شخصية المصلح والمجدد عند الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر

حسين بركة الشامي

<إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ كٰانَ أُمَّةً قٰانِتاً لِلّٰهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شٰاكِراً لِأَنْعُمِهِ اِجْتَبٰاهُ وَ هَدٰاهُ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَ آتَيْنٰاهُ فِي الدُّنْيٰا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصّٰالِحِينَ>[1]

لم يكن الإمام الشهيد شخصية عادية، فكل شيء فيه كان يكشف عن عبقرية متألقة، فمنذ سنوات دراسته الأولى كانت علامات النبوغ بارزة عليه، كما يتحدث بذلك أقرانه وأساتذته، فلم تكن هناك صعوبة في اكتشاف هذا الطالب القادم من الكاظمية إلى الجامعة الشيعية الكبرى في النجف الأشرف عندما التحق أولاً بمدرسة منتدى النشر وهي واحدة من المشاريع الإصلاحية التي أسسها المصلح الكبير والمجدد البارز الشيخ محمد رضا المظفر طاب ثراه.. لم تكن هناك صعوبة في اكتشاف تفوقه وقدراته العقلية الخارقة وتطلعاته البعيدة المدى إلى جانب عناصر مشرقة أخرى في شخصيته.

ومع أنه كان ينحدر من أسرة آل الصدر الشامخة في نسبها ورجالها وأعلامها في العراق وإيران ولبنان، إلا أن ذلك لم يمثل له رصيد دعم ولم يكن يحتاج إلى مسند يتكئ عليه، وشرف عائلي يقعده وسط المجتمع الجديد، فقد أراد أن يكون نسيجاً وحده، وأن ينطلق في أجواء علوم آل محمد صل الله عليه و آله وفي عالم الفكر الرحب معتمداً على ما أنعم الله عليه من نعمة الذكاء الوقاد والعقل المبدع والحكمة العالية. وكان وفياً لإرادته صادقاً مع نفسه، مخلصاً في طموحه، فأعطى لآل الصدر شرفاً على شرفهم، وقدم للحوزة مزيداً من الفخر، ومنح العراق عز القائد ووهب حياته للإسلام الذي عمل وجاهد وضحى من أجله.

 الشخصية الإصلاحية

قد تكون فكرة الإصلاح محببة للكثيرين، فيحاولون أن يكونوا مصلحين، لكن ذلك لا يتحقق إلا لقلة محدودة. فمن المستبعد أن العالم والمفكر الذي يسير في سياقات صحيحة أن يرفض الفكرة الإصلاحية، أو يجمد طاقاته عن القيام بها. فهو يسعى لأن يساهم في الحركة الإصلاحية، إن لم يحاول أن يختطّ منهجاً إصلاحياً ويؤسس لحركة إصلاحية. غير أن المشكلة تكمن في التنفيذ، حيث يقف الكثيرون في حدود الرغبة والأمل، ويكرر الآخرون خطوات سابقة فتفقد حركتهم طابع الإصلاح، فيما يحقق القلة عملاً إصلاحياً في الساحة التي يتحركون فيها.

إن هذه المسألة في حقيقتها ظاهرة اجتماعية تستدعي الدراسة، لاسيما وأننا كمسلمين نمارس الإصلاح في حركتنا العامة، والمطلوب منا أن نمارسه في حياتنا بشكل مستمر كمهمة رسالية من أجل نشر تعاليم ومفاهيم الإسلام. وهذا يعني أن العمل الإصلاحي كظاهرة اجتماعية يجب أن تخضع لدراسات مستفيضة، وأن تنال اهتماماً استثنائياً في ثقافتنا العامة ومناهجنا التعليمية، وهو نقص واضح في الثقافة الإسلامية العملية.

لسنا هنا بصدد التنظير لهذا المفهوم الاجتماعي، لكننا نشير إليه بشكل سريع، لما له علاقة بموضوع دراسة شخصية الإمام الصدر الإصلاحية.

إن الشخصية الإصلاحية هي التي تستطيع أن تحقق توازناً دقيقاً بين القدرات الذاتية وبين التحرك الميداني، وذلك عندما تحاول أن تحقق الأهداف التي تؤمن بها. إن هذا التوازن هو النقطة المركزية التي يتوقف عليها مستقبل المشروع الإصلاحي من حيث النجاح أو الفشل، ومن حيث الشمولية أو المحدودية.

فنحن نلاحظ أن هناك شخصيات امتلكت قدرات عالية كالإبداع الفكري والتماسك الشخصي والإرادة الطموحة وغير ذلك من المقومات، لكنها لم تستطع أن تسير في عملية الإصلاح سوى خطوات معدودة لا تكاد تذكر، بل أنها لا تتناسب مع المؤهلات الذاتية. بحيث أن مجتمعاتهم تبقى تتطلع إلى خطوات جديدة منهم، لكنهم يبقوا عاجزين عن تلبية تطلعات مجتمعاتهم. فمثلاً نلاحظ أن الحركة الإصلاحية التي برزت أواساط القرن التاسع عشر في العديد من البلدان الإسلامية، تميزت بتفاوت كبير بين رموزها الإصلاحية، رغم أنهم يتفقون في الخط العام، وهو إنقاذ البلاد الإسلامية من مظاهر التخلف والاختراق الثقافي والتراجع المدني والحضاري ودفعها باتجاه الأمام على مستوى الثقافة والعلوم والتنمية والإدارة السياسية والاجتماعية. فقد غطّت شخصية السيد جمال الدين الأفغاني على غيرها من الشخصيات الإصلاحية، وكان الفارق كبيراً بينه وبينهم. حتى يمكن اعتباره هو الرائد والأستاذ، مع أن هناك مصلحين سبقوه زمنياً، لكن ما حققه الأفغاني فاق ما حققه السابقون فخطف البريق الإصلاحي عن كفاءة وقدرة.

ويعود السبب إلى أن السيد جمال الدين عندما سار نحو الأهداف التي آمن بها، استطاع أن يحقق التوازن الدقيق بين قدراته وبين حركته. وربما يكون بعض المصلحين ۔ الذي عاصروا الأفغاني والذين عجزوا عن تحقيق ما حققه ۔ كانوا أكثر منه في قدراتهم الذاتية لكنهم لم يكونوا مثله في الموازنة الحساسة بين القدرة والتحرك.

إلى جانب هذا النموذج نلاحظ أن هناك شخصيات لها مكانتها في الجانب الفكري، وكانت لهم قدراتهم العالية وموهبتهم المتميزة، لكنهم لم ينجحوا في مشاريعهم الإصلاحية رغم أنهم رفعوا شعار الإصلاح عن قناعة وإيمان. وأحجم هنا عن ذكر الأسماء خشية إساءة الفهم وتقديراً لمكانتهم العلمية وإخلاصهم الديني. لكنني أقول إنهم لم يوفقوا في النجاح في العمل الإصلاحي، وتوقفوا عند الخطوات الأولى، والسبب هو الخلل في الموازنة بين القدرة الذاتية وبين التحرك الميداني.

وعندما ندرس شخصية الإمام الشهيد الصدر في ضوء هذه النظرية الاجتماعية، نلاحظ أن التوازن كان في غاية الدقة وهذا ما أعطى نتائج لها تأثيرها الكبير على الساحة الإسلامية وخلال فترة قصيرة نسبياً، ولو قدر له طاب ثراه أن يعيش أكثر لكانت حركته الإصلاحية هي الأكبر والأوسع والأشمل في التاريخ الشيعي الحديث.

لقد كان الإمام الصدر يمتلك قدرة عقلية نادرة، وكان يحمل هموماً واسعة في نفسه الكبيرة وفي قلبه الأكبر، وكان يحمل هدفاً إصلاحياً شمولياً، سار عليه في كل فترات حياته المباركة. لم يكن من الصعب عليه أن يتعامل مع المشروع الإصلاحي تعاملاً علمياً دقيقاً، فشخصيته كانت تتسم بهذا المنهج المنظم.

إنني أفهم شخصية الصدر الشهيد على أنها مرت بمرحلة واحدة فقط، وأن الفترات الأخرى التي طبعت حياته كانت أجزاء من تلك المرحلة، فقد بدأ الشهيد الصدر خطوة تأسيسية ثم تبعتها خطوات متلاحقة دون أن يحيد عن طريق الخطوة الأولى، أي أنه منذ البداية كان يعرف ما يريد، وكان يدرك إلى أين يتجه. وكانت حياته المباركة بين البداية والشهادة هي المشروع الإصلاحي الطويل، وإن قصرت سنواته.

هناك من يعتبر أن الإمام الصدر عندما تصدى للمرجعية بدأ مرحلة جديدة في حياته، وأن تغيراً ما طرأ على حياته واهتماماته. لكن هذا الرأي لا يعكس الحقيقة كما هي. إنما القول الصحيح هو أن المرجعية هي جزء من المشروع الإصلاحي العام والشامل له، ولو أنها خرجت عن مسار هذا المشروع لما تصدى لها رضوان الله عليه، ولما دخل عالم المرجعية حتى ولو فتحت أبوابها أمامه بكل رحابة وسعة. ودليلنا على ذلك أنه لم يظهر أي ردة فعل عندما فرضت عليه ضغوط من قبل بعض المرجعيات لأن يبتعد عن المنافسات التقليدية في عالم المرجعيات، فكان موقفه رضوان الله عليه أنه لم يسع إلى الترويج والتوسع في الساحة، ولم يرد أن تنبسط دائرة مقلديه، ولم يسر في هذا الطريق أبداً. إنما تصدى للمرجعية لأن مشروعه الإصلاحي الشمولي، كان يستلزم في بعض فقراته إحداث الإصلاح في الجامعة الإسلامية، وهذا لا يتم ما لم يحمل عنوان المرجعية، بمعنى أن المرجعية كانت عنده وسيلة وليست هدفاً قائماً بذاته.

إن من غير المنطقي الفصل بين المشروع الإصلاحي وبين الشخصية المتصدية للإصلاح، فالمشروع الإصلاحي ليس وظيفة تشريفية تمنح لشخص معين، بل هي مسؤولية كبيرة لا يتحملها إلا من يؤمن بها ويمتلك مواصفات النهوض بها. وعلى هذا فلا يمكن أن نتصور أن لكل إنسان قدرة على القيام بمشروع إصلاحي حتى لو امتلك مقومات الفكر والإرادة والعقلية الناضجة والأفق الواسع.

فهناك ۔ إلى جانب ما ذكرنا ۔ عناصر أخرى ترتبط بالجانب الشخصي للمصلح وهي أقرب ما تكون إلى الموهبة منها إلى التعلم والممارسة. فمن الممكن إعداد شخص ما ليكون عالماً بدرجة عالية في مجال تخصصي معين، ويمكن لهذا الشخص أن يكون فريد زمانه في مجال تخصصه لكن ليس بالضرورة أن نجعل من هذا الشخص أن يكون مصلحاً لأن الإصلاح ببساطة حالة تكوينية مرتبطة بالشخصية وليس عملية تثقيفية دراسية، أو فكرة نحاول أن نقنع بها الشخص ليكون مصلحاً. ولقد أشرنا خلال البحث بأن المقتنعين بالإصلاح يمثلون قطاعاً واسعاً من جمهور العلماء والمفكرين والمثقفين، بل نجد حتى البسطاء من الناس يحلمون بدور إصلاحي ويتطلعون إلى عمل إصلاحي. لكن لم تمكنهم شخصياتهم من القيام بهذا الدور.

على أن من الضروري هنا الإشارة إلى حقيقة هامة في هذا المجال، وهي الثقافة الإصلاحية كمنهج تربوي في الأوساط الإسلامية. حيث أن التثقيف الإصلاحي لم يأخذ دوره ومكانته في ثقافتنا العامة، وهذا ما جعل الولادات الإصلاحية متباعدة وبطيئة ونادرة، ولو اعتمدنا التربية الإصلاحية في برامجنا الثقافية في كل المستويات والمجالات، لساهم ذلك بدون شك في زرع عوامل الشخصية الإصلاحية في أجيالنا.

إننا ندرس الإصلاح كتجربة تاريخية، ونمر عليها مروراً عابراً في المناسبات السنوية والمئوية للمصلحين مثلما نحتفل في هذا المؤتمر لنكرم شخصية الإمام الصدر، في حين أن المطلوب هو اعتماد تربية إصلاحية في مدارسنا ومعاهدنا العلمية وفي كتاباتنا الثقافية وفق منهجية علمية مدروسة، وذلك من أجل بث الوعي الإصلاحي وسط الطلبة والمثقفين. وفي هذه الحالة سوف تكون ولادة الشخصية الإصلاحية أمراً ميسوراً، وتلك خطوة تمهيدية لخلق حالة الوعي الإصلاحي والاتجاه الإصلاحي في التفكير الإسلامي العام.

إنني أنتهز فرصة هذا المؤتمر المبارك لطرح هذه الفكرة على كل الإخوة والأساتذة الحاضرين لدراسة هذه الفكرة، ودعمها ميدانياً، لا سيما وأن التحديات التي تواجه الإسلام تستدعي نهضة إصلاحية شاملة، وهذا لا يتحقق إلا من خلال التربية المنهجية التي تخلق جواً عاماً وحالة سائدة في مجتمعاتنا المسلمة.

وأشير هنا أن هذه الفكرة مستوحاة من دراستي ومعايشتي لتجربة الإمام الصدر، فقد كان قدس سره يحاول الوصول بالإصلاح إلى الحالة الجماهيرية، وذلك من خلال التأكيد على دور الشخصية الرسالية وعلى دور المبلّغ الإسلامي المرتبط بالمرجعية الصالحة، فقد خطط طاب ثراه إلى جهاز يعمل في خط الإصلاح ويثقف على الإصلاح. وهذه واحدة من المحطات البارزة في شخصيته المبدعة. وربما يكون من الوفاء للشهيد العظيم الإمام الصدر أن نعمل في اتجاه هذه الفكرة، لمواصلة مسيرته الإصلاحية الرائدة.

الحتمية الإصلاحية

عندما يكون المشروع الإصلاحي متكاملاً في مقدماته متوازناً في حركته، فإنه يعطي نتائج مؤثرة على الساحة، تمتلك عناصر القوة والبقاء والثبات، وهذه هي السمة الأساسية في المشروع الإصلاحي.

إننا نلاحظ تسامحاً كبيراً في توصيف المشاريع الإصلاحية، وفي تسمية المصلحين، فقد أطلق لقب المصلح على الكثير من الشخصيات مع أن الأعمال التي نهضوا بها كانت محدودة بفترة حياتهم، ثم تلاشت بعد موتهم. ولا نريد أن نسحب هذه التسمية منهم، لكننا ندعو إلى التمييز بين شكلين من الإصلاح:

الأول: الإصلاح الآني: وهو الإصلاح الذي يعيش لفترة محدودة ويساهم في علاج وضع معين، لكنه لا يمتد في المستقبل، حيث يتوقف بعد فترة زمنية، وهذا ما نلاحظه على الكثير من المشاريع الإصلاحية، رغم أنها قدمت خدمات مشكورة للإسلام وأهله.

الثاني: الإصلاح الحتمي: وهو الإصلاح الذي يزرع جذوره عميقاً في الواقع ويفرض نتائجه مهما كانت الظروف، في فترة المصلح وبعد وفاته، وتبقى آثاره تتفاعل في المجتمع لفترة طويلة لتفتح آفاق رحبة متجددة أمام السائرين على نهج المصلح. وهذا ما نلاحظه في تجارب الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، وفي تجارب تلامذتهم وبعض أتباع مدرستهم من مثل الإمام الشهيد الصدر.

إن الإصلاح الحتمي يحتاج إلى مقومات دقيقة ورؤية شمولية للواقع من كافة أبعاده وجهاته، فهو يحتاج إلى نظرة ثاقبة تتجاوز حدود الزمن لترمق المستقبل بنفس الوضوح الذي تنظر فيه إلى الحاضر، مما يجعل صاحب المشروع الإصلاحي، يخطط للأمة في حاضرها من أجل أن تجني الثمار في حاضرها ومستقبلها، أي أنها تؤسس منهجاً إصلاحياً وليس مجرد عمل إصلاحي وهي حقيقة تاريخية في قانون التطور في مجالات الفكر والاجتماع.

فمثلاً نلاحظ أن الإمام السجاد عليه السلام عندما اهتم بالجانب العلمي والتربوي والأخلاقي، وركز على تهيئة كوادر علمية واجتماعية تحمل الفكر الإسلامي الأصيل الذي يعيد الأمة إلى رشدها الإسلامي، انطلق من تقديره الدقيق للظروف التي يمر بها المسلمون، وظهور تيارات فكرية منحرفة في الساحة، وسعي السلطة إلى تحريف العقيدة الإسلامية وتشويه المفاهيم وأحكام الشريعة والعبث بكرامة الأمة ومقدراتها مما كان يهدد الإسلام من الأساس، لذلك تحرك على أساس التخطيط لمشروع تصحيحي يجدد الحياة الفكرية وفق المنهج الإسلامي الأصيل، وكان ذلك في حقيقته ما نصطلح عليه بالحتمية الإصلاحية التي تعطي ثمارها المؤكدة مهما كانت الظروف والأجواء والتحديات. وهذا ما حدث بعد وفاته عليه السلام، إذ امتد العمل الإصلاحي في الأمة من خلال سيرة الأئمة من ولده عليهم السلام، والتي أنتجت مدرسة فكرية أصيلة امتدت في كل بقاع العالم الإسلامي، ونشرت التشيع وحافظت عليه إلى يومنا هذا.

إن هذا النموذج الذي أتينا على ذكره يمثل نموذجاً متكاملاً يصعب تكراره، بحكم الشخصية المعصومة للأئمة عليهم السلام، إلا أن الحتمية الإصلاحية تبقى ممكنة التحقق طالما تمسكت بالمنهج الصحيح، وهو ما نلاحظه في تجارب بعض أتباع وعلماء مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ونستطيع أن نضرب بالشيخ الطوسي مثلاً، فقد استطاع شيخ الطائفة أن يؤسس مشروعاً إصلاحياً متكاملاً في مرتكزاته الأساسية، ووضع اللبنات الأولى لأعظم جامعة إسلامية في التاريخ الإسلامي وهي جامعة النجف الأشرف الشامخة بشموخ مدرسة أهل البيت عليهم السلام. ومع أن عطاءات الشيخ الطوسي لم تظهر كاملة في حياته، إلا أنها أعطت نتائجها فيما بعد، لأن مشروع الطوسي كان حتمية إصلاحية.

ومن المناسب الإشارة إلى أن مصطلح الحتمية الإصلاحية، هو أكثر دقة في تصورنا من مقولة ولادة المصلح في غير زمانه، أو الولادة التي تسبق العصر وذلك في وصف بعض عظماء التاريخ. فقد ولد هؤلاء في زمانهم لكنهم أسسوا مشروعاً متمرداً على وحدات الزمن، يتجاوز الحاضر إلى المستقبل، فكان عملهم حتمية إصلاحية، لابد أن تعطي نتائجها ذات يوم، إن لم تعطها في حياتهم.

لقد كان الإمام الصدر من جملة هؤلاء العباقرة الأفذاذ من المصلحين الذي أرادوا لحركتهم أن تكون ممتدة مع الزمن، لا تعيش عقلية اللحظة، ولا تتناول المقطع الزمني المعاش، بل تواصل عطاءاتها مع حركة الزمن، تؤثر فيها وتوجهها وتترك بصماتها عليها بوضوح وتجذر، وهذا ما فعله الإمام الصدر وسعى إليه منذ الخطوات الأولى لحياته العلمية.

كان بإمكان الشهيد الصدر أن يصنع عملاً إصلاحياً محدوداً، ويكرس حياته لهذا العمل، ولو فعل ذلك لنجح نجاحاً كبيراً بلا شك، لكن شخصيته لم تكن لتقنع بهذه الدائرة المحدودة، فالحالة تكون أشبه بحبس عملاق في غرفة ضيقة. في حين كان يريد قدس سره تحريك كافة عناصر القوة في شخصيته من أجل الإسلام، لأنه يدرك أن ما يملكه ليس ملكاً شخصياً بل هو نعمة وموهبة من الله وعليه أن يؤدي حقها كما ينبغي، فتزكّى بعطاءه وكان سخياً إلى أبعد الحدود.

وأحسب أن الصدر قدس سره لم يقف طويلاً بين المشروع المحدود وبين المشروع المترامي الآفاق، وأكاد أقطع بأنه لم يقلب الأمر بين هذا وذاك، إنما انطلق في مشروع الإصلاح الحتمي، كخيار واحد قادته إليه شخصيته الإصلاحية، بحكم ملكاتها العالية ومواهبها المتألقة. إن الأمر يشبه الشاعر الملهم المبدع عندما ينظم الشعر، فهو لا يجهد نفسه في اختيار الجودة ودرجة السبك والصورة الشعرية الموحية، لأنه لا يملك غير خيار الابداع بدون قصد منه، وتلك طبيعة المبدعين وذوي النفوس الكبيرة والقابليات الخلاقة.

عوامل التجديد والإصلاح في رؤية الشهيد الصدر

إن قيمة الحركة الإصلاحية هي في قدرتها على الانطلاق في ظرف معين وتحريك عناصر هذا الظرف باتجاه المستقبل في خطوات متسقة مع حركة الزمن، بحيث لا تتأخر عنه ولا تتخلف مهما كانت الحركة متسارعة حتى تحقق أغراضها. وهذا هو الفارق بين حركة الإصلاح وبين غيرها من المحاولات التي تولد وتموت قبل أن تحقق غرضها وقبل أن تركّز هويتها في الذاكرة الاجتماعية.

إن الإصلاح ليس رغبة لفعل شيء ما بل هو منهج متوازن يحتاج إلى العقل الذي يستوعب الواقع من أجل أن يقيم ويخطط ويبدع.. ويحتاج إلى الظرف المناسب من أجل أن ينفّذ برامجه بواقعية ويحتاج إلى الإرادة على الفعل والمواصلة من أجل أن يستمر في العطاء وبعبارة أخرى: إلى الشخصية الإصلاحية.

فعندما يدرس الإمام الشهيد رضوان الله عليه المشاريع الإصلاحية فإنه يقدم رؤية موضوعية شمولية في تقييم التجربة – موضوع الدراسة – وذلك لعاملين أساسيين:

الأول: ما تميز به الشهيد الصدر من قدرة عالية في كل المجالات التي تناولها بالبحث والدراسة وهذه سمة طبعت حياته العلمية بالكامل رغم قصر عمره المبارك فهو باحث من طراز خاص؛ إذ أنه لا ينطلق في دراسته من محاولات تجزيئية تنحصر في جو الدراسة بل إنه قدس سره يجعل الدراسة – كمنهج عام عنده – خاضعة لرؤية شمولية عامة يندرج موضوع الدراسة ضمن سياقاتها الكلية.

وعلى هذا فإن رؤيته للمشاريع الإصلاحية تستند إلى العمق الشمولي الذي تحتاجه مثل هذه الدراسات عادة.

الثاني: إن الشهيد الصدر هو نفسه مجدد مصلح وصاحب حركة تجديدية إصلاحية مؤثرة في واقعه الثقافي والاجتماعي والسياسي الأمر الذي يجعل من تقييماته للتجارب التجديدية والإصلاحية على قدر كبير من الأهمية؛ لأنها منطلقة من عقلية تجديدية حقيقية ومن نظرة ترصد الماضي والحاضر والمستقبل بهموم التجديد والإصلاح.

وسنحاول هنا أن تدرس تجربة الشيخ الطوسي كنموذج للتجديد والإصلاح كما تناولها الشهيد الصدر قدس سره.

رؤية الشهيد الصدر لتجربة الطوسي

يرى الشهيد الصدر أن مساهمة الشيخ الطوسي في علم الأصول لم تكن مجرد استمرار للخط بل كانت تطوراً جديداً ضمن التطور الشامل في التفكير الفقهي والعلمي الذي حققه. وقد تمثل ذلك في مجال الأصول بكتابه (العدة) وفي مجال الفقه بكتابه (المبسوط). ومن خلال هذا الإنجاز يعتبر الشهيد الصدر أن الشيخ الطوسي حد فاصل بين عصرين يطلق عليهما العصر التمهيدي والعصر العلمي الكامل:

فقد وضع هذا الشيخ الرائد حداً للعصر التمهيدي وبدأ به عصر العلم الذي أصبح الفقه والأصول فيه علماً له دقته وصناعته وذهنيته العلمية الخاصة.[2]

ثم تناول الشهيد الصدر دراسة هذه التجربة التجديدية في ضوء موقعها في الترتيب الزمني للحركة العلمية فيعتبر أن البحث الفقهي الذي سبق الشيخ الطوسي كان يقتصر في الغالب على استعراض المعطيات المباشرة للأحاديث والنصوص أي أصول المسائل ويرى في كتاب المبسوط (محاولة ناجحة عظيمة في مقاييس التطور العلمي لنقل البحث الفقهي من نطاقه الضيق المحدود في أصول المسائل إلى نطاق واسع يمارس الفقيه فيه التفريع والتفصيل والمقارنة بين الأحكام وتطبيق القواعد العامة ويتتبع أحكام مختلف الحوادث والفروض على ضوء المعطيات المباشرة للنصوص).[3]

ويؤكد الإمام الشهيد على أهمية الترابط في مشروع التجديد الفكري مع حركة الزمن وذلك بقوله:

إن التطور الذي أنجزه الشيخ الطوسي في الفكر الفقهي كان له بذوره التي وضعها قبله أستاذاه السيد المرتضى والشيخ المفيد وقبلهما ابن أبي عقيل وابن الجنيد وكان لتلك البذور أهميتها من الناحية العلمية حتى نقل عن أبي جعفر بن معد الموسوي ۔ وهو متأخر عن الشيخ الطوسي ۔ أنه وقف على كتاب ابن الجنيد الفقهي واسمه التهذيب. فذكر أنه لم ير لأحد من الطائفة كتاباً أجود منه ولا أبلغ ولا أحسن عبارة ولا أرقّ معنى منه وقد استوفى فيه الفروع والأصول وذكر الخلاف في المسائل واستدل بطريقة الإمامية وطريق مخالفيهم. فهذه الشهادة تدل على قيمة البذور التي نمت حتى آتت أكلها على يد الطوسي.[4]

ويلخص الشهيد الصدر رؤيته لتجربة الطوسي التجديدية في بعدها الزمني بقوله:

ما مضى‏ المجدِّد العظيم محمد بن الحسن الطوسي قدس سره حتى قفز بالبحوث الأصولية وبحوث التطبيق الفقهي قفزة كبيرة، وخلّف تراثاً ضخماً في الأصول يتمثل في كتاب العدة، وتراثاً ضخماً في التطبيق الفقهي يتمثل في كتاب المبسوط. ولكن هذا التراث الضخم توقف عن النمو بعد وفاة الشيخ المجدِّد طيلة قرن كامل في المجالين الأصولي والفقهي على السواء.

وهذه الحقيقة بالرغم من تأكيد جملة من علمائنا لها تدعو إلى التساؤل والاستغراب؛ لأن الحركة الثورية التي قام بها الشيخ في دنيا الفقه والأصول والمنجزات العظيمة التي حققها في هذه المجالات كان من المفروض والمترقب أن تكون قوة دافعة للعلم، وأن تفتح لمن يخلف الشيخ من العلماء آفاقاً رحيبة للإبداع والتجديد، ومواصلة السير في الطريق الذي بدأه الشيخ، فكيف لم تأخذ أفكار الشيخ وتجديداته مفعولها الطبيعي في الدفع والإغراء بمواصلة السير؟[5]

ويقدم الإمام الصدر تفسيره لهذه الظاهرة الغريبة من خلال دراسته للظروف الزمانية حيث يري أن هجرة الطوسي إلى النجف الأشرف فصلته عن حوزته المبدعة في بغداد وأنه ركّز اهتمامه في بناء حوزته الجديدة في المهجر والتي لم تكن لحداثتها قادرة على التفاعل مع أفكاره العملاقة فكان لابد من مرور فترة زمنية حتى تصل إلى مستوى استيعاب أفكاره والتفاعل معها حيث كتب يقول:

فهجرته‏ إلى‏ النجف‏ وإن‏ هيأته للقيام بدوره العلمي العظيم لِمَا أتاحت له من تفرغ ولكنها فصلته عن حوزته الأساسية، ولهذا لم يتسرب الإبداع الفقهي العلمي من الشيخ إلى تلك الحوزة التي كان ينتج ويبدع بعيداً عنها، وفرق كبير بين المبدِع الذي يمارس إبداعه العلمي داخل نطاق الحوزة ويتفاعل معها باستمرار وتواكب الحوزة إبداعه بوعي وتفتح، وبين المبدِع الذي يمارس إبداعه خارج نطاقها وبعيداً عنها.

ولهذا كان لابد ۔ لكي يتحقق ذلك التفاعل الفكري الخلاق۔ أن يشتد ساعد الحوزة الفتية التي نشأت حول الشيخ في النجف حتى تصل إلى ذلك المستوى من التفاعل من الناحية العلمية، فسادت فترة ركود ظاهري بانتظار بلوغ الحوزة الفتية إلى ذلك المستوى، وكلف ذلك العلم أن ينتظر قرابة مائة عام ليتحقق ذلك، ولتحمل الحوزة الفتية أعباء الوارثة العلمية للشيخ حتى تتفاعل مع آرائه وتتسرب بعد ذلك بتفكيرها المبدع الخلاق إلى الحلّة.[6]

ونستطيع أن نفهم من رؤية الشهيد الصدر في تفسيره هذا أن الشيخ الطوسي سبق حركة الزمن في مشروعه التجديدي العملاق وتقدم على واقعه بمسافة زمنية طويلة ويمكن أن نتصور حجم هذا الإنجاز بشكله الحي عند التأمل في المراحل التي تلت مرحلة الطوسي والتي تحولت فيها النجف إلى المعقل الأول للفكر الشيعي بمنجزاته العلمية الرائدة وهذا ما اصطلحنا عليه بالحتمية الإصلاحية. فقد حدث التجديد العلمي الذي أراده الشيخ الطوسي في الحوزة العلمية بعد قرن من زرع بذوره الأولى وإرساء قواعده الأساسية فكان لابد أن تعطي ثمارها وقد أعطتها بعد حين.

ويقلل الشهيد الصدر من أهمية التفسير السائد لظاهرة الجمود العلمي الذي أعقب الشيخ الطوسي والقائل بأن قداسة الشيخ الطوسي منعت الآخرين من العلماء من مناقشة آرائه فيقدم سبباً آخر في تفسيره هذه الظاهرة يسير في سياق الأول من حيث ارتباطه بعامل الزمن وهو أن الفكر السني في تلك الفترة قد تحجّم في دائرة التقليد وأغلق باب الاجتهاد رسمياً وبذلك انكمش الفكر الأصولي السني ومني بالعقم – على حد قول السيد الشهيد – الأمر الذي جعل التفكير العلمي لعلماء الشيعة يفقد أحد محفّزاته المحركة.

ويؤكد الشهيد الصدر أن الحركة التجديدية التي أحدثها الشيخ الطوسي – والتي عاشت توقفاً نسيباً بعده – عادت من جديد للتفاعل بالمستوى الذي يتناسب مع أفكاره وذلك على يد الفقيه المبدع محمد بن أحمد بن إدريس (ت 598) الذي انطلق في حركته التجديدية من تقدير دقيق للظروف الفكرية التي يعيشها الواقع العام والتي اتسمت بالجمود فقرر أن يعيد الحياة فيها من جديد وتمكن بالفعل من إحداث نقلة نوعية في الواقع الذي عاصره على أن من المهم أن نتذكر أن هذه النقلة عندما حدثت فإنها أدركت حينذاك مستوى الشيخ الطوسي وكأنه كان لا يزال حياً إلى تلك الفترة الزمنية مما يعكس قوة أسس ومرتكزات الإصلاح والتجديد التي اعتمدها الشيخ الطوسي في الحياة العلمية فقد كانت هذه الأسس تختزن في داخلها عناصر الإبداع والحيوية مما جعلها تمتلك حتمية الانبثاق في الوسط العلمي بصرف النظر عن الجمود وطول مدته؛ لأن دقة المنهجية وقوة الأسس والأصول لابد أن تثير في يوم ما حركة العقل ليفجر منها ينابيع العطاء والنهوض العلمي.

إن الأفكار والنظريات العلمية التي وضعها الشيخ الطوسي كانت بحاجة إلى عقل يدرك أهميتها فيحركها في الوسط العلمي والثقافي وبذلك يساهم في إحيائها في الحاضر والانطلاق منها إلى تجديد وإصلاح في الزمن القادم وهكذا يتم مشروع الإصلاح والتجديد في سياق ما نصطلح عليه بالحتمية الإصلاحية.

ويعود السيد الشهيد إلى تفسير ظاهرة الانطلاقة الجديدة للفكر الشيعي في تجربة ابن إدريس مستنداً على حركة الزمن حيث يقول: إن (الحوزة العلمية التي‏ خلّفها الشيخ الطوسي سرى فيها روح التقليد؛ لأنها كانت‏ حوزة فتية، فلم تستطع أن تتفاعل بسرعة مع تجديدات الشيخ العظيمة، وكان لابد لها أن تنتظر مدة من الزمن حتى تستوعب تلك الأفكار، وترتفع إلى مستوى التفاعل معها والتأثير فيها، فروح التقليد فيها مؤقتة بطبيعتها).[7]

هذه باختصار رؤية الشهيد الصدر لتجربة الشيخ الطوسي التجديدية والتي يؤكد فيها رضوان الله عليه على أهمية عامل الزمن وحتمية الإصلاح في مشاريع التجديد التي ظهرت في تاريخ الفكر الإسلامي واستطاعت أن تفرض وجودها واستمراريتها مع حركة الزمن وقد اخترنا نموذج الشيخ الطوسي في دراسة الشهيد الصدر باعتبار أن تجربته تمثل سبقاً لحركة الزمن.

يضاف إلى ذلك أن الشهيد الصدر قدس سره درس تجربة الطوسي على أنها حتمية إصلاحية وكان مؤمناً بها إلى أبعد الحدود وهو ما يمكن ملاحظته من سياق الحديث الطويل الذي تحدث فيه عن أبعاد هذه التجربة الرائدة وطبيعة الاستنتاجات التي حددها في نهاية دراسته لتجربة الشيخ الطوسي والتي وصفها بعصر العلم الذي صنع بدوره عصر الكمال العلمي على حد تعبيره قدس سره.

فالشهيد الصدر إذن كان مؤمناً بأن المشروع الإصلاحي والتجديدي يخترق أسوار الزمن وأنه لابد أن يحقق أهدافه في يوم من الأيام وعليه فإن الانتظار لا يشكل معوقاً أو عامل إحباط للمصلح والمجدد باعتبار أن الهدف سيتحقق على يد عقل قادم يحرك عناصر الإصلاح في حاضره ليحملها إلى آفاق المستقبل.

إننا نؤكد أن الشهيد الصدر في مشروعه الإصلاحي كان يستلهم هذه التجارب التاريخية الحية ويتعامل [معها] بعمق وكان يدرك أن حركته الإصلاحية ستعطي ثمارها ذات يوم وهذا ما نلمسه في العشرين عاماً التي تلت استشهاده قدس سره فقد ظهرت العديد من الأفكار الإصلاحية والتجديدية من وحي مشروعه الإصلاحي وحركته التجديدية المباركة.

إننا مدعوّون اليوم إلى التوقف عند هذه الحقيقة الكبيرة فنتعامل مع تراث الشهيد الصدر وأفكاره الإصلاحية على أنها قاعدة انطلاق نحو مشاريع جديدة في عالم الإصلاح والبناء. ونعتقد أن عقول ومواهب أبناء الصحوة الإسلامية تمتلك قوة الإبداع التي تحرك مرتكزات المشروع الصدري وتحوله إلى حركة ممتدة عبر الزمن وهكذا يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه فنتكرر تجربة الطوسي وابن إدريس في الشهيد الصدر وطلاب مدرسته.

[1]. النحل: 120۔122.

[2]. المعالم الجديدة للأصول، ص 76.

[3]. م. ن، ص 79۔80.

[4]. م. ن، ص 81.

[5]. م. ن، ص 82.

[6]. م. ن، ص 82.

[7]. م. ن، ص 90۔91.