الشهيد الصدر ودينامية الصراع الاجتماعي

الدكتور أحمد راسم النفيس

<وَ لَوْ لاٰ دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوٰامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوٰاتٌ وَ مَسٰاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّٰهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ>.

منذ أن قتل قابيل هابيل والتناقض البشري قاعدة مضطردة من قواعد الحياة. ذلك التناقض المصلحي أو النفسي أو العقائدي يرتدي ثياباً متغيرة، ويستخدم أدوات تتطور بتطور الحياة. وكما يقول الشهيد الصدر قدس سره:

  • وهذا التناقض الاجتماعي بين الإنسان وأخيه الإنسان يتخذ على الساحة الاجتماعية صيغاً متعددة وألواناً مختلفة، ولكنه يظل في حقيقته وجوهره شيئاً ثابتاً وحقيقة واحدة وروحاً عامة، وهي التناقض بين القوي والضعيف، بين كائن في مركز القوة وكائن في مركز الضعف.[1]
  • قد يكون هذا القوي فرداً فرعوناً، قد يكون عصابة، قد يكون طبقة، قد يكون شعباً، قد يكون أمة. كل هذه ألوان من التناقض، كلها تحتوي روحاً واحدة، وهي روح الصراع، روح الاستغلال من القوي الذي لم يحل تناقضه الداخلي وجدله الإنساني.[2]
  • ما لم ينتصر أفضل النقيضين في ذلك الجدل الإنساني فسوف يظل هذا الإنسان يفرز التناقض تلو التناقض والصيغة تلو الصيغة، حسب الظروف والملابسات، حسب الشروط الموضوعية ومستوى الفكر والثقافة. إذن النظرة الإسلامية من زاوية المشكلة التي يواجهها خط العلاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان نظرة واسعة منفتحة معمقة لا تقتصر على لون من التناقض ولا تهمل ألواناً أخرى، بل هي تستوعب كل أشكال التناقض على مر التاريخ وتنفذ إلى عمقها وتكشف حقيقتها الواحدة وروحها المشتركة، ثم تربط كل هذه التناقضات بالتناقض الأعمق بالجدل الإنساني الداخلي، المنبع الأساس لتلك التناقضات الاجتماعية.[3]

هذا ما نسمّيه بدينامية الصراع الاجتماعي الذي يتحرك على عدة محاور تتداخل وتتجدد وتتنوع. صحيح أن العناصر التي تكون الحياة البشرية ثابتة منذ القدم، ولكن تغير العصور والأزمنة وتغير الوعي البشري، بل وتغير طبيعة العلاقات الاجتماعية يدفع ببعض العوامل إلى الأمام ويدفع بأخرى إلى الخلف، وهو ما يحتم على الباحثين والمهتمّين بشؤون مجتمعهم وأمتهم تجديد نظرتهم التحليلية لواقعهم، وعدم الجمود أمام تحليل ثابت ومتكلّس، سواء كان تحليلاً عقائدياً أو اجتماعياً.

نمضي مع الشهيد الصدر رضوان الله عليه:

  • فلابد للرسالة التي تريد أن تضع الحل الموضوعي للمشكلة أن تعمل على كلا المستويين، جهاد أكبر سمّاه الإسلام بالجهاد الأكبر، هو الجهاد لتصفية ذلك التناقض الاجتماعي في وجه كل ألوان استئثار القوي للضعيف دون أن نحصر أنفسنا في نطاق صيغة معينة من صيغ هذا الاستئثار؛ لأن الاستئثار جوهره واحد مهما اختلفت صيغه.[4]
  • هذه النظرة المنفتحة الواقعية التي تحالف تلك التفسيرات المحدودة ضيقة الأفق للتناقضات التي تواجهها الإنسانية سواء كانت تناقضاً طبقياً كما ادّعت النظرية الماركسية، فالتناقض الطبقي ليس هو الشكل الوحيد من أشكال التناقض، بل هناك صيغ كثيرة للتناقض على الساحة الاجتماعية وليدة تناقض رئيسي وهو جدل الإنسان، ذلك الجدل المخبوء في داخل محتوى الإنسان، وهو الذي يفرز دائماً وأبداً صيغاً متعددة من التناقض.[5]

إذن فالنظرية التي يتبناها الشهيد الصدر تقوم على تعدد عوامل الصراع والتناقض، فالانقسام الاجتماعي لا يتمحور حول عنصر واحد بالضرورة هو العنصر الطبقي أو العقائدي، بل هناك عوامل متعددة وأحياناً متداخلة للصراع. إنها ليست مباراة في كرة القدم حيث يلتزم كل فريق بأن يلعب في ناحية واحدة من الملعب وارتداء لون مميز يختلف عن لون الفريق الآخر، وهو ما ينطبق على نظرية الصراع الطبقي ۔ الراحلة إلى الأمجاد التاريخية ۔ حيث يقول رضوان الله عليه:

كنا ننتظر ونتوقع أن يزداد يوماً بعد يوم التناقض الطبقي والصراع بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة في المجتمعات الأوروبية الصناعية التي تطورت فيها الآلة تطوراً كبيراً، ولكن ما وقع هو عكس ذلك تماماً، فقد ازداد النظام الرأسمالي رسوخاً، بل وجرى استبدال الصراع الطبقي الأوروبي إلى تحالف داخلي في مواجهة الشعوب الفقيرة في العالم ۔ أي شعوب العالم الثالث ۔ التي أصبحت تمثّل القطب الثاني في هذا التناقض.[6]

هذا ما قاله السيد الصدر عن أطروحة الصراع الطبقي قبل أكثر من عشرين عاماً، ولكنه رضوان الله عليه لم يطل به العمر حتى يرى كيف نجح بعض العرب في تعريب هذه النظرية بطريقة بهلوانية من خلال ما أسموه بتحالف قوى الشعب العاملة، وكيف نجح بعض أولئك (المسحوقين!!) في التحول إلى (حيتان!!) وهو المرادف العربي اللفظي لمصطلح الرأسماليين، ولكن شتّان ما بين رأسمالية منتجة تمارس الظلم والإنتاج ورأسمالية طفيلية تمارس السلب والنهب وكفى، إنها رأسمالية عربية على وزن الاشتراكية العربية، بينما اضمحلّ أو تلاشى الوجود الاجتماعي والاقتصادي لكثير من أولئك الذين جرى تصنيفهم سابقاً باعتبارهم من الطبقات المترفة.

ليس هذا رأينا وحدنا، بل هو رأي كثير من علماء الاقتصاد عن الرأسمالية المعاصرة في مصر على سبيل المثال وحتى لا نخرج عن الإطار الأكاديمي البحت يمكن مراجعة حديث الدكتور إسماعيل صبري عبدالله، جريدة العربي، عدد 720، 27/8/2000.

تبقى أطروحة الصراع الطبقي بالنسبة لنا أطروحة أجنبية المصدر بالأساس، بالرغم من أنها وجدت من يؤسس لها داخل مجتمعاتنا، بل ويقوم بتعريبها ويؤسس عليها نظريات ونظم وقوانين، وهي نظرية لا يمكن إثباتها بالكلية ولا رفضها بالكلية، إنها رؤية جزئية لواقع موجود بالفعل، ولكنها وبكل تأكيد لا تقدم تفسيراً لكل الظواهر الاجتماعية والتاريخية التي عرفتها المجتمعات البشرية.

أما إذا انتقلنا إلى التقسيم العقائدي نجد أن المسائل لا تفسّر بهذه البساطة، وأن الحالة النفسية والقبائلية قد لعبت دوراً حاسماً في تحويل صراعات بعينها من مجرد صراعات على السلطة إلى صراعات عقائدية ومذهبية. ومن هنا تأتي أهمية التشخيص الدقيق لطبيعة التناقض حتى يكون ممكناً التفاعل الصائب مع هذه الظواهر وإلا صرنا كمن يحرث في البحر.

إن قراءة التاريخ تظهر لنا بوضوح أن وقوع بعض الطبقات في دائرة الظلم لم يكن مبرراً كافياً لدى هؤلاء يدفعهم للثورة ضد هذا الظلم ولا حتى لرفضه قلبياً، حيث تداخلت العوامل العنصرية والقبائلية لتدفع ذلك الفرد المقهور للوقوف في وجه من يدافع عن مصالحه وحقوقه بل وللوقوف في صف هؤلاء الغاصبين لمجرد أن هؤلاء كانوا شيوخاً للقبائل ورؤساء للعشائر، وهو ما يتكرر الآن وقد يتكرر غداً مع اختلاف بسيط في المسميات.

كيف يمكننا أن نفسّر أن معاوية بن أبي سفيان الذي كان يعطي الكبار ويمنع الصغار نجح في استمالة هؤلاء الأتباع، تلك القوى البشرية الضاربة التي لا تأنس إلا بالعبودية، بينما لم ينجح الإمام علي عليه السلام في تحقيق ذلك الهدف؛ لأنه كان يفعل الصواب أي الأصل وهو المساواة في العطاء بين الغني والفقير وبين الرئيس والمرؤوس وبين التابع والمتبوع، بينما كان من المفترض أن تقف تلك الجماهير المسحوقة بجوار من يعمل لصالحها ويريد إقامة دولة العدل الإلهي.

يروي ابن أبي الحديد في شرح النهج عن المدائني قائلاً:

آكد الأسباب في تقاعد العرب عن نصرة أميرالمومنين عليه السلام أمر المال، فإنه لم يكن يفضّل شريفاً على مشروف ولا عربياً على عجمي، ولا يصانع الرؤساء وأمراء القبائل كما يصنع الملوك، ولا يستميل أحداً إلى نفسه، وكان معاوية بخلاف ذلك، فترك الناس علياً والتحقوا بمعاوية، فشكى علي عليه السلام إلى الأشتر تخاذل أصحابه وفرار بعضهم إلى معاوية، فقال الأشتر: يا أميرالمؤمنين إنا قاتلنا أهل البصرة بأهل الصرّة وأهل الكوفة ورأي الناس واحد، وقد اختلفوا بعد وتعادوا وضعفت النية وقلّ العدد، وأنت تأخذهم وتعمل فيهم بالحق وتنصف الوضيع من الشريف ۔ لاحظ!! ۔ فليس للشريف عندك فضل منزلة على الوضيع، فضجّت طائفة ممن معك من الحق، إذ عموا به واغتموا من العدل ۔ لاحظ!! ۔ إذ صاروا فيه ورأوا صنائع معاوية عند أهل الغناء والشرف فتاقت أنفس الناس إلى الدنيا، وقلّ من ليس للدنيا بصاحب، وأكثرهم يحتوي الحق ويشتري الباطل ويؤثر الدنيا، فإن تبذل الأموال يا أميرالمومنين يمل إليك أعناق الرجال وتصف نصيحتهم لك ويستخلص ودّهم، صنع الله لك يا أميرالمؤمنين. فقال الإمام عليه السلام أما ما ذكرت من عملنا وسيرتنا بالعدل فإن الله(عز) يقول:

<مَنْ عَمِلَ صٰالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَسٰاءَ فَعَلَيْهٰا وَ مٰا رَبُّكَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ> وأنا من أكون مقصراً فيما ذكرت أخوف، وأما ما ذكرت من أن الحق ثقل عليهم ففارقونا لذلك، فقد علم الله أنهم لم يفارقونا من جور ولا لجأوا إلى عدل، ولم يلتمسوا إلا دنيا زائلة عنهم كانوا قد فارقوها، وليسئلن يوم القيامة أللدنيا أرادوا أم لله عملوا، وأما ما ذكرت من بذل الأموال واصطناع الرجال فإنه لا يسعنا أن تؤتي أحداً من الفيء أكثر من حقه.[7]

إن هذا النموذج التاريخي يؤكد أطروحة الشهيد الصدر عن (تلك الصيغ المتعددة للتناقض) فهؤلاء الذين انحازوا إلى المعسكر الأموي قد انحازوا ضد مصالحهم الطبقية والمادية لصالح مستعبديهم من رؤساء القبائل الذين حصدوا القسم الأكبر من رشاوى معاوية بن أبي سفيان، بينما لم تحصل طبقة (الخدم المستعبدين) على نصيب مماثل لما كانوا سيحصلون عليه حال بقائهم في معسكر العدل والمساواة، فلا التفسير القائم على الصراع الطبقي يصلح لسير ذلك المسلك العجيب ولا التفسير العقائدي يشفي الغليل؛ إنه سلوك بشري يقوم على تقديس الآلهة البشرية المزيّفة، وهو في نفس الوقت نموذج متكرر يقوم على إسباغ هالة زائفة من القداسة الأبوية المبهمة وحتمية الرضوخ والخنوع للظالم، الذي هو امتداد طبيعي للقدر الكوني كله ۔منطق ما زال يتحكم في الأداء السياسي لكثير من المسلمين۔ منطق قادر على اختراق أكثر الأفكار الإسلامية ثورية من خلال غلالة رقيقة من القداسة وتحويلها إلى ثقافة ثورية الشكل أموية المضمون.

لقد كان الإمام علي عليه السلام حريصاً دائماً أبداً على أن تكون التقسيمات والتصنيفات ۔التي هي في حقيقة الأمر تحليل سياسي وقراءة لمعطيات الواقع۔ قائمة على المضامين لا على العناوين. فالتقسيم العقائدي المعتمد في مدرسة أهل البيت يقسّم الناس إلى قسمين: حزب الله وحزب الشيطان.

وحزب الله من أهم صفاته موالاة أهل البيت عليهم السلام هذا هو الجانب العقائدي في المسألة، ولكنه ليس الجانب الوحيد، فالموالاة الحقيقية لابد أن تقترن بحالة من الزهد في هذه الدنيا ولذاتها الفانية وإلا فلا معنى على الإطلاق أن يدعي إنسان موالاة محمد وآل محمد بينما هو عبد حقير من عبيد الدنيا ونعيمها وملذاتها.

لا يمكن للإنسان أن يدعي أنه من حزب الله الفائزين وهو يسلك سلوكاً اجتماعياً لا يختلف عن سلوك المترفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ولنسمع لقوله عليه السلام:

طوبى لنفس أدّت إلى ربها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها وهجرت في الليل غمضها، حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسّدت كفها في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربهم شفاههم، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم <أُولٰئِكَ حِزْبُ اللّٰهِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اللّٰهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ>.

إذن فالشعارات العقائدية وحدها لا يمكنها أن تميز بين الغث والسمين، فالجماعات البشرية لا تتحرك دائماً بوحي من عقائدها مهما كان ذلك العامل قوياً وراسخاً، فربما كان هناك بُعد مصلحي وراء ذلك السلوك أو ذاك.

إذن فلا التقسيم المصلحي يكفي لتفسير حركة التاريخ، ولا التقسيم العقائدي يقدّم جواباً لكل سؤال، فكثيراً ما غلب المصلحي أو العرقي أو النفسي على العقائدي واستتر وراءه لتحقيق أهدافه، والعبرة بالأداء لا بالعناوين.

ومن هنا نأتي إلى التقسيم الذي اعتمده الشهيد الصدر رضوان الله عليه وهو تقسيم مستمد من القرآن الكريم، إنه تقسيم يعتمد على الموقف من قضية الظلم والعدل وعياً وأداء تلك المسألة الأساس التي هي نظام الكون، والتي تنعكس على العلاقة بين الإنسان والطبيعة:

  • كلما جسّدت علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان العدالة والابتعاد عن أي لون من ألوان الظلم والاستغلال من الإنسان لأخيه الإنسان، كلما وقع ذلك ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة، وتفتحت الطبيعة عن كنوزها، وأعطت المخبوء من ثرواتها، ونزلت البركات من السماء وتفجّرت الأرض بالنعمة والرخاء.[8]
  • إن علاقة الإنسان مع الطبيعة تتناسب تناسباً طردياً مع ازدهار العدالة في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان. فكلما ازدهرت العدالة في علاقات الإنسان مع أخيه الإنسان ازدهرت علاقات الإنسان مع الطبيعة، وكلما انحسرت العدالة مع الخط الأول انحسر الازدهار عن الخط الثاني، وهذه العلاقة ليست ذات محتوى غيبي فقط، ولكنها سنة من سنن التاريخ بحسب مفهوم القرآن الكريم؛ لأن مجتمع الظلم مجتمع ممزق مشتّت الفرعونية على مدى التاريخ تستهدف تمزيق طاقات المجتمع وتشتيت فئاته وبعثرة إمكاناته، بينما يعمل المثل الأعلى على توحيد البشرية.[9]

من هنا نلج إلى قراءة عملية التقسيم الفرعوني للمجتمع:

  1. الظالمون المستضعفون أو الظالمون الثانويون (أعوان الظلمة): الذين يشكّلون الحماية والسند لبقاء الفرعونية واستمرار وجودها وإطارها <وَ لَوْ تَرىٰ إِذِ الظّٰالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لاٰ أَنْتُمْ لَكُنّٰا مُؤْمِنِينَ>.
  2. الطائفه الثانية من الظالمين: الحاشية والمتملقون الذين لا يمارسون ظلماً بأيديهم بالفعل، ولكنهم دائماً وأبداً على مستوى نزوات فرعون وشهواته ورغباته يسبقونه بالقول والتحريض <وَ قٰالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسىٰ وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا في الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ قٰالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنٰاءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِسٰاءَهُمْ وَ إِنّٰا فَوْقَهُمْ قٰاهِرُونَ> إنهم يقومون بدور الإثارة، ويضربون على الوتر الحساس في قلب فرعون، ويعرفون أنه في حاجة لمثل هذا الكلام.
  3. الطائفة الثالثة في عملية التجزئة الفرعونية لمجتمع الظلم الذين عبّر عنهم الإمام بأنهم همج رعاع أتباع كل ناعق، إنهم مجرد آلات مستسلمة للظلم فاقدة للإحساس، لا تدرك حتى أنها مظلومة ولا تحسّ ظلماً في مجتمعاتها أشبه ما تكون بآلات ميكانيكية، لم يعودوا بشراً يفكرون ويتدبرون، وكلما اتسعت الرقعة التي تملأها هذه الطبقة كلما ازداد الخطر الذي يهدد المجتمع بالفناء والموت.
  4. الطائفة الرابعة هم أولئك الذين يستنكرون الظلم في أنفسهم، لكنهم يهادنونه ويسكتون عنه، فيعيشون حالة التوتر والقلق في أنفسهم، وهذه الحالة أبعد ما تكون عن حالة تسمح بالإبداع والتجديد والنمو على ساحة علاقات الإنسان بالطبيعة، هؤلاء يسمّيهم القرآن الكريم <ظٰالِمِي أَنْفُسِهِمْ> هؤلاء لم يظلمو الآخرين، إنهم يدركون واقعهم، ولكنهم كانوا مهادنين؛ ولهذا عبّر القرآن بأنهم ظلموا أنفسهم؛ ولذا هل يترقب منهم أن يساعدوا المجتمع بإبداع حقيقي في مجال علاقات الإنسان مع الطبيعة؟ الإجابة هي لا بكل تأكيد.
  5. الطائفة الخامسة هي الطائفة التي تتهرب من مسرح الحياة، تتهرب وتترهّب، وهذه الرهبانية موجودة في كل مجتمعات الظلم على مدى التاريخ <وَ رَهْبٰانِيَّةً ابْتَدَعُوهٰا> إنها موقف سلبي تجاه مسئولية خلافة الله في الأرض.
  6. الجماعة السادسة هم المستضعفون، إنها الطائفة التي يتوسم فيها الخطر حال تحركها <وَ إِذْ نَجَّيْنٰاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذٰابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِسٰاءَكُمْ وَ في ذٰلِكُمْ بَلاٰءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ>.

لقد علّمنا القرآن الكريم أن موقع أي طائفة في التركيب الفرعوني لمجتمع الظلم يتناسب تناسباً عكسياً مع موقعه بعد انحسار الظلم، وهذا معنى قوله تعالى: <وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوٰارِثِينَ> تلك الطائفة التي كانت هي منحدر التركيب يريد الله أن يجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين.

نعود إلى القضية الأمّ التي هي وجوب الجهاد الأكبر في مواجهة قوى الظلم الاجتماعي الداخلي، السبب الأساس لكل المصائب والويلات التي عانت وتعاني منها مجتمعاتنا سبب الهزائم والجرائم وأمّ المعارك، مدركين أننا لسنا بعيدين عن دائرة الخطر التي دمّرت من سبقونا، وأن الصيغ الجامدة للتحليل السياسي والاجتماعي التي تمنح البعض صكوكاً جاهزة للبراءة، وتجعل الآخرين دائماً في موقع الإدانة، لم تمنع حركة التاريخ، ولن تحول دون زوال من حكمت عليه الإرادة الإلهية بحتمية استبداله ومجيء من هو أصلح منه، إنها السنن التاريخية الحاكمة التي لا تعدلها الرغبات والأماني <لَيْسَ بِأَمٰانِيِّكُمْ وَ لاٰ أَمٰانِيِّ أَهْلِ الْكِتٰابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لاٰ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّٰهِ وَلِيّاً وَ لاٰ نَصِيراً>.[10]

ولو أن القيادات الدينية والسياسية لمجتمعاتنا وعت دروس الماضي بصورة جيدة، ولم تتجمد أمام تجارب الحاضر المتجددة لكنا بحق أمة حية متجددة، ولتقلّصت الصراعات الداخلية التي تنهك قوى الأمة، ولحل محلها تحالف داخلي كذاك الذي حل في الغرب محل الصراع الطبقي، ولكن يبدو أن الذين يذهبون لدراسة الماضي يعيشون فيه ويتجمدون عنده وتتوقف حلقات تطورهم الفكري والسياسي، وأن الذين يعيشون الحاضر يذهبون بعيداً محاولين الانسلاخ من ماضيهم.

اللهم لا ذا ولا ذاك.

[1]. المدرسة القرآنية، ص 205.

[2]. م. ن، ص 205.

[3]. م. ن، ص 206 ۔ 207.

[4]. م. ن، ص 207 ۔ 208.

[5]. م. ن، ص 211.

[6]. م. ن، ص 212 ۔ 217.

[7]. شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 180.

[8]. م. ن، ص 226.

[9]. م. ن، ص 227 ۔ 228.

[10]. النساء: 123.