوب. 3ـ التكليف بما لا يطاق.
وعلى الرغم من قصر البحراني كلامه على الشبهات الوجوبيّة، إلا أنّه من الممكن التعدّي إلى الشبهات التحريميّة؛ وذلك لجريان الأدلّة المذكورة في سائر الشبهات الإلزاميّة، وعلى وجه الخصوص دليل العقل الحاكم بقبح التكليف بما لا يطاق، وعلى هذا الأساس، حكم الفقهاء المتقدّمون ـ كالصدوق والمفيد ـ بالإباحة في الشبهات التحريميّة لدى تأسيسهم الأصل، ولم يقل أحدٌ بأصالة الحرمة.
وهنا يقول المحقّق:«إنّ أهل الشرائع كافّة لا يخطئون من بادرَ إلى تناول شيءٍ من المشتبهات، سواء علم الإذن فيها من الشرع أو لم يعلم، ولا يوجبون عليه عند تناول شيء من المآكل أن يعلم التنصيص على إباحته، ويعذرونه في كثيرٍ من المحرّمات إذا تناولها من غير علم، ولو كانت محظورةً لأسرعوا إلى تخطئته حتى يعلم الإذن»[61].
وممّا يستفاد بوضوح من عبارة المحقّق إسناده الحكم بالبراءة في مورد الشبهات التحريميّة إلى أهل الشرائع كافّة، ومن هذا المنطلق قلنا: إنّ البحراني وإن طرح أدلّة البراءة في الشبهات الوجوبيّة، إلا أنّه يمكن تعميمها لتشمل الشبهات التحريميّة أيضاً.
ويريد البحراني من البراءة الأصليّة البراءةَ العقليّة؛ لاستناده في الاستدلال عليها إلى أدلّةٍ عقليّة، أو لا أقلّ أن يكون مراده ما هو أعمّ من البراءتين: العقليّة والشرعية، وعندها ستكون الأدلّة العقليّة سنداً قويّاً لحكم الشرع بالبراءة، كما هي الحال عند الميرزا القمّي الذي استعان بها لإثباتهما؛ حيث يقول: «القاعدة المستفادة من العقل والنقل أن لا تكليف إلا بعد البيان، أو وصول البيان إلينا بعد الفحص والطلب بقدر الوسع، فيما يحتمل فيه الحكم المخالف للأصل؛ للزوم التكليف بما لا يطاق لولاه»[62].
ونعود أدراجنا؛ لنقف قليلاً عند كلمات البحراني الذي أقام دليلين عقليّين على البراءة العقليّة:
الدليل الأوّل: أصالة عدم الوجوب حتى يثبت دليله، ومن غير الممكن أن يكون هذا الأصل شرعياً، بل العقل يحكم ـ وبمقتضى قبح التكليف بلا بيان، بإناطة إثبات الحكم الإلزامي بالدليل، ومتى لم يثبت الدليل، لا يثبت الحكم، ومن غير الممكن للشارع ـ أو أيّ مقنّن آخر ـ إلزام المكلّف بحكمٍ لم يُقِم عليه دليلاً أو أمارة معتبرة، ثمّ إنّ العقل يحكم بقبحه، من هنا حكمنا بأصالة عدم الوجوب حتى يثبت دليله.
الدليل الثاني: قاعدة «قبح العقاب»، ومراده أنّ حكم الشارع بالوجوب في مورد الشبهات الوجوبيّة تكليفٌ بما لا يطاق؛ لإرادة المشرّع شيئاً لم ينصب طريقاً للوصول إليه. وعليه، ففي حالة عدم الدليل والبيان على الحكم الإلزامي، وبمقتضى قبح التكليف بما لا يطاق، لا يكون التكليف منجّزاً، فيقبح العقاب بطريقٍ أولى؛ لأنّه فرع مخالفة التكليف الإلزامي، والحال أنّ التكليف غير متوجّه إلى المكلّف، فكيف يصحّ عقابه على مخالفته؟!
الوحيد البهبهاني
يقول الوحيد البهبهاني حول البراءة العقليّة: «اعلم أنّ المجتهدين ذهبوا إلى أنّ ما لا نصّ فيه والشبهة في موضوع الحكم الأصلي فيهما البراءة، والمقصود بالأوّل الشبهة الحكميّة، وبالثاني الشبهة الموضوعيّة.. دليل المجتهدين حكم العقل بقبح التكليف والمؤاخذة ما لم يكن بيان»[63].
وهذا النصّ هو الأوضح من بين كلمات الفقهاء المتقدّمين في إبرازه لقاعدتي: «قبح التكليف» و«قبح العقاب» معاً، وقد لجأ البهبهاني إلى القاعدتين في استدلاله على البراءة العقليّة في تمام موارد الشبهات الحكميّة والموضوعيّة، ملتزماً بها في مورد الشكّ في أصل التكليف، أو ما يعبّر عنه أصولياً بالشبهات البدويّة، لا الشكّ في الفراغ عن التكليف بعد ثبوته في عُهدة المكلّف؛ حيث يجري الاحتياط.
يقول: «فرقٌ بين مقام ثبوت التكليف ومقام الخروج عن عهدة التكليف الثابت؛ إذ بمجرّد الاحتمال لا يثبت التكليف على المجتهد والمقلّد له بعد استفراغ وسع المجتهد في الاجتهاد والمقلّد في التقليد؛ لما عرفت من أنّ الأصل براءة الذمّة حتى يثبت التكليف، ويتمّ الحجّة وأنّه ما لم يتمّ الحجّة لم يكن مؤاخذة أصلاً، وقبح في الارتكاب والترك مطلقاً»[64].
وهنا أيضاً نجد أنّ البهبهاني لجأ إلى القاعدتين المتقدّمتين ؛لإثبات البراءة العقليّة حال الشكّ في التكليف، وبيانه أنّ احتمال التكليف لوحده غير منجّز، ومع عدم التكليف الإلزامي، لا مورد للمؤاخذة والعقاب، فيقبحان.
إلى هنا، نكون قد استعرضنا ـ على نحو الإجمال ـ التطوّر التاريخي لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، من زمن الصدوق وحتى البهبهاني، وتبقي كلمات من تأخّر عن البهبهاني ممّن بحث في القاعدة وبعض ما يتعلّق بها من قبيل كونها عقليّة، ودائرة شمولها ضمن مختلف المسائل الفقهيّة والأصوليّة، وغير ذلك من الأمور، وسنترك استعراضها إلى فرصةٍ أخرى.
المتكلّمون وقاعدة:«قبح التكليف» و«قبح العقاب»
تناولنا ـ حتى الآن ـ هاتين القاعدتين من وجهة النظر الفقهيّة والأصولية؛ حيث سلّطنا عليهما الضوء ضمن هذا الإطار، وقد حان الوقت للحديث عنهما من وجهة نظر علم الكلام؛ فقد جرى ديدن المتكلّمين ـ لدى تعريفهم للتكليف والحديث عن شروطه ـ على التطرّق إلى العقاب بلا بيان على نحو الاختصار، وقد يرجع ذلك إلى شدّة وضوح القاعدتين، وبلوغهما من البداهة ما يقطع السبيل على التشكيك بهما، ونشير ـ فيما يلي ـ إلى كلمات بعض العلماء وهي:
1ـ يرشدنا التتبّع إلى أنّ الشيخ الطوسي أوّل من تعرّض إلى «الإعلام» في تعريف «التكليف»؛ حيث يقول: «وإعلام المكلّف ووجوب الفعل أو حسنه أو دلالته عليه شرطٌ في حُسن التكليف من الله؛ لأنّه من جملة إزاحة العلّة فيما كلّفه»[65]، وفي موضعٍ آخر يشترط في التكليف جملة أشياء منها علم المكلّف به، وحُسن الأشياء وقبحها، ووجود الطرق والأدلّة الموصلة إليه[66].
2ـ يقول ميثم البحراني (636 ـ 699 هـ) في تعريف التكليف: «وشَرَطنا الإرادة والأعلام بها؛ لأنّ ما لا يعلم المكلّف أنّ مكلِّفه أراد ه، لا يكون تكليفاً»([67])، وكما نلاحظ فإنّ التكليف عند البحراني ـ تبعاً للطوسي ـ مشروطٌ بالإعلام، وإلا فلا صدق له.
3ـ يقول العلاّمة الحلّي ـ شارحاً كلام الخواجة نصير الدين الطوسي ـ : «التكليف مأخوذٌ من الكُلفة، وهي المشقّة، وحدّه أنّه إرادة من تجب طاعته على جهة الابتداء ما فيه مشقّة بشرط الإعلام»[68]، ثم يقول في مقام تعليل اشتراط الإعلام في التكليف: «وشَرَطنا الإعلام؛ لأن المكلّف إذا لم يعلم إرادة المكلِّف بالفعل، لم يكن مكلّفاً»، ثم يعرّج على الحديث عن قبح العقاب مع عدم إبلاغ التكاليف بواسطة الرسول (والبيان)، قائلاً: «المكلِّف إذا منع المكلَّف عن اللطف قبح منه عقابه؛ لأنّه بمنزلة الآمر بالمعصية والملجئ إليها، كما قال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً)) (طه: 134)، فأخبر أنّه لو منعهم اللطف في بعثه الرسول لكان لهم أن يسألوا بهذا السؤال، ولا يكون لهم هذا السؤال إلا مع قبح إهلاكهم من دون البعثة..»[69].
4ـ يقول المقداد السيوري (ق: 9هـ) ـ لدى توضيح تعريف العلامة الذي قيّد فيه التكليف بشرط الإعلام ـ : «بشرط الإعلام؛ لأنّ المكلّف إذا لم يعلم بما طلب منه لا يكون مكلّفاً»، ثمّ عمّم «الإعلام» ليشمل البيانين: العقلي والشرعي، قائلاً: «والإعلام إمّا بتكميل عقله فيستدلّ به، أو إرسال الرسل..»[70].
ومن مجموع كلمات هؤلاء المتكلّمين، يظهر بوضوح أنّ البيان وإعلام المكلّف من جملة شروط التكليف، وبعبارةٍ أدقّ: من جملة شروط تنجّزه، بمعنى كونهما من أركان هذا التنجّز، سواء كان التكليف وجوبيّاً أو تحريميّاً، إلزاميّاً أو غيره، ومتى ما كانا كذلك، فلا يتنجّز التكليف حال فقدهما، ومن ثمّ يقبح العقاب والمؤاخذة.
قراءة تاريخيّة نقدية
أ. إسماعيل دارابكلائي(*)
ترجمة: أحمد أبو زيد
الهوامش
(*) باحث من الحوزة العلمية.
[1] ـــ مباحث الأصول ق2: 3: 63، 69.
[2] ـــ التبيان في تفسير القرآن 6: 547 ـ 548.
[3] ـــ الذريعة 2: 665.
[4] ـــ بحوث في علم الأصول 5: 28 ـ 29.
[5] ـــ الحدائق الناضرة 1: 43.
[6] ـــ تصحيح اعتقادات الإماميّة: 143؛ المعتبر في شرح المختصر 1: 32؛ معارج الأصول: 208.
[7] ـــ الوافية في أصول الفقه: 173.
[8] ـــ فرائد الأصول 1: 335.
[9] ـــ مباحث الأصول 3: 69 ـ 70؛ وراجع كلام العراقي في نهاية الأفكار ج3: ق2: 199.
[10] ـــ مقالات الأصول 2: 62.
[11] ـــ درر الفوائد: 427.
[12] ـــ بحوث في علم الأصول 5: 26.
[13] ـــ نقل المؤلّف كلام الصدر بالفارسيّة دون ذكر المصدر. وأقرب ما وجدته إلى المعنى المنقول ما ذكره في «الحلقة الثانية» تحت عنوان «القاعدة العمليّة الأوليّة في حالة الشكّ»؛ فانظر الحلقة الثانية، طباعة المؤتمر العالمي للشهيد الصدر: 367. (المترجم).
[14] ـــ الحلقة الثالثة، طباعة المؤتمر العالمي للشهيد الصدر: 336.
[15] ـــ بحوث في علم الأصول 5: 26.
[16] ـــ انظر: بحوث في علم الأصول 5: 26. (المترجم).
[17] ـــ الحلقة الثالثة: 59.
[18] ـــ لا يخفى أنّ كلام الصدر في تحديد القاعدة العمليّة الأوليّة في حالة الشكّ، أي بغضّ النظر عن أيّ دليل شرعي، وإلا فإنّه من القائلين بالبراءة الشرعيّة. (المترجم).
[19] ـــ كيف؟ ورفع الدليل الشرعي لموضوع الحكم العقلي التعليقي لا يصيّر الحكم العقليّ شرعيّاً، وعلى تقدير تماميّته يرد على المشهور؛ لأن حكم العقل بقبح العقاب معلّق عندهم على «اللابيان»، ومتى ما تمّ البيان كان رافعاً لموضوع الحكم العقلي. (المترجم).
[20] ـــ بحوث في علم الأصول 5: 24.
[21] ـــ المصدر نفسه: 28.
[22] ـــ المصدر نفسه: 79 ـ 80.
[23] ـــ ذكرنا سابقاً رفع النص الشرعي لموضوع القاعدة العقليّة، وهو «اللابيان». (المترجم).
[24] ـــ هذه مسامحة، وإلا فمراده أنّ مورد الاحتمال الشامل لحقّ الطاعة هو البيان. (المترجم).
[25] ـــ الاعتقادات: 114.
[26] ـــ بحوث في علم الأصول 5: 25.
[27] ـــ تصحيح اعتقادات الإماميّة: 143.
[28] ـــ المعتبر في شرح المختصر 1: 32.
[29] ـــ تصحيح اعتقادات الإماميّة: 143.
[30] ـــ التذكرة بأصول الفقه: 39 ـ 40.
[31] ـــ المقنعة: 801.
[32] ـــ النهاية: 713.
[33] ـــ الخلاف: 68.
[34] ـــ المصدر نفسه: 71.
[35] ـــ المصدر نفسه: 72.
[36] ـــ المصدر نفسه: 97.
[37] ـــ المصدر نفسه.
[38] ـــ النهاية: 713.
[39] ـــ المقنعة: 801.
[40] ـــ سلسلة الينابيع الفقهيّة 23: 156.
[41] ـــ السرائر 3: 478.
[42] ـــ سلسلة الينابيع الفقهيّة 23: 384.
[43] ـــ وسائل الشيعة 28: 32، ح1.
[44] ـــ وسائل الشيعة 28: 32، ح3؛ حيث ورد عن الإمام الباقر%:«لو وجدت رجلاً كان من العجم أقرّ بجملة الإسلام لم يأته شيء من التفسير، زنى، أو سرق، أو شرب خمراً، لم أقم عليه الحدّ إذا جهله، إلا أن تقوم عليه بيّنة أنّه قد أقرّ بذلك وعرفه».
[45] ـــ عدّة الأصول 1: 41.
[46] ـــ بحوث في علم الأصول 5: 25.
[47] ـــ التبيان في تفسير القرآن 6: 457 ـ 458.
[48] ـــ الانتصار: 30.
[49] ـــ المصدر نفسه: 33.
[50] ـــ الذريعة 2: 665.
[51] ـــ المصدر نفسه 1: 90.
[52] ـــ المصدر نفسه.
[53] ـــ ولا بأس بالإشارة إلى بعض كلماته فيما يتعلّق بـ«قبح العقاب بلا بيان»، فمنها: «فصل في أنّ البيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة: إعلم أنّ هذه المسألة لا خلاف فيها، و الذي يدلّ ـ مع ذلك ـ على صحّة ما ذكرناه أنّ تعذّر العلم بالواجب أو بسببه يقتضي قبح التكليف، ويجري مجرى تكليف ما لا يطاق، ولا فرق عند العقلاء في القبح بين تكليف من لا يقدر، ومن لا يتمكّن من العلم، والتّبيين وإن لم يحصل في وقت الحاجة، فلأجل تفريط المكلّف»الذريعة 1: 361 ـ 362؛ ومنها: «فأمّا الذي يدلّ على قبح تأخير بيان العموم، فهو أنّ العموم لفظ موضوع لحقيقته، والحكيم لا يجوز أن يخاطب بلفظ له حقيقة وهو لا يريدها من غير أن يدلّ في حال خطابه على أنّه متجوّز باللّفظ ولا إشكال في قبح ذلك، والعلّة في قبحه أنّه خطاب أريد به غير ما وضع له من غير دلالة» الذريعة 1: 376؛ ومنها «وقولهم: لا يجوز أن يكلّف اللَّه تعالى ما لم تقم الحجّة عليه صحيح» الذريعة 2: 513 ـ 514.
[54] ـــ المعتبر في شرح المختصر 1: 32.
[55] ـــ معارج الأصول: 212 ـ 213.
[56] ـــ يقول المحقّق حول عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة: «لا خلاف بين أهل العدل أنّ تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز إذا لم يكن للمكلّف طريقٌ إلى معرفة ما كلّف به إلا بالبيان، وإلا لكان تكليفاً بما لا يطاق» المصدر نفسه: 111؛ وفي مورد دوران الأمر بين الأقل والأكثر غير الارتباطيّين، حكم بالبراءة عن الأكثر، مستدلاً بما يلي: «والبراءة الأصليّة نافيةٌ له؛ فيثبت الأقلّ بالإجماع وينفى الزائد بالأصل؛ لأن التقدير تقدير عدم الدلالة الشرعيّة، وقد بيّنا أن مع عدمها يكون العمل بالبراءة الأصليّة [لازماً]» المصدر نفسه: 213؛ وفي مقام دفع الإشكال باستدعاء الاشتغال اليقيني للفراغ اليقيني يقول: «لا نسلّم اشتغال الذمّة مطلقاً؛ لأن الأصل دالٌّ على خلوّها فلا تشتغل إلا مع قيام الدليل، وقد ثبت اشتغالها بالأقلّ فلا يثبت اشتغالها بالأكثر [والاشتغال بالأكثر] مغايرٌ للاشتغال المجرّد ومغايرٌ للاشتغال بالأقلّ، فيكون الاشتغال بالأكثر والاشتغال المطلق منفيّاً بالأصل» المصدر نفسه: 214؛ وفي مقام الجواب عن الإشكال بإمكان وجود التكليف الواقعي ولو لم يعلم به المكلّف، يقول: «ذلك الدليل المحتمل لا يعارض الأصل؛ لأنّا قد بيّنا أن مع تقدير عدم الدلالة الشرعيّة يجب العمل بالبراءة الأصليّة، وذلك يرفع ما أومأنا إليه من الاحتمال» المصدر نفسه: 214.
[57] ـــ مبادئ الوصول إلى علم الأصول: 87.
[58] ـــ المصدر نفسه: 161.
[59] ـــ المصدر نفسه: 114.
[60] ـــ الحدائق الناضرة 1: 43.
[61] ـــ قوانين الأصول 2: 16.
[62] ـــ المصدر نفسه: 14.
[63] ـــ الفوائد الحائريّة، مجمع الفكر الإسلامي: 64.
[64] ـــ المصدر نفسه: 467.
[65] ـــ الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد: 62.
[66] ـــ المصدر نفسه: 68.
[67] ـــ قواعد المرام من علم الكلام: 114 ـ 115.
[68] ـــ كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 249.
[69] ـــ المصدر نفسه: 256.
[70] ـــ إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين: 271.