محمدعلي التسخيري
مقدمة
من الظواهر الواضحة في فكر الإمام الشهيد الصدر(قده) مسألة التنظير، فالذين عرفوه وتتلمذوا عليه يواجهون هذه الظاهرة بكل وضوح أينما اتجهوا في أبعاد هذا الفكر الرحيب، فهو رحمه الله تعالى ينظّر فلسفياً وأصولياً كما ينظّر فقهياً وفكرياً، وحتى حينما يدرس التاريخ أو يحاول استعراض العلاقة بين البشرية وخالقها ومسؤولياتها يطرح مثلاً فكرة نظرية تستوعب التاريخ والإنسان وأهداف خلقته، وذلك في إطار العلاقة بين خط الخلافة وخط الشهادة.
منهج الإمام الشهيد في اكتشاف المذهب الاقتصادي الإسلامي
ويمكن تلخيص هذا المنهج بالخطوات التالية:
1. عمل على التفريق بين البحوث العلمية والبحوث المذهبية، على أساس من أن العلم يعني بما هو كائن، وأن المذهب يركّز على ما ينبغي أن يكون، ومن هنا فإن المذهب يعني بموضوع (العدالة الاجتماعية، أما العلم فهو يفسر الواقع بصورة منفصلة عنها)[1].
2. كما فرّق بين المذهب والقانون، باعتبار المذهب مجموعة من النظريات الأساسية التي تعالج مشاكل الحياة الاقتصادية، في حين يركّز القانون المدني على تفصيلات العلاقات المالية بين الأفراد وحقوقهم الشخصية والعينية؛ ولأجل ذلك يكون (من الخطأ أن يقدّم الباحث الإسلامي مجموعة من أحكام الإسلام ۔ التي هي في مستوى القانون المدني حسب مفهومه اليوم ۔ ويعرضها طبقاً للنصوص التشريعية والفقهية ۔ بوصفها مذهباً اقتصادياً إسلامياً، كما يصنع بعض الكتّاب المسلمين، ولكن تشدّ الاثنين روابط قوية باعتبارهما مندمجين في مركّب عضوي نظري واحد)[2] وعليه يكون القانون بناءً علوياً للمذهب.
3. أكد على أن العملية التي يقوم بها الباحث الإسلامي ليست عملية إيجادية تكوينية لمذهب ما، كما هو حال المنظر الوضعي، وإنما هي عملية اكتشاف لمذهب؛ ذلك أنه أمام اقتصاد منجز (تم وضعه، وهو مدعو لتمييزه بوجهه الحقيقي وتحديده بهيكله العام)، ومن هنا اختلفت خصائص العمليتين.
فالمكون ينطلق أولاً من معرفة الواقع القائم لوضع النظريات العامة للمذهب لتقوم عليها الأبنية العلوية من القوانين التفصيلية، أما المكتشف فهو يبدأ بعملية النزول من الطوابق العلوية لاكتشاف أعماقها النظرية، وقد يمكن للمكتشف لا أن يعثر على الخطوط النظرية من النصوص فحسب، بل حتى على الواقع العلمي الذي قامت عليه النظرية المذهبية (من قبيل اكتشاف موقف الإسلام من نظرية مالتوس العلمية).
4. أكد أنه لكي يتم اكتشاف المذهب لا يجدينا عرض مفردات الأحكام التفصيلية، بل يتحتّم علينا أن ندرس كل فرد باعتباره جزءاً من كل، وجانباً من صيغة عامة مترابطة، لننتهي إلى اكتشاف القاعدة العامة التي تشعّ من خلال الكل.[3]
5. وكما تساهم الأحكام في عملية الاكتشاف فإن المفاهيم تشترك أيضاً في ذلك، ونقصد بالمفهوم كل تصور إسلامي يفسر واقعاً كونياً أو اجتماعياً أو تشريعياً.
فالاعتقاد بصلة الكون بالله تعالى هو مفهوم معين عن الكون. والاعتقاد بأن المجموع البشري مرّ بمرحلة الفطرة قبل الوصول إلى مرحلة العقل هو مفهوم إسلامي عن التاريخ والمجتمع.
والاعتقاد بأن الملكية ليست حقاً ذاتياً وإنما هي عملية استخلاف للإنسان على مال هو لله تعالى يشكّل مفهوماً عن الملكية.
وهذه المفاهيم يمكنها أن تساعدنا في اكتشاف المذهب.
6. ويلزم هنا أن نلتفت إلى منطقة الفراغ عند القيام بعملية الاكتشاف المذهبي؛ ذلك أن النظام الاقتصادي يشتمل على جانبين: أحدهما مملوء بشكل منجز، والآخر متروك أمره للدولة الإسلامية، ومن هنا فقد طبّق الرسول الأكرم(ص) الجانب الأول، وملأ الجانب الثاني باعتباره ولي الأمر، ورغم أن الأوامر التي تصدر على أساس من ولاية الأمر لا تعبّر عن أحكام ثابتة إلا أنها ۔ أي أوامر الرسول العظيم(ص) في مجال ملء منطقة الفراغ ۔ تلقي أضواء كاشفة على أساليب الملء لهذه المنطقة بما ينسجم وتحقيق الأهداف الاقتصادية العليا.[4]
7. وقد ذكر المرحوم الشهيد أن الأحكام والمفاهيم لما كانت هي الباب الذي نلج فيه إلى الخطوط المذهبية، ولما كانت النصوص الدينية في الغالب لا تعطينا هذه الأحكام والمفاهيم بشكل مباشر، بل تحتاج إلى اجتهاد معقد لمعالجة تلك النصوص واكتشاف مضامينها.
وعليه فإن (الصورة التي نكوّنها عن المذهب الاقتصادي، لما كانت متوقفة على الأحكام والمفاهيم فهي انعكاس لاجتهاد معين.. وما دامت.. اجتهادية فليس من الحتم أن تكون هي الصورة الواقعية؛ لأن الخطأ في الاجتهاد ممكن. ولأجل ذلك كان من الممكن لمفكرين إسلاميين مختلفين أن يقدّموا صوراً مختلفة للمذهب الاقتصادي، تبعاً لاختلاف اجتهاداتهم، وتعتبر كل تلك الصور صوراً إسلامية للمذهب الاقتصادي؛ لأنها تعبّر عن ممارسة عملية الاجتهاد التي سمح بها الإسلام وأقرّها، وهكذا تكون الصورة إسلاميةً ما دامت نتيجةً لاجتهاد جائز شرعاً).[5]
ونلاحظ هنا أن الاجتهاد يتم في مرحلتين:
الأولى: مرحلة اكتشاف الحكم أو المفهوم من النصوص.
والثانية: في مرحلة استنباط الخط المذهبي من مجموعة من الأحكام والمفاهيم المنسجمة في نظر المكتشف في مجال الكشف عن ذلك الخط.
وقد اعتبرت هذه النقطة بالذات نقطة الضعف في عملية الاكتشاف، كما نوضّح إن شاء الله تعالى.
8. وقد تحدث الإمام الشهيد عن الأخطار التي تحفّ بعملية الاجتهاد، وخصوصاً حول تلك الأحكام التي ترتبط بالجوانب الاجتماعية من حياة الإنسان (ولأجل هذا كان خطر الذاتية على عملية اكتشاف الاقتصاد الإسلامي أشد من خطرها على عملية الاجتهاد في أحكام فردية).[6]
وذكر من الأخطار الأمور التالية:
أ۔ تبرير الواقع
ب ۔ تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه
ج ۔ اتخاذ موقف معين بصورة مسبقة تجاه النص[7]
9. ويعد من أخطر مراحل هذا المنهج الموضوع الذي عالجه المرحوم الشهيد تحت عنوان (ضرورة الذاتية أحياناً) فهو يذكر أن الاجتهاد في اكتشاف الحكم التفصيلي يتمتع بصفة شرعية وطابع إسلامي ما دام يمارس وظيفته، ويرسم الصورة ويحدّد معالمها في إطار الكتاب والسنة ووفقاً للشروط العامة التي لا يجوز اجتيازها.
ولكنه يمتد بعملية الاجتهاد هذه إلى مرحلة تكوين الفكرة العامة عن الاقتصاد الإسلامي (المذهب الإسلامي)، حيث تشكّل الأحكام والمفاهيم المستنبطة اجتهادياً كلها ذخيرة بالنسبة للاقتصاد الإسلامي، ويمكن لهذه الذخيرة أن تعطينا صوراً عديدة: كلها شرعية وكلها إسلامية، ويمكننا أن نتخير في كل مجال أقوى العناصر وأقدرها على حل مشكلات الحياة وتحقيق الأهداف العليا للإسلام، فالمكتشف يمتلك مجال اختيار ذاتي بين المعطيات، فهو حر ولكن في نطاق الاجتهادات المختلفة.
ويضيف إلى ذلك أن هذا المكتشف ۔ والمؤلف هنا مكتشف ۔ لا يتقيد بفتاوى مجتهد معين بل لا يتقيد هو بفتاواه لكي يصل إلى المطلوب.
ولتبرير هذه الحرية يذكر أن هذا الأمر هو السبيل الوحيد في بعض الحالات لاكتشاف النظرية الإسلامية والقواعد المذهبية في الاقتصاد، ولتوضيح ذلك يذكر ما يلي:
أ۔ أن المتفق عليه من الأحكام بين المسلمين بحيث لا يزال يحتفظ بموضوعه وصفته القطعية قد لا يتجاوز الـ 5% من مجموع الأحكام.
ب ۔ أن الاجتهاد عملية معقدة تواجه الشكوك من كل جانب، ومهما كانت نتيجته راجحة في نظر المجتهد فهو لا يجزم بصحتها في الواقع. ورغم ذلك فإن الإسلام قد سمح بها وحدّد للمجتهد المدى الذي يجوز له أن يعتمد فيه على الظن ضمن قواعد تذكر في علم أصول الفقه.
ج ۔ إذن فمن المعقول أن توجد لدى كل مجتهد مجموعة من الأخطاء والمخالفات لواقع التشريع الإسلامي وإن كان معذوراً فيها.
د ۔ ومن المعقول أيضاً أن يكون واقع التشريع الإسلامي موزّعاً هنا وهناك بنسب متفاوتة في آراء المجتهدين (ويختلف واقع الشريعة عن الصورة الاجتهادية التي يرسمها المجتهد).
هـ ۔ فليس إذن من الضروري أن يعكس لنا اجتهاد كل واحد من المجتهدين ۔ بما يضمّ من أحكام ۔ مذهباً اقتصادياً كاملاً وأسساً موحدة منسجمةً مع بناء تلك الأحكام وطبيعتها.
و۔ وهنا قد يختلف موقف الممارس لاكتشاف المذهب الاقتصادي عنه حين يحاول اكتشاف الحكم الشرعي التفصيلي ۔ فموقفه كمجتهد يكتشف الحكم الشرعي قد يؤدي به إلى نتيجة لا تنسجم مع غيرها من الأحكام، من حيث كشفها المنظم عن الخط المذهبي العام؛ مما يفرض عليه كفقيه نظرية اختيار مجموعة متّسقة من الأحكام وحتى لو كان بعض تلك الأحكام مما أدى إليه اجتهاد غيره من المجتهدين فهو يعمل حريته وذاتيته لحذف النتائج المتنافرة أو العناصر التي لا تنسجم مع المجموعات الأخرى، مستبدلاً إياها بعناصر أو أحكام أكثر انسجاماً.
وتتم عملية تلفيق لاجتهادات عديدة يتوفر فيها الانسجام لينطلق منها باكتشاف الرصيد النظري لها.
ز ۔ ويؤكد هنا أن أقل ما يقال في تلك المجموعة: (إنها صورة من الممكن أن تكون صادقة كل الصدق في تصوير واقع التشريع الإسلامي، وليس إمكان صدقها أبعد من إمكان صدق أي صورة أخرى من الصور الكثيرة التي يزخر بها الصعيد الفقهي الاجتهادي، وهي بعد ذلك تحمل مبرراتها الشرعية؛ لأنها تعبّر عن اجتهادات إسلامية مشروعة تدور كلها في فلك الكتاب والسنة، ولأجل ذلك يصبح بالإمكان للمجتمع الإسلامي أن يختارها في مجال التطبيق من بين الصور الاجتهادية الكثيرة للشريعة، التي يجب عليه أن يختار واحدة منها).[8]
10. ويحذّر في النهاية مما يسميه بـ(خداع الواقع التطبيقي) ويعني به أن الإسلام دخل الحيز التطبيقي خلال عشرات السنين؛ ولذا فقد تتم محاولة اكتشاف المذهب الاقتصادي من هذا الواقع، ولكنه يؤكد أن الكاشف النظري أقدر على التصوير؛ لأن الواقع التطبيقي قد لا يعكس المضمون الضخم لنص نظري، وقد يخدع التطبيق الشخصي لأمر ما قد يخدع المكتشف، فيوحي له مثلاً بوجود عناصر رأسمالية من خلال كون الأفراد في صدر الإسلام أحراراً في الاستفادة من الثروة المعدنية، ولن ندخل في تفاصيل هذا الموضوع.
هذا هو منهج الإمام الشهيد في اكتشاف المذهب الاقتصادي الإسلامي قمنا بعرضه ۔ بأمانة ۔ من خلال نقاط عشر.
ولنحاول فيما يلي الإجابة على بعض ما أثير حول هذه العملية من إشكالات ونختار منها إشكالين:
الأول: حول جدوى هذه العملية.
الثاني: حول مشروعيتها.
الإشكال الأول: جدوى هذه العملية
وقد تصور البعض من النقاد أن هذه العملية مضيعة للوقت والجهد؛ فما دمنا قد اكتشفنا الحكم الإسلامي في مختلف الموارد الاقتصادية فما الداعي لممارسة هذه العملية الثانية، وهي لا تضيف جديداً إلى تكاليف الفرد والمجتمع بل تتحدث عن الأسس النظرية لهذه الأحكام، والمفروض أن الشريعة نفسها تكلفت معرفة مجمل الواقع الاقتصادي وحقائق العالم وعلاقات الإنسان بالطبيعة وبأخيه الإنسان ۔ من حيث واقعها ۔ ثم لاحظت الصورة المذهبية وما ينبغي له من سلوك، ثم أعطتنا هذه الأحكام ضمن نظم علينا تطبيقها إذا شئنا الانسجام مع معتقداتنا وتحقيق أهداف الشريعة. فلماذا هذا التحقيق المتعب لمعرفة الأسس النظرية التي اتبعتها؟ هذا هو مجمل الإشكال.
وفي مجال الإجابة نقول:
إن التأمل في النتائج الضخمة التي تركتها هذه العملية في المجال النظري على الأقل، وملاحظة الاستقبال الواسع لهذه الدراسة الرائعة والمبتكرة والرائدة حتى عادت الجامعات الإسلامية في شتى أنحاء العالم، والبيوت الاقتصادية المتخصصة، ومختلف التحقيقات الاقتصادية الإسلامية لا تستطيع أن تستغني عنها، وحتى تلك الجامعات المصبوغة بلون معين من التعصب ضد فقه أهل البيت(ع) وفتاوى مجتهدي مدرستهم تعصباً يصل إلى حد التكفير والتنفير من كل ما يمت بصلة إليهم، راحت تدرس هذا الكتاب القيم، وتطرح مقولاته على مائدة البحث العلمي الرصين.
وراحت الأمم تعمل على ترجمته إلى لغاتها، لتنعم بالحصيلة الفكرية الضخمة التي حواها وتوصّل إليها.
كما عمل المفكّرون الغربيون على التأمل فيها لاكتشاف المعالم العامة للإسلام الأصيل. كل ذلك يدعونا لاكتشاف نقاط الخلل في هذا الإشكال.
والذي نتصوره أن هناك نتائج ضخمة يمكن الحصول عليها من خلال هذه العملية، ويمكن أن نلخّص أهمها فيما يلي:
1. إمكان المقارنة بين الإسلام وسائر المذاهب الأخرى لتحقيق الوضوح المطلوب
فإن المقارنة بين المذاهب لا تتم من خلال التركيز على الخطوط التفصيلية النوعية، ولا يبدو الفرق بوضوح إلا عندما تتم المقارنة بين الخطوط المذهبية العامة لكل منها؛ ذلك أن اجتهادات التطبيق قد تؤدي إلى اختلافات ظاهرية ويبقى الأصل المذهبي واحداً، كما أشار إلى ذلك الإمام الشهيد نفسه عندما تحدث عن (العلاقة بين المذهب والقانون) وهذا مما يؤدي حتماً إلى غموض الحدود في التطبيق وضياع الأفهام، بل وقد يؤدي إلى نوع من التلفيق بين المذاهب المتعارضة، الأمر الذي شهدناه تماماً لدى الكثير من المفكرين الذين طرحوا أفكاراً ودعوا إلى العمل بها، من قبيل فكرة (الإسلام الرأسمالي) و(الاشتراكية الإسلامية) حتى بلغ الأمر ببعضهم لتصور عدم التناقض بين الإسلام والشيوعية!! إن هذا الخلط العجيب كان ثمرة الجهل بالمعالم الرئيسية للإسلام والنظريات المذهبية له لا ريب وقد عانى العالم الإسلامي وما زال يعاني من عملية (التهجين) و(التلفيق) و(التركيب المتناقض) و(الالتقاط).
ولذلك جاءت محاولات الشهيد لعرض الواقع وتعيين الحدود العامة وفرز المواقف كأروع ما تكون، وما نظنّه أننا بحاجة إلى مواصلة هذه الطريقة لاكتشاف المعالم الإسلامية الأخرى، وتغذية الجيل الإسلامي وبالتالي تحصينه من الوقوع في عمليات الخلط الفكري لا في المجال الاقتصادي فحسب، بل في مختلف المجالات الحياتية الأخرى، كما يجب أن لا ننسى الدور الذي تلعبه هذه الدراسات في مجال بيان التفوق النظري الإسلامي على المذاهب الأخرى.
2. التأثير على عملية الاستنباط للأحكام الفرعية
ونحن نتصور أن مثل هذه العملية يمكنها أن تؤثر حتى على عملية الاستنباط المعروفة بشكل واقعي من خلال ما يلي:
أ۔ قد يتوصل المجتهد إلى قناعة خاصة بالقاعدة التي يستنبطها بهذه الطريقة ويؤمن بها على إطلاقها، من خلال كثرة الأحكام التي تكشف عنها، مما يوجد قناعة خاصة في نفسه بأن الشارع المقدس اعتمد القاعدة حين إصداره للأحكام الفرعية الكثيرة، وحينئذ تؤثر هذه القناعة على مجرى استنباطه، وتبدو آثارها في مختلف المجالات التي قد يتوقف فيها نتيجة ضعف الأدلة الخاصة.
ب ۔ وقد توجد لديه ذوقاً خاصاً يغير مواقفه حتى من عمليات الاستنباط المألوفة؛ وذلك أن الذوق الفقهي شيء غير الاستحسان المرفوض شرعاً. إنه قد يقوى سنداً وقد يقوى دلالة لم تكن لتتحقق لولا مثل هذا الذوق المستند إلى أصول شرعية مقبولة.
ولعل موقف الشهيد الصدر(قده) من روايتي محمد بن الفضيل حول (منع بيع الدين بأقل منه والعود بالقيمة الاسمية على المدين) والقبول بهما رغم ما في الاستدلال بهاتين الروايتين من بعض الثغرات ومنها جهالة (محمد بن الفضيل) هذا، إلا أنه يقول: (فإني شخصياً لا أنسجم نفسياً ولا فقهياً مع الأخذ بالرأي المعاكس، ولا أجد في نفسي وحدسي الفقهي ما يبرر لي بوضوح ترك هاتين الروايتين والأخذ برأي يناقضهما).[9]
إن الانسجام النفسي قد يكون ناجماً ۔ كما نعتقد ۔ من تأثير الخطوط المذهبية التي توصّل إليها في مجال توزيع ما بعد الإنتاج.
ومهما يكن من أمر فلا يمكن أن ننكر أثر التوصل إلى الخطوط المذهبية العامة في تكوين ذوق فقهي شخصي لدى المجتهدين يكون له دوره في نتائج عملية الاستنباط.
3. المساهمة الضخمة في عملية تطبيق الشريعة الإسلامية
وهذه الخاصية تبدو بوضوح عندما ندرك الدور الذي تلعبه النظريات في عملية التطبيق، فعندما تقوم دولة إسلامية وينهض ولي الأمر فإن عملية التطبيق تستدعي رصيداً ضخماً من النظريات الإسلامية التي تعالج أهم المشاكل الحياتية وملاحظة الخطوط الأساسية للرؤية الإسلامية، والمصلحة الإسلامية العليا للأمة مستوعبة لمختلف الدوافع والعقبات مطبّقة ذلك على المجتمع وصولاً إلى تحقيق خصائص المجتمع الإسلامي المتحرك.
ولا ريب في أن النظرية المذهبية الاقتصادية تسدّ فراغاً ضخماً في هذه المسيرة وتهديها نحو الحالة المثلى. وسوف نتحدث بمزيد من التوضيح ۔ إن شاء الله ۔ عن هذه النقطة عند الإجابة على الإشكال التالي.
وينبغي أن نشير هنا إلى أن المعترضين بهذا الإشكال لم يعد لهم وجود رغم كثرتهم عند انطراح هذه الدراسات، وهي حالة ربما تكون طبيعية بعد انطلاقها في جو لم يألفها وما زال لحد الآن بعيداً ۔ مع الأسف ۔ عن إنتاج أمثالها رغم توفّر الدوافع العملية الضخمة، ورغم الحاجة العميمة.
وقد رأينا المرحوم الإمام الشهيد نفسه يعتبر عمله مجرد صورة يمكن أن تقوم إلى جانبها صور أخرى مستنبطة من فهم آخر للتناسق بين الأحكام.
إلا أننا لم نجد لحد الآن من ينهض بتقديم هذه الصورة الأخرى، ونسأل الله (جل وعلا) أن يحقق لنا هذا الأمل؛ لتكون هذه الدراسات منبعاً فياضاً يدعم مسيرة تطبيق الأحكام الإسلامية ويحقق لنا الأمل المرجو في غد الحكم الإسلامي الشامل.
الإشكال الثاني: مشروعية هذه العملية
ولعل هذا يعدّ أهم إشكال يبدو للذهن عند ملاحظة هذه العملية المبتكرة، وقد أشرنا من قبل إلى تطبيقين للاجتهاد في مراحل هذه العملية:
التطبيق الأول: ويتم في مجال استنباط الأحكام الفرعية من مظانها الأصلية: الكتاب والسنة، وعلى أساس من علم أصول الفقه، وهو اجتهاد مشروع لا غبار عليه ويؤدي إلى حجية النتيجة المستنبطة حتى مع احتمال مخالفتها للواقع الإسلامي، وذلك بعد حصول الظن المعتبر المنتج للحجية والتي تؤدي للمعذرية ۔ عند مخالفة النتيجة للواقع الشرعي ۔ تماماً كما تعني التنجيز للأحكام على المكلف.
التطبيق الثاني: ويتم في مجال استنباط الخطوط النظرية من الأحكام والمفاهيم، وهنا يمكن الإشكال في عملية الاجتهاد هذه فيقال: إنها لا تنتج الحجية القطعية حتى ولو كانت هذه الأحكام مستنبطة من قبل المجتهد الممارس للعمليتين معاً فكيف بها تكون حجة والحال أن بعض هذه الأحكام الكاشفة لا يقبلها هذا المجتهد نفسه، وإنما اختارها من مجتهدين آخرين؛ لأنها أكثر انسجاماً مع باقي الأحكام التي أريد أن تعبّر عن خط نظري عام.
ولتوضيح الأمر يقال: إن استنباط الخط النظري يعني الوصول إلى اللازم العام عرفاً أو عقلاً لهذه الأحكام ۔ وهو الخط النظري العام ۔ ومن المعلوم أن الكثير من تلك الأحكام قد تم التوصل إليها من خلال تطبيق الأصول العملية من قبيل الاستصحاب والتخيير والاحتياط، بعد فقدان الدليل الاجتهادي عليها، ومن المسلّم به أن لوازم الأصول ليست بحجة ۔ كما يؤكد الأصوليون ۔ بل حتى لو افترضنا أن تلك الأحكام الكاشفة قد استنبطت كلها من الأمارات ۔ التي تعدّ لوازمها حجة ۔ فإن هناك شكاً حقيقياً في كون لازم الجمع بين الحكمين من الأمور المعترف بحجيتها في التصور العرفي الممضى من قبل الشارع وتكون النتيجة هي الشك في حجية اللازم، (وهو هنا هذا الخط المذهبي المستنبط) والشك في الحجية كافٍ للقطع بعدمها، كما هو تعبير الأصوليين أيضاً.
فكيف الخلاص؟
وقد قلنا إن هذا الإشكال يرد على العملية حتى لو كانت كل الأحكام مستنبطة من قبل الممارس لعملية استنباط الخطوط المذهبية، فكيف به وهو ينتقي ذاتياً الأحكام التي لا يؤمن بها هو وإنما أدت إليها اجتهادات الآخرين.
وإذا فقدت هذه الخطوط حجيتها فقدت معذّريتها ومنجّزيتها وصحة انتسابها إلى الإسلام، فكيف يمكن أن نطلق عليها صفة (النظرية الإسلامية)؟!
والجواب على هذا الإشكال يتلخص فيما يلي:
نحن نؤمن أيضاً بأن الأصول العملية لا تثبت لوازمها، كما نؤمن أن دليل الحجية لا يثبت لوازم الجمع بين الأمارتين، ونؤمن أيضاً بأن الشك في الحجية كافٍ للقطع بعدمها، ولكننا نقول إننا في مورد النظريات لا نحتاج إلى عنصر الحجية المطلوب بكل دقة في مجال الأحكام العملية الفرعية، وإنما يكفي فيها صحة الانتساب إلى الإسلام، وهذا ما نختلف فيه مع صاحب الإشكال، وهذا بالضبط ما ركّز عليه الإمام الشهيد حينما صرّح بما يلي:
(ولأجل ذلك كان من الممكن لمفكرين إسلاميين مختلفين أن يقدّموا صوراً مختلفة للمذهب الاقتصادي تبعاً لاختلاف اجتهاداتهم، وتعتبر كل تلك الصور صوراً إسلامية للمذهب الاقتصادي وكأنه يريد التأكيد على أمور:
الأول: أن كل الناتج عن عملية الاجتهاد ۔ ما دام قد تم بسماح إسلامي ۔ فهو شرعي وهو إسلامي.
الثاني: أن المجموع الإسلامي موزّع هنا وهناك بنسب متفاوتة.
الثالث: أن أقل ما يقال عن الصورة المستنبطة من مجموعة من الأحكام المنسجمة: إنها صورة من الممكن أن تكون صادقة كل الصدق في تصوير واقع التشريع الإسلامي، وليس إمكان صدقها أبعد من إمكان صدق أي صورة أخرى من الصور الكثيرة التي يزخر بها الصعيد الفقهي الاجتهادي، وهي بعد ذلك تحمل مبرراتها الشرعية؛ لأنها تعبّر عن اجتهادات إسلامية مشروعة تدور كلها في فلك الكتاب والسنة.
والحاصل: أن هذه المقدار من الاتصال بالواقع الإسلامي يحقّق لنا انتساباً عرفياً مقبولاً إلى الإسلام، ولا يمكننا والحال هذه أن ننفي هذه النسبة عنها بعد أن كان احتمال تعبيرها عن الواقع الإسلامي بمستوى احتمال أية صورة أخرى عنه.
ثم إننا إذا ضمّمنا إلى هذه النتيجة ما ذكره الشهيد الصدر(قده) نفسه من أن هذه الوسيلة هي الوسيلة الوحيدة التي يمكننا من خلالها الوصول إلى المبادئ العامة للإسلام، وهي ما نحتاجه لتنظيم حياتنا الاجتماعية وتحقيق ما ذكرناه من ضرورات وفوائد عند الحديث عن جدوى هذه المحاولات، إذا ضمّمنا ذلك أدركنا عقلاً القبول الشرعي بهذا المقدار من الانتساب، وليكن ذلك من خلال (مقدمات دليل الانسداد) الذي نقبل به في مثل هذه الموارد.
ولكن يبقى التساؤل قائماً: لنفترض أننا قبلنا النسبة الإسلامية لهذه العملية فمن أين نكتسب الحجية المطلوبة، وهي غايتنا وبها نستطيع الاعتذار إلى الله تعالى إذا خالفت هذه الصورة الواقع الإسلامي المطلوب منا تطبيقه، بل كيف نكتسب هذه الصيغة عنصر التنجيز والإلزام الاجتماعي وهو المطلوب هنا؟
وهنا نقول: إن الخلط تم بين الحكم العملي الفردي والمسيرة الاجتماعية الحكومية، فإذا كنا نحتاج في مجال اجتهاد المرحلة الأولى إلى الحجية الملازمة للقطع بالحكم المستنبط أو بحجية محصول الظن المعتبر، فإننا لسنا بحاجة لمثل هذه الحجية هنا؛ ذلك أن الذي يمنح هذه الخطوط المذهبية صفة الإلزام والتعذير هو حكم ولي الأمر بها وجعلها سياسة عامة تمشي البلاد على ضوئها، والحكم الولائي ملزم ومعذر بلا ريب بمقتضى قوله تعالى: <أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ>[10].
ومن المعلوم أن ولي الأمر ۔ وعلى ضوء من إلزامه بعنصر الشورى وملاحظته للأضوية الكاشفة التي قدّمها الشرع الشريف له، وكذلك ملاحظته لمصالح الأمة العليا ۔ يمكنه أن يصدر أوامره باعتماد الخطوط الأساسية الأفضل لتحقيق تلك المصلحة حتى لو لم يتوصل هو شخصياً لحجية كل الأحكام الكاشفة، بل يستطيع أن يلزم الأمة بحكم شرعي مستنبط على أساس شرعي من قبل غيره، كما أنه يستطيع أن يلزم الأمة كلها بالعمل بفتاواه بعد تحويلها إلى أحكام حكومية وعلى باقي المجتهدين العمل الاجتماعي وفقها تحقيقاً لوحدة المسيرة الاجتماعية وعملاً بمقتضيات طاعة ولي الأمر. وحينئذ فإذا رأى هذا الولي العمل بهذه الخطوط أصدر أوامره، باعتمادها ومنحها الحجية اللازمة وتحقّق المطلوب.
وفي الختام نسأل الله (جل وعلا) أن يوفقنا لتطبيق أحكام الله تعالى في الأرض واستدامة الطريق الذي سلكه أستاذنا الإمام الشهيد، ويقرّ عيونه بتحقيق أهدافه العليا.
[1]. اقتصادنا، طبع مكتب الإعلام الإسلامي، ص362.
[2]. م. ن، ص365۔366.
[3]. م. ن، ص376.
[4]. م. ن، ص380.
[5]. م. ن، ص383.
[6]. م. ن، ص384.
[7]. م. ن.
[8]. م. ن، ص401.
[9]. البنك اللاربوي، طبعة الكويت، ص160.
[10]. النساء: 59.