من البنك اللاربوي إلى الاقتصاد اللاصنمي

مداخلة نقدية حول الاتجاه التشكيكي بإبداعات الإمام الشهيد الصدر(رض)

يمثل الاقتصاد اليوم واحدا من اخطر التحديات التي تواجه بلداننا ومجتمعاتنا “ فاقتصادياتنا ضعيفة مما يولد عوامل ضعف وفتنة ليس فقط على صعيد الحاجة والفقر والعوز الذي تعاني منه القواعد الشعبية العريضة، بل يشكل عنصر تأخر وتخلف يرغم المسلمين باستمرار بالبقاء في مواقف التلقي الاقتصادي والمادي والاخلاقي والقيمي والحضاري، لتجعل منا العنصر السلبي في التاريخ المعاصر وتجعل من الدول الصناعية الغربية المتقدمة العنصر الايجابي والفاعل الذي يقود المسيرة البشرية المعاصرة، سواء قادت هذه المسيرة الى خلاص البشرية أم على العكس الى تدميرها. وعلى المسؤولين المسلمين ان يضعوا نصب اعينهم بان الاصلاح لا يعني اصلاح افراد او مجموعة افراد بمعزل عن مجمل الظروف الاجتماعية المعاشة، فاصلاح الافراد سيبقى محدودا وقلقا ومحفوفا بمخاطر جمة اذا لم ترافقه عمليات اصلاح سياسي واجتماعي واقتصادي، فقد حسم من حيث المبدأ ذلك النقاش العقيم عن علاقة العبادي بالسياسي، واننا مطالبون اليوم للمضي اكثر في ايجاد علاجات معاصرة وفعالة في الاطر الاقتصادية والاجتماعية.

وبدون الخروج من هذا الوضع فان كل الجهود الاخرى لانتصار الاسلام ولاستعادة الامة والمسلمين لحقوقهم الطبيعية ولتجاوز سلسلة العقبات والمشاكل السياسية والوطنية والاجتماعية والحضارية الاخرى ستبقى معطلة.

لقد فشل فريقان في تحقيق هذا الامر وبالتالي فشل منهجان، فقد جربت النخبة الاقتصادية، سواء من اليمين او اليسار كل التجارب والنظريات العالمية لتجاوز الازمة الاقتصادية، وبالتالي الاجتماعية والحضارية التي تعيشها بلداننا، ففشلت في ذلك فشلا ذريعا، كما جرب بعض المسلمين صياغة بعض الافكار التي تستند في جوهرها على اعادة طرح بعض الاحكام والممارسات التي سادت تاريخيا في المجتمعات الاسلامية، كالاحكام المالية في مجال الضرائب والعقود والارض والمكاسب وغيرها، وحاولوا توفيقها مع النظرات الاقتصادية المعاصرة الحديثة، فلم ينجحوا في اختراق الواقع، ذلك ان لم نقل بان بعضهم قد وفر احياناً غطاءً لتبرير الممارسات الاقتصادية التي قادت وتقود الى بقاء التخلف والاستغلال على ما هما عليه الان.

كان يجب انتظار «اقتصادنا» للشهيد محمد باقر الصدر لنبدأ بالتعرف على اولى الملامح التي يمكنها أن تخلصنا من الامرين معا، ونقصد بذلك وضع المفاهيم الفكرية والقواعد النظرية التي تسمح بفهم الواقع الاقتصادي الراهن الذي نعيشه، سعيا لمواجهة متطلباته ومعرفة عوامل العطل والانحباس فيه. وارساء الاسس لمذهب اقتصادي فاعل وقادر على تحقيق اهدافه. مذهب اقتصادي جديد يستهدي بالاسلام الواقعي والاخلاقي في آن واحد. وعندما نقول جديد فاننا نقصد تلك الجدة التي تلتقي مع اوضاعنا وظروفنا المستجدة والمعاصرة وليس مجرد قبول الافكار الجديدة التي تنطلق من ارض وواقع ولاهداف هي غير ارضنا وواقعنا وغاياتنا. لذلك يصرف الشهيد الصدر في الجزء الأول من «اقتصادنا» اكثر من ثلث المؤلف (اكثر من 052 صفحة) للبرهنة على خصوصية المذهبين والتجربتين الرأسمالية والاشتراكية، ووجود العديد من الثغرات في اطروحاتهما، ليقول بالمقابل بان «للمذهب الاقتصادي في الاسلام صفتان اساسيتان، تشعان في مختلف خطوطه وتفاصيله، وهما الواقعية، والاخلاقية»[1]. يقول: انه (من الخطأ ان يقدم الباحث الاسلامي مجموعة من احكام الاسلام ـ التي هي في مستوى القانون المدني حسب مفهومه اليوم ـ ويعرضها طبقا للنصوص التشريعية والفقهية، بوصفها مذهبا اقتصاديا اسلاميا، كما يصنع بعض الكتاب المسلمين، حيث يحاولون دراسة المذهب الاقتصادي في الاسلام، فيتحدثون عن مجموعة من تشريعات الاسلام التي نظم بها الحقوق المالية والمعاملات، كالاحكام الشرعية بشان البيع والايجار والشركة والغش والقمار وما اليها من تشريعات) “[2]لذلك يقرر الشهيد الصدر بان الامر في غاية الجدية ولا يقبل اي تبرير او تستر، بل لابد من ارساء الامر كله على اسس علمية وواقعية تستند الى الاخلاقيات الاسلامية، وهذا كله له محك واحد وهو ان (علم الاقتصاد الاسلامي لا يمكن ان يولد ولادة حقيقية، الا اذا جسد هذا الاقتصاد في كيان المجتمع، بجذوره ومعالمه وتفاصيله، ودرست الاحداث والتجارب الاقتصادية التي يمر بها دراسة منظمة) »[3].

إن الاقتصاد المعاصر او المرابي ينحو الى التجريد، والى تشيء الانسان والروابط المعنوية والروحية، وايجاد علاقة استغلالية صنمية تخفي وراءها العلاقات. فالرموز كالمال والبضاعة ورأس المال والسوق وغير ذلك من مسميات اقتصادية. ستصبح هي الواجهة وتبدو وكأنها هي المنتجة لتضيع بالتدريج الحقائق وقواه الفعلية والمنتجة. فخلف الانتاج يقف منتجون من الناس لهم علاقاتهم وروابطهم وهو الامر الاساس الذي يجب الوصول اليه لتعريف الحقوق والواجبات. وخلف النقد والاموال تقف مفاهيم واعمال يجب ان نعرفها ونعرف من يقوم بها وكيف. وخلف البضاعة وسعرها تقف علاقات واعمال يجب ان نعرفها ونعرف ادوارها، لكي يتسنى لنا ان نحسن التقدير ونعوض كل طرف على قدر ما يعمله. فالقاعدة في المذهب الاقتصادي في الاسلام هي اعادة ابراز هذه العلاقات المباشرة وعدم اخفائها والتستر عليها بالصنميات المادية او الرمزية التي تخفي علاقات الاستغلال والغش والتزوير، اي العلاقات الربوية “ فالانسان والبيئة والتاريخ وغيرها من علاقات مباشرة وغير مباشرة ستختفي في الاقتصاد الحديث وراء العناوين النقدية او علاقات السوق او الانتاج او غيرها من مسميات، بحيث تغيب ادوار وتاريخ وارتباطات ودوافع العناصر الاولي، وبالتالي حقوقها لمصلحة الصنميات الاقتصادية “ صحيح ان عملية التجريد وتحويل المسائل الى معبودات وصنميات قد تعطي لتلك الرموز مصادر قوة وعوامل تحريك، وهو ما يعطي للنموذج الاقتصادي الغربي تلك القدرات الهائلة في تشكيل الحوافز، والتي تسمح باغراء الناس ودفعهم للتهالك والركض، حتى وان حمل ذلك نتائج مضادة لمصالحهم الانسانية الحقيقة والعليا.

وإن عملية التجريد والرمزية والصنمية هذه هي تطور لا يمكن لاي نظام اجتماعي الا وان يتلبس به، لانه سيكون هو الحاصل النهائي لقيمه ودوافع حركته. الاسلام فقط هو الذي يحمل عملية التحرير الحقيقية والتي تسمح عبر العبودية لله الخالق باسقاط كل اشكال الصنميات، لتتكشف الحقائق واضحة جلية تسمح لموازنة الامور، ولوضع النصاب بشكل دقيق ومتكامل لمصلحة نظام دنيوي وكوبي، سيحرك العوامل التجريدية والمعنوية والايمانية اللازمة لاي نظام، دون ان يسقط في مواقع الصنمية والايمان الكاذب.

إن المذهب الاقتصادي في الاسلام لابد من ان يتجه اذن الى الحقائق، ولابد من ان يسقط من عالم الاقتصاد الاصنام التي تختفي وراءها حقيقة العلاقات “هذا ما قام به الشهيد الصدر في كتاباته الاقتصادية، والتي ظهرت مفصلة متكاملة في «اقتصادنا» لتأخذ اولى تطبيقاتها في اطروحة «البنك اللاربوي في الاسلام»“ اذ قام باعادة تفكيك العلاقات التي يحملها مفهوم المصرف الربوي، واعاد ترتيبها في علاقات بين اطراف حقيقية قائمة يسهل تعريف التزاماتها وحقوقها، بعد ان تطهرت هذه العلاقات من مضامينها الربوية.

هذا المنهج المتكامل الذي لا يقبل اعطاء شرعية للواقع الفاسد او الباطل او الاستغلالي باسم الواقعية، يعيد تركيب العلاقات بما يتلاءم مع المبادئ، ليعود مجددا الى الواقع، ليستثمر فيه المفاهيم والقوى القائمة، ليعيد بناء العلاقات بين الاشخاص الاقتصاديين، موفرا لهم قاعدة اصولية وعملية، للدخول في اعمال الحلال وترك مساحات الحرام، اي يحقق الجانبين الاخلاقي والعملي في العملية، ولا يبقى امام خيارين اما الوعظ المجرد او القبول بالواقع المجحف والمستغل.

من البنك اللاربوي الى الاقتصاد اللاربوي:

لقد حاول الشهيد الصّدر ان يغير من علاقة المتعاملين في البنك الربوي لتأسيس بنك لا ربوي، وقد بدت الاطروحة في يومها خيالية، لكن الحياة تبرهن مرة اخرى انه في حالة النجاح في بناء مفهوم اخلاقي وواقعي فان التطبيق لن يتأخر كثيرا، وفعلا لم يكد يمر وقت طويل حتى انتشرت المصارف الاسلامية او البنوك اللاربوية كما يطلق عليهاپپ“ بل تتفاوض كبار المصارف العالمية اليوم مع عدد من الدول الاسلامية لتأسيس نشاطات «لا ربوية». ويغض النظر عن اقتراب جميع هذه المصارف من الشروط الاسلامية لمحاربة الربا او انها ايضا شكل من اشكال الحيل الشرعية للالتفاف على موضوعة الربا، الا ان مجرد انتشار هذه المصارف هو دليل لقوة الفكرة الاسلامية، والتي يجب ان تكون برهانا للاندفاع اكثر فاكثر، لبناء التصورات ليس فقط لتطهير المصارف من الحالة الربوية او لتأسيس مصارف لا ربوية اصلا، بل لتطهير مجمل الاقتصاد من هذه الحالة، ان لم نقل تأسيس اقتصاد متطهر من كل هذه الممارسات.

لا يقع الربا اليوم في عمليات التبادل المالي فقط بل يحمل عدد من الممارسات الاجتماعية والاقتصادية المعاني الاساسية للربا. فالربا له علاقة بالاموال والتجارة والانتاج والعمل، فقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فى وصيته لعلي عليه السلام: (يا علي! الربا سبعون جزءا، ايسره مثل ان ينكح الرجل امه في بيت الله الحرام. يا علي درهم ربا اعظم عند الله من سبعين زنية كلها بذات محرم، في بيت الله الحرام)[4]. وان (شر المكاسب كسب الربا)[5]. وهكذا جاء عن الامام الصادق عليه السلام (ما طاب وطهر كسبك الحلال من الرزق، وما خبث فالربا)[6] وان الواجب يقتضي تفكيك الصور والواجهات للوقوف على المعاملات الربوية، التي تخفيها الضرائب وعلاقات العمل، واشكال معينة من الشركات، والتجارة والصناعة، وممارسات الضمان والتأمين ومكاتب الخدمات.

إننا لا نشير في هذه الملاحظة الى اعمال الاستغلال والمكاسب المحرمة فان امامنا طريقاً طويلاً لتفكيك كل اشكالها المعاصرة، والتي باتت تختفي وراء مفاهيم وممارسات لم يطالها الفقه القديم، لانه ببساطة لم يعايشها. بالمقابل بقي فقهنا المعاصر بعيدا عن التعامل المتكامل او الواقعي مع هذه المسائل التي تتعلق بمفاهيم وممارسات اقتصادية، تتطلب تعاون الجامعات والحوزات لاجل تقديم الاجابات الصحيحة حولها “ فالكثير من الممارسات التي تبدو طبيعية وشرعية ما هي في الحقيقة سوى ممارسات ربوية، وقد تكون في الكثير من جوانبها اخطر بكثير من الربا المالي الذي لا يمس في نهاية المطاف سوى قطاعات محدودة من الشعب “ حيث روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (ان اخوف ما اخاف على امتي من بعدي هذه المكاسب المحرمة، والشهوة الخفية والربا)[7].

فالحياة بمجملها صارت سلسلة من اعمال الاستغلال والربا “ فهل ننتظر المجتمع الصالح أم يجب اصلاح كل ما يمكن اصلاحه، وبذر كل ما يمكن بذره من مفاهيم ومؤسسات صحيحة. وان المنهج الذي سار عليه الشهيد الصدر في اطروحته «البنك اللاربوي في الاسلام» هو المنهج القدوة الذي يمكن العمل به، وذلك بعدم تعليق الحلول المطلوب التقدم بها الان، والتي تفترض استمرار الواقع الفاسد والاطار اللااسلامي للمجتمع والاكتفاء بتقديم حلول ومبادئ واتجاهات عامة بعيدة المدى انطلاقا فقط من الحلول النهائية ومن تخطيط لحل شامل للمجتمع[8].

اول ما حاوله الشهيد الصدر هو تغيير مضمون العلاقة، فبدل الشخصية الرأسمالية التي يستبطنها البنك الربوي، حاول في اول مقدماته ابراز عنصر العمل البشري في النشاطات المصرفية بوصفه مصدر دخل، والاتجاه عكسيا الى الحد من دخل رأس المال[9]، وبدل العلاقة الربوية الثنائية التي تقوم بين المصرف وزبونه، او بين المصرف ورجال الاعمال، حيث يقوم المصرف بتجميع الاموال والايداعات من المودعين ليقدمها لرجال الاعمال، وبذلك يرتبط نظام الايداع والاقراض بالربا المحرم في الاسلام[10]، نقول بدل ذلك يقيم علاقة ثلاثية حسب مفهوم المضاربة الاسلامي بين:

1ـ المودع بوصفه صاحب المال ونطلق عليه اسم المُضارب.

2ـ المستثمر بوصفه عاملا ونطلق عليه اسم (العامل او المُضارب).

3ـ البنك بوصفه وسيطا بين الطرفين ووكيلا عن صاحب المال في الاتفاق مع العامل[11].

حينذاك ستتحول العملية الى عملية مشاركة تستفيد كل الاطراف من الربح عند تحققه، او تتقاسم الخسارة في حالة حصولها. عملية تسمح للبنك اللاربوي بالقيام بكل النشاطات التي تقوم بها البنوك الاخري، وكذلك تسمح للمودعين وللمستثمرين بان يحصلا على نتائج اعمالهم في معاملات لا تحمل اضرارا لطرف رغم انه هو صاحب المال، ولا تحمل فوائد مضاعفة لطرف اخر رغم انه لا يعمل ولا يغامر في الحقيقة، وهو الامر الذي بات مستشريا في الحياة المصرفية الربوية الحالية بكل النتائج الاجتماعية الخطيرة التي يدفع المجتمع بكل اعضائه ثمن ذلك. وهكذا فككت اطروحة الشهيد الصدر اطراف المعادلة، وازالت الجانب الصنمي للمعاملات، بفحص المجرد بعيون الواقع، وكشف العلاقات التي بكشفها فقط يمكن وضع اليد على عناصر الاستغلال والظلم والفقر الفاحش من جهة والذي مصدره الغنى الفاحش من جهة اخري. فالشهيد الصدر وفر للمرة الاولى الوسيلة الناجحة التي تجمع بين الجانب العملي والجانب الاخلاقي والاصولي. ولا شك لدينا ان عملية التفكيك والترتيب التي قام بها ما هي سوى وضع العلاجات الناجحة في متناول اليد، اما حسن استثمار ذلك وصحة هذا الاستثمار وعدم الالتفاف عليه باسم الحيل الشرعية فهذا امر اخر.

المال الربوي ومعدلات الربح:

يحتسب الاقتصاد الحديث معدل الربح باعتباره مكافأة لمخاطرة رأس المال كما يرد في الاقتصاد الليبرالي، او انه فائض القيمة الذي يأخذه الرأسمالي نتيجة استثماره لامواله كما يرد لدى الفكر الماركسي “

وإذا راجعنا التاريخ الاقتصادي الاسلامي فسنجد بعض النصوص الفقهية وبعض الممارسات العملية التي حاولت ان تضع تحديدا لمعدل الربح، اذ ترد احاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقول: إن «ربح المؤمن على المؤمن ربا»[12]. او ما يرد عن الامام الصادق عليه السلام: (ربح المؤمن على المؤمن ربا، الا ان يشتري باكثر من مئة درهم، فاربح عليه قوت يومك، او يشتريه للتجارة، فاربحوا عليهم وارفقوا بهمپ“)[13]او (فيربح ربحا خفيفا)[14] كما يرد عن الامام الرضا عليه السلام .

إذاً نحن امام موقف نظري يقول بالحالات التالية:

أ ـ عدم اخذ الربح لما اقل من مئة درهم.

ب ـ اخذ ربح يعادل قوت اليوم او ما يعوض به للتجارة.

جـ ـ او الربح الخفيف.

ولكننا نجد اليوم مسلمين يربحون من مسلمين اخرين ليس قوت يومهم بل قوت آلاف ان لم نقل ملايين الايام “ وان اسواق المسلمين اليوم كقاعدة رئيسية لا تعرف ما يسمى بالربح الخفيف، ثم ما هي الضوابط المعاصرة للربح الخفيف او للرفق بالاخرين، فهذه المفاهيم التي قد تكون لها ضوابط تاريخية كانت سائدة حينذاك تحولت الى امور نسبية الآن، وذلك في ظل الظروف الاقتصادية الجديدة، لتتركنا امام معضلة خطيرة تتطلب منا تقديم قاعدة اصولية، والتي بدون توفرها ـ من جملة ما يجب توفيره ـ سنبقى بعيدين عن تأسيس مذهب اقتصادي اخلاقي وعملي في ان واحد.

فالرأسماليون والتجار الناجحون اليوم والذين يحصلون على احترام الجماعة هم اولئك الذين يستطيعون البقاء والصمود في الاسواق، وان البقاء والصمود يتطلب اليوم اخذ معدلات عالية من الربح، تستطيع ان تقاوم البضائع الاجنبية بمعدلات ربحية عالية هى بالضرورة معدلات ربوية “ بالطبع قد يحسن هؤلاء التجار ويتصدقون ويزكون اموالهم ويخمسونها، لكن هذا كله لا ينفي ان العملية احتوت على جوانب ربوية خطيرة، فهذه المسألة لا تحصل نتيجة صفقة خاصة او بسبب شطارة معينة، بل هي باتت في جوهر النظام الاقتصادي، وهي شرط من شروط عمله. فالرأسمالي أو التاجر الذي لا يربح بموجب معدلات الربح التي تفرضها الاسواق الداخلية والخارجية فانه سيطرد من الاسواق ويحل محله رأسماليون او ملاك او تجار آخرون “ كل ذلك بغض النظر عن ايمان وحسن نية هؤلاء التجار والرأسماليين المسلمين. فما العمل؟ هل يتخلى المسلمون عن اعمالهم ليسيطر الاجانب على كل شيء، ام هل نكبح هذه الارباح لندفع رؤوس الاموال للهرب الى الخارج؟ وهل اذا كبحنا رجال الاعمال من تحقيق المعدلات التي يعتقدون انها تناسب رؤوس اموالهم والتي سيقارنونها بالمعدلات العالمية، فهل نضمن ان لا يسقط الاقتصاد في مواقع العوز والفقر؟ وهذه كلها حالات واقعية مرت بها بلداننا، فكانت تجارب سيئة لم يستفد منها سوى المضاربون واعمال التجارة السوداء والخارج “ فهل هناك من بديل لكي لا يسقط هؤلاء الرأسماليون والتجار في اعمال الربا ولكي نحرر الاقتصاد من عمليات الربا.

ان الفقه الاقتصادي المعاصر لم يضع الضوابط في الظروف الاقتصادية المعاصرة لتحديد الربح الشرعي اللاربوي الذي حدده الشرع في تلك الظروف السالفة المحددة والتي كانت فيه العلاقات الاقتصادية على درجة كبيرة من الشفافية، ولم تتولد بعد اوضاع الصنمية الحديثة، التي تختفي فيها العلاقات والحقائق وراء سلسلة من الاصنام الجديدة، مثل صنمية رأس المال، وصنمية البضاعة وصنمية النقد، وصنمية الآلة والتكنولوجيا والعمل، وبالتالي صنمية الاقتصاد بمجمله، ولم تخضع الاسواق المحلية مثل خضوعها اليوم للاسواق العالمية.

اذن ما العمل؟ هل نخضع للمفهوم الليبرالي للربح باعتباره مكافأة رأس المال؟ ام نخضع للمفهوم الماركسي للربح باعتباره عملية استغلالية مجردة لا يجد اي تفسير او مصدر له سوى فائض القيمة الذي ينتجه العمل؟

مرة أخرى ليس امامنا سوى تفكيك علاقات الصنمية التي تخفي وراءها بقية العلاقات “ ومرة اخرى لا نجد امامنا من طريق سوى رؤية «الاقتصاد كجزء من كل» ورؤية العوامل المافوق اقتصادية وربطها بالعوامل الاقتصادية “ فنحن مطالبون ليس بموقف اخلاقي مجرد، ولا بموقف عملي مجرد، بل بموقف مبدئي قابل للحياة والتطبيق في ان واحد.

تعريف الواقع وتفكيك العلاقات واعادة ترتيب الادوار:

أ ـ الاقتصاد الحديث هو السوق الحديثة:

جاءت مفاهيم الاقتصاد السياسي الحديثة ملازمة للمفاهيم التي تطورت في نمط خاص من الاسواق الا وهي الاسواق الغربية في مرحلة صارت فيه النظرية الاستعمارية والامبريالية من صلب المكونات الرئيسية لتلك المجتمعات، فصار سوقها الداخلي المتروبول (Metropole) هو المركز الذي ترتبط به بقية الاسواق العالمية (ما وراء البحار Outre mer او Over seasپ) لتصب فيه نتائج عمليات النهب والاستيلاء، والتي شكلت لها ابتداء مصادر ثرواتها الاساسية، التي كانت هي القاعدة لانطلاق الصناعات الحديثة، وما جرت اليه من تطورات تقنية وتكنولوجية وعلمية كبيرة.

فعندما خرجت اوروبا مستعمرة لم تكن اولى الامم في مجالات العلوم والتقنيات والمنتجات والقدرات العسكرية وغيرها “ وان كبح الامم الاخرى ومنها البلاد الاسلامية، وتقدم عوامل الخلل في داخلها بالضد من عوامل القوة، سببه الاساليب الاستعمارية التي لم تستطع الصمود امام هذه المعركة غير المتكافئة، مما افرز حالة تاريخية وعالمية جديدة، وهي تقدم كمي ونوعي هائل للغرب المعاصر على كل ما عداه، لذلك لم يكن مستغربا ان تنطلق النظريات الاقتصادية الغربية المعاصرة[15] في القرن السادس عشر والسابع عشر من المركنتلين (التجاريين او السوقيين)، كتعبير لأولوية التجارة. ولم يكن غريبا بالتالي ان يرتبط نشوء الاقتصاد السياسي الكلاسيكي انطلاقا من القرن الثامن عشر والتاسع عشر بنشوء السوق الذي اعتبر حدثا جديدا، في حين انه ليس كذلك الا في اطار الصفات الاستعمارية والربوية والاستغلالية الخاصة الذي اخذه هذا السوق، فصار يتم الكلام عن وجود الاقتصاد بوجود السوق بكل اشكالها السلعية، كبضاعة وسلعة ومال وعلوم وخبرات وهلمجرا “ فمن لا «سوق» له لا اقتصاد له “ وهو الامر الذي استمر يدرس في المعاهد الاقتصادية، بما في ذلك في بلداننا، الى يومنا هذا.

لم يعد الاقتصاد جزءا من كل كما يشدد الشهيد الصدر “ بل لم يعد الاقتصاد مجموع المركبات الاقتصادية المختلفة، وانما صار الاقتصاد هو السوق “ فالسوق قد اختزل كل ما عداه وصار الحقيقة الوحيدة والمطلقة التي تتجسد فيها ليس فقط كل نتائج العملية الاقتصادية بل التي تتجسد فيها ايضا كل قيم الحياة، وهو ما سيسمح بقيام المجتمع الاستهلاكي ومجتمع الاعلانات والدعاية، ولنصل الى ما وصلنا اليه اليوم، حيث تحولت كل القيم المادية والمعنوية، وكل العلاقات الاجتماعية، الى مجرد سلع لها اثمانها وقيمها.

إن هذه الحقائق تبدو واضحة في التأسيسات الاولى لكبار الاقتصاديين الكلاسيكيين، وهذان مثالان من المدرستين الليبرالية والاشتراكية، الا وهما ادم سميث وكارل ماركس.

1ـ ادم سميث:

يقول ادم سميث في اي مجتمع يتجسد سعر اية سلعة في النهاية في احدى الاجزاء الثلاثة هذه او في الاجزاء الثلاثة كلها (الاجور والريوع والارباح)، وفي المجتمعات المتمدنة تدخل الاجزاء الثلاثة هذه الى هذا الحد او ذاك في سعر الجزء الاعظم من السلع، وذلك كاجزاء تشكل هذا السعر “ ففي سعر الحنطة، على سبيل المثال، يدفع جزء لربح المالك، وجزء اخر لاجور العمال او لاعاشتهم، ويدفع الجزء الثالث لريع المزارع[16]. وغني عن البيان ان مكان توزيع هذه الحقوق فيما يسميه سميث بالمجتمعات المدنية هو السوق، وهنا، تنقسم البنى الاجتماعية الى طبقات تشترك في العملية الانتاجية، بدافع زيادة حقوقها او حصتها في التوزيع العام، او على الاقل الحفاظ عليها، وان السوق هو مكان التصارع بين هذه الطبقات، حيث سيتجه «سعر السوق» للاقتراب من «السعر الطبيعي» عن طريق قانون العرض والطلب.

ويميز آدم سميث بين ما يسميه الشعوب البدائية والشعوب المتمدنة. ويرى ان كلفة الانتاج بالنسبة للشعوب البدائية تضم عنصرا واحدا للانتاج هو العمل “ وغني عن البيان ان الخلفية الفكرية والبناءات النظرية لآدم سميث في مجمل اعماله ستظهر اوروبا والغرب باعتبارها الشعوب المتمدنة، بينما ستضع في خانة الشعوب البدائية كل الامم الاخري. وهذه حالة سقط فيها معظم ان لم نقل جميع مؤسسي الفكر الغربي الحديث، وهو الموقف الذي دفعنا ويدفعنا للقول دائما بان التجربة الغربية هي تجربة خاصة ارادت بالعنف الفعلي والفكري ان تلغي الآخرين، والا اذا كانت المعايير للانتاج البنى الاقتصادية المعاصرة هي وجود الاسواق التي سيتجسد بها الربح والريع والاجر والفائدة فكيف يمكن لمفكر كبير ان لا يرى تطور الاسواق والانتاج في اضخم مساحة مجاورة لاوروبا وهي المنطقة الاسلامية قبل الاسلام او بعده، والتي ضمت قوانين حمورابي بمفردها 021 مادة للتجارة وشؤونها ومعاملاتها، و62 مادة للشركات ونقل البضائع والصيرفة وايداع الاموال[17]؟ ولا ريب ان التجربة الاسلامية قد طورت من مفاهيم الاسواق والعمل والربح والفائدة والصيرفة والتجارة وغيرها والتي لا يمكن ان تكون مجرد ممارسات لا غطاء نظري او فكري لها. فهناك ثروة غنية من الفقه والبحث والتسجيل والاحكام ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي، والتي اهملت واختفت عن عيوننا، لاهمال حوزاتنا في تجديدها وتقديمها بما يلائم وقائع وتصورات العصر من جهة، ولاعمال التسفيه وفرض انماط التفكير الغربية التي فرضت فكرها على جامعاتنا ومؤسساتنا، فلم تعترف بمرجعية او تاريخ غير تلك التي انطلقت من الغرب من جهة اخري. ذلك دون الكلام عن الامم والحضارات الاخري.

لذلك كله نقول: إن الصحيح هو ليس عدم وجود فكر اقتصادي تطور مع تطور التجربة الاسلامية، بل هو اختراق الفكر الاقتصادي الغربي بشكل مدمر، وتغييب الفكر الاقتصادي الذي نمى وترعرع مع التجربة الاسلامية، وان الواجب الان ازالة عامل الهيمنة لكي يعود الاقتصاد وعلمه كعلم عام يتفاعل مع التجربة، وليس مجرد استيراد لمفاهيم تتناقض مع الواقع، ولا تجد امامها من تطبيقات سوى بتدمير هذا الواقع واعادة صياغته حسب مصالحها وليس مصالح الشعوب والامم الاخري.

2ـ كارل ماركس:

ينتمي كارل ماركس في الحقيقة الى مدرسة الاقتصاد السياسي الكلاسيكي، ويذكر لينين في مصادر الماركسية الثلاثة ان الماركسية تقف على ارضية الاقتصاد السياسي الانكليزي (ادم سميث وريكاردو)، ومبادئ الاشتراكية الفرنسية (سان سيمون وسيسموندي)، والفلسفة الالمانية (هيغل) “ ورغم ان ماركس قد درس ولو بشكل مقتطع ومجزأ المجتمعات ما قبل الرأسمالية لكن مبادئه الاساسية للبحث عن اصل القيمة وبالذات عن فائض القيمة جعلته يعتمد، كبداية، التفريق بين القيمتين الاستعمالية والتبادلية، اي الانتاج اللاسوقي والانتاج من اجل السوق. فالانتاج الرأسمالي يستهدف اولا واخيرا انتاج القيم التبادلية، وتجسد البضائع في السوق عبر القيم والاسعار التي تحملها، والتي ستحمل في داخلها مركبات تعويض عناصر الانتاج، بما في ذلك فائض القيمة الذي هو هدف الرأسمالي، وهو المحرك والقانون الرئيسي الذي يحرك كل الموضوعة الاقتصادية وبالتالي الاجتماعية.

إن ربط تأسيسات علم الاقتصاد بتطور السوق الاوروبية يحمل تعسفا واعيا او غير واع في اتجاهين رئيسيين:

1ـ تجزيئ المجتمع للسيطرة عليه لتسيطر فئة واحدة على بقية الفئات.

2ـ تغييب دور الاقتصاديات الاخرى والاسواق التاريخية لالغاء حقها في المحاصصة، وللهيمنة عليها واستغلالها.

إن الاقتصاد هو اولا علم العمران والانتاج والنشاط المعاشي، وهو قد ارتبط في جزء منه بالاسواق، لكنه لا يظهر فقط واساسا عبر الاسواق الا عند الرغبة في تجريد واستلاب النشاطات والاعمال الاخري، ليصبح قانون السوق هو قانون المجتمع وليس العكس. هذه نقطة على درجة كبيرة من الاهمية، وهي ليست بالعملية العفوية بل هي عملية تستهدف السيطرة وتفكيك كل العلاقات الاخري، لتصبح العلاقة الوحيدة التي تظهر على السطح هي تلك العلاقات التي تستهدف السيطرة على مركبات المجتمع من قوى بشرية وامكانات مادية ومنتجات حقيقية. يجب سحب الانسان من ارضه ومشغله وبيته ليصبح رقما من ارقام الاحصاء والبورصة ودافعي الضرائب ليس الا.

هذه هي قوة الاقتصاد الحديث التنظيمية لكنها هذه هي ايضا وسيلة انقضاضه على بقية مركبات المجتمع، وبالتالي على بقية امم وشعوب العالم، ليتم صهر كل شيء بالسوق، وعبر السوق، وليصبح السوق والاهداف التي يتوخاها هو المنظم لمجمل الحياة منطلقا وسياقا وهدفا، فما يقبله السوق يجب ان يقبله المجتمع وما يرفضه السوق لا مكان له في المجتمع. وبما ان السوق اصبحت هي السوق الرأسمالية او العالمية، وبما ان السوق الرأسمالية والعالمية اصبحت هي اوروبا والغرب، فان كل شيء يجب ان يسير باتجاه تحقيق اهداف هذه السوق حتى بالحط من الانسان واستغلاله وتشيئه.

هذه المقالة لن تستوعب بحث كل النتائج التي تقود اليها عملية ربط الاقتصاد بالسوق، لكن البحث التفصيلي فيها سيظهر او يجب ان يناقش على الاقل الامور التالية:

ان جعل السوق مرجعية النشاط، ان كان ذلك عبر قانون الربح او فائض القيمة كما يذكر ماركس، او قانون تنظيم الاسعار والقيم وبالتالي تعويضات عوامل الانتاج، هي ليست بالقانون الموضوعي الشامل، بل هي قوانين تعمل في ظروفها الخاصة. وانه في ظروف اخرى فان قوانين ثانية ستجد مجالات عملها، والتي يمكن اكتشافها وتفسيرها والاستفادة منها لتتدخل الارادة الانسانية في صنع وتنظيم واقعها.

إن ربط ولادة مفاهيم الاقتصاد الحديث بتطور ذلك النوع من الاسواق التي عرفتها اوروبا يعني من جملة ما يعنيه تغييب اي عمل يقع خارج السوق، لذلك سيجد مجمل العمل البيتي نفسه مثلا معاقبا ولا قيمة له ولا يدخل في احصاءات الدخل القومي ولا في حقه في التعويض والمكافأة “ كذلك ستغيب كل اعمال التعليم، والاعمال الجماعية، والعمل القروي او المديني الذي لا يستطيع ان يجسد نفسه في الاسواق، وكذلك كل الاعمال والانشطة التي يقوم بها الانسان خارج ساعات او مواقع العمل، على العكس ستتحول نشاطات لا طابع اقتصادي لها الى نشاطات اقتصادية بعد ان تعطي قيمة سوقية، مثال ذلك النشاطات الرياضية، والاعمال الفنية، والنشاطات الدينية، وقس على ذلك. اي اننا امام نمطين من التفكير وامام حالتين من النتائج، فان قبلنا بمنطق السوق فانه سيصعب الدفاع عن امور كثيرة والعكس صحيح ايضا.

ب ـ الاقتصاد الحديث هو الدولة الحديثة:

الاقتصاد السياسي: Political economy:

دائما ما اثارت كلمة الاقتصاد السياسي الارتباك. ورغم كل ما بذلته الجامعات الحديثة والمدارس المختلفة من جهود الا ان الاقتصاد كحقل من حقول المعرفة والعلوم الاجتماعية بقي مثار خلافات وارتباكات في مفرداته، وما تعنيه وتسببه من عدم دقة وعدم توافق علمي بين اهله، بحيث يعتبر الاختصاص العلمي الذي ينفرد بالنسبة لبقية الحقول بافتقاده الى حد كبير الى الموضوعية العلمية، رغم ادعاء «الاقتصاديين» بانه الموضوعة الاساسية لبناء المجتمع. هو علم تسوده الفوضى في المفاهيم والمصطلحات والآليات، وان كثرة استخدام الرياضيات والاحصاء خصوصا منذ الخمسينيات، وصعود النموذج الامريكي كنموذج رائد اكتسح وقزم المدارس الاخري، وذلك عبر ما سمي بالايكونومتر econometry ، لم يعط الصفة الموضوعية لهذا الحقل، بل اخفى هذه الفوضى باسدال ستار من النماذج الرياضية والرموز التي ان حللت واعيدت الى مقدماتها ومفاهيمها العملية ستعيدنا الى نفس نقاط الاختلاف وعدم التحديد والفوضى الفكرية التي كنا عليها، ان لم نقل انها ازدادت واصبحت اكثر تمويها وضبابية.

المفكرون الاقتصاديون الكلاسيكيون كانوا اكثر امانة وتشخيصا في تسمياتهم، فهم عند استخدام تعبير الاقتصاد السياسي ارادوا عن وعي او عدم وعي ادخال ذلك العنصر الذاتي او الخاص لمفهوم الاقتصاد عبر تعبير السياسي. الاقتصاد السياسي political economy ليس هو السياسة الاقتصادية economic policy بل هو تلك العلاقة الجدلية بين جانبين، يحمل الاول جانبا موضوعيا، يتمثل بالقوانين والآليات الاقتصادية التي تحمل الصفات الآلية للقوانين الطبيعية، والتي ستبرز من خلال السوق، او من خلال انتاج القيم التبادلية. بينما ترتبط من الجانب الاخر بالاجتماع وبالانسان او بالسلوك البشري، او بمركبات البنية الفوقية حسب المفهوم الماركسي. انه اقتصاد الرأسمال أو المالك الذي ستولده رغبات المجموع انطلاقا من تحقيق رغبته كصاحب قرار ومبادرة وهيمنة، او انه اقتصاد الطبقة السائدة، اقطاعية كانت، ام رأسمالية، ام عمالية، والتي يتحرك معها المجتمع انطلاقا من تحقيق مصالحها ورغباتها. وستبدو الدولة في الحالتين اما كحالة طفيلية يجب التقليل قدر الامكان من شأنها ووسائل تدخلها، كما هو في النموذج الرأسمالي الصافي، او كأداة ووسيلة طفيلية بيد الطبقة المهيمنة لتعزيز هيمنتها على بقية طبقات المجتمع، والتي ستزول بزوال الطابع الفردي لوسائل الانتاج، كما هو في النموذج الماركسي. هذه الدولة التي اريد لها في البداية ان تكون محلقة تحولت في الحقيقة في النموذجين لتكون هي الرائدة، سواء عبر النموذج الماثل للدولة الاحتكارية الرأسمالية، او عبر النموذج المقابل للدولة الاشتراكية المالكة، وبقي «الاقتصاد السياسي» الذي اريد له في البداية ان يكون علما موضوعيا الى «سياسة اقتصادية»، فصار التوزيع والانتاج يتحركان اولا واساسا بموجب قرارات ذاتية لتلك الطغمة من السياسيين والعسكريين والمصرفيين والمضاربين والصناعيين الذين يتحكمون بالهياكل الوطنية والعالمية، والتي لم تبن عبر التطورات الاقتصادية الطبيعية، بل عبر الوسائل القسرية العسكرية والسياسية والثقافية، وهو ما قرب «علم الاقتصاد» اكثر فاكثر من علوم الترقب والتقدير والحساب وقواعد الادارة والتنظيم.

هذه الاشارات ـ ان صحت ـ تكفي لالغاء ذلك الطابع التعميمي او المطلق للاقتصاد، والذي اراد ان يعمم الشروط الخاصة للغرب على العالم كله، او اراد ان يعمم موضوعة الاقتصاد على الموضوعات الاجتماعية والانسانية كلها.

فالاقتصاد قد يلعب احيانا دورا رائدا وقد يتراجع دوره في احيان اخري، كما قد يحمل الاقتصاد ـ في شروط معينة ـ قوانين عمل تقترب من الحتمية فتفعل فعلها، سواء وعينا ذلك ام لم نعه. وقد تسير عملياته الارادات الفردية والوعي الكامل ويضعف جانب الحتمية الى اقصى الدرجات، لذلك فان فهم الاقتصاد كجزء من كل هو المدخل الاصح في كل مرحلة تاريخية لفهم العملية الاقتصادية وتشخيص وزن الجوانب الموضوعية او الذاتية، او ان شئت الجوانب الاقتصادية والجوانب فوق الاقتصادية، اي تلك الجوانب اللااقتصادية التي تسبق او تلي العملية الاقتصادية، والتي تجد دوافعها في مواقع اخرى غير العملية الاقتصادية المجردة، والتي ستلعب ـ وعي الاقتصاد ذلك ام لم يعه ـ دورا حاسما او بارزا في تنظيم الحياة الاقتصادية.

إن ربط الاقتصادي بالحقائق فوق الاقتصادية هو موقف علمي يحترم الاقتصاد وبموضعه في مكانه الملائم، على العكس فان السقوط في الاقتصادوية، وجعل كل حقائق الحياة ملحقة بالنظرة الاقتصادية، تحمل تعسفا للتاريخ وللعلم وللموضوعية في آن واحد، ان لم نقل انها تحمل اهانة مضمرة للانسان، فالانسان كائن متحرك، وقد جبل الله فيه من خصائص مختلفة سريعة التغير والتأثر، فهو وان كان يحمل بعض صفات الآلة والحيوان، لكنه يحمل ايضا صفات اخرى تميزه عنهما تماما. وقد دأب المفكرون المسلمون على تحليل ذلك، والتمييز بين حالة واخري، لاهمية كل ذلك في صياغة المقدمات اللازمة لارساء العلاقات الاجتماعية على اسس صحيحة. اذ يميز صدر الدين الشيرازي[18] مثلاً بين أربع حالات على الاقل، ويشخص لكل حالة صفات مختلفة.

هذه الصفات وغيرها صفات ملازمة للانسان وقد تتفوق هذه الصفة على تلك، وان اختلاف الصفات هو ليس بالضرورة مسيرة التقنيات والعلوم والتطورات الفكرية والمادية، فالانسان لم يبدأ حيوانا لكي تحوله التقنيات والعلوم الى انسان “ الانسان هو ذلك الانسان الذي اعطاه الله سبحانه وتعالى ما اعطاه من صفات، وان العلوم والتقنيات هي وسيلة بيده للارتقاء بانسانيته، وهي على العكس قد تكون وسيلة واداة الى تشيئه وتحويله الى مجرد حيوان يعيش درجة المحسوسات، كما هو واقع الكثيرين اليوم، رغم كل مظاهر الارتقاء والتقدم السطحية والشكلية. وان الامثلة عن هذه الحالة او تلك هي مسيرة الانسانية بكل تقلباتها واحوالها، فالعملية ليست حتمية ولا تجري بسياق واحد، لذلك يحذر الفكر الاسلامي من السقوط في التجزيئية، الذي لا بموضع الاجزاء في اطار كلياتها، او لا يرى سوى جزء ويهمل الاجزاء او الجوانب الاخري.

الاقتصاد و«الاقتصاد» الخاص: بعض الامثلة من التجربة الاسلامية:

ودون الدخول مفصلا في مناقشة هذا الامر، فاننا نعتقد بان الاقتصاد السياسي وورثته، سواء من الذين يقفون على اليمين او على اليسار، يقفون في الحقيقة في اطار مرجعية مشتركة وارضية واحدة تنتمي الى جغرافيا محددة هي اوروبا والغرب، والى زمن واحد وهو العصر الحديث. هذه النزعة لتأكيد الخاص واعطائه البعد العام لا يمكنها ان تنجح لينجح معها المشروع الامبريالي والرأسمالي المعاصر، ان لم تقم على الغاء متعسف وغير علمي، مستغلة كل الثغرات ونقاط الضعف، لتشن هجوما كاسحا مدمرا للعام العالمي والتاريخي وما معه من علوم ومعارف وتجارب ومكتسبات، ليصبح علمها وتجربتها وانماطها هي المرجعية الوحيدة، وهذه تقف كشرط من شروط الهيمنة وابقاء الاخرين في مواقع التلقي وفقدان الثقة، ليصبح السعي ليس لبناء الاصلح والاجدي، بل ليصبح السعي اللحاق بالغرب الذي تحمل شروط اللحاق به بالذات تدمير الذات والمكونات والمكتسبات دون قدرة حقيقية على بناء جديد متكامل فاعل وحيوي، وهو ما يشكل الحلقة المفرغة التي سترسي بالتدريج للتخلف قوانين تجديد نفسه، كشرط للقوانين التي تولدت بالتدريج، لكي يمتلك الغرب قوانين تجديد قوته ونشاطه. تقول الماركسية الالمانية المعروفة روزا لو كسمبورغ». (من سمات الظاهرة الاوروبية انها الاولى التي لا تكتفي بالنهب والاستغلال، بل تقوم بالاستيلاء على وسائل الانتاج والارض للمجتمعات الاخري، انها تدمر بنية المجتمعات، فهي اسوأ كل انواع الاضطهاد والاستغلال، انها الفوضى الكلية. وهذه الظاهرة خصوصية اوروبية وهي: فقدان الضمان للوجود الاجتماعي، وتحويل الشعوب الخاضعة الى ادوات عمل. وان عنى ذلك شيئا بالنسبة لاهدف رأس المال فانه يعني تحويلهم الى عبيد او حتى تصفيتهم)[19]. فالتاريخ العالمي والاسلامي بشكل خاص مملوء بالتصورات الاقتصادية المتقدمة، والتي سبقت نظريات الاقتصاد السياسي المعاصر، وان تغيبها وعدم التواصل معها هي احدى الحلقات في فشلنا لحد الان في بناء منهج اقتصادي يتناسب مع اوضاعنا وظروفنا وقيمنا، لذلك من المناسب ان نشير الى بعض المفاهيم الاقتصادية التي تعتبر حديثة، والتي كتب حولها المفكرون المسلمون. وسنقف عند ثلاثة مفاهيم تتعلق بالتضخم، والنقد، والاستثمار، كاشارة سريعة وغير متكاملة، لنشير الى وجود عالم من المفاهيم غيبته عملية التغريب التي تعرضنا لها جميعا، والتي عندما قطعتنا عن تاريخنا قصدت افراغ واقعنا من اي محتوي، لتتمكن المفاهيم الاخرى من اختراقنا واسرنا.

مفهوم التضخم:

بعد عرض مفصل لازمات الغلاء وعواملها التي مرت على البلاد الاسلامية (مصر) منذ اقدم العصور والى اوائل القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) يقول المقريزي: (ان الغلاء والرخاء ما زالا يتعاقبان في عالم الكون والفساد)[20]. ثم يلخص هذا المفكر بدقة متناهية «اسباب الغلاء والمحن والوبا» في ثلاثة امور هي:

1ـ فساد الدولة.

2ـ ارتفاع الكلفة بسبب شيوع الفساد والظلم وهو ما يسميه «غلاء الاطيان».

3ـ التضخم وهو اختلاف السعر الاسمي للنقد عن سعره الحقيقي كسلعة، وهو ما يسميه «رواج الفلوس». وهذه فقرات مختارة من كل ذلك. يقول المقريزي: (وسبب ذلك كله ثلاثة اشياء لا رابع لها: “

السبب الاول: وهو اصل هذا الفساد، ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة، كالوزارة والقضاة ونيابة الاقاليم وولاية الحسبة وسائر الاعمال، بحيث لا يمكن التوصل الى شيء منها الا بالمال الجزيل، فتخطى لاجل ذلك كل جاهل ومفسد وظالم وباغ الى ما لم يكن يؤمله من الاعمال الجليلة والولايات العظيمة، لتوصله باحد حواشي السلطان، ووعده بمال للسلطان على ما يريده من الاعمال “ ولا يجد سبيلا الى اداء ما وعد به الا باستدانة بنحو النصف مما وعد به، فتتضاعف من اجل ذلك عليه الديون، ويلازمه اربابها. لا جرم انه يغمض عينيه ولا يبالي بما اخذ من انواع المال ولا عليه بما يتلفه في مقابلة ذلك من الانفس، ولا بما يريقه من الدماء، ولا بما يسترقه من الحرائر، ويحتاج الى ان يقرر على حواشيه واعوانه ضرائب، ويتعجل منهم اموالا، فيمدون هم ايضا ايديهم الى اموال الرعايا، ويشرئبون لاخذها بحيث لا يعفون ولا يكفون “ فلما دهي اهل الريف بكثرة المغارم وتنوع المظالم اختلت احوالهم وتمزقوا كل ممزق، وجلوا عن اوطانهم، فقلت مجابي البلاد ومتحصلها لقلة ما يزرع بها، ولخلو اهلها ورحيلهم عنها لشدة الوطأة من الولاة عليهم، وعلى من بقي منهم “

السبب الثاني: غلاء الاطيان “ فتعدوا الى الاراضي الجارية في اقطاعات الامراء، واحضروا مستأجريها من الفلاحين، وازادوا في مقادير الاجر “ فجعلوا الزيادة ديونهم كل عام، حتى بلغ الفدان لهذا العهد نحوا من عشرة امثاله قبل هذه الحوادث. لا جرم انه لما تضاعفت اجرة الفدان من الطين، وبلغت قيمة الاردب من القمح المحتاج الى بذره ما تقدم ذكره، وتزايدت كلفة الحرث والبذر والحصار وغيره، وعظمت نكاية الولاة والعملا، واشتدت وطأتهم على اهل الفلح، وكثرت المغارم في عمل الجسور، وكانت الغلة التي تتحصل من ذلك عظيمة القدر زائدة الثمن على ارباب الزراعة، سيما في الارض منذ كثرت هذه المظالم ـ منعت الارض زكاته، ولم تؤت ما عهد من أكلها، والخسارة يأباها كل واحد طبعا. ولا يأتيها طوعا ومع ان الغلال معظمها لاهل الدولة اولي الجاه وارباب السيوف، والذين تزايدت في اللذات رغبتهم، وعظمت في احتجار اسباب الرفه نهمتهم، استمر السعر مرتفعا لا يكاد يرجى انحطاطه، فخرب بما ذكرنا معظم القري، وتعطلت اكثر الاراضي من الزراعة، فقلت الغلال وغيرها مما تخرجه الارض، لموت اكثر الفلاحين وتشردهم في البلاد من شدة السنين وهلاك الدواب، ولعجز الكثير من ارباب الاراضي عن ازدراعها لغلو البذر وقلة المزارعين. وقد اشرف الاقليم لاجل هذا الذي قلنا على البوار والدمار.

السبب الثالث: رواج الفلوس “ ان النقود التي تكون اثمانا للمبيعات وقيما للاعمال انما هي الذهب والفضة فقط)[21] “ (انتهى النص)

ثم يعرض المقريزي مقارنة تاريخية مفصلة لانواع الدنانير والدراهم الشرعية وغير الشرعية منذ فجر الاسلام والى عهده، ويعطي الامثلة كيف قاد الاصدار النقدي المزيف الى ارتفاع الاسعار وتضرر كل فئات الشعب بسبب التضخم او رواج الفلوس لأن (من نظر الى اثمان المبيعات باخبار الفضة والذهب لايجدها قد غلت الا شيئا يسيراً، واما باعتبار ما دهى الناس من كثرة الفلوس فأمر لا اشنع من ذكره ولا أفظع من هوله)[22]. فالاسعار حينئذ اذا نسبت الى الدرهم او الدينار (اي الى سلعة الفضة والذهب كمعادل عام كما نسميه في الاقتصاد الحديث) لا يكاد يوجد فيها تفاوت عما كنا نعهد قبل هذه المحنة[23]، اي التضخم والغلاء كما اصبحنا نسميه اليوم، وكما كان اسماه بكل دقة علمية «رواج الفلوس الرخيصة».

الحقيقة النقدية:

أدرك المفكرون المسلمون حقيقة نقدية تعتبر حديثة جدا، وهي ان النقد هو مظهر للثروة ليس الا، والثروة الحقيقية هي مجموع المكاسب فهي التي تصنع الاموال والنقد. يقول ابن الازرق: (واموال الامم الغابرة انما هي آلات ومكاسب، والعمران يوفرها او ينقصها، وربما تنتقل من قطر الى قطر، ومن دولة الى اخري، مع ان المعدنيات يدركها البلاء كسائر الموجودات)[24]. ويقول ابن خلدون: (فانه يبلغنا عنهم «بلاد المشرق» في باب الغنى والرفه غرائب تسير الركبان بحديثها، ويحسب من يسمعها من العامة ان ذلك لزيادة في اموالهم، او لأن المعادن الذهبية والفضية اكثر بارضهم، او لأن ذهب الاقدمين من الامم استأثروا به دون غيرهم وليس كذلك، فمعدن الذهب الذي نعرفه في هذه الاقطار انما هو من بلاد السودان وهي الى المغرب اقرب)[25] (والسبب في ذلك كله ما ذكرناه من كثرة الاعمال، وما يأتي ذكره من انها سبب الثروة)[26] مؤكدا الطابع السلعي للنقد او للعملة، وهو ما يدعي البعض انه من مكتشفات الفكر الكلاسيكي في القرن الثامن عشر.

ويشخص قدامة ابن جعفر (القرن الرابع الهجري ت923 هـ العاشر الميلادي) حقيقة العملة كمعادل عام، ويضع اسباب تطورها بشكل لا يختلف كثيرا عن الاسس الذي تدرس به هذه المادة في الجامعات الحديثة، على الاقل حتى نهايات الحرب العالمية الثانية، اي قبل ان يبدأ انفكاك العملة عن القاعدة الذهبية او المعدنية، ويصف بدقة الطبيعية السلعية للنقد او للعملة، ويبين دورها ليس فقط كمعادل عام، بل دورها في الادخار، وقابليتها للحفظ والتجزئة وتنظيم الاسواق، وكذلك سهولتها في التعامل من حيث صعوبة غشها وقابليتها للسك والكتابة، وعدم تعرضها للتلف السريع، بل يبين اساس كل ذلك في ولادة العملة الورقية (الكاغد)، الذي تقول كتب الاقتصاد الحديث انه استخدم للمرة الاولى في القرن السابع عشر، وقد سقطنا في حبائل هذه التبويبات الخاطئة والواضحة في مراميها الشريرة[27] في حين ان الحقيقة هي ان المسلمين استخدموه قبل ذلك بقرون طويلة، وكانوا على وعي تام لدور العملة الورقية في عملية الاستغلال والمراباة، بل قد يستغرب البعض من حقيقة ان البدو كان لهم دور كبير في تطوير الشكل النقدي للبضاعة، بسبب كثرة ترحالهم وهو الامر الذي يؤكده ماركس[28]. يقول قدامة ابن جعفر في شرحه لطبيعة العملة ودورها: (لما كان كل واحد من الناس محتاجا في تدبير معاشه ومصلحة أمره الى غيره ممن قدمنا ذكر حاجته اليه، من سائر الناس لمعاونته، وموأزرته لم يكن متسهلا أن ينفق أوقات حاجات الجميع، ومتيسرا أن يوافي ادواتهم، حتى اذا كان أحد منهم «مثلا نجاراً اتفق» له أن يجد اذا احتاج الى خف أسكافا، يحتاج الى باب، والا اذا كان عنده مثلا قمح وقد احتاج الى زيت، يجد زياتا يحتاج الى قمح، وكذلك كل من عنده صنف من أصناف التجارات، أو معه ضرب في أضراب الصناعات، أن ينفق له اذا أراد شيئا أن يجد من يريد ما عنده ممن قبله أرادته، وكان مع ذلك لو أن ما بينا عسره وقلة وجوده، موجود، متسهل، من ان يجد كل من يحتاج الى نوع من أنواع المطلوبات من عنده ذلك المطلوب مريدا ماعنده المحتاج، لكان ذلك على بعده ومحتاجا الى أن يعرف مقدار كل صنف من غيره، وقدر كل عمل مما سواه، حتى يعلم مثلا قدر الحياكة من النجارة ومن غيرها من كل صناعة، وكذلك قدر النجارة من سائر الصناعات سوى الحياكة، وعلى هذا قدر القمح من الزيت، ومن غيره من سائر المطلوبات، وقدر الزيت من غير القمح من جميع الصناعات، فكان حفظ ذلك وتحصيله يصعب ويشق على من يبتنه وتفقده فضلا عن الامي، والمرأة، والصبي، وجميع من يبتاع ويبيع حاجة من أصناف الناس كافة. فلما كان هذا على هذه الحال من المشقة لطف الناس بالتمييز الذي منحهم الله اياه، طالبوا شيئا يجمع جميع الاشياء ويكون عند كل من يحتاج اليه من صناعة، أو مهنة، أو حبة، أو ثمرة، أو غير ذلك، مما يدخل تحت الإرادة ثمنا وقيمة، واعتمدوا أن يكون هذا الشيء باقيا اذ كان هذا حكم ما يجعل ثمنا بجميع المطلوبات للحاجة الى حفظه وادخاره، وكان ما يسرع اليه الفساد والغير مما لا يصلح ذلك فيه، فكان ما جعلوه ثمنا لكل مراد الذهب لطول بقائه على الزمان واحدة، ثم لانطباعه على ما يطمح عليه وقبوله للعلامات التي تصونه والسمات التي تحفظه من الغش ثانية، ثم كانت الفضة دون الذهب في النقاء، فنزلوا لها مرتبة من القيمة حسب قدرها من بقاء الذهب، وتطاول مدته، ثم كان النحاس دون الفضة في البقاء، فنزلوا له مرتبة في القيمة على حسب طبقته، وكان أجود جميع المطلوبات في هذه الثلاثة الاصناف أولى في التدبير من الامر الاول، اذ كان يغرب وذاك لا يكاد يضبط ولا يتحصل ولهذه العلة احتيج الى اتخاذ العين، والورق، وما يجري مجراهما واستعمال ذلك فيما تقدم شرحنا له)[29].

الاستثمار والادخار والاكتناز:

«كنز الاموال في تفريقها» من رسالة لطاهر بن الحسين الى ابنه الوالي على ديار ربيعة[30] ويواصل شرحه (واعلم ان الاموال اذا كثرت ودخرت في الخزائن لا تثمر، واذا كانت في اصلاح الرعية واعطاء حقوقهم وكف المؤونة عنهم نمت وربت وصلحت به العامة وتزينت الولاة وطاب به الزمان، واعتقد فيه العز والمنعة، فليكن كنز خزائنك تفريق الاموال في عمارة الاسلام واهله). وهذا موقف لا يختلف عن متبنيات الاقتصاد الحديث الذي يعتبر الاكتناز رأس مال مجمد ليس الا، في حين يؤكد مبدأ كنز الاموال في تفريقها على العلاقة الوثيقة بين الادخار والاستثمار، كما جاءت به النظرية الكينزية بعد الحرب العالمية الثانية من القرن العشرين.

هذه عيّنات ليس الا، في حين ان كتب التاريخ والخطط والجغرافيا والبلدان والدواوين والانشاء ناهيك عن كتب الخراج والحسبة والصنايع والاعمال وغيرها، ودون الكلام عن القران الكريم وكتب الحديث والفقه، تعج كلها بالموضوعات الاقتصادية والاجتماعية الراقية التي تنتظر من يبحث فيها ويجدد مفاهيمها، لتشكل قاعدة مهمة تساعدنا على حسن فهم مجمل الموضوعة الاقتصادية في اطار رؤية كلية وعامة تستطيع ان تبوب الخاص، بما في ذلك الخاص الغربي لحسن فهمه والتعامل معه من مواقع الثقة بالنفس والاستفادة، وليس مجرد التقليد الاعمى او الاستلاب والتغريب المطلق.

الاقتصاد جزء من كل: صاحب الحق الاول والحقوق المشتقة:

الملكية المزدوجة “ الطولية او الخارجية:

كان لابد للشهيد الصدر من ان يبدأ من تعريف اصحاب الحقوق وان يبدأ من البدايات التي عند ترتيبها يمكن ترتيب بقية العلاقات ونقصد بذلك نظام الحقوق الذي يطالب الاسلام باقامته والذي انطلاقا منه ستشكل الدوافع والاليات الاقتصادية التي ستمنح الاقتصاد الاسلامي ميزاته كمذهب له اسسه المستقلة التي قد تشترك او تتقاطع مع بقية المذاهب الاقتصادية “ يقول الشهيد الصدر:

«يختلف الاسلام عن الرأسمالية والاشتراكية، في نوعية الملكية التي يقررها اختلافا جوهريا. فالمجتمع الرأسمالي يؤمن بالشكل الخاص الفردي للملكية، أي بالملكية الخاصة كقاعدة عامة. فهو يسمح للافراد بالملكية الخاصة لمختلف أنواع الثروة في البلاد تبعا لنشاطاتهم وظروفهم. ولا يعترف بالملكية العامة إلا حين تفرض الضرورة الاجتماعية، وتبرهن التجربة على وجوب تأميم هذا المرفق او ذاك. فتكون هذه الضرورة حالة استثنائية، يضطر المجتمع الرأسمالي ـ على أساسها ـ إلى الخروج عن مبدأ الملكية، الخاصة، واستثناء مرفق أو ثروة معينة من مجالها “ والمجتمع الاشتراكي على العكس تماماً من ذلك. فإن الملكية الاشتراكية فيه هي المبدأ العام، الذي يطبق على كل أنواع الثروة في البلاد. وليست الملكية الخاصة لبعض الثروات في نظره إلا شذوذاً واستثناءً، قد يعترف به أحياناً بحكم ضرورة اجتماعية قاهرة “ وأما المجتمع الاسلامي، فلا تنطبق عليه الصفة الأساسية لكل من المجتمعين. لأن المذهب الاسلامي لا يتفق مع الرأسمالية في القول: بأن الملكية الخاصة هي المبدأ، ولا مع الاشتراكية في اعتبارها للملكية الاشتراكية مبدأ عاماً، بل إنه يقرر الأشكال المختلفة للملكية في وقت واحد، فيضع بذلك مبدأ الملكية المزدوجة (الملكية ذات الأشكال المتنوعة) بدلاً عن مبدأ الشكل الواحد للملكية “ وان تنوع الاشكال الرئيسية للملكية في المجتمع الاسلامي، لا يعني ان الاسلام مزج بين المذهبين، الرأسمالي والاشتراكي، وأخذ من كل منهما جانباً “ وإنما يعبر ذلك التنوع في أشكال الملكية عن: تصميم مذهبي أصيل، قائم على أسس وقواعد فكرية معينة، وموضوع ضمن إطار خاص من القيم والمفاهيم، تناقض الأسس والقواعد والقيم والمفاهيم التي قامت عليها الرأسمالية الحرة، والاشتراكية الماركسية.[31] »

وعندما يؤكد الشهيد الصدر بان مفهوم الملكية يقوم على قواعد ومبادئ محددة فانه ينطلق في ذلك من الحقيقة التي سجلها وهي ان الاقتصاد هو جزء من كل. وان مجمل الصراع الفكري والاجتماعي سيتركز حول هذه النقاط “ فاما ان يسيطر المجتمع على الاقتصاد او ان يسيطر الاقتصاد على المجتمع. وان مزية النظام الاسلامي هو سعيه لتحقيق الامر الاول عبر مفاهيم محددة لتبقى القيم العليا والقيم الانسانية هي العليا بينما اضطرت المذاهب الاخرى الى قبول خضوع المجتمع للاقتصاد بكل النتائج الخطيرة على الانسان وعلى مستقبل الانسانية والذي لا مجال للتعرض اليه الآن، لذلك لابد للمذهب الاسلامي في الاقتصاد ان يؤسس البدايات المفاهيمية والعقائدية اولاً ليصل الى تحديد الاسس والمنطلقات والحقوق والدوافع التي ستستقر عليها البنية الاقتصادية ثانياً لتنتظم بعد ذلك الاليات الاقتصادية الواقعية والعملية عندما سيتحرك كل مكون اوكل شخص اقتصادي نحو الدوافع التي تشكلت له وللحصول على الحقوق التي ترتبت له “

وبدايات الاسلام هو التوحيد بكل المعاني التي تأخذها كلمة التوحيد. يقول الشهيد الصدر: «فالتوحيد هو جوهر العقيدة الاسلامية، وبالتوحيد يحرر الاسلام الانسان من عبودية غير الله (لا إله إلا الله) ويرفض كل اشكال الالوهية المزيفة على مر التاريخ وهذا هو تحرير الانسان من داخل “ ثم يقرر كنتيجة طبيعية لذلك تحرير الثروة والكون من اي مالك سوى الله تعالى وهذا هو تحرير الانسان من خارج وقد ربط الامام أمير المؤمنين عليه السلام بين الحقيقتين حين قال (العباد عباد الله والمال مال الله) وبذلك حطم الاسلام كل القيود المصطنعة والحواجز التاريخية التي كانت تعوق تقدم الانسان وكدحه الى ربه وسيره الحثيث نحوه سواء تمثلت هذه القيود والحواجز على مستوى الهة ومخاوف واساطير وتحجيم للانسانية بين يدي قوى اسطورية او تمثلت على مستوى ملكيات تكرس السيادة على الارض لطاغوت فرداً كان او فئة او طبقة على حساب الناس وتحول دون نموهم الطبيعي وتفرض عليهم بالتالي علاقات التبعية والاستعباد[32]».

الملك لله هو المرتكز الاول لاي نظام اسلامي يريد ان يؤسس مذهبا اقتصاديا يحرر الانسان من كل اشكال العبوديات. وان الكثير من المسلمين ومن المستشرقين لا يرون اهمية هذا التأسيس. فمن المسلمين من لا يرى في هذا الحق سوى ترديدا لفظيا لن يعني شيئاً على صعيد الواقع “ ومنهم من استولى صراحة او ضمنا على حق الله وجعله حقا شخصيا له، بينما لم يبذل الكثير من المستشرقين جهدا لفهم اهمية هذا التأسيس بل سارعوا للتأكيد بان هذا المفهوم لن يحمل سوى عملية استلاب وخداع ليستولي حكام الجور على حقوق الناس عبر ايهامهم بأنهم هم الذين يتصرفون بمالكية ا\ وحقوقه.

لكن الحقيقة الاكيدة هي ان ملكية الله كانت حاضرة تماما في التاريخ الاقتصادي للمسلمين، وان رؤية محاولات الخداع والسيطرة عليها فقط دون رؤية مافعلته هذه الملكية لا يمثل سوى نصف الحقيقة “ فجعل الملكية مطلقة لله سبحانه وتعالى هو سحب للملكية من الاخرين، ليعاد تأسيسها لاحقا، ليس كحق مطلق او مقدس، بل كوظيفة اجتماعية لتمنح للافراد والجماعات والهيئات حقوق الاستملاك والتصرف والحيازة والتمتع والاستفادة والاجارة بدون اية قدرة شرعية للتعسف بهذا الحق كما فعلت اشكال الملكيات الرومانية والجرمانية[33] والتي جعلت من الملكية الخاصة حقا مقدما يحمل الكثير من الصفات العدوانية والاستغلالية. لذلك يقول رجا غارودي: «ان الملكية ـ كما عرفها القانون الروماني ـ تخول المالك حق الانتفاع والمنفعة بينما الملكية في مفهوم الاسلام هي وظيفة اجتماعية، اي ان مصالح الفرد تابعة على الدوام لمصالح الجماعة.[34] »

لذلك تولدت مفاهيم اختصت بها التجربة الاسلامية كمفاهيم الفيء والخراج، ومفهوم رقبة الارض او الملك او الصوافي والموات والانفال والاوقاف العامة والخاصة او الحبوس وغيرها والتي كانت دون ادنى شك اكبر انواع الملكيات في التجربة التاريخية للمجتمعات الاسلامية “ وهذه التأسيسات حمت الامة من عسف الظالمين الذين لولا مالكية الله لاستطاعوا ان يحولوا هذه الحقوق الى موروثات واملاك خاصة بكل النتائج التاريخية التي يمكن ان تحملها مثل هذه التطورات “ اذ درس الكثير من الباحثين والمستشرقين من امثال مكسيم رودنسون وكلود كاهن ظروف البلاد الاسلامية في القرن الحادي عشر الميلادي وتساءلوا دون ان يصلوا الى جواب مقنع عن عدم تطور البلاد الاسلامية حينذاك الى النظام الرأسمالي رغم ان شروط نموها ـ كما عرفتها اوروبا ـ في القرن السابع عشر والثامن عشر من عمليات التراكم الرأسمالي وتطور العلوم والاكتشافات والصناعات الحرفية الى ما يشبه المانيفاكتورات ووجود الاسواق والتبادل النقدي والاهم من ذلك كله وجود القوة العاملة المستعدة لتأجير نفسها باعداد كبيرة قد كانت متوفرة حينذاك في البلاد الاسلامية.

إن ارتباط الملكية الدنيوية بمالكية الله لم يكن حقا استأثر به الحكام او المتسلطون، بل كان سياجا وضمانا للامة التي ارتبط حقها بحق الله “ فمن يريد ان ينكر حق الامة يجب ان ينكر حق الله “ يقول الماوردي: «واذا قام الامام بما ذكرناه من حقوق الامة فقد ادى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم[35]» اذ يرد في نهج البلاغة «كلم به عبدالله بن زمعة، وذلك انه قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا فقال عليه السلام: ان هذا المال ليس لي ولا لك، وانما هو فيء للمسلمين، وجلب اسيافهم، فان شَراكتهم في حربهم، كان لك مثل حظهم، وإلا فجناة ايديهم لا تكون لغير افواههم[36]» “ ويرد للامام علي عليه السلام في وصيته لمالك الاشتر عندما ولاه مصر قوله: “ لأن الناس كلهم عيال على الخراج واهله: فيقول: «وتفقد امر الخراج بما يصلح اهله فإن في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ولاصلاح لمن سواهم الا بهم لان الناس كلهم عيال على الخراج واهله “ وليكن نظرك عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج؛ لأن ذلك لا يدرك الا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد وأهلك العباد ولم يستقم امره الا قليلا، فان شكوا ثقلا او علة او انقطاع شرب او بالّة او احالة ارض اعتمرها غرق او اجحف بها عطش خفّفت عنهم بما ترجو ان يصلح به امرهم: ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم فانه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلدك وتزيين ولايتك مع استجلابك حسن ثنائهم وتبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمداً فضل قوتهم بما ذخرت عندهم من اجمامك لهم والثقة منهم بما عودتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم فربما حدث لهم من الامور ما اذا عوّل فيه عليهم من بعد احتملوه طيّبة انفسهم به فان العمران يحتمل ما حمّلته، وانما يأتي خراب الارض من اعواز اهلها، وانما يعوز اهلها لاشراف انفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر[37]

ويقول ابو يوسف: «وقد سأل بلال واصحابه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسمة ما افاء الله عليهم من العراق والشام، وقالوا اقسم الارضين بين الذين افتتحوها كما تقسم غنيمة العسكر، فأبى عمر ذلك عليهم، وتلا عليهم هذه الايات، وقال: قد اشرك الله الذين يأتون من بعدكم في هذا الفيء، فلو قسمته لم يبق لمن بعدي شيء. ولئن بقيت ليبلغن الداعي بصحاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في وجهه[38]

لهذا بقيت معظم الاراضي في المجتمعات الاسلامية (كأهم مصدر للملك) ورغم كل ضغوطات التسلط، بقيت في جزئها الاعظم ارض خراج، وهذه فيء للمسلمين كلهم وليس لفرد أو لهيئة. اما الجزء الكبير الاخر من الاراضي وهي اراضي الصوافي والموات فقد بقيت ملك الولاية او منصب الامام، اي ملك الامة، يتصرف بها الامام العادل او الولاية لمصلحة الامة. وهكذا يكون الشكلان الرئيسيان للارض (ولغيرها ايضا) وهما العامرة والموات ملكا للامة او للمسلمين بعد ان اسست مالكية ا\ورسوله شروط هذا التصرف او التمليك. وان هاتين الملكيتين اي الملكية العامة للامة وملكية الدولة وان اتفقتا في المغزى الاجتماعي الا انهما يعتبران شكلين تشريعيين مختلفين لان المالك في احد الشكلين هو الامة والمالك في الشكل الاخر هو المنصب الذي يباشر حكم تلك الامة من قبل الله.[39] »

وهكذا نرى بان جميع تلك المفاهيم كمفهوم الملكية المزدوجة او الداخلية والخارجية، كما يسميها الشهيد الصدر او الملكية الطولية كما يسميها الشهيد مطهري ستنظم بشكل اجتماعي ودقيق مفاهيم الملكية الاخرى كمفهومي الملكية الخاصة والعامةپ“ فلا يتحول هذان الاخيران الى مجرد قطبين متصارعين يحاول احدهما ان ينقضّ على الاخر، بل سيكونان مكونين مختلفين يتكاملان ويختلفان في اطار نسيج واحد تحررت اسسه في مجال الملكيات من ان تكون استبدادا بيد الجماعة على الافراد، او بيد الافراد على الجماعة او بيد الدولة على هذه وتلك. فمالكية الله ستلعب دور المشرف والمنظم والضابط لتوازن فعال قائم على الانصاف ـ لا التساوي ـ بين الجماعات والافراد والهيئات التي تنتقل اليهم حسب اوزانهم وادوارهم ومواقعهم الملكيات الدنيوية، دون ان تتحول الى حقوق مقدسة لا تتبدل ولا تمس. وعندما نقول: ان هذا المفهوم قد حرر الاسس، فان هذا لا ينفى وقوع الاستبداد وطغيان عنصر على عناصر اخري. بل يعني ان وقوع الاستبداد واللاتوازن، والتي هي امور جارية تقع بشكل ثابت ومستمر سيفرز نفسه منذ البداية كحالات لا شرعية لن تستطيع ان تكتسب شرعيتها لعدم قدرتها على النيل من الأسس التي تقوم عليها مفاهيم الملكية. لذلك سيتم الانقضاض عليها في محاولات متكررة عند اول فرصة ممكنة. لذلك دخلت المجتمعات الاسلامية ما يسمى بالتاريخ المعاصر وهذه المفاهيم ما زالت على قوتها لم تستطع ان تطيح بها ممارسات طويلة من الاستبداد. دخلت المجتمعات الاسلامية ما يسمى بالعصر الحديث وهي تنظم حقوقها وواجباتها على اساس حقوق الله ورسوله والجماعة وحقوق الناس او كما يلخصها الشرع باعمال الحلال، بينما يتم تشخيص الانحراف والاعمال اللاشرعية والاستبدادية بمعايير الاسلام والشرع، باعتبارها اعمال حرام يجب محاربتها.

الحقيقة الاقتصادية وما فوقها، او المصالح الطبيعية والمصالح الاجتماعية:

إن موضوعة «الاقتصاد جزء من كل» التي تضع الامور في نصابها وتجعل الاقتصاد يدور في فلكه الطبيعي لا يستبد به ولا يستبد هو بالاخرين هو امر في غاية الخطورة في نظام التفكير والقيم الاسلامية، فعندما يصبح الاقتصاد هو المحور الذي تدور حوله بقية الامور وعندما يصبح السوق والربح هو المحور الذي يدور حوله النشاط الاقتصادي ومن ثم القيمي والاخلاقي فان الانسان سيطلق في ذاتياته عقال الاستبداد والانانية. عند ذاك ستفرخ القيم الاجتماعية انسانا جشعا لا يهمه الا مصالحه الخاصة يغذيها من عدوان واستغلال متكرر ليس لاخيه الانسان فحسب بل لكل ما حوله من بيئة وطبيعة وسنن كونية.

أما في القيم الاسلامية فلا يمكن التفكير بتأسيس مذهب اقتصادي دون ارتباطه بمجمل القيم الاسلامية حول الوجود والكون والحياة والموت “ لذلك سترتبط المفاهيم الاقتصادية بالمفاهيم المافوق اقتصادية، او كما يسميها الشهيد الصدر المصالح الطبيعية والمصالح الاجتماعية.

وسنضرب مثالين حول اهمية هذه الروابط في المفاهيم والتطبيقات الاقتصادية في الاسلام.

حقوق الطبيعة (العوامل فوق الاقتصادية) ملك للامة ويجب ان تدخل في الحساب الاقتصادي:

لا ينكر غلبة الطابع الزراعي او المهني والتجاري البسيط على الاقتصاد في بداية التشريعات الاسلامية ذات الطابع الاقتصادي “ ولا ريب ان الاقتصاديات المعاصرة باتت اكثر تعقيدا بحيث من المتعذر في حالات عديدة تطبيق الممارسات القديمة على الاوضاع المستجدة “ لكننا هنا لا نناقش الممارسات بل نناقش المنطلقات التي سمحت في تلك العصور لادخال حسابات الطبيعة والعوامل فوق الاقتصادية في الحسابات الاقتصادية، في حين نجد ان طرق الاستثمار الحديثة تستلب الطبيعة والعوامل فوق الاقتصادية مكاسبها فان هذا التدمير للطبيعة وللبيئة الذي يجري في اعالي البحار وفي عمق القارات وفي الفضاءات الخارجية، ناهيك عن طبيعة الاستثمارات في المجالات الاقتصادية الوطنية التي يقوم بها الرأسماليون والمالكون والتي يراكمون فيها ارباحهم وريوعهم ليستأثروا بمفردهم بمكاسب لا تعود لهم فقط، بل تعود للمجتمع والطبيعة والعوامل فوق الاقتصادية اولا وقبل كل شيء. التشريعات الاسلامية انطلقت من احترام كلّ الاعتبارات والمكونات التي تدخل في عملية الانتاج وتحقيق المكاسب والارباح. وهذه نظرة سريعة لموقفها من مسألتين او مثالين هما مثالا الزكاة والخراج.

مثال الزكاة:

إن أحد شرطي زكاة المواشي هو: «ان تكون سائمة ترعى الكلأ فتقل مؤنتها ويتوفر درها ونسلها، فان كانت عاملة او معلوفا فلا تجب فيها زكاة[40]» على قول معظم المذاهب “ ويقول ابو يوسف: ان المسلم «اذا مر على العاشر بغنم او بقر او ابل فقال ان هذه ليست سائمة أحلف على ذلك، فاذا حلف كف عنه. وكذلك كل طعام يمر به عليه فقال هو من زرعي فليس عليه في ذلك العشر[41]» وكذلك في الارض «فقدر الزكاة العشر ان سقيت عذباً او سيحاً ونصف العشر ان سقيت غرفاً او نضحاً[42]»

مثال الخراج:

وكذلك يختلف خراج الأرض بمدى مساعدة العوامل الطبيعية او فوق الاقتصادية. فكلما كانت هذه اكثر محاباة وموائمة له فانه سيتحمل خراجا اعلي، وكلما قلت استفادة المنتج من هذه العوامل وبذل في ذلك جهدا اكثر فانه سيستأثر بنتائج جهده.

“فيقول الماوردي: لذلك قسمت الارض ثلاثة اقسام:

«فالارض تختلف في ثلاثة اوجه ويؤثر كل واحد منها في زيادة الخراج ونقصانه.

ما يختص بالارض من جودة يزكو بها زرعها او رداءة يقل بها ريعها.

ما يختص بالزرع من اختلاف انواعه من الحبوب والثمار، فمنها ما يكثر ثمنه، ومنها ما يقل ثمنه، فيكون الخراج بحسبه.

ما يختص بالسقي والشرب لأن ما التزم المؤنة في سقيه بالنواضح والدوالي لا يحتمل من الخراج ما يحتمله سقي السيوح والامطار[43]»

صحيح ان هذه القواعد غالبا ما حرفت وارهق الحكام عاتق الناس بالتكاليف الباهضة والمؤن المرهقة، لكن الامر كما يذكر الشهيد الصدر يتعلق بتشريعات تشبه ما نسميه اليوم بالقوانين المدنية التي لابد ان تعكس مفاهيم البنى التحتية. هذه التشريعات تعبر عن منطلقات لم تستطع البنية الفوقية حينذاك الهرب منهما مما يعكس طبيعة المفاهيم الاسلامية والاجتماعية السائدة. وقد تعمدنا ان ننقل عن ابي يوسف والماوردي لاهمية عملهما وما عكساه من تقنين الحالة القانونية للدولة في ذلك الوقت.

وكذلك لابراز دور العمل ومكافأته كلما بذل جهدا اضافيا هو الموقف الصحيح الذي يزرع التوازن بين شتى العوامل ومختلف العاملين والمساهمين في العملية الانتاجية لكي لا تتستر مواقف الربا والاستغلال وراء مسميات لتستفيد قلة على حساب الاغلبية الساحقة. فالعوامل فوق الاقتصادية لا تجد ما يعوضها لا في الاجر ولا في الربح ولا في الفائدة ولا في الريع “ على العكس فان المالكين يستأثرون بمزايا هذه العوامل وما مفهوم «الريع التفاضلي» الذي يتكلم عنه ريكاردو واستفراد المالك بمردوداته ومنافعه الا مثال للمنهجين الفكريين المتضادين: الاول الذي يحاول ان يجعل من الاقتصاد ومن يهيمن على الاقتصاد الحقيقة الاولى والاخيرة التي تحتوي كل ما عداها، والثاني الذي يحاول ان يسيطر على الاقتصاد ويضعه في خدمة المجتمع ومحيطه وبيئته “

وستتواصل هذه الخلفية المفاهيمية في احترام الطبيعة ومنتجاتها والعمل في آن واحد لتضع حاجزا امام رأس المال المرابي والاستغلالي من العبث والاستفراد، اذ يذكر الشهيد الصدر بانه «سيكون بمقدور رأس المال ان يستأجر عمالا لاحتطاب الخشب من أشجار الغابة او استخراج البترول من آباره، ويسدد لهم أجورهم ـ وهي كل نصيب العامل في النظرية الرأسمالية للتوزيع ـ ويصبح رأس المال بذلك مالكاً لجميع ما يحصل عليه الاجراء من اخشاب اومعادن طبيعية، ومن حقه بيعها بالثمن الذي يحلو له. وأما النظرية الاسلامية للتوزيع فلا مجال فيها لهذا النوع من الانتاج لأن رأس المال لا يظفر بشيء عن طريق تسخير الاجراء لاحتطاب الخشب واستخراج المعدن وتوفير الأدوات اللازمة لهم، ما دامت النظرية الاسلامية تجعل مباشرة العمل شرطاً في تملك الثروة الطبيعية، وتمنح العامل وحده حق ملكية الخشب الذي يحتطبه والمعدن الذي يستخرجه. وبذلك يقضي على تملك الثروات الطبيعية الخام عن طريق العمل المأجور، وتختفي سيطرة رأس المال على تلك الثروات التي يمتلكها في ظل المذهب الرأسمالي لمجرد قدرته على دفع الأجور للعامل وتوفير الادوات اللازمة له، وتحل محلها سيطرة الانسان على الطبيعة.[44] » بل ان المشرع الاسلامي ذهب ليقف عند كل التفاصيل الدقيقة دون ان يترك منها شيئا الا حاول ان يخصص له موقعه المناسب “

فالمشرع الاسلامي يفكك كل العناصر ويحاول ان يعيد الحقوق لكل عنصر “ وما دمنا في مجال الطبيعة فان المشرع يعطي للحبة دورها وللالة دورها وللمالك دوره وللعمل دوره وللارض دورها، وتطبق هذه الاحكام حتى في حالة الغصب “ وينقل الشهيد الصدر عن السرخسي «وان غصب حنطة فزرعها ثم جاء صاحبها وقد ادرك الزرع او هو بقل فعلية حنطة مثل حنطته ولا سبيل له على الزرع عندنا وعند الشافعي الزرع له لأنه متولد من ملكه.[45] » ويذكر الشهيد الصدر انه «سئل الامام الصادق عن رجل اتى ارض رجل فزرعها بغير اذنه، حتى اذا بلغ الزرع جاء صاحب الارض فقال: زرعت بغير اذني فزرعك لي وعلي ما أنفقت أله ذلك ام لا؟ فقال الامام: للزارع زرعه ولصاحب الأرض كراء أرضه[46]» اما المثال الاخر الذي نقدمه لتوضيح اهمية ربط العوامل الاقتصادية بالعوامل فوق الاقتصادية في تفكيك العلاقات واعادة بنائها بشكل عادل ومتوازن وفعال، فنستقيه من المعاني الخاصة التي اعطتها الادبيات الاسلامية لكل من مفهومي الرزق والكسب.

الرزق:

يتضمن مفهوم الرزق حلقة الوصل بين الموضوعة الاقتصادية والموضوعات ما فوق الاقتصادية، كالطبيعة التي وضعها الله في خدمة الانسان “ او مجموع المكاسب التي يرثها او يحصل عليها الانسان وينتفع بها دون ان تكون نتاج جهده المباشر: يقول تعالي: <“ وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الارض بعد موتها>[47]فالرزق والرازق والرزاق هي «في صفة الله تعالى لأنه يرزق الخلق اجمعين، وهو الذي خلق الارزاق واعطى الخلائق ارزاقها واوصلها اليهم[48]». فالرزق هو عطاء يحمل في جانب رئيسي منه ان لم يكن كله عنصرا خارجيا لا علاقة للانسان به “ فالارزاق هي عطايا كارزاق الجند فهم مرتزقة، أو أرزاق فئات من الناس. والارزاق في نهاية التحليل ترتبط بالعوامل فوق الاقتصادية من جهة والعمل والسعي او الكسب من جهة أخرى “ يقول امير المؤمنين عليه السلام: «الرزق رزقان رزق تطلبه ورزق يطلبك» ويقول ابن خلدون: «فلابد في الرزق من سعي وعمل “[49]» ثم يردف قائلا «ثم ان ذلك الحاصل او المقتنى ان عادت منفعته على العبد وحصلت له ثمرته في انفاقه في مصالحه وحاجاته سمي ذلك رزقاً[50]»

الكسب:

أما الكسب فهو مجموع المكاسب والاموال المتحصلة على اساس العمل والتي يتم انفاقها والانتفاع بها. فهو يرتبط اولا بمفهوم الجهد او العمل، لهذا يقال: «الكسب يقوم على اساس العمل المنفق[51]» ويقال: الكسب هو «الطلب والسعي في طلب الرزق والمعيشة[52]» ويقول ابن خلدون: الكسب هو «في الاقتناء والقصد في التحصيل.[53] »

وتشير الايات القرآنية والاحاديث الشريفة الى حق الانسان في كسبه وارتباط الكسب بالسعي والتحصيل والعمل.

يقول الله سبحانه وتعالي: <كل امرئ بما كسب رهين> الطور: 12، <تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم> البقرة: 431، <لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت> البقرة: 682.

ويرد في الاحاديث الشريفة «اطيب ما يأكل الرجل من كسبه» «افضل الاعمال الكسب من الحلال».

فالكسب مفهوم يرتبط اساسا بالعمل المجرد قبل التوزيع. فالعمل اساس الكسب لانه «لو قدر احد عطل من العمل جملة لكان فاقد الكسب بالكلية وعلى قدر عمله وشرفه بين الاعمال وحاجة الناس اليه يكون قدر قيمته وعلى نسبة ذلك نمو كسبه ونقصانه[54]»

ما يميز الرزق عن الكسب وما يوحدهما:

يتميز الرزق عن الكسب من ناحية ان الكسب هو المكاسب قبل الانتفاع بها، اما الرزق فهو المكاسب بعد الانتفاع بها. يقول ابن الازرق «ان تلك المكاسب، من معاش ومتمول كلاهما ان انتفع به سمي رزقا وان لم ينتفع به سمي كسباً “[55]» ويضرب ابن خلدون وابن الازرق مثال الارث لتوضيح الفرق بين الرزق والكسب فالارث بالنسبة للمورث كسبا لانه عمل فيه وبالنسبة للوارثين رزقا لانهم كسبوه بدون عمل مباشر “ يقولان «فالارث بالنسبة للهالك كسبا وبالنسبة للوارثين متى ما انتفعوا به رزقاً[56]»

يرتبط الكسب بالعمل او بالانتاج، بينما يرتبط الرزق بالتوزيع، ويلاحظ ان مفهوم الرزق يسبق مسألة الكسب ويليها “ لان الرزق يرتبط بمفهوم فوق اقتصادي ايضا وليس بالمفهوم الاقتصادي فقط.

وتلخص هذه الرؤية قدرة الفكر الاسلامي على صياغة افكاره عن التوزيع والانتاج بمفردات كانت شائعة قبل ان تغيبها احاديات الفكر والمفاهيم التغريبية التي حملها الينا الاقتصاد السياسي فدمر دون ان يبني “ ولقد شرح الشهيد الصدر في كتابه اقتصادنا اهمية التوازن في الرؤية الاسلامية لمسألة التوزيع قبل الانتاج والتوزيع بعد الانتاج لان الاسلام لا يقوم على مفاهيم اقتصادية مجردة اطلاقية تفتقد الدقة والتي تزخر بها ادبيات الاقتصاد السياسي مثل من «لا يعمل لا يأكل» او «لكل حسب عمله» او «لكل حسب حاجته.»

الفكر الاسلامي يعرف ويشخص ويدرس الخصائص ويتعرف على المنافع والاضرار الجزئية والكلية، الانية والمقبلة ويربط الحقوق والواجبات الاقتصادية بالحقوق والواجبات الاجتماعية، ويرى الدنيا بعين الاخرة، ويرى الاخرة باعمال الدنيا “ فاكثر من نصف المجتمع من اطفال وشيوخ وعاطلين وفقراء ومرضى وطلاب وغيرهم لا يعملون “ الاسلام يرى هؤلاء ويرى واجبه رعايتهم وحمايتهم وضمان اوضاعهم، لا ان يمنع عنهم العيش. الاسلام يقول مثلا: «كل امرئ بما كسب رهين» بكل الدلالات والابعاد الاقتصادية وفوق الاقتصادية ليحتوي ويتجاوز تلك المقولات المدقعة في اقتصاديتها. بناؤه يقوم على الحقائق الكلية التي تضع الاقتصاد في مكانه كما تضع الامور الاخرى في مكانها في علاقات تبادل وأثر وتأثير. وبالتأكيد يرى الاسلام اهمية العمل والسعي والكدح لكنه يضع كل ذلك في مكانه بدون غلو او اهمال “ كما يرى الفكر الاسلامي اهمية الاقتصاد في تحرير الانسان. لكنه لا يرى ان هذا التحرر يمكن ان يتحقق عبر الاساليب والمستويات الاقتصادية مجردة دون غيرها، ناهيك عن اعتبارها الاساس في ذلك “ فتحرر الانسان يكون اولا من داخل وهذا هدف يمكن ان يتحقق في ابسط المجتمعات وفي اكثرها تعقيدا. واذا ما تحررت عقيدة الانسان او الاجتماع من الاصنام فان اهدافا عليا اقتصادية وغير اقتصادية (بطبيعتها المحددة ماديا ونوعيا) تصبح قابلة للتحقيق، ولا تتطلب مراحل تاريخية، او التضحية بالاخلاق لمصلحة الاقتصاد او بالاخرة لمصلحة الدنيا. او تحقيق الرفاه على حساب فئات اخرى او امم اخرى “ وسيتسنى حينذاك التوزيع فعلا حسب قاعدة (لكل حسب عمله) و(لكل حسب حاجته) وذلك في موازين ونصابات محددة. وقد قدم التاريخ برهانه ان ذلك امر ممكن ويحمل الواقع امكانيات تحقيق ذلك ان تضافرت الجهود وانعقدت النوايا. وان ما يمنع ذلك هو ليس الواقع الموضوعي كما يقولون. بل هي الارادات المتعسفة والمصالح الفاسدة التي تسيطر بارادة الحديد والنار والاستغلال والتجهيل.

إن التأسيسات المفاهيمية التي اطلقها الشهيد الصدر وثلة من علماء ومفكري الامة قبل عقود قليلة من الزمن لاعادة تفكيك العلاقات في البنك الربوي واعادة تأسيسها في اطار علاقات لا ربوية جديدة سرعان ما افرزت، ورغم كل الصعوبات والعقبات واشكال المحاربات، مئات المصارف اللاربوية التي تنتشر اليوم في العالم، بما في ذلك في العالم الغربي. فالاسلام يضع الاقتصاد في مكانه المناسب من الدائرة الاجتماعية ويتعامل مع المجتمع بموازين دقيقة ومنطلقات واهداف محددة لا تقبل العشوائية ولا الصنمية ولا العدوان ولا الاستلاب ولا اغتصاب الحقوق.

الحقيقة الاقتصادية أو الانتقال من الوعي الاقتصادي الى العفوية (الآلية) الاقتصادية:

تدور الحقيقة الاقتصادية حول انتاج المكاسب والسلع المادية والخدماتية. وستحمل المكاسب والسلع في داخلها مساهمات الاشخاص الاقتصاديين كل حسب نصيبه ودوره. واذا ما استطاعت مالكية ا\ ان تشكل الغطاء التشريعي او المفاهيمي لاعادة تعريف الاشخاص الاقتصاديين وحقوقهم وواجباتهم، كأمة وولاية، وكدولة ومواطنين. وكافراد وجماعة، وكجماعات وهيئات “ او اذا ما استطاعت مالكية الله ومفاهيم ما فوق الاقتصاد ان تكشف ـ على الاقل ـ القوى الصنمية التي تستبطنها المكاسب والسلع فان الطريق سيبدو اكثر وضوحاً لبناء اقتصاد متطهر يحمل الفائدة لكل الافراد والجماعات التي يتشكل منها النسيج الاجتماعي.

فالآلية في الاسواق ستبرز اذن عبر المكاسب والسلع “ وستنتظم اليات انتاج وتداول وتوزيع ومردودات السلع عبر الاسعار التي تحملها من حيث مستواها ومن حيث توزع الحصص التي سيقدمها السعر لكل طرف من الاطراف.

وإذا ما انطلقنا من الواقع الاقتصادي المعاصر ونظرنا الى طريقة تكون الاسعار في الاسواق فاننا سنجد ان الاسعار هي دالة للارباح (بكل انواعها من ريوع وفوائد وادارة ونفقات وضرائب) والأجور والمواد الطبيعية. وستؤثر في اسعار السلع مستويات الطلب ومرونات العرض وعوامل الندرة والوفرة وتوفر البدائل المحلية والاجنبية والمنافسة وغيرها من عوامل منظورة وغير منظورة.

ولكي نفكك هذه المفردات او لكي نزيح الصنمية عنها لابد ان نقترب اكثر من هذه المفردات لنرى ما تخفيه وراءها من علاقات واستثارات ستظهر في السلع واسعارها ومدى استحقاقها لها. ولنأخذ عنصري العملية الرئيسيين وهما الرأسماليون بارباحهم من جهة، والعمال بإجورهم من جهة اخري، لنرى باختصار شديد سياقات العملية وما تقود اليه.

الرأسمالي:

ان كان لا يمكن ان ينكر دور العمل في تأسيس الثروات وبالتالي رأس المال، لكنه لا يمكن ان ينكر ايضا دور رأس المال في توليد وتحريك وتجديد العمل “ هناك علاقة عضوية بين الطرفين. فرأس المال قد يتولد من خارج مجالات العمل وقد يجده الانسان جاهزا امامه ما عليه سوى استثماره وذلك عندما توفره له الطبيعة او عندما توفره له مكاسب الاجيال الماضية. اذ بدون ربط الاقتصاد بما فوق الاقتصاد، او بدون اخذ الاقتصاد كجزء من كل فاننا سنسقط في واحد من الموقفين اما النظري الذي يبرر الاستغلال ويقلل من شأن ودور العمل، او المدقع في ماديته الذي لا يرى سوى دور الانسان والعمل في الانتاج ولا يرى دور العوامل الماورائية او الطبيعية او التاريخية او العقلية في هذه العملية. ولهذا السبب فعندما يعتبر ماركس ان رأس المال ما هو سوى العمل الميت او الماضي وان دور العمل الحي هو احياء العمل الماضي سيقع في مغالطة كان لابد ان يقع فيها “ اذ سيربط بين معدل الربح والتركيب العضوي لرأس المال “ فيقول (لاعتماده على مصدر واحد لتبرير القيمة وهو العمل): بانه كلما ازداد التركيب العضوي لرأس المال، اي كلما ازدادت نسبة رأس المال أو الآلات مقارنة بالعمل كلما انخفض معدل الربح لربطه بين فائض القيمة والعمل مجردا عن كل ما عداه “ هذا الاستنتاج يناقض بشكل صارخ الحقائق المتكررة التي تبرهن بان معدلات الربح قد ارتفعت بشكل جنوني، مع تغير التركيب العضوي لمصلحة التكنولوجيا وزيادة حصة راس المال، وان فرضيات ماركس في هذا المجال بقيت نظرية وحسابية ولم تعش حقيقة ارض الواقع. لان رأس المال وان كان اقتصاديا من نتاج العمل الحي او الميت الا أن عوامل نشأته تتجاوز هذا العامل من الناحية التاريخية والمافوق اقتصادية.

لكن هذا الدفاع عن شرعية رأس المال او الاشارة لبعض عوامل نشأته لا تعني تبرير كل سلوكه، خصوصا عندما يدخل عالم الاستغلال والسحت وهي الصفات التي صارت ملازمة لذلك النوع من الرأسمال الذي نمى في ظل نظريات الاقتصاد السياسي المعاصرة. ففي هذه النظريات التي انتقلت للاسف الشديد الى مجتمعاتنا لتدمير ذلك المفهوم الملتزم من رأس المال يقف الرأسمالي وبالتالي الربح كعنصر مبادر اول لتحديد الاسعار “ فمالك رؤوس الاموال او المبادر (حسب تعبير الاقتصادي النمساوي شومبيتر) سيبدو كرب للسلعة فهو الذي فكر بانتاجها ووفر كامل الشروط من اموال وعمل ومواد اولية وآلات وعقارات للقيام بذلك “ ثم هو الذي انزلها الى الاسواق وهو الذي سيستلم اثمانها ليعيد تسديد النفقات على العمال والموظفين والتجار والمؤجرين واصحاب الخدمات والمجهزين والضرائب وغير ذلك “ وهو الذي تحمل المخاطرة. فالمالك سيبدو المبادر الاول ليس فقط لوضع السقف الذي يقبله للاسعار بما يضمن معدلات الربح التي يعتقدها عادلة وطبيعية بالنسبة له، بل هو ايضا المبادر لاطلاق عملية الانتاج اصلا والتي لن يلتئم شملها الا بنداء منه. بدونه لن تتحرك العوامل الاخري. وهذا الدور المهم، دون شك، يستغله الرأسماليون لتوليد القبول العام بانهم لا يمثلون ارباب المال فقط، بل انهم ارباب الاقتصاد والمجتمع ان لم نقل ارباب الدنيا كلها.

وسيولد التقادم والاعراف والقوانين قناعات لكل الاطراف بان هذا الوضع هو الوضع الطبيعي. وسيضطر العمال باعتبارهم المنتجين الحقيقيين للقبول بهذا الوضع رغم شعورهم بالمرارة من ضعف حصتهم رغم انهم هم الذين يشقون ويتعبون ويضعون خبراتهم لتتحول المواد الخام الى سلع يتداولها الناس وينتفعون بها.

وهنا سيستمر الربح هو المنظم الاول للاسعار في الاسواق واخضعت كل الامور الاخرى من عرض وطلب او منافسة وندرة، وعمل ومواد لتلعب دورا لاحقا وثانويا امام متطلبات الربح ودوافعه “ لم تعد الدولة حكما بين العمل ورأس المال، ناهيك ان تمثل هي العمل، كما ارادت ذلك بعض التجارب الاشتراكية. بل صارت الدولة في ظل نظريات «الاقتصاد السياسي»، وكل اشكال الاقتصاد التجزيئي هي رأس المال. ليصح عليها قول ابن خلدون بان «الدولة والسلطان هي السوق الاعظم “ ام الاسواق كلها، واصلها ومادتها في الدخل والخرج، فان كسدت وقلت مصاريفها فاجدر بما بعدها من الاسواق ان يلحقها مثل ذلك واشد منه[57]»

العمل:

يعتبر العمل، العنصر الوحيد بين مجموع عوامل الانتاج الذي يسهل حسابه على اسس محسوسة ومباشرة على الاقل باعتباره سلعة لها معادل معين ومحدد. وبهذا يختلف العمل عن بقية العوامل كالرأسمال وعناصر الادارة والتنظيم التي ترتبط كلها بعوامل ذاتية او فوق اقتصادية عامة. في حين ستمثل الطبيعة عنصرا سلبيا في اعمال الانتاج للسوق ذلك اذا لم يحركه عامل العمل او الرأسمال “

يرتبط العمل بكيان محدد هو الانسان وبقدرة خاصة لدى الانسان وهي قدرته او قوته على العمل. وان القدرة على تصور وجود انسان فرد يعيش منعزلا بالاعتماد على جهده الخاص ليس الا، مقابل استحالة تصور ان يعيش رأس المال او الربح الا كعلاقة اجتماعية، هذه التصورات تشكل خلفية نظرية ولكن تاريخية وعملية ايضا بان الاساس والاصل في القيم المتولدة هو جهد الانسان وعمله “ وعندما نقول القيم المتولدة فاننا نقول ايضا قيمة البضاعة وبالتالي سعرها وبالتالي الحقوق والمداخيل التي ستتشكل لبقية العناصر المشاركة في مجمل عملية الانتاج والتوزيع والادارة. لكن هذه الخاصية للعمل التي كان يجب ان تعطيه الحق الاول تحولت في ظل انظمة التعسف والجور والاستبداد الى نقمة على الانسان. وعندما نقول انظمة الجور والاستبداد فاننا نشير الى كل الاشكال التي اخذتها تلك الانظمة عبر التاريخ الاسلامي وغير الاسلامي، والقديم والمعاصر بحيث استطاع هذا الاخير (المعاصر) ان يقنن الاستغلال بقوانين وقيم واعراف اخذت ابعادا شمولية وعالمية تتحكم اليوم بمصير الشعوب والامم قاطبة بما في ذلك الغرب الرأسمالي او الشرق الاشتراكي. بكلمات اخرى فانه كلما ازداد التجريد والتصنيم وانتصر «الاجتماعي» و«السياسي» على الانساني والفطري (بالمعاني القرآنية) كلما تراجع الحق الاصلي والاساسي لمصلحة الحقوق المشتقة والثانوية لتقدم الاخيرة على الاولى ولتزداد الشقة لمصلحة الاخيرة التي تراكم لنفسها في كل يوم حقوقا ومكاسب تجعلها اكثر قوة وقدرة “ وليفقد الاقتصاد اكثر فاكثر الحبل الأساس الذي يشده الى ارض الحقيقة والواقع، ونقصد به جهد الانسان وسعيه وكدحه باعتباره خليفة الله على الارض.

ولكن لماذا تحولت هذه الخاصّية التي كان يجب ان تكون نعمة على الانسان الى نقمة عليه “ السبب في ذلك بسيط “ فالجزء الذي ينتج قيماً مادية في الانسان هو جزء بسيط وواضح “ انه جزء يمكن حسابه بدقة بالسعرات الحرارية “ فالانسان في النهاية لكي يديم حياته بحاجة الى كمية محددة من الطعام والشراب والى ما يقيه من البرد والمطر، والى تلبية حاجياته الجنسية ذلك ان لم يتم تعطيل هذه القابلية عبر عمليات الاخصاء المعروفة في التاريخ “ عند ذاك اذا ما استطاع عنصر «السياسة» و «الاجتماع» ان يؤسر هذا الانسان فان ما سيحتاج اليه (كنموذج مجرد) هو ليس رعاية الانسان نفسه وكامل متطلباته الانسانية، بل سيحتاج اساسا الى استلاب خاصيته تلك اي جهده وكدحه. وما سيسعى لادامته هو ليس الانسان ككل بل جهد الانسان اي ما يعادل تلك الكمية من السعرات الحرارية وبعض المستلزمات البسيطة ليس فقط لابقائه حيا بل لكي يقدم افضل جهد ممكن “ وما يستهلكه له سقف يقف عنده لابقائه حيا وما يستهلكه في النهاية هي سلع يمكن وزنها وحساب معادلاتها من السلع الضرورية وهو ما يشكل القاعدة الرئيسية للاجور ذلك ان لم نقل قيمة العامل كانسان عندما يشتري ويباع من اجل جهده وعمله (الرق).

هذا هو الأساس الاقتصادي للعبودية واسترقاق الانسان. وان الاجور عندما تقوم على اساس حد الكفاف ـ وهو الاساس التاريخي للاجور ـ فانها عبارة عن الاشكال المعاصرة للعبودية. ليس الا. ولابد من الاشارة هنا ان ارتفاع الاجور او انخفاضها لا علاقة له بتخليص هذا الشكل من الاجور من جوهرها العبودي، تماما كما لا يخلص العبودية من معانيها وجود ارقاء منعمين لسبب او اخر. فالاهم من مسألة مستوى الاجور هو الطبيعة والجوهر الذي تم فيه التعامل مع العمل والجهد الذي بذله الانسان“ هل هو في اطار سياسي واجتماعي وضع الاولوية للانسان وكامل حاجياته وعوامل فطرته وخصائصه كما جبلها الله سبحانه وتعالى عليه، ام هو لمصلحة «سياسي» و «اجتماعي» لا يتعامل مع الانسان الا كحيوان لا يعطيه الا بقدر ما يتوقعه من لحم وشحم مقابل، او كآلة لا قيمة لها الا بقدر ما تخدمه وتزيد من ارباحه وموارده. لذلك لا فرق بين تلك النظرة التي تقول «وابق لهم لحوما يعقدون بها شحوماً[58]» او نظريات الاقتصاد السياسي المعاصر التي نظمت مجمل نظرية الاجور فيها على اساس مستوى الكفاف لتنفرد عوامل الانتاج الاخرى من ربح وريع وفائدة وغيرها بحصيلة العملية الانتاجية.

ورغم ان ماركس تقدم خطوة كبيرة عندما توصل بان ما يتم توظيفه هو ليس العمل وانما قوة العمل، رغم ذلك فان نظريات الاقتصاد السياسي الرأسمالية والاشتراكية على حد سواء استمرت[59] على فرضيات تربط بين معدل الاجور ومستوى الكفاف، اي الحد الذي يسمح للعامل بادامة نفسه وعائلته ليس الا “ لذلك ارتبطت معدلات الاجور باسعار الخبز والمواد الاساسية للحياة “

وان نظريات الاجور الحالية لا تختلف كثيرا عن تلك القديمة اللهم الا في تجاوزها في البلدان الغربية لمعدلات الكفاف بدءا من القرن التاسع عشر. فحتى ذلك القرن كانت الاجور العالمية قريبة من بعضها البعض لارتباطها بسلة الضروريات. ولكن بدءا من العملية الاستعمارية والامبريالية بدأ الغرب بالانفكاك عن العالم بعد ان استولى على ثروات ومكاسب الشعوب الاخري، وبعد ان دخلت الرأسمالية عنده مراحل لم يشهد العالم مثيلا لها من قبل. فتولدت قوانين اقتصادية عالمية تنظم انتقال القيم وعلى رأسها القوانين المعروفة بتباين التراكم على الصعيد العالمي والتطور غير المتكافئ والتبادل غير المتكافئ. في ظل هذه التطورات بدأ الاقتصاد السياسي بالكلام عن مفهوم المتوسط الاجتماعي للاجر انطلاقا من مفاهيم مستوى المعيشة، وذلك لتبرير ارتفاع الاجور في الدول الغربية بعشرات المرات لمعدلاتها في الدول الاخري. رغم ذلك فان ارتفاع معدلات الاجور لترتبط بمتوسط معين للمعيشة لم يأت كاحقاق حق للعمال، بل جاء لاعطاء تغطية مفاهيمية لعملية النهب الاستعماري “ فالمتوسط الاجتماعي يجب ان يقاس في ظل ظروف الاقتصاديات الغربية التي تحولت الى اقتصاديات عالمية بالمتوسط الاجتماعي للاجر عالميا وليس وطنياً. لانه في بقية اجزاء العالم التي تحولت اقتصادياتها واسواقها الى مجالات ملحقة بالاقتصاد العالمي ومراكزه المتروبولية، فان الحد الادنى للاجور ما زالت تشده فلسفة قاعدة الكفاف، كما تبرهن على ذلك حالة مليارات البشر التي تعيش خارج العالم الغربي او المهمشة في داخله “ ولا شك ان الفكرة الاسلامية تعارض مجمل هذه النظرة الاستعبادية التاريخية والمعاصرة للاجور. رغم ان الكثير من المسلمين كانوا وما زالوا يتعاملون مع هذه المسألة وفق معايير الاقتصاد السياسي او بقايا النظرة العبودية “ يقول الشهيد الصدر: «اما مركز الانسان في النظرة الاسلامية فهو مركز الغاية لا الوسيلة، فليس هو في مستوى سائر الوسائل المادية لتوزيع الثروة المنتجة بين الانسان وتلك الوسائل جميعا على نسق واحد بل ان الوسائل المادية تعتبر خادمة للانسان في انجاز عملية الانتاج لان عملية الانتاج نفسها انما هي لاجل الانسان وبذلك يختلف نصيب الانسان المنتج عن نصيب الوسائل المادية في الأساس النظري، فالوسائل المادية اذا كانت ملكا لغير العام وقدمها صاحبها لخدمة الانتاج، كان من حقه على الانسان المنتج ان يكافئه على خدمته، فالمكافأة هنا دين على ذمة المنتج يسدده لقاء خدمة، ولا تعني نظريا مشاركة الوسيلة المادية في الثروة المنتجة. وهكذا يفرض مركز الوسائل المادية ـ في النظرة الاسلامية ـ عليها أن تتقاضى مكافأتها من الانسان المنتج بوصفها خادمة له، لا من الثروة المنتجة بوصفها مساهمة في انتاجها، كما يفرض مركز الانسان في عملية الانتاج بوصفه الغاية لها ان يكون وحده صاحب الحق في الثروة الطبيعية التي أعدها الله تعالى لخدمة الانسان[60]».

على كل حال فإنه من بين عوامل الانتاج الثلاثة او الاربعة التي يحددها الاقتصاد السياسي ونقصد بها الطبيعة التي تأخذ الريع والرأسمالي ومالكي الالات والانتاج الذين يختصون بالربح والفائدة والاجر الذي يختص بالعمل، وخلافا لنظريات الاقتصاد السياسي ونظريات العبودية والمتجبرة والتي لا تعطي للاجر من سعر البضاعة سوى ذلك الجزء الذي يديم حياة العامل او مستوى الكفاف، فان المذهب الاقتصادي في الاسلام لابد ان يقلب هذه المعادلة العبودية وينظم قانونا موضوعيا حقيقيا وان يرتب حقا اولا للعمل عبر الاجر في سعر البضاعة يقوم على متوسط اجتماعي متوازن مع عموم الحالة الاجتماعية في البلاد “ وبعد ان يأخذ الاجر حصته العادلة من سعر البضاعة ستوزع الحصص المتبقية على العناصر الاخرى اللازمة للانتاج ونقصد بها الربح او الريع او غير ذلك وعلى قدر مساهمتها في مجمل العملية “ عندها يمكن ان نستعيد مرة اخرى رسم قاعدة الربح الخفيف او المعتدل الذي تتكلم عن التشريعات الاسلاميةپ“ وفي الحقيقة فان هذه مسألة يجب الالتفات اليها والتربية عليها لان احدى عوامل الفتنة في بلداننا هي مسألة الاجور ومعدلاتها. فالنظرة الاسلامية لا تقول باجور عالية او منخفضة بل تقول ان الانسان غاية وليس وسيلة “ وان الاقتصاد يجب ان يكون في خدمة الانسان لا ان يكون الانسان في خدمة الاقتصاد الذي لا يطبق قاعدة «انما اموالكم ترد اليكم» “ فاذا ما طبقت القواعد او المفاهيم الاسلامية واعطت للانسان حقه ووفرت له حياة كريمة لابد ان تقترب من المتوسط الاجتماعي لمستوى المعيشة في البلاد، واذا ما اخذ المسؤولون انفسهم حقهم كما يقرره المتوسط الاجتماعي لمستوى المعيشة حسب معايير البلاد ولم ينشغلوا بتكديس الثروات وبناء القصور التي تحيط بها اكواخ الفقر والجوع، فان حالة من القبول العام ستتولد في البلاد وسنقترب من صورة المجتمع المسلم الذي لا يقيس اسلاميته بمدى غناه او فقره بل يقيس اسلاميته بمدى تقواه وكرامته وقوته، وستزيل عن مجتمعاتنا عوامل كثيرة تثير الفتن والانشقاقات الداخلية التي ترهقه وتمنع عليه ان يستجمع طاقاته ومكاسبه ليراكمها في اعمال عمران وبناء تسمح له بحياة كريمة ومعافية.

مراجعة وكلمة اخيرة:

إن الواقع الذي نعيشه هو واقع معاصر اختلف نوعيا عن الحياة الاقتصادية التي كانت منظمة عليه هذه البلدان قبل المرحلة الاستعمارية والامبريالية “ ان المفاهيم والاحكام التاريخية تبقى عناصر مرشدة وهادية لاكتشاف المناهج الصحيحة الان “ لكن هذه المناهج عندما تقرر بشكل اصولي واخلاقي فانها هي التي ستقرر مدى تواصلها مع القديم ومدى انفكاكها عنه “ فالاجتهاد المعاصر يجب ان يبني فقها اقتصاديا معاصرا يستطيع ان يدافع عن القواعد الاخلاقية بطريقة فاعلة وعملية. فلا اخلاقية او مبدئية بدون جانب عملي ولا جانب عملي بدون اخلاقية ومبدئية.

لا ريب ان العمل يشكل فعليا القاعدة الموضوعية الوحيدة لبناء الهيكل الرئيسي للسعر والاسعار في الاسواق “ وبالطبع عندما نقول الهيكل الرئيسي فان ذلك لا يعني السعر النهائي للبضاعة، بل يعني المرتكز الرئيسي الذي انطلاقا منه يمكن تقدير مساهمة بقية الاطراف. ولكن لا ريب ايضا بان رأس المال يشكل القاعدة التاريخية والفعلية التي تلعب دورا مهما في تحديد اتجاهات الاسعار وتنظيم الاسواق على اساس معدلات الربح، والذي تحول الى دور اول ورئيسي في هذه المرحلة على الاقل، بسبب عامل التحكم والسيطرة الذي نجح في بناء الاقتصاد والسوق العالمية والوطنية باعتبارها الشخص الاقتصادي المشرف والمبادر الاول والذي تأتي مواقف ومساهمات الاطراف الاخرى وبالتالي نصيبهم من الحصة الاجتماعية كتبع وليس كسابق له.

ان متطلبات الموقف الاخلاقي والواقعي ستتأرجح بين خيارين “ فتطبيق قاعدة العمل والسعي والكدح كاساس. قد تعني حرمان الاقتصاد من ذلك العنصر المبادر والمقتدر (رأس المال) “ وهذه سياسة ان لم تكن الامة قد تهيّأت لها فانها ستقود الى نتائج معاكسة خصوصا على صعيد الفئات العليا والوسطى والتي تمتلك قدرات مادية وديناميكية وتعبوية عظيمة لتستغل كل نقاط الضعف ولتحرك كل عوامل الفتنة ولتتحرك معها كل المناخات الدولية ـ بما قد لا تنفع معه الاعداد الكثيرة المستفيدة من اعطاء الاولوية للعمل ـ لحرف الموقف المبدئي وتحويله الى موقف غير عملي قد يعطل كلّ مناحي الحياة. وتبين تجارب الحياة القديمة والمعاصرة بان مثل هذه الامور عندما تحدث فان القطاعات التي سبق وان وجدت مصلحتها في القرار المبدئي ستكون هي نفسها الجيش الذي ستتحرك به القوى اللامبدئية. بالمقابل ستعني متطلبات الموقف العملي ان القانون الذي سيجد طريقه إلى الاقتصاد والحياة العامة والمجتمع والقيم والاخلاق ستصبح هي اخلاق السوق التي تتنافس من اجل الربح ولا شيء اخر غير الربح “ وعندما نقول اخلاق السوق فانه لا شك لدينا بان الاخلاق التي تنظمها السوق العالمية هي التي ستغزو اوطاننا وبيوتاتنا واسواقنا، شئنا ام ابينا. وهذا واقع قد يغري الكثير من القوى في البداية لكنه سيعني في نهاية المطاف الضرر والفساد لكل قوى الامة من عمال وتجار وفلاحين ورأسماليين ورجال دولة وغيرهم. مما سيعيد البلاد الى نفس المعارك واجواء الفتن والصراعات دون ان تشهد ظروف استقرار وبناء مما يبقي الامة في حالة ضعف ووهن ليتركها اسيرة الاوضاع الخارجية والدولية.

سيبقينا منطق الثنائيات، وخصوصا ثنائي العمل ورأس المال او ثنائي الفردي والجماعي في الحلقة المفرغة. لابد من كسر هذه الحلقة عبر طرف ثالث يقيم التوازن لهذه العلاقات بما يسمح بشد حبل الاخلاقية مع حبل الواقعية “ وهذا الطرف هو مالكية الله او المالكية الطولية او المزدوجة، بما في ذلك ربط الاقتصاد بما فوق الاقتصاد. اي بالمعركة الدينية والسياسية والفكرية والاجتماعية والحضارية “ ليس لان هذه المالكية تعادل تلك العناصر بل لانها تسمح لنا بحسن السيطرة على طرفي المعادلة وتوجد لنا تصورات ومناخات تسمح لنا بالسيطرة على العناصر بشكل افضل. عندما يدخل هذا المفهوم في التطبيقات العملية ونبدأ بصياغة شق المواقف انطلاقا منه، فان مواقفنا الاقتصادية لن تبقى في حدود الرفض والقبول المجردين بل سنتمكن من التفاعل مع كل المواقف الصغيرة والكبيرة التي نرى انها تسير في الخط الطولي لتلك المالكية “ هذه الرؤية ستسمح لنا بتفكيك الامور “ اذ بدل ان نرى الجانب الاقتصادي المجرد سنربط هذا الجانب بالمصالح الكلية للامة “ فمصالح الرأسمالين الوطنيين مثلا سيتم بحثها على ضوء مصالح المسيرة ككل وما يمكن ان يقدموه من اعمال احسان وبناء يخدم الدين والدعوة، وليس فقط عبر مفهوم الاستغلال والذي تحمله الذي نعلم جيدا انه بغياب حلول عامة وكلية في تحطيمها (اي مصالح الرأسماليين الوطنيين) سيعني فتح المجال لمصالح اكبر واكثر بشاعة وهي مصالح الامبرياليين والاستعماريين. فالهدف الاكبر والاول يجب ان يكون اضعاف جزئي او كلي لتلك المصالح الاخيرة، خصوصا ان الرأسماليين الوطنيين اذا ما تعاضد الناس معهم وتعاضدوا هم مع الناس وخوطبت فيهم المشاعر الدينية الصادقة فان الكثير من عوامل الاستئار والاستغلال يمكن ان تخفف وان كثيرا من الحلول يمكن ان تقدم للمستضعفين والمنتجين، على حد سواء، حتى قبل ايجاد الحلول الشاملة والكلية.

وهذا المثال يمكن تعميمه في كل الحالات وفي كل المواقف الصغيرة والكبيرة “ فهناك في كل مسألة نظرية او عملية مواقف تسير بالخط العرضي للاصنام والشياطين او تسير بالخط الطولي مع ما يأمرنا الله به، او الاثنين معا. وان بحثنا وعملنا يجب ان ينصب للتعرف على هذه المواقف والتمسك بها او الاصطفاف معها ومتابعتها وتدقيقها لانها هي الطريق لكي نعيد بناء اوضاعنا ولنتخلص من ظروف الاستلاب والتبعية والتمزيق التي وقعنا فيها والتي لا امل لنا لانتصار النهج الاسلامي في الاقتصاد او في غيره بدون تغيير كامل شروطه ومعطياته. وفي المجال الاقتصادي نضرب بعض الامثلة لمثل هذه المواقف التي قدلا تعبر عن شيء مهم اذا ما اخذت بمفردها لكنها تشكل منهجية كاملة لكي تتحرك الامة وشبابها مجددا في طريق التخلص من الاوضاع الفاسدة واقامة ما يأمرنا الله بالبحث عن الحلول الجزئية في اطار مراكمة المواقف للحلول الشاملة، او في انتظار مراكمة الازمات في النظام الاقتصادي الربوي والصنمي الاستغلالي وخبو بريقه وقدراته او الاثنين معا.

امثلة لتوضح ما نرمي اليه:

ـ مثلا في الموقف من الفائدة الثابتة او الفائدة المتحركة قد يكون موقفنا ميالا للفائدة المتحركة لما يتضمنه الاول من جذور ربوية وما يتضمنه الثاني من اسس تضاربية “

ـ مثلا في علاقة إعادة توزيع الدخل (عن طريق اجراءات الدولة او الزكاة والخمس والصدقات) لمصلحة الفقراء على الإنفاق الاستهلاكي يمكن ان نرفض افتراض الدخل المطلق[61] وافتراض دورة الحياة[62]لنقبل بافتراض الدخل النسبي[63] والدخل الدائم[64] لان الاول والثاني ربما لا يتفقان مع احكام الشريعة الاسلامية التي لا تسمح بالاسراف والبذخ وحب الظهور وتحرم الربا وتوصي بالوالدين والاقربين، بينما قد يكون افتراض الدخل الدائم اكثر ملائمة وكذلك الدخل المطلق شريطة ادخال بعض التعديلات عليه، وذلك لان سلوك المسلم يتطابق مع قوله تعالي: <ولا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا>[65]ثم ان فرضيتهما تقود لان يكون الميل الحدي للاستهلاك والميل الحدي للادخار موجبين. ففي هذه المسائل كلها يجب النظر في آن واحد الى تحسين معيشة الفقراء وفي نفس الوقت الى تشجيع الادخار والاستثمار ولكن بالمقابل الى معدلات الاستيراد[66].

ـ ومثلا في اهمية التركيز على موضوعات الاقتصاد الجزئي micro_economy التي هدفها حسابات الربح والسوق كوسائل وحيدة في الاقتصاد والاهمال الكامل للاقتصاد الكلي macro_economy فان الاولوية يجب ان تعطى للاقتصاد الكلي لانه يتعلق بالدخل القومي والتوزيع والثروة.

لكن هذه الملكية لن تنفعنا فقط في تأسيس المفاهيم لكنها يمكن لها ايضا ان تخرجنا من المحاور الثنائية لتدخل عناصر ثالثة ورابعة وخامسة وفي القوى الاقتصادية او ما يمكن تسميته بالاشخاص الاقتصاديين الذين يساهمون في العملية الاقتصادية.

فالولاية العامة والولايات الجزئية يمكن ان تكون احد الاشخاص الاقتصاديين الذين يتميزون بافعالهم عن الفرد او الجماعة او الدولة “

والدولة بتمثيلها للشعب والامة يمكنها ان تكون احد الاشخاص الاقتصاديين الذين يلعبون دورا عظيما في التوازن والهيئات المعنوية والحقيقية والروابط الاسرية والعشائرية والمؤسسات الدينية والاجتماعية تستطيع هي وغيرها ان تلعب ادوارا اقتصادية لا تقل شأنا عن غيرها.

وستساهم هذه القوى بعضها او كلها، سواء في اطار الحل الشامل او الحلول الجزئية مع بقاء الاوضاع الراهنة في رفع مستوى الوعي والهمة والنشاط وتوفير اكبر الواحات الصالحة والمتطهرة، وكذلك في تنويع الحركة وفي الغاء الاستئار والثنائيات وفي ضخ روح الحيوية والمبادرة في مجمل الحياة الاقتصادية والاجتماعية ليصبح السوق والاقتصاد جزءاً من كل لا ان تصبح جميعا اسرى السوق وصنميات الاقتصاد.

واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين

د. عادل عبد المهدي

(خبير اقتصادي، مدير المركز الاسلامي للدراسات وللتوثيق في باريس، ورئيس تحرير مجلة ينابيع الحكمة الناطقة بالفرنسية.)

الهوامش:

[1] اقتصادنا، ص663.

[2] اقتصادنا، ص243.

[3] المصدر السابق، ص 492.

[4] مكارم الاخلاق، ص515؛ الحياة، ج5، ص304.

[5] الاختصاص ص923؛ الحياة، ج5، ص204.

[6] الوسائل، ج21، ص624 ـ 724؛ الحياة، ج5، ص404.

[7] البحار، ج301، ص45 ؛ الحياة، ج5، ص304.

[8] محمد باقر الصدر. البنك اللاربوي، ص5.

[9] نفس المصدر، ص9.

[10] نفس المصدر، ص12

[11] نفس المصدر، ص62.

[12] البحار، ج301، ص301 عن «اعلام الدين» عن الحياة، ج5، ص773.

[13] الكافي، ج5، ص451؛ الحياة، ج5، ص773.

[14] البحار، ج301، ص001؛ المستدرك، ج2، ص424؛ الحياة، ج5، ص773.

[15] بودان Bodin وكولبر Colber.

[16] ادم سميث. ثروة الامم، ص96 باللغة الفرنسية.

[17] طه باقر. مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة، ص114.

[18] يقول صدر الدين الشيرازي: (اعلم ان للانسان مقامات ودرجات متفاوتة بعضها وبعضها خيالية وبعضها فكرية وبعضها حسيّة شهودية، وهي بازاء

عوالم مرتبة بعضها فوق بعض. فاول منازل النفس الانسانية درجة المحسوسات، فما دام الانسان في هذا المنزل حكمه حكم الدند التي في باطن الارض، والفراش المبثوث في الهواء، فان الفراش لم يرتفع درجته عن درجة الاحساس، ولو كان له تخيل وحفظ للمتخيل بعد الاحساس لم يتهافت على النار مرة بعد اخرى وقد تأذى بها اولا.

وبعد ذلك درجة المتخيلات، وما دام الانسان في هذا المنزل حكمه حكم الطير يعاود لانه بلغ المنزل الثاني وهو حفظ المتخيل بعد غيبوبتها عن الحواس. فما دام الانسان في هذا المنزل فهو بعد بهيمة ناقصة انما حده ان يحذر عن شيء يأذى به مرة، وما لم يتأذ بشيء فلا يدري انه مما يحذر منه. وبعد ذلك وهو منزلة الثالث درجة الموهومات، فهو في هذا المنزل بهيمة كاملة كالفرس مثلا، فانه يحذر الاسد اذا راه، وان لم يتأذ به قط، فلا يكون تنفره موقوفا على التأذي منه بشخصه بل الشاة ترى الذئب اولا فيحذره وترى الجمل والبقر وهما اعظم منه شكلا واهول منه صورة فلا يحذرهما، اذ ليس من طبعهما ايذاؤها، فالى هذا المنزل يشارك الانسان البهائم.

وبعد هذا يترقى الى عالم الانسانية فيدرك الاشياء التي لا يدخل في حس ولا تخيل ولا وهم، ويحذر الامور المستقبلية، ولا يقتصر حذره على العاجلة ويدرك الاشياء الغائبة عن الحس والخيال والوهم، ويطلب الاخرة والبقاء الابدي، ومن ها هنا يقع عليه اسم الانسانية بالحقيقة، وهذه الحقيقة هي الروح المنسوبة الى الله تعالى في قوله: <فنفخت فيه من روحي> محمد بن ابراهيم صدر الدين الشيرازي: الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية. مركز نشر دانشكاهي، 0631، 45، مشهد، ايران، ص833، 733.

[19] Rosa Luxemburg Introduction a l economie politique P312.ed 01/81.

[20] المقريزي. اغاثة الامة بكشف الغمة، ص7.

[21] نفس المصدر، ص64 وما بعدها.

[22] نفس المصدر، ص55.

[23] نفس المصدر، ص65.

[24] ابن الازرق. بدائع السلك، ج2 ص103.

[25] ابن خلدون. المقدمة، ص033.

[26] نفس المصدر، ص923.

[27] يذكر نيكتين في «اسس الاقتصاد السياسي» في الصفحة 14 ان النقد الورقي صدر لاول مرة في الولايات المتحدة في عام 0961م وفي روسيا في عام 9671م.

[28] Nomades are the first to develop the money form, because all their worldly goods consist of moviable objects” and are therefore directly alienable, and because their mode of life, by continually bringing them into contact with foreign communities, solicits the exchange of products” K.Marks, p. 88, Grundisse

[29] قدامة ابن جعفر: الخراج وصناعة الكتابة. ص434 دار الرشيد 1891 الجمهورية العراقية، وزارة الثقافة والاعلام، سلسلة كتب التراث (011) شرح وتعليق: الدكتور محمد حسين الزبيدي.

[30] الطبري. تاريخ الامم والملوك. ج01 ص62، مكتبة خياط، بيروت.

[31] الشهيد الصدر. اقتصادنا، ص752 ـ 952. وفي نفس الاتجاه يشير الشهيد مطهري: «ان كل ما لدى المخلوق فمن الخالق، واولوية المخلوق وملكيته تكون في طول اولوية وملكية الخالق، ولا توجد اولوية ولا ملكية في عرض اولوية وملكية الخالق “ فالله سبحانه هو مالك الملك على الاطلاق، وليس له شريك فيه، ولابد ان نقول بكل معنى الحقيقة ودون اية شائبة من مجاز: له الملك وله الحمد واليه يرجع الامر كله»، الشهيد مطهري، العدل الالهي، ص55.

[32] السيد محمد باقر الصدر. صورة عن اقتصاد المجتمع الاسلامي، سلسلة الاسلام يقود الحياة 2، قسم العلاقات الخارجية جهاد البناء، طهران، مطبعة الخيام، قم 9931هـ.

[33] يرى ماركس ثلاثة اشكال للملكية سابقة للرأسمالية: 1ـ الشكل الاول (الاسيوي) حيث لا تظهر الملكية الا من خلال الجماعة ولا يكون الفرد مالكا الا باعتباره عضوا في الجماعة “ والملكية الفردية حيازة كانت أو تصرفاً بينما المالك الحقيقي هو الجماعة. وتمثل الدولة الحق العام Ager publicus بوجود اقتصادي مستقل بجانب الفرد والجماعة. 2ـ الشكل الثاني (القديم، او اليوناني والروماني) وهنا تسبق الجماعة الفرد، ولا يظهر الا من خلالها. ولكن الفرد يصبح مالكا حقيقياً ولا يعود مستحوذاً او متصرفاً فقط. وهنا ايضا يبدأ انفصال الملكية الفردية عن الملكية العامة. ويغير الحق العام وجوداً اقتصادياً مستقلا للدولة بجانب القوة “ 3ـ الشكل الثالث (الجرماني) والذي تشكل من بذور الشكل الروماني وهو اساس خط التطور الاوروبي ومفهوم الملكية الخاصة والرأسمالية. وهنا لن تظهر الملكية الا من خلال الفرد ولن تظهر الجماعة الا من خلال الافراد، وستفقد الجماعة وجودها المستقل، واذا كان سيبقى لها اي وجود، فسيكون وجوداً خارجيا (خارج المجتمع). اما الحق العام (وما تمثله الدولة) فسيظهر كمكمل للملكية الفردية. راجع:

Karl Marks, Formes anterieures a la production capitaliste dans: Grundrisse p 014 et suite, ed. sociales,

[34] رجا غارودي. مستقبل الاجتهاد، من محاضرات الملتقى السابع عشر للفكر الاسلامي في الجزائر عام 3891، مجلة التوحيد، العدد7، السنة الثانية، ربيع الاول ـ ربيع الثاني 4041 هـ (طهران).

[35] الماوردي. الاحكام، ص51.

[36] الماوردي. الاحكام، ص51.

[37] احمد الهاشمي. جواهر الادب في ادبيات وانشاء لغة العرب، ص831، ط72،89315،7891م، دار الكتب العلمية، بيروت.

الايات هي 7 ـ 01 من سورة الحشر التي تقول: <ما افاء الله على رسوله من اهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله ان الله شديد العقاب. للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم واموالهم يبتغون فضلا من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله اولئك هم الصادقون. والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر اليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما اوتوا ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون. والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين امنوا ربنا انك رؤوف رحيم>.

[38] القاضي أبو يوسف. كتاب الخراج، ص32 ـ 42.

[39] محمد باقر الصدر. اقتصادنا، ص114، دار الكتاب اللبناني، دار الكتاب المصري ـ بيروت.

[40] الماوردي. الاحكام السلطانية، ص511 ـ 611.

[41] ابو يوسف. كتاب الخراج، ص331 ـ 431.

[42] الماوردي، كذا.

[43] الماوردي. الاحكام السلطانية، ص841.

[44] الشهيد الصدر. اقتصادنا، ص525 ـ 625.

[45] المبسوط للسرخسي، ج11. ص59، نقلا عن الشهيد الصدر في اقتصادنا، ص135.

[46] الوسائل للحر العاملي ج71، ص013، نقلا عن الشهيد الصدر، ص135.

[47] الجاثية، 5.

[48] ابن منظور. لسان العرب، ج01، ص511.

[49] ابن خلدون. المقدمة، ص243.

[50] كذا، ص343.

[51] محمد باقر الصدر. اقتصادنا، ص555.

[52] ابن منظور. لسان العرب، ج1: ص617.

[53] ابن خلدون. المقدمة، ص443.

[54] ابن خلدون. المقدمة، ص153.

[55] ابن الازرق. بدائع السلك، ج2: ص792.

[56] ابن خلدون. المقدمة، ص343. وابن الازرق. بدائع السلك. ج2: ص792.

[57] ابن خلدون. المقدمة، ص552.

[58] في سالة من عبد الملك بن مروان الى الحجاج، نقلاً عن الماوردي في الاحكام السلطانية، ص941.

[59] ونجد الامر نفسه لدى بعض التوجهات الاسلامية التاريخية او المعاصرة، عندما يتم القبول من حيث المبدأ بنفس قاعدة مستوى الكفاف كاساس للاجور “ فتفسر الايات الكريمة التي تتعلق بالكسب والعمل والكدح بما يتعلق بها (عن حق بالطبع) من ضروري من الطعام واللباس والحاجيات الحياتية الاساسية كقاعدة لتقدير العوض والاجر، ولكن في احيان كثيرة بدون الالتفات الى مفهوم الجماعة والبيئة الكاملة السياسية والاجتماعية التي يجب ان تميز الاجتماع الاسلامي عن غيره. فالاجتماع الذي يسلب حقوق الله ورسوله والجماعة لا يمكنه ان يقنع الناس بان حقهم يقتصر على تعويضهم حاجياتهم الضرورية ليستأثر هو بكل ما عدا ذلك. بدون ذلك لن نفهم ما هي المعاني الحقيقية للكلام عن مالكية الله ورسوله ولن نفهم ملكية الجماعة وحقوقها “ ودون ذلك سنحول من حق للجماعة الى حق «للدولة» دون النظر الى طبيعتها الفردية او الولائية. وقس على ذلك. لذلك يشدد الشهيد الصدر على الاهمية العليا التي يحملها النظام الاسلامي باقرار مبدأ التوزيع قبل الانتاج بجانب مبدأ التوزيع بعد الانتاج. فالاقتصاد، وهنا نكرر ونقول مع شهيدنا الصدر هو جزء من كل، وان الاقتصاد لابد ان يرتبط بشكل عضوي بما غير الاقتصاد “ وان اي تجزئة او فصل سيبقى لحسن الدراسة ومسك الامور بشكل افضل، مع الحذر المستمر من أن يتحول نظريا او عمليا الى بناء اساسي او وحيد ليصبح ما عداه بناءات ملحقة وتابعة.

[60] الشهيد الصدر. اقتصادنا، ص525.

[61] طبقا لافتراض الدخل المطلق يتوقف الانفاق الاستهلاكي في الفترة على الدخل المتاح في الفترة نفسها “ ويتزايد الاستهلاك كلما زاد الدخل ولكن بنسبة اقل. فهذا الافتراض يسلم بان الميل المتوسط والميل الحدي للاستهلاك يقلان كلما زاد الدخل، ولكن الميل المتوسط للاستهلاك يكون اكبر من الميل الحدي للاستهلاك عند كل دخل “ وعليه سيزداد الانفاق الاستهلاكي نتيجة اعادة توزيع الدخل لصالح الفقراء.

[62] طبقا لهذا الافتراض يتوقف الانفاق الاستهلاكي ليس فقط على دخل الاسرة وانما ايضا على ما لديها من ثروة وعلى دخلها للفترات المستقبلية المتوقعة “ وهنا قد لا يتأثر اعادة توزيع الدخل على هذه الفئات وكذلك لن يكون لصالح الفقراء.

[63] طبقا لافتراض الدخل النسبي طبقا للاقتصادي دوزنبري Duesenberry يحدد الافراد انفاقهم الاستهلاكي اخذين في الاعتبار المحيط الاجتماعي الذي يعيشون فيه. فاستهلاك العائلة يزداد اذا ما جاورت عائلات غنية عما اذا جاورت

عائلات فقيرة. وحينما ينخفض دخل الاسر الغنية بسبب اعادة التوزيع فان الضغط سيخف على الاسر الاقل غنى في محاولتها لتقليد الاسر الغنية “ وقد تؤدي هذه العملية الى ادخار جزء من الدخل الذي كان ينفق قبل عملية اعادة التوزيع وتؤدي الى نقص الاستهلاك الكلي للمجتمع كما انه قد يقلل من عدم المساواة بسبب اضعافه لعنصر المحاكاة.

[64] اذ يرى الاقتصادي فريدمان Friedman ان سلوك الافراد الخاص بانفاقهم الاستهلاكي لا يتحدد بمستوى الدخل الحالي، وانما بالدخل الدائم، وطبقا لهذا الافتراض تكون نسبة الانفاق الاستهلاكي الدائم الى الدخل الدائم ثابتة عند مستويات الدخول المختلفة، وأن اعادة توزيع الدخل لصالح الفقراء لن يغير المستوى الانفاقي الاستهلاكي الكلي للمجتمع مما لن يرفع من الميل الحدي للاستهلاك ليرفع بالمقابل من الميل الحدي للادخار والاستثمارات.

[65] الاسراء، آية92.

[66] مفاهيم الميل الحدي تعني مدى الزيادة او النقصان في المعدل الاستهلاكي او في معدل الادخار عند تغير المداخيل وهي تقاس بواحد او اقل او اكثر.