دراسة في المضمون والمنهج
عبد الحليم الزهيري
تمهيد
للخطاب أهمية خاصة في عالم المعرفة والفكر فهو يشكّل أحد الدعائم الأساسية في الحقل المعرفي سواء انعكس ذلك بشكل مباشر في تناول موضوع الخطاب أو من خلال وضع المناهج وأساليب البحث والخطابة وفن الإلقاء أو ما شابه ذلك.
ولعل فشل بعض الأفكار يعود في حقيقته إلى عدم القدرة على توصيل المراد إلى الجمهور لعدم اكتمال أسباب نجاح خطابها، إذ لا يشكّل خطابها الناقص هذا الوعاء المناسب القادر على توضيح المقصود أو لأنه لا يتقيد بمستوى المتلقي فيأتي غريباً على واقعه – تقدماً أو تراجعاً ۔ وهو ما يختص بمنهجية الخطاب.
وهناك الكثير من المصلحين أو الحركات التي فشلت في تحقيق دورها نتيجة لأنها كانت متقدمة في الطرح على الواقع الذي عاصرته.
ومصطلح (الخطاب) استعمل مؤخراً في أسلوب الكتابة أو المحادثة ولم يقتصر على معناه اللغوي الخاص فقد عرّف الخطاب في الكتب الحديثة ۔ كما جاء في موسوعة كشاف مصطلحات الفنون والعلوم ۔ بأنه:
بالكسر وتخفيف الطاء المهملة على ما في المنتخب وهو ۔ بحسب أصل اللغة ۔ توجيه الكلام نحو الغير للإفهام. وقد يعبّر عنه بما يقع به التخاطب، قال في الأحكام: الخطاب اللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه. فاحترز باللفظ عن الحركات والإشارات المفهمة بالمواضعة، وبالمتواضَع عليه عن الأقوال المهملة. وبالمقصود به الإفهام: عن كلام لم يقصد به إفهام المستمع؛ فإنه لا يسمّى خطاباً وبقوله لمن هو متهيئ لفهمه عن الخطاب لمن لا يفهم كالنائم، والظاهر عدم اعتبار القيد الأخير ولهذا لا يُلام الشخص عن خطابه لمن لا يفهم.[1]
ومن هذا النص نفهم ضرورة وأهمية الخطاب وأسلوبه عند الباحث أو الخطيب أو القائد أو العبقري، فقد يكون الشخص عبقرياً ولكنه لا يستطيع التعبير عن أفكاره وعواطفه ونحن نلاحظ أن كثيراً من الذين أسهموا في بناء الثقافة الإنسانية إنما هو من خلال ما تركوه من آثار علمية من خلال خطابهم الناجح أو أعمالهم الكبيرة (و هذه الشخصيات التاريخية البارزة تصوغ التاريخ بإحدى طريقتين رئيسيتين. فمن ناحية هناك المبدعون الذين قدّموا إسهامات خالدة للثقافة الإنسانية سواءً كانوا علماء أو فلاسفة أو كتاباً أو مؤلفين.. فالمبدعون الذين هم من مصاف أنشتاين وسارتر وجويس وسترافنسكي وبيكاسو قد تركوا تأثيراً دائماً على أفكار لا حصر لها من الرجال والنساء وأحاسيسهم.
أما من الناحية الأخرى فإن هناك القادة الذين يغيّرون العالم بأعمالهم الكبيرة وليس من خلال أفكارهم أو تعبيرهم عن عواطفهم، فالقادة الذين هم من وزن هتلر وستالين و.. قد تركوا علامة دائمة على المسار الذي أخذه التاريخ وهؤلاء المبدعون والقادة هم من تصبح سيرهم بمثابة كتب للتاريخ).[2]
إن هذا النص يقسّم لنا الشخصيات التاريخية التي يراها صالحة لأن تكون سيرتها كتب تاريخ إلى قسمين:
الأول: المبدعون على مستوى الفكر.
الثاني: المبدعون على مستوى العمل.
إن هذا التقسيم يثير أمامنا مسألة تحليل الخطاب إلى عناصر عديدة تتوزع على مختلف جوانب الحياة ولكنها تلتقي في النهاية بمحور الخطاب الذي استطاع أن يؤثّر في الساحة سواء في الفكر أو العمل ولكن النقطة التي تحتاج إلى توضيح هنا هي أن المبدع على مستوى العمل كان له خطابه الخاص لدائرة تحركه فأثّر فيها وأحدث النقلة التي يروم إليها حسب منهجه، وذلك من خلال مفردات عملية متعددة شكّلت بمجموعها خطابية معينة اتسم بها المبدع. أما لمبدع على مستوى الفكر فإنه امتلك المنهجية الفكرية والأسوب العلمي.
وعلى هذا فإن المبدع في مجالي الفكر والعمل يعدّ مبدعاً استثنائياً، بل يمكن اعتباره نمطاً ثالثاً من المبدعين باعتبار أن تحقيق التوازن الإبداعي في مجالي الفكر والعمل لا يعني التطبيق الميداني للنظرية، إنما يعني تحقيق إنجازات إبداعية في مجال مستقل هو الفكر أو العمل، أي أن شخصية هذا المبدع تختزن في داخلها مبدعين اثنين سارا في خط متوازن في طريق التأثير دون أن يؤثّر أحدهما على الآخر ودون أن تستفرغ مهام أحد المجالين عطاءات المجال الثاني.
وهذا القسم أو النمط الثالث لم يتحدث عنه هذا النص ولم يشر إليه لصعوبة أو ندرة اجتماعية حتى بني العباقرة والمبدعين، بينما نجد الشهيد الصدر قدس سره يمثّل هذا النمط من خلال ما تركه من أعمال كبيرة سواءً على مستوى الفكر من خلال خطابه المتميز أو على مستوى العمل من خلال السلوك والسيرة وحتى الاستشهاد.
مسؤولية الخطاب
لم يكن النتاج الفكري عند الشهيد الصدر عملاً مهنياً أو وظيفياً وإنما كان يسير وفق منهج وهدف وكثيراً ما يعرّف لنا المنهج في مقدمة كتبه فكأنه يضع القارئ أمامه ثم يصوغ خطابه على هذا الأساس حسب الأهمية أو الهدف الذي يقصده.
إن المنهج عنده كان تابعاً إلى الهدف الذي يريده فالكلمة التي يكتبها أو يطلقها تنطلق – كما يرى ۔ من الهدف لكي تنسجم في رسم الصورة الكاملة للنظرية، فالعطاء هو نتاج المنطلق، فهو يوضّح هذا ۔ من خلال تعقيبه على الآية الكريمة <وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَىٰ مَا في قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ في الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ>[3] ۔ بقوله:
يريد أن يقول بأن الإنسان إذا لم ينفذ بعملية التغيير إلى قلبه إلى أعماق روحه إذا لم يبن نفسه بناءً صالحاً لا يمكنه أبداً أن يطرح الكلمات الصالحة، الكلمات الصالحة إنما يمكن أن تتحول إلى بناء صالح في المجتمع إذا انبعث عن قلب يعمر بتلك القيم التي تدل عليها تلك الكلمات وإلا فتبقى مجرد ألفاظ جوفاء دون أن يكون لها مضمون ومحتوى، فمسألة القلب هي التي تعطي للكلمات معناها، للشعارات أبعادها ولعملية البناء الخارجي أهدافها ومسارها.[4]
و هكذا يضعنا السيد الصدر أمام قضية جديدة للخطاب فهو لا يكتفي بالمضمون اللغوي والمعنى الفكري للكلمات مجردة من معنى الأخلاقية الروحية التي يتسم بها الخطاب فهو يعطي بعداً جديداً للخطاب ويفتح آفاقاً واسعة أمام المتلقي ليشعره أمام كلمات لها دلالات وتحمل روحاً قبل أن تحمل إليه فكراً وتجد لهذا المنهج مفردات ومصاديق كثيرة في كتابات ومؤلفات السيد الصدر فتجده يقول:
وكان لابد للإسلام أن يقول كلمته في معترك هذا الصراع المرير وكان لابد أن تكون الكلمة قوية عميقة صريحة واضحة كاملة شاملة للكون والحياة والإنسان والمجتمع والدولة والنظام ليتاح للأمة أن تعلن كلمة الله في المعترك وتنادي بها وتدعو العالم إليها كما فعلت في فجر تاريخها العظيم.[5]
إن الكلمة عنده صراع ودعوة ومعترك وليس مجرد فكرة ولكي لا نفارق هذه النظرية عند الشهيد نستعين بنص آخر ففي مقدمة كتاب المدرسة الإسلامية يذكر ثلاث خصائص للكتاب وتتلخص فيما يلي:
1۔ إن الغرض المباشر من المدرسة الإسلامية الإقناع أكثر من الإبداع.
2۔ لا تتقيد (المدرسة الإسلامية) بالصيغة البرهانية للفكرة دائماً فالطابع البرهاني فيها أقل بروزاً منه في أفكار فلسفتنا وأشقائها وفقاً لدرجة السهولة والتبسيط المتوخاة في الحلقات المدرسية.
3۔ تعالج المدرسة الإسلامية نطاقاً فكرياً أوسع من المجال الفكري الذي تباشره فلسفتنا وأشقاؤها…)[6]
مسؤولية الكلمة هي التي تجعلها قوية عميقة برهانية كما في فلسفتنا وهي أيضاً التي تجعلها أقرب إلى الإقناع منه إلى الإبداع في المدرسة الإسلامية وهي في كلا الحالتين خارجة من القلب وصادقة لأنها هادفة وتريد أن تبني المجتمع وهذا الشرط يجعله الصدر أساساً في خطابه.
تنوع الخطاب
يمثّل التنوع في الخطاب فناً بحد ذاته لأنه يكسب مرونة واسعة في التحرك، لكن التنوع ما لم يخضع لضوابط منهجية محددة فإنه قد يتحول إلى اضطراب يخلّ بالمشروع الفكري، كما يؤخذ ذلك على بعض الكتّاب.
إن المرونة يجب أن تكون في الأسلوب الخطابي وليس في المرتكزات النظرية فالخطاب قد يخضع إلى أعراف تحول دون حركته في التصرف في اللغة أو حريته في المنهج مع ضرورة الاحتفاظ بالمحتوى لأنه لابد أن يكون واحداً حتى وإن اختلف الأسلوب والبيان لغرض الإقناع.
السيد الشهيد كان يتميز بتنوع الخطاب باعتبارين:
الأول: موضوعات البحث.
الثاني: متلقّي الخطاب.
إن هذين العاملان يفرضان لغة معينة من حيث درجة العمق أو من حيث التبسيط فهو يقول:
وواضح لدي وأنا ألاحظ بحوث هذا الكتاب أن المنهج بحاجة إلى تطوير أساسي يعطي للبحث الفقهي أبعاده الكاملة، كما أن عبارة الكتاب بحكم أنها لم تعد لغرض التأليف وإنما تمت صياغتها وفق متطلبات الموقف التدريسي تتسم بقدر كبير من استهداف التوضيح والتوسع في الشرح وبهذا فقدت جانب الاختزال والتركيز اللفظي الذي يميّز الكتاب الفقهي عادةً وهذه النقاط إن كان لابد من الاعتراف بها فالمبرر لها هو أن الكتاب يمثل ۔ كما ذكرنا ۔ ممارسة تدريسية قد خضعت لنفس الأعراف المتبعة في مجال التدريس السائر من ناحية المنهج ولغة البحث والتوسع في الشرح والتوضيح واتجهت إلى تعميق المحتوى والمضمون كما أتيح لها ذلك تاركة تطوير المنهج ولغة البحث إلى حين تتوفر الظروف الموضوعية التي يتطلبها ذلك، وحافظت على نفس العبارة التي استعملت خلال تلك الممارسة عن طريق تسجيلها مع شيء من التغيير والتهذيب ولئن فات هذا الكتاب أن يبرز بالعبائر المضغوطة التي تستوعب المعنى بأصغر حجم لفظي ممكن، فقد استطاع أن يوفّر بدلاً من ذلك درجة كافية من الوضوح لما عبّر عنه من أنظار ومبان.[7]
إن هذا النص سجّل لنا عدة نقاط في التفريق بين أنواع الخطاب فالتدريس يختلف عن التأليف ولغة البحث تفرض نفسها في الموضوع فلابد للخطاب أن يتنوع تبعاً لموضوع البحث من جهة أو لطبيعة المتلقى من جهة أخرى وفي كلا الحالين يكون المخاطب هو المقصود لأنه الهدف عند الشهيد وهو المعني بالخطاب.
الصفات الذاتية للخطاب
أي خطاب لابد أن يتميز بصفات من حيث مادته ومحتواه مع قطع النظر عن البيان وأسلوب الطرح فقد يكون الخطاب بليغاً ولكنه خاو من الناحية البرهانية والعلمية، فمثلاً لو أخذنا صفة العلمية نجدها تتعلق بمضمون الخطاب لا بأسلوبه وبلاغته لذا كان لابد لنا أن نذكر بعض النقاط لخطاب الشهيد الصدر في هذا القسم ومنها:
1ـ الدقة العلمية
امتاز خطاب الصدر في جميع مجالاته بالدقة وعدم السطحية (و قد ظهرت هذه السمة العلمية وهذه الخصوصية كذلك في أحاديثه الاعتيادية فعندما يتناول أي موضوع ومهما كان بسيطاً واعتيادياً يصوغه صياغة علمية ويخلع عليه نسجاً فنياً ويطبعه بطابع منطقي مستوعب لجميع الاحتمالات والشقوق، حتى يخيّل لمن يستمع إليه أنه أمام تحليل لنظرية علمية تستمد الأصالة والقوة، والمتانة من مسوغاتها وأدلتها المنطقية).[8]
إننا لا نستطيع بهذه العجالة وبهذا البحث المختصر أن نجري قراءة إلى مؤلفات الشهيد الصدر وخطاباته لإثبات هذه النقطة ولكننا قد نستشهد مجموعة من الشهادات العلمية لإثبات ذلك لعلنا نلقي ضوءً يسيراً على هذه النقطة:
ولا مرية في أنه كان بحق المنقذ من بهارج رأس المال وسفسطائيات المادية الجدلية وبلسماً واقياً من زخارف العناوين الوصولية التافهة أو التلفيقات المغالطة بالمواكبات الانتهازية الظرفية من قبيل مزاعم الاشتراكية الإسلامية وأبي ذر الاشتراكي.. فكانت سفينة فلسفتنا منجاة بقواربها المنهجية والتحليلية والفكرية والمنطقية من تلك المآزق ومتقاة من تلك التناقضات والمراوغات الدخيلة كذلك كان رسوّ اقتصادنا خير مُسعف من الارتطامات العنيفة.. وعبارات الاجتهاد اللبية في منطقة الفراغ ليتم بذلك الصرح الإسلامي المتكامل في حياة الأمة المعاصرة لها تعويضاً عن الربا باعتباره أخطر مقوّض لأركان المجتمع.. إن العلامة الصدر قدس سره هو فخر المفكرين الإسلاميين وإنه لأجرأ من تصدى بجدارة عالية لنقد الفكرالمادي المعاصر نقداً علمياً مفحماً ماله من كفء.. ولكم تبلغ عبقريته الفكرية من الروعة والعمق في تحليله النقدي الرافض لثنائية التفسير الأفلاطوني القديم للعلاقة بين الروح والجسد باعتبارها علاقة بين قائد وعربة يسوقها، و المشخص لقصور التعديلات التي أجراها أرسطو بإدخال فكرة الصورة والمادة ولإخفاق نظرية الموازنة التي جاءت من تخمينات ديكارت.. فكان بهذا التحليل البارع محرراً للفكر الإنساني من رتبة الظروف المحدقة.[9]
إن هذا النص يؤكد لنا عدم استسلام الشهيد الصدر أمام النظريات حتى لو كانت من ديكارت وأرسطو وأفلاطون وغيرهم وكان يتبنى الموضوع والنظرية بعد إقامة الدليل والشاهد والحجة على ذلك وكان (للشهيد الصدر صفة الرفض العقلي أي عدم الاستسلام لكل المسلّمات والمصادرات سواء ما كان منها منطقياً أو فقهياً أو أصولياً وهذا الرفض وليد للمنهج العلمي الذي شادته الجامعات الإسلامية التي فتحت باب الاجتهاد فهي تعلّم الباحث والمحقق على الاستقلالية الكاملة في الاختيار والاستنباط ولكن بروز هذا الرفض بالشكل الذي ظهر في حياة الشهيد الصدر العلمية ليس واضحاً في حياة الكثير من الفقهاء والعلماء والمحققين… إن المنهج الذي اعتمده السيد الشهيد والبرنامج الذي كان يسير عليه في تحقيقاته لا يوفي التساهل.. وكان السيد الشهيد دقيقاً في تطبيقة لمنهجه العلمي وكان ينتهي إلى النتائج بصورة طبيعية ومنظمة وكان يعطي للتأمل الكثير من وقته ولم تكن تؤثر عليه العوامل المعيقة)[10]
إن هذا العمق هو الذي جعل المعجبين بفكره وخطابه يصفونه بمختلف الأوصاف التي تشير كلها إلى العمق والدقة العلمية التي تميّز بها خطابه فقد ذكر أحد الكتّاب عندما تحدّث عن خصائص الخطاب الصدري عدة صفات منها (التأسيس والتنظير والتأصيل)[11]. وهذه الصفات الثلاث تصبّ في العمق؛ لأنه يؤسس نظرية وينظّر للفكرة ويؤصّلها بالدليل وهذا معنى العمق.
2ـ البرهان والوجدان
إن العمق الصدري تميز بالدليل والبرهان، فإن العمق وحده غير كافٍ ما لم تدعم الفكرة بالأدلة العلمية والحجة؛ لذا فإن الصدر عندما يطرح فكرة يملأ العقل قناعة بها من خلال البرهان والمنطق ولم يكتف بالدفاع عما يؤمن به ويعتقد بصحته حتى لو كان من الواضحات عنده ومن المسلّمات لديه؛ لأنه ليس مسلّماً وثابتاً لدى غيره أو خصمه لذلك (اتبع الصدر منهجاً استقرائياً علمياً في إثبات وجود الخالق بالرغم من أنه على يقين ثابت وقاطع بوجود الله وبعثة نبيه محمد ورسالته والقرآن، وهو أراد أن يساجل عصره بمناهجه وأحكامه ونظرياته، فاصطنع منهج العلوم الطبيعية – الاستقراء ۔ واستفاد من منهج الرياضيات ۔ الاستنباط الإكسيرماتيكي ۔ ليثبت أن ما صح في العلوم يصح بالضرورة في الدين أو في النظر الماورائى.. .
و بهذا يكون الصدر قد نجح في استنباط منهج للاستدلال والإقناع ينسجم مع روح العصر ولا يتعارض مع أسلوب الاستدلال القرآني على الصانع الخالق.. فهو لا يوفّر دليلاً اهتدى إليه العقل أو حقيقة ليسلّم بها العلم إلا واستعان بها على بلوغ هدفه). [12]
و من شدة تمسكه بالدليل والحجة فهو عندما يؤسس لبعض الأفكار تراه يركّز على الدليل إثباتاً أو نفياً كما يشير إلى ذلك السيد عمار أبو رغيف بقوله:
و ينبغي أن نفوّه بأن الموقف المعرفي الجديد الذي طرحه الشهيد الصدر ينصبّ أساساً على المعرفة في طورها التصديقي حيث تناول الدليل وليس لهذا الطرح علاقة بالمعرفة التصورية.[13]
وعلى الرغم من تميز الشهيد الصدر بإقامة الدليل والبرهان في خطابه نجد أنه لم يكتف بالبرهان ولم يقتصر على إقامة الدليل، بل يضيف إليه الوجدان كأحد وسائل الإقناع بالفكرة، ليحصل الاطمئنان الكامل بالفكرة (وفي الوقت نفسه لم يكن هذا الفكر البرهاني المنطقي يتمادى في اعتماد الصياغات والاصطلاحات الشكلية التي قد تتغير على أساسها طريقة تفكير الباحث فيبتعد عن الواقع ويتبنى نظريات يرفضها الوجدان السليم خصوصاً في البحوث ذات الملاك الوجداني والذاتي التي تحتاج إلى منهج خاص للاستدلال والإقناع فكنت تجده دوماً ينتهي من البراهين إلى النتائج الوجدانية فلا يتعارض لديه البرهان مع مدركات الوجدان الذاتي السليم في مثل هذه المسائل بل كان على العكس يصوغ البرهان لتعزيز مدركات الوجدان وكان يدرك المسألة أولاً بحسه الوجداني والذاتي ثم يصوغ في سبيل دعمها علمياً ما يمكن من البرهان والاستدلال المنطقي).[14]
ولم يقتصر خطابه التأليفي على هذا المنهج من الجمع بين البرهان والوجدان بل حتى في مجالسه الاعتيادية وإجابته على الأسئلة التي تقدّم له فهو مثلاً عندما كان يحث على ترك التدخين لم يكتف بذكر أضراره الصحية والاقتصادية وإنما كان يقول: إن الذي يحبني يجب أن يترك التدخين أو أنا كأب أطلب منكم ترك التدخين. وفي إحدى المرات جاءه أحد الشباب وهو يحمل عقدة نفسية من اسمه يطلب من السيد الشهيد أن يختار له اسماً بدلاً عن اسمه، فكان السيد يقنعه بأن يكون اسمه الجديد (محمد) بسبب ما ورد في السنة بأن خير الأسماء ما حمّد وعبّد ثم أضاف السيد الصدر بأن النبي محمداً هو أفضل إنسان على وجه الأرض ولم يكتف الصدر بذلك بل قال له بابتسامه وشفافية بأن هذا الاسم محبب لي أيضاً لأنه اسم إمامنا محمد الباقر واسمي (محمد باقر) أيضاً تأسياً باسم الإمام والنبي محمد. وهذه الحادثة التي كنت شاهداً فيها في منزله في محلة العمارة في النجف سنة 1977م تؤكد لنا منهجه في دمج الوجدان والعاطفة بالعقل والإقناع، مما يعنى أن الشهيد اعتمد منهجية الدليل والوجدان في خطابه العام بقسميه الشفاهي والكتابي.
وتبدو أهمية هذه النقطة إذا ما عرفنا أن للشفاهية خصائصها المميزة كما هو الحال للكتابية، وأن اعتماد منهج موحّد في التعامل يحتاج إلى مقدرة خطابية عالية؛ لذلك عندما يتحدث عن أدق المسائل الفلسفية فهو يقيم الدليل تلو الدليل على أن المادة لا يمكن أن تكون هي المبدأ الأول للعالم ولابد أن تبدأ الحلقة الأولى سلسلة لوجود الواجب بالذات الغني عن أي شيء وهو (الله) ينتقل السيد الصدر إلى بحث جديد في هذا المجال لإثباته بالوجدان من خلال طرح عنوان (المادة والوجدان) يتحدث فيه عن إدراك الوجدان لتلك الحقيقة؛ إذ أنه بعد أن يشبع العقل بالأدلة والبراهين يريد للإنسان أن يمتلئ قناعة واطمئناناً من خلال إثارة الوجدان عنده بالخالق الحكيم فيقول:
فالطبيعة إذن صورة فنية رائعة والعلوم الطبيعية هي الأدوات البشرية التي تكشف عن ألوان الإبداع في هذه الصورة وترفع الستار عن أسرارها الفنية تموّن الوجدان البشري العام بالدليل تلو الدليل على وجود الخالق المدبر الحكيم وعظمته وكماله وهي كلما ظفرت في شتى ميادينها بعنصر أو كشفت عن سر أمدّت الميتافيزيقية بقوة جديدة وأتحفت الإنسانية بدليل جديد على العظمة الخلاقة المبدعة التي أبدعت تلك الصورة الخالدة ونظّمتها بما يدعو إلى الدهشة والإعجاب والتقديس.
ثم يقول:
فإذا كانت البراهين الفلسفية تملأ العقل يقيناً واعتقاداً فإن المكتشفات العلمية تملأ النفس ثقة وإيماناً بالعناية الإلهية والتفسير الغيبي للأصول الأولى للوجود.
ويضيف إلى ذلك أيضاً في موضوع بعنوان (المادة وعلم النفس) قوله:
ولنلتفت بعد كل ما سقناه من دلائل الوجدان على وجود القوة الحكيمة الخلاقة إلى الفرضية حين تزعم أن الكون بما زخر به من أسرار النظام وبدائع الخلقة والتكوين وقد أوجدته علة لا تملك ذرة من الحكمة والقصد تفوق في سخفها وغرابتها آلاف المرات من يجد ديواناً ضخماً من أروع الشعر وأرقاه أو كتاباً علمياً زاخراً بالأسرار والاكتشاف فيزعم أن طفلاً كان يلعب بالقلم على الورق فاتفق أن ترتّبت الحروف فتكون منها ديوان شعر أو كتاب علم <سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا في الْآفَاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ> [15].[16]
3ـ الإبداع والتجديد
إن تعريف الإبداع وتحديد درجته محل نقاش عند علماء النفس حيث يكون كيف العطاء على حساب الكم ويضع بعض العلماء مقياساً لذلك بدراسة شخصية المبدع من خلال أبرز ما أنتجه. وقد انعقد الإيمان على ذلك فيما قام وين دنيس (1966) ببحث اشتمل على فحص الناتج الكلي للمبدعين ويقول أحد العلماء معلّقاً على ذلك (تثير هذه النتائج مسألة العلاقة الوظيفية ما بين كمّ الناتج الإبداعي وكيفه فهل تكون نسبة الأعمال الكثيرة للأعمال الصغرى في كل وحدة زمنية متزايدة أم متناقصة أم ثابتة مع تقدم المبدع في السن؟ إن كل احتمال من هذه الاحتمالات يمكن دعمه بنقاش نظري معقول).[17]
إن ميزة كمية العطاء وتنوعه مع كيفية العطاء وبملاحظة الفترة الزمنية ينفرد بها بعض المبدعين؛ إذ قد يبدع بعض المفكرين في مجال دون آخر أو في النوعية فإنه (في تاريخ الفكر الإنساني نجد مجموعة من المفكرين والمبدعين تميزوا بإنتاجهم وعطائهم الفكري منهم من تميز إنتاجه الفكري بالكم فترك للإنسانية عدداً كبيراً من المؤلفات والكتب مثل أصحاب الموسوعات التاريخية والأدبية ومنهم من اقتصد في الكتابة والتأليف واهتم بالكيف وحرص على تقديم الجديد والمفيد والمتجيّز، لكن قلة هم من استطاعوا أن يقدموا للإنسانية إنتاجاً فكرياً يتميز بالتحديد والإبداع في عدد من المجالات المعرفية التي استحوذت على اهتمامهم، ومن هؤلاء المفكرين والمجددين الذين عرفتهم حلبة الفكر الإسلامي المعاصر نجد السيد محمد باقر الصدر العبقري والفقيه المجدد الذي أنجبته الحوزة العلمية في النجف الأشرف، لقد استطاع السيد الشهيد وبشهادة جميع من أرّخوا له وكتبوا عن سيرته وفكره أن يجمع بين الكم والكيف في كتاباته وإبداعاته الفكرية فاستحق بذلك لقب عبقري النجف).[18]
ولم يكن تنوع البحوث عاملاً من عوامل التأثير على إبداعه فكان مبدعاً في كل الحقول والمجالات سواءً في علومه التي شغلت أكثر وقته كالفقه والأصول أو في المجالات الأخرى أو في أطروحاته المبتكرة مثل المرجعية الصالحة أو الأسس التي كتبها في بداية تأسيسه لحزب الدعوة الإسلامية أو مواضيعه في الأضواء (رسالتنا) فكان كل ذلك إبداعاً وتجديداً ولم يكن الإبداع والتجديد عنده منطلقاً من قدرة ذاتية فقط وإنما كان منهجاً حيث كان يرى ضرورة التجديد في النظريات ويرى أن تأصيل وتأسيس النظريات أصبح ضرورياً اليوم أكثر من قبل فهو يقول:
الصحابة الذين عاشوا زمن الرسول(ص) إذا كانوا لم يتلقوا النظريات بصيغ عامة فقد تلقوها تلقياً إجمالياً ارتكازياً.. أما حيث لا يوجد ذلك المناخ وذلك الإطار تكون الحاجة إلى دراسة نظريات القرآن والإسلام حاجة حقيقية ملحة خصوصاً مع بروز النظريات الحديثة من خلال التفاعل بين إنسان العالم الإسلامي وإنسان العالم الغربي بكل ما يملك من رصيد كبير وثقافة متنوعة في مختلف مجالات المعرفة البشرية.[19]
إن التحدي هو الذي دفع الشهيد الصدر أن يبدع في النظرية وإن حاجة الأمة هي التي جعلته يجدّد الطرح ويجعل خطابه على مستوى الصراع ليسوغ الفكر الإسلامي صياغة عصرية، ورغم أن أبحاثه كلها كانت تتحرك في دائرة النص والثابت إلا أن خطابه كان يمتاز بالإبداع من حيث الصياغة والطرح وازداد هذا الإبداع تألقاً كلما تقدم به العمر.
وما عسانا أن ندرس من إبداعات الشهيد الصدر فإن الإبداع بالمعنى الثاني ۔ الذي يراد منه الإتيان بالجديد من الأشياء ۔ قد يتمثل في حياة السيد في مرحلة من مراحل الفكر أو العمل. أما أن تظهر عملية الإبداع في المراحل الثلاث لنهضة الإسلام الحديثة فهذا هو البديع على الحياة.. إنه أمة في ثلاثة أجيال والشهيد مدرسة معاصرة في الفكر الإسلامي.. . أما تلك المقدمات التي ساهمت في صدور وتمثل عملية الإبداع فهي كالآتي:
1۔ الذكاء.
2۔ ارتفاع مستوى درجات السمات العقلية.
3۔ طبيعة التربية الإسلامية.
4۔ القدرة على الربط المنطقي.
5۔ سعة مجالات الانتباه.
6۔ درجة عالية من التبصر في مواجهة المشكلات.
7۔ القدرة على أداء الوظائف العقلية.[20]
ومما لا شك فيه أن الإبداع لابد وأن يناسب العصر؛ إذ أنه ناشئ من عبقرية المبدع ومراعاته للظروف والأحوال وانطلاقه من إمكانات عصره وقدرته على استيعاب حاجات زمانه (إن روح العصر هي التي تتحكم في العبقرية، فروح العصر تقرر كلاً من كمية النشاط الإبداعي وطابعه، والعبقري الشهير ليس أكثر من لسان حال عصره، أو هو بوتقة تنصهر فيها القضايا الاجتماعية والثقافية المتنوعة.. . وقد أعلن كارلابيل وجهة النظر هذه 1841م حين قال: إن تاريخ العالم تاريخ ما أنجزه الإنسان في هذا العالم، هو في حقيقة الأمر تاريخ الرجال العظماء الذين عملوا هنا).[21]
و قد أبدع الشهيد الصدر فيما يمكن أن نصطلح عليه بـ(الخطاب الشمولي) وهذا النمط الذي سعى إلى اعتماده العديد من المفكرين المبدعين، وحاولوا تجاوز مشكلة التفاوت الثقافي لجمهور المتلقّين من خلال خطاب واحد ينسجم مع كل المستويات، فالشهيد الصدر يقسّم الجيل المخاطب إلى عدة مستويات ولكنه أحياناً يخاطبه بخطاب واحد صالح للجميع فيما نجده أحياناً يصوغ خطابه لجيل دون آخر تبعاً للحاجة والأولوية التي يفرضها الهدف، ففي بحثه تمهيد موجز أصول الدين يقول:
غير أني حاولت أن أكون واضحاً فيما أكتب على مستوى المثقّف الاعتيادي أو الجامعي أو الحوزوي، وتجنبت مصطلحات ولغة الرياضة بقدر الإمكان وتفاديت الإثارات المعقّدة وكنت في نفس الوقت أحفظ للقارئ الأكثر تعمقاً حقه في الاستيعاب فأوجز بعض النقاط المعمقة وأحيله بعد ذلك في التوسع على كتبنا الأخرى كالأسس المنطقية للاستقراء وفي نفس الوقت مكنّا القارئ الأقل درجة أن يجد في أجزاء من هذه المقدمة زاداً فكرياً مفهوماً واستدلالاً مقنعاً.[22]
و هذا النص يرسم لنا رؤية السيد الشهيد لطريقة الخطاب ونجد ذلك صريحاً في صيغة خطابه وأسلوبه ولكنه يعتمد غالباً ۔ وهي من سمات خطابه أيضاً ۔ أن يوضح منهج الخطاب في أكثر خطاباته الكتابية ليسهل على القارئ اكتشاف المنهج.
ومن هنا نكتشف صفة جديدة يفرضها الإبداع في خطابه وهي الوضوح في الخطاب التي يتميز بها ويمكن دراسة ذلك من خلال مواصفات الخطاب البيانية التي سوف نشير إليها في البحث. إنه إذن يخاطب الجيل بلغة عصره ويخاطب المستويات بلغة واحدة وينتقد بشدة الأساليب التي لا تراعي لغة العصر وتتحدث بلغة تتناسب مع الآباء والأجداد لا مع الأبناء والأحفاد، وبذلك فهو يسجّل ملاحظتين على الرسائل العملية التي سبقته ويطرح أسلوباً جديداً في رسالته العملية (الفتاوى الواضحة):
الملاحظة الأولى: أن هذه الرسائل تخلو غالباً من المنهجية الفنية في تقسيم الأحكام وعرضها وتصنيف المسائل الفقهية على الأبواب المختلفة.. ۔ و هنا يذكر السيد الشهيد النتائج السلبية للعمل المنهجي ۔ والملاحظة الثانية: أن الرسائل العملية لم تعد تدريجياً بوصفها التاريخي المألوف كافية لأداء مهمتها بسبب تطور اللغة والحياة.. . فاللغة المستعملة تاريخياً في الرسائل العملية كانت تتفق مع ظروف الأمة السابقة إذ كان قراء الرسالة العملية مقصورين غالباً على علماء البلدان وطلبة العلوم المتفقهين؛ لأن الكثرة الكاثرة من أبناء الأمة لم تكن متعلمة وأما اليوم فقد أصبح عدد كبير من أبناء الأمة قادراً على أن يقرأ ويفهم ما يقرأ إذا كان بلغة عصره وفقاً لأساليب التعبير الحديث، فكان لابد للمجتهد المرجع أن يضع رسالته العملية للمقلدين وفقاً لذلك.[23]
ونلاحظ من خلال هذا النص أهمية الخطاب وضرورة عنصر التجديد في الخطاب لأجل مواكبة الجيل والأمة وكيف يرى أن الخلل عند الكثيرين في خطابهم لعدم إيمانهم بظروف الأمة فيما نرى أن من الضروري أن (ترتكز حركة العلوم وتطور المعارف البشرية على ظاهرة التجديد والإبداع التي يقوم بها العلماء والمحققون في حقل من حقول المعرفة وقد كان سيدنا الشهيد(قده) يتمتع بقدرة فائقة على التجديد ومحاولة تطوير ما كان يتناوله من العلوم والنظريات، سواء على صعيد المعطيات أم على مستوى في الطريقة والاستنتاج وكان من ثمار هذه الخصيصة أنه استطاع أن يفتح آفاقاً للمعرفة الإسلامية لم تكن مطروقة قبله، فكان هو رائدها الأول وفاتح أبوابها ومؤسس مناهجها وواضع معالمها وخطوطها العريضة وهذا ما ظهر في بحوثة الاقتصادية فقد عالج موضوعات ومباحث جديدة على الفقه الإسلامي واستطاع أن يكتشف المذهب الاقتصادي الإسلامي وكذلك الأمر لأطروحاته المبتكرة حول البنك الإسلامي اللاربوي، ففي هذه البحوث كان سيدنا الشهيد(قده) مبدعاً لم يسبق ومبتكراً لم ينطلق من بحوث أو دراسات منجزة من قبل في هذه المجالات كذلك الأمر بالنسبة لتطبيقاته للمنهج الموضوعي في التفسير والتاريخ.. وكذلك الأمر بالنسبة لدراسته المتميزة حول الأسس المنطقية للاستقراء، فقد استطاع سيدنا الشهيد قدس سره أن يعالج الثغرات التي كان يعاني فيها المنطق الاستقرائي وقدّم تفسيراً جديداً مخالفاً لأرسطو وبرتراندرسل سماه بالمذهب الذاتي كما استطاع أن يثبت أن الأسس المنطقية التي تقوم عليها جميع الاستدلالات العلمية المستمرة من الملاحظة والتجربة هي الأسس المنطقية نفسها التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدبر لهذا العالم، أما بالنسبة للتجديد فجميع بحوثه ومؤلفاته لا تخلو أبداً من عناصر تجديدية خصوصاً بحوثه في علمي الفقه والأصول فقد أعاد ترتيب مباحث هذين العلمين وقدّم للحوزة مناهج جديدة في علم الأصول).[24]
وهذا الخطاب التجديدي المعاصر للشهيد الصدر والإبداع النظري الذي كان يحاكي به العصركان يهدف من خلاله فتح الأسوار التي تحيط بالوضع الديني والحوزة العلمية بشكل خاص، فإن تلك الأجواء كانت تعيش الأصالة والعمق وتفتقد إلى أساليب التجديد والمعاصرة مما جعلها تعيش العزلة أو ينظر إليها البعض من أعدائها نظرة الازدراء وعدم القدرة على تقديم تصور ومنهج عام متكامل في مجال الاقتصاد أو الفلسفة أو.. لذلك فإن (السيد الصدر بمؤلفاته فتح على الحوزات أوسع باب للحداثة والمعاصرة وهو من أشد من ما تفقده هذه الحوزات ومن أكثر ما يعرقل تواصلها مع العصر ويشلّ قدرتها.. مشاركتها الحضارية على النطاقات العالمية ومع ذلك فإن هذه الحوزات قد تنكرت لتلك المؤلفات.. . ومن جهة أخرى فتلك المؤلفات كشفت أن الحوزات العلمية لم تكن غائبة عن الحداثة والمعاصرة بالمطلق وبصورة نهائية، فمن قلب تلك الحوزات وعمقها برز السيد الصدر وهو الذي لم يسافر في حياته من العراق إلا مرتين، واحدة إلى الحج والثانية لزيارة أقاربه في لبنان، وقد برهن في الوقت نفسه على إمكانية أن تكتشف الحوزة طريقها إلى الحداثة والمعاصرة وتتواصل مع العالم والعصر وتنفتح على العلوم والثقافات والمناهج).[25]
4ـ التكامل والشمول
كان خطاب الشهيد الصدر مشروعاً متكاملاً فهو لم ينطلق من حاجة آنية أو ظرف خاص أو مواصفات فرضتها كفائته ومقدرته الفائقة، وإنما كان كل ذلك ضمن رؤية وأفق عميق منطلق من نظرته الفلسفية إلى الكون والحياة، فكان خطابه وكتابه جزءً من نظرته الشاملة كما يقول في مقدمة كتابه فلسفتنا:
وليس هذا الكتاب إلا جزءً من تلك الكلمة عولجت فيه مشكلة الكون كما يجب أن تعالج في ضوء الإسلام وتتلوه الأجزاء الأخرى التي يستكمل فيها الإسلام علاجه الرائع، لمختلف مشاكل الكون والحياة.
والسيد الصدر يحدد المشكلة المركزية في العالم ويضع لها حلاً على ضوء الإسلام فهو لم ينطلق من بحث فلسفي أو علمي مجرد وإنما كان يحدد المشكلة ثم يضع الحل المناسب لها؛ لذلك كان خطابه على جميع الأصعدة متأثراً بهذه الصفة الشمولية لذلك يقول في تمهيده لكتاب (فلسفتنا):
مشكلة العالم التي تملأ فكر الإنسانية اليوم، وتمس دافقها بالصميم هي مشكلة النظام الاجتماعي التي تتلخص في محاولة إعطاء أصدق إجابة عن السؤال الآتي: ما هو النظام الذي يصلح للإنسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية؟
إن الجواب على هذا السؤال من منظور الصدر يكون من فهم نظرة الإسلام عن الكون والحياة والمجتمع؛ لذلك يقول في كتاب اقصادنا:
يؤكد الكتاب دائماً على الترابط بين أحكام الإسلام وهذا لا يعني أنها أحكام ارتباطية ضمنية بالمعنى الأصولي حتى إذا عطّل بعض تلك الأحكام سقطت سائر الأحكام الأخرى وإنما يقصد من ذلك أن الحكمة التي تستهدف من وراء تلك الأحكام لا تحقق كاملة دون أن يطبق الإسلام بوصفه كلاً لا يتجزأ.[26]
وعندما يكتب الشهيد الصدر نظرة الإسلام الاقتصادية يخصّص موضوعاً خاصاً بعنوان (الاقتصاد الإسلامي جزء من كل) يقول فيه: (كما لا يجوز أيضاً أن ندرس مجموع الاقتصاد الإسلامي بوصفه شيئاً منفصلاً وكياناً مذهبياً مستقلاً عن سائر كيانات المذهب الاجتماعية والسياسية الأخرى وعن طبيعة العلاقات.. بين تلك الكيانات.. . وإنما يجب أن نعي الاقتصاد الإسلامي ضمن الصيغة الإسلامية العامة التي تنظّم شتى نواحي الحياة في المجتمع).[27]
وانطلاقاً من هذه الرؤية لا ينطبع الاقتصاد الإسلامي بطابع الاقتصاد الماركسي الذي يحمل في رأي الماركسية طابعاً علمياً؛ لأن الإسلام لا يرى النتيجة المحتومة للقوانين الطبيعية التي تهيمن على التاريخ وتتصرف فيه؛ لأن النظرة العامة لكل مذهب تؤثّر في فهم تلك الجوانب المراد إدراكها (يشكّل كل واحد من مذاهب الاقتصاد التي عرضناها جزءً من مذهب كامل يتناول مختلف شعب الحياة ومناحيها، فالاقتصاد الإسلامي جزء من المذهب الشامل لشتى فروع الحياة، والاقتصاد الرأسمالي جزء من الديمقراطية الرأسمالية.. . كما أن الاقتصاد الماركسي جزء أيضاً من المذهب الماركسي الذي يبلور الحياة الاجتماعية كلها في إطاره الخاص).[28]
إن هذه النظرة المتكاملة والشاملة للإسلام جعلت الصدر يمتلك خطاباً مترابطاً في جميع المجالات، وإن حاجة الأمة هي التي فرضت عليه أن يطرق جميع الجوانب عنده؛ لذلك تجد خطابه متماسكاً مترابطاً منطلقاً من رؤية واضحة وشاملة لكل الجوانب دون طغيان واستغراق. إنه لا ينظر إلى الأحكام الشرعية نظرة تجزيئية بل يحاول إعطاءها الطابع النظري لينقل من (فقه النص إلى فقه النظرية) ولم يعزل حكماً عن آخر. وتحت عنوان عملية التركيب بين الأحكام يقول:
حين تتناول مجموعة من أحكام الإسلام التي تنظّم المعاملات وتحدد الحقوق والالتزامات لنجتازها إلى ما هو أعمق إلى القواعد الأساسية التي تشكّل المذهب الاقتصادي في الإسلام.. يجب أن لا نكتفي بعرض أو فحص كل واحد من تلك الأحكام بصورة منعزلة ومستقلة عن الأحكام الأخرى؛ لأن طريقة العزل أو الانفرادية في بحث كل واحد من تلك الأحكام إنما تنسجم مع بحث على مستوى القانون المدني في الأحكام الشرعية.. بل يتحتم علينا أن ننجز عملية تركيب بين تلك المفردات، أي أن ندرس كل واحد منها بوصفه جزءً من كل وجانباً من صيغة عامة مترابطة لننتهي من ذلك إلى اكتشاف القاعدة العامة التي تشعّ من خلال الكل.[29]
وهناك نقاط مضيئة أخرى في صفات خطابه التي تتعلق بالمضمون نترك الحديث فيها لمجال آخر.
دمشق ۔ سورية
[1]. موسوعة كشاف مصطلحات الفنون والعلوم، محمد علي التهانوي، ج 1، ص 749.
[2]. العبقرية والإبداع والقيادة. دين كيث سايمنتن عالم المعرفة، عدد176، الفصل الأول، الدراسة العلمية لعباقرة التاريخ، ص 13.
[3]. البقرة: 205.
[4]. المدرسة القرآنية، الشهيد الصدر، الدرس التاسع.
[5]. فلسفتنا، الشهيد الصدر، المقدمة.
[6]. المدرسة الإسلامية، الشهيد الصدر.
[7]. مقدمة بحوث في شرح العروة الوثقى، الشهيد الصدر.
[8]. مقدمة مباحث الدليل اللفظي، السيد محمود الهاشمي، ص 8.
[9]. مجلة المنهاج، العدد 17، ص 458.
[10]. الحوار السياسي، السيد حسن، العدد 28، 29.
[11]. المشروع الفكري للشهيد محمد باقر الصدر بقلم الشيخ الأسعد بن علي (بحث غير منشور).
[12]. مجلة المنهاج، الدكتور حسين سعيد، عدد 17، ص 121.
[13]. مجلة المنهاج، السيد عمار أبو رغيف، عدد 17، ص 145.
[14]. مقدمة مباحث الدليل اللفظي السيد محمود الهاشمي، ص 10.
[15]. فصلت: 53.
[16]. فلسفتنا، الشهيد الصدر، ص 359.
[17]. العبقرية والإبداع والقيادة، عالم المعرفة، العدد 176، ص 152.
[18]. مجلة المنهاج، الاستاذ محمدوكبر، العدد 17، ص 81.
[19]. المدرسة القرآنية للشهيد الصدر، المحاضرة الأولى.
[20]. مجلة الحوار الفكري والسياسي، عدد 30۔31 ص 120.
[21]. عالم المعرفة العبقرية والإبداع والقيادة، السيد حسن النوري، ص 176.
[22]. موجز أصول الدين، الشهيد الصدر.
[23]. الفتاوى الواضحة، ص 95.
[24]. مقدمة بحوث في علم الأصول، السيد الهاشمي، ص 9.
[25]. مجلة المنهاج، عدد 17، ص 39.
[26]. اقتصادنا، الشهيد الصدر، ص 24.
[27]. م. ن، ص 308.
[28]. م. ن، ص 330.
[29]. م. ن، ص 395.