محمد باقر الصدر.. المشروع الفكري؛ الفقه الاجتماعي وفقه النظرية

صائب عبد الحميد

الفكر الاجتماعي مزية كبرى في فكر الشهيد الصدر، كوَّنت الإطار العام له، وأضفت عليه صبغتها وطبعته بطابعها، فمنذ البداية كانت المشكلة الاجتماعية هي المنطلق في مناقشته الفلسفتين المعاصرتين: الديمقراطية الرأسمالية والماركسية، ليكون البعد الاجتماعي بعد ذلك الدافع الرئيس في البحث عن النظرية الإسلامية في الميادين كافة.. .

ولما كان هذا البعد متأصلاً في تفكيره فقد أخذ إطاره الشمولي في بنائه التأسيسي للنظرية الإسلامية، على مستوى الأصول والفروع، والبنى الأساسية لثقافة إسلامية شاملة وكيان إسلامي واقعي.

فعلى مستوى أصول الدين كان البعد الاجتماعي للتوحيد والنبوة والمعاد ثم العدل والإمام مبرزاً على نحو أضفى على هذه الأصول حيويةً فائقة، تكتسبها لأول مرة على مستوى علم الكلام الإسلامي.

فالتوحيد هو العنصر الذي (يحدث تغييراً نوعياً في بنية العلاقات الاجتماعية)[1] لأن التوحيد هو (سند الإنسانية في تحررها الداخلي من كل العبوديات، كما أنه سند التحرر الإنساني في كل المجالات)[2].

فالتوحيد ليس فقط يصنع إنساناً (يرفع رأسه حراً أبياً، ولا يستشعر ذل العبودية والهوان أمام أي قوة من قوى الأرض أو صنم من أصنامها)[3] بل هو إلى جانب ذلك (ينشئ في الإنسان العقل الاستدلالي أو البرهاني الذي لا يتقبل فكرة دون تمحيص، ولا يؤمن بعقيدة ما لم تحصل على برهان، ليكون هذا العقل الواعي ضماناً للحرية الفكرية، وعاصماً للإنسان من التفريط بها بدافع من تقليد أو تعصب أو خرافة)[4].

أما النبوة فهي ليست علاقة غيبية بالأرض تنتهي عند الوعظ والإرشاد، بل هي (عملية استبدال ثوري.. وتصفية نهائية للاستغلال ولكل أنواع الظلم البشري)[5].

وعلى ضوء هذا الفهم الاجتماعي تكون أصول الدين (التي تمثل على الصعيد العقائدي جوهر الإسلام والمحتوى الأساس لرسالة السماء، هي في نفس الوقت تمثل بأوجهها الاجتماعية على صعيد الثورة الاجتماعية التي قادها الأنبياء الصورة المتكاملة لأسس هذه الثورة، وترسم للمسيرة البشرية معالم خلافتها العامة على الأرض)[6].

وهكذا ينتهي التصور الاجتماعي لأصول الدين ومبادئ العقيدة إلى (أن الإسلام ثورة لا تنفصل فيها الحياة عن العقيدة، ولا ينفصل فيها الوجه الاجتماعي عن المحتوى الروحي، ومن هنا كان ثورة فريدة على مر التاريخ)[7].

وعلى مستوى الفروع يؤطر البعد الاجتماعي دائرة الفقه، ويتغلغل إلى مركزها، ليعانق الفقه الحياة، حياة المجتمع، ويتحرك معها، فقهاً حيوياً، لا يعجزه الاندفاع إلى أمام مع سيرورة الحياة، ولا يتوقف عن مواكبتها كما هو شأنه في أفقه الماضي والحاضر.

الأفق الفقهي المألوف محدود وسلبي للغاية، فهو مهيأ فقط للتراجع أمام كل واقع مستجد، وليس مهيأ لمعالجة الواقع، فإذا كان هناك ما يبرره في أدوار تاريخية سالفة، فإن كل تلك المبررات لا تصلح لأن تكون مبرراً مقبولاً لإدامة هذه الحال.

لقد ترك الدور السلبي للفقيه آثاره الكبيرة في أفق الفقه ومداه:

۔ حصل انكماش في الهدف الذي يصبو إليه الفقه، فأهملت وغابت المواضيع التي تمهد للمجال التطبيقي الاجتماعي كلها، نتيجة الانكماش في الهدف، فاتجه الفقيه إلى الفرد وحده وحاجاته الخاصة، تاركاً المجتمع وحاجاته إلى تنظيم الحياة الاجتماعية.. .

۔ لقد طال الزمن على هذا المنهج الارتدادي فترسخ في الذهن على أنه غاية الشريعة ومداها، تسربت الفردية إلى نظرة الفقيه نحو الشريعة نفسها، فأصبح ينظر إلى الشريعة في نطاق الفرد، وكأن الشريعة ذاتها كانت تعمل في حدود الهدف المنكمش الذي يعمل له الفقيه فحسب! [8]

ومن النتائج السيئة لهذه النظرة (قيام اتجاه عام في الذهنية الفقهية يحاول دائماً حل مشكلة الفرد المسلم عن طريق تبرير الواقع وتطبيق الشريعة عليه بشكل من الأشكال.

فنظام الصيرفة القائم على أساس الربا مثلاً، بوصفه جزءاً من الواقع الاجتماعي المعاش، يجعل الفقيه يحس بأن الفرد المسلم يعاني مشكلة تحديد موقفه من التعامل مع مصارف الربا، ويتجه البحث عندئذٍ لحل مشكلة الفرد المسلم عن طريق تقديم تفسير مشروع للواقع المعاش، بدلاً من الإحساس بأن نظام الصيرفة الربوي يعتبر مشكلة في حياة الجماعة ككل حتى بعد أن يقدم التفسير المشروع للواقع المعاش من زاوية الفرد.

وليس ذلك إلا لأن ذهن الفقيه في عملية الاستنباط قد استحضر صورة الفرد والمشكلة بالقدر الذي يرتبط به بما هو فرد)[9].

فالمشكلة تبرز بنحو أكبر في عجز الإسلام، وفق هذه النظرية، عن تقديم أطروحته في حل هذه المشكلة الاجتماعية أو تلك، وإنما تبقى الحلول تنتقل بتنقل مشكلات الأفراد وتنوعها.

وعلى هذا الصعيد بوجه خاص لا يقف الشهيد عند الإثارات، بل يتجاوزها إلى وضع أطروحة متكاملة في مشروع (البنك اللاربوي في الإسلام) مثبتاً أن العجز إنما هو في الفقه المألوف في إطاره المنكمش، وليس في الإسلام كمنهج للحياة.

وهو في أطروحته ليس بالرجل الذي ينسج نظرية تجريدية معلقة في الهواء، بل هو يعي تماماً ما يصنع، فيؤسس لهذا المشروع على (أن يكون قادراً على الحركة والنجاح في ضمن إطار الواقع المعاش، بوصفه مؤسسة تجارية تتوخى الربح).

وعلى (أن تمكنه صيغته الإسلامية من النجاح بوصفه بنكاً، ومن ممارسة الدور الذي تتطلبه الحياة الاقتصادية والصناعية والتجارية من البنوك، وما تتطلبه ظروف الاقتصاد النامي والصناعة الناشئة من ضرورة التدعيم والتطور).

فيجعل هذين الشرطين اثنين من أسس ثلاثة يقوم عليها هذا المشروع، بعد الأساس الأول، وهو: (أن لا يخالف أحكم الشريعة)[10].

ولم تنحصر إشكالية الانكماش الفقهي في ترسيخ الفردية للفقه والشريعة كلها وحسب، وإنما انعكست مرة أخرى في ظاهرة أكثر خطورة على صورة الفقه نفسه، وأكثر سلبية تجاه الشريعة التي جاءت لتنظيم الحياة الاجتماعية بأسرها.

ذلك هو خطر (الذاتية) على الفقه، الذي سيكون على مستوى الدائرة الاجتماعية الواسعة أكبر منه خطراً على مستوى الأحكام الفردية.

ومن أبرز مظاهر (الذاتية) في الفقه:

1. الاندفاع بقصد أو بدون قصد، إلى إيجاد سبل لفهم النصوص فهماً خاصاً يبرر الواقع الفاسد الذي يعيشه الممارس لعملية الاستنباط.

2. محاولة دمج النص في إطار خاص، قد يكون منبثقاً عن الواقع المعاش وقد لا يكون، فتأتي المحاولة هنا لفهم النص ضمن ذلك الإطار المعين، فإذا وجد النص لا ينسجم مع هذا الإطار أهمله.

3. عملية تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه، دون مبرر موضوعي، وهذه المحاولة كثيراً ما ترتكب في نوع خاص من الأدلة الشرعية، وهو (التقرير) أي سكوت النبي أو الإمام عن عمل معين يقع على مرأى منه ومسمع سكوتاً يكشف عن سماحه به، كاشفاً عن جوازه في الإسلام.

4. اتخاذ موقف مسبق تجاه النص، موقف منطلق دائماً من الموقف النفسي الذي تفترضه ذاتية الممارس لعملية الفهم والاستنباط، لا موضوعية البحث، وهذا خطر لا يقتصر تأثيره على إفخاء بعض معالم التشريع، بل قد يؤدي أحياناً إلى التضليل في فهم النص الشرعي[11].

هذه المخاطر قد تتسرب إلى عملية الاجتهاد في تفسير النص، من أجل اكتشاف الأحكام أو المفاهيم.

وعلى هذا الضوء يصبح من المعقول ومن المحتمل أن توجد لدى كل مجتهد مجموعة من الأخطاء والمخالفات لواقع التشريع الإسلامي وإن كان معذوراً فيها، ويصبح من المعقول أيضاً أن يكون واقع التشريع الإسلامي في مجموعة من المسائل التي يعالجها موزّعاً هنا وهناك بنسب متفاوتة في آراء المجتهدين، فيكون هذا المجتهد على خطأ في مسألة وصواب في أخرى، ويكون الآخر على العكس.

ولهذا يجب أن نفرق بين واقع التشريع الإسلامي كما جاء به النبي(ص) وبين الصورة الاجتهادية كما يرسمها مجتهد معين خلال ممارسة للنصوص[12].

الفهم الاجتماعي للنص

من هنا يبدأ الحل، وتبدأ انطلاقة الإسلام من أسار النظرة الفقهية المنكمشة.

ويراد بالفهم الاجتماعي للنص:

فهم النص على ضوء ارتكاز عام يشترك فيه الأفراد نتيجة لخبرة عامة وذوق موحد، هو لذلك يختلف عن الفهم اللفظي واللغوي للنص الذي يعني تحديد الدلالات الوضعية والسياقية للكلام[13].

وهذا لا يختلف من حيث المفهوم عن أسلوب الاستدلال المتفَق عليه لدى الفقهاء تحت عنوان (مناسبات الحكم والموضوع). فهذا الإصطلاح الأخير هو أيضاً تعبير آخر عن ذهنية موحدة وارتكاز تشريعى عام، يحكم الفقيه على ضوءه بأنه الشيء الذي يناسب أن يكون موضوعاً للحكم المنصوص عليه هو أوسع نطاقاً من الأشياء المنصوص عليها في الصيغة اللفظية (وهذا هو ما نعنيه بالفهم الاجتماعي للنص).

ولكن الاختلاف سيأتي عندما يمارس الفهم الاجتماعي للنص دوره في التطبيقات على مستوى القضية الاجتماعية والنظرية الاجتماعية وراء حدود الأحكام الفردية.

إذن فالفهم الاجتماعي للنص يبدأ من حيث ينتهي دور الفهم اللفظي واللغوي، ليقرأ في الخطوة الثانية من خلال الارتكاز الاجتماعي، ليعطي ثمرات جديدة لم تكن تبدو على مستوى حدود الفهم اللغوي الأولي.

أما المبررات للاعتماد على الارتكاز الاجتماعي في فهم النص، فهو نفس مبدأ حجية الظهور، لأن هذا الارتكاز يكسب النص ظهوراً في المعنى الذي يتفق معه، وهذا الظهور حجة لدى العقلاء كالظهور اللغوي.

ولابد من التمييز، والمائز دقيق، بين هذا الأسلوب وبين القياس، فهما وإن كانا يشتركان في تعميم الحكم، إلا أن هنا ليس من قبيل قياس غير المنصوص على المنصوص، بل راجع إلى الاستناد إلى ظهور عام – ارتكاز – يشكل قرينة على أن ما ذكر في النص إنما جاء على سبيل المثال لا الحصر، أو لأسباب رافقته فجعلته موضوعاً للحكم، وعلى هذا يكون الدليل نفسه ظاهراً في الحكم العام، أو الحكم على مفردات أخرى تحمل في ظرف ما نفس تلك الخصوصيات والأسباب التي جعلت المثال السابق محلاً للنص[14].

هذا الفهم الاجتماعي للنص سوف يتعاضد عند السيد الشهيد مع المبدأ الثاني الذي يؤسس له نظرياً لأول مرة على مستوى الفقه الشيعي، وإن كانت ملامحه قد تكون موجودة على نطاق ضيق، وفي مديات محدودة جداً، ذلك هو مبدأ:

(روح الشريعة)

ففي الشريعة أحكام منصوصة، في الكتاب والسنة، تتجه كلها نحو هدف مشترك، على نحو يبدو منه اهتمام الشارع بتحقيق ذلك الهدف، فيعتبر هذا الهدف بنفسه مؤشراً ثابتاً، وقد يتطلب الحفاظ عليه وضع عناصر متحركة، تضمن بقاء الهدف، أو السير إلى ذروته الممكنة[15].

من هنا مارس المعصوم دوره لا بوصفه مبلّغاً للعناصر الثابتة عن الله تعالى، بل بوصفه حاكماً للمجتمع الإسلامي، يضع العناصر المتحركة التي يستوحيها من المؤشرات العامة للإسلام، والروح الاجتماعية والإنسانية للشريعة [16].

وعلى أساس التكامل بين هذين المبدئين: البعد الاجتماعي للنص، وروح الشريعة، سوف نقف على فقه جديد تماماً، فقه عملي حي قادر على التقدم بمشاريع الحياة نحو الأفضل دائماً، وليس على إيجاد الحلول المؤقتة لمشكلاتها المتجددة فحسب.

فقه يكون أداة بيد المجتمع، من أجل بناء حاضره ومستقبله، بدلاً من أن يكون أداة بيد الفرد، يبرر له أعماله الخاصة في ظل أوضاع عامة منحرفة، أو يكون مطية له إلى مصالحه الذاتية.

أحكام كثيرة سوف تخرج من سباتها وحدودها الضيقة، لتسير مع روح الإسلام وأهدافه العليا المنفتحة على آفاق الحياة، دون انحسار ودون توقف، أحكام سنجد كيف أنها فقدت معناها وأفرغت من محتواها حين جُردت من بعدها الاجتماعي الحقيقي وأغراضها التي اتسقت مع سائر أغراض الشريعة وأهدافها الكبري. لنلاحظ ذلك في الموضوعات الآتية:

١. الاحتكار: والمراد به كل عملية تستهدف إيجاد حالة ندرة مصطنعة للسلعة بقصد رفع ثمنها، وهي عملية يمكن ممارسته مع أي سلعة يزداد عليها الطلب، بحيث يمكن أن يحقق احتكارها ارتفاعاً في أسعارها، والشريعة الإسلامية عندما حاربت الاحتكار وذكرت بالخصوص مواداً بأعيانها، إنما كانت تريد محاربة الاحتكار نفسه؛ لأجل تحقيق التوازن الاجتماعي من ناحية، وتحريم هذا النوع من الفوائد المترتبة على عملية إيجاد ندرة مصطنعة للسلعة، ولم ينحصر هدفها فى تلك المواد لذواتها، وإنما كانت تلك المواد أمثلة فقط، خصت بالذكر لكونها المواد الرئيسة التي تحفظ توازن السوق والحياة الاجتماعية في ذلك الزمن.

فقد جاء عن النبي(ص) أنه نهى عن منع فضل الماء والكلأ، وهذا النهي تحريم مارسه الرسول الأعظم بوصفه ولي الأمر؛ نظراً إلى أن مجتمع المدينة كان بحاجة شديدة إلى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية، وإلى توفير المواد اللازمة للإنتاج توفيراً عاماً وعدم احتكارها، فألزمت الدولة على هذا الأساس الأفراد ببذل ما يفضل من مائهم وكلائهم للآخرين.

والنص الذي جاء في عهد الإمام علي(ع) لمالك الأشتر في وصف التجار: (واعلم أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحاً واحتكاراً للمنافع وتحكماً في البياعات) إنما هو تأكيد على منع الاحتكار في كل الحالات منعاً باتاً، وهذا المنع الحاسم للاحتكار يعني حرص الإسلام على شجب الأرباح التي تقوم على أثمان مصطنعة تخلقها ظروف الاحتكار الرأسمالية، وأن الربح النظيف هو الربح الذي يحصل عن طريق القيمة التبادلية الواقعية للبضاعة، وهي القيمة التي يدخل في تكوينها منفعة البضاعة ودرجة قدرتها وفقاً للعوامل الطبيعة والموضوعية، مع استبعاد دور الندرة المصطنعة التي يخلقها التجار الرأسماليون المحتكرون عن طريق التحكم في العرض والطلب[17].

هكذا توسع مفهوم الاحتكار من خلال الفهم الاجتماعي للنص، ومعرفة أهداف الشريعة ومقاصدها من الأحكام.

٢. الزكاة: الزكاة هي الأخرى يحصرها الفقه التقليدي في الأعيان التسعة التي وردت في زمان المعصوم، يوم كانت هذه الأعيان تمثل عصب الحياة، والمحرك الأساسي لها، فتعامل معها الفقه التقليدي وكأنها مرادة بأعيانها، فكأن الزكاة شُرعت لأجل الجمال والأبقار والمواشي والحنطة الشعير، ولم تُشرّع لغرض آخر!!

ولا يكتفي الشهيد في نقض هذا التصور من خلال منطلقاته في الفهم الاجتماعي، وروح الشريعة ومقاصدها، بل يعضده بالأثر أيضاً، فقد ثبت أن الإمام علياً(ع) وضع الزكاة على أموال غير تلك الأقسام التسعة، فجعل على الخيل مثلاً الزكاة (وهذا عنصر متحرك، يكشف عن أن الزكاة كنظرة إسلامية لا تختص بمال دون مال، وأن من حق ولي الأمر أن يطبّق هذه النظرية في أي مجال يراه ضرورياً)[18].

بل حتى النص الأول الذي ذكر المواد التسع يفهم منه الفقيه هذه الحركية نفسها، فالحديث يقول: (إن النبي(ص) قد أمر مناديه أن ينادي: إن الله تبارك وتعالى قد فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة، ففرض عليكم من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم ومن الحنطة والشعير والتمر والزبيب) يقول الإمام الصادق(ع): (ونادى بهم بذلك في شهر رمضان، وعفى لهم عما سوى ذلك).

يقول الشيخ الآصفي:

يظهر من هذا النص أنه قد كان لرسول الله(ص) أن يعفو عما يراه مما لا يعد من أموال التجارة، ولا يشيع تداوله في الأسواق، فيعفي الناس فيها عن الزكاة.

وقد كانت الثروات التي فرض رسول الله(ص) فيها يومئذ الزكاة من الثروات التي كان الناس يألفونها في الأسواق في التجارة، وهي التسعة المعروفة. ولا يمنع أن يتغير وضع السوق والتجارة فيما بعد، فتدخل ثروات جديدة في الأسواق، وتعمر بها الأسواق، وتجب فيها الزكاة.

من هذا الحديث الصحيح نفهم أن الثروات التسعة هي من مصاديق الثروات التي تعد من أموال التجارة التي تجب فيها الزكاة، وليست هي الموضوع المحدد للزكاة[19].

٣. الملكية: رأينا في مادة (الاحتكار) كيف تدخلت الشريعة في تحديد النص الآخر القائل بأن (الناس مسلطون على أموالهم) وهي تتدخل دائماً في تحديد حرية الفرد بالتصرف في أمواله كلما تعارض ذلك مع المصلحة العامة للمجتمع والدولة.. إن هناك قيوداً كثيرةً وضعتها الشريعة على حرية المالكين والمستثمرين؛ من أجل حفظ التوازن الاجتماعي الذي يمثل هدفها العام من هذه التشريعات.

هذا الهدف العام الذي يستنبطه الشهيد الصدر من مفهوم الاستخلاف، الذي هو استخلاف للجماعة، وليس للفرد، وحتى الفرد المالك فهو مستخلف من قبل الجماعة، فالآيات القرآنية الواردة في هذا المجال أضافت أموال الأفراد إلى الجماعة (وعلى هذا الأساس لا يمكن أن تقر أي ملكية خاصة تتعارض مع خلافة الجماعة وحقها ككل في الثروة)[20].

وما دامت الملكية الخاصة استخلافاً للفرد من قبل الجماعة، فمن الطبيعي أن يكون الفرد مسؤولاً أمام الجماعة عن تصرفاته في ماله، وانسجامها مع مسؤولياتها أمام الله تعالى ومتطلبات خلافتها العامة.. ومن الطبيعي أن يكون من حق الممثل الشرعي للجماعة أن ينتزع من الفرد ملكيته الخاصة إذا جعل منها أداةً للإضرار بالجماعة والتعدي على الآخرين، وتوقف دفع ذلك على انتزاعها، كما صنع رسول الله(ص) في قصة سمرة بن جندب…

وإلى أكثر من ذلك يذهب هذا الفقه المتحرك، في تفاصيل العمليات الاقتصادية، من أجل الحفاظ على مقاصد الشريعة وأهدافها في حفظ التوازن الاجتماعي، وتحقيق مفهوم الاستخلاف كما رسمته الشريعة:

فإن (الإحياء غير المباشر، بالطريقة الرأسمالية، أي بدفع الأجور ووسائل العمل إلى الأجراء، لا يكسب حقاً، ولا يبرر للرأسمالي الدافع للأجور أن يدعي لنفسه الحق في نتائج الإحياء وأن يقطف ثمار العمل المأجور، كما هي الحالة في المجتمع الرأسمالي)[21].

كما ترفض الشريعة إقامة الصناعات الاستخراجية على أساس رأسمالي، فهذا النوع من الإنتاج لا يكسب الرأسمالي حق ملكية السلعة (مثلاً شخص أو أشخاص يدفعون الأجور إلى العمال الذين يستخرجون النفط، ويزودونهم بالوسائل والأدوات اللازمة لذلك، فلا يعتبر النفط المستخرج ملكاً لدافعي الأجور ومالكي الأدوات)[22].

وهؤلاء الذين يودعون أموالهم عند المستثمرين لغرض الستثمار، لتعود عليهم بفوائد معلومة، فإنما تعود عليهم بالربا المحض المحرم، ذلك أن (رأس المال النقدي إذا كان مضموناً في عملية الاستثمار، فليس من حقه أن يساهم في أي ربح ينتج عن توظيفه؛ لأن الربا حرام، ومجرد تأجيل الرأسمالي لانتفاعه بماله أو حرمانه نفسه من الاستفادة المباشرة منه، لا يبرر له حقاً في الربح بدون عمل.. بل الربح في حالة من هذا القبيل كله للعامل، على الرغم من أنه قد لا يكون ملكاً للبضاعة نفسها.. .

والطريقة الوحيدة التي سمح بها الإسلام لمشاركة رأس المال النقدي في الربح، أن يتحمل صاحبه المخاطرة به، ويتحمل وحده دون العامل كل التبعات السلبية للعملية)[23].

وهكذا ينهي هذا النوع من الفقه سلطة القراءة التجزيئية للنص، القراءة التي تبتر النص عن موضوعه وعن ظروفه وعن أهداف الشريعة كلها، لتتخذ منه غطاءً تبريرياً لممارسات تعود على أصحابها بالنفع، وعلى المجتمع كله بالضرر، تماماً كما عهدنا عند الساسة اجتزاء النصوص وتوظيفها لحماية مصالحهم السلطانية.

يكشف لنا هذا الفقه الحي أن كل ما نلحظه من ممارسات استثمارية ينتج عنها تكديس الأموال عند أفراد واضمحلالها عند عموم أبناء المجتمع، إنما هي ممارسات رأسمالية يمقتها الإسلام، وإن كل ما وُضع وراءها من فتاوى وتصويبات إنما هو ناتج إما عن قراءة تجزيئية ومبتسرة للنصوص، وإما عن تحايل على أحكام الشريعة، يصنعه الفقه الفردي التجزيئي وحده، وكل ذلك لا يبرر هذه الأعمال، ولا يخرج بها من دائرة الحرام والممقوت الشرعي.

فمتى يا ترى تستفيق أمتنا من نومتها؟ ليأكل أثرياؤها أموالهم بالحلال!!

الثمرة الأهم، فقه النظرية

الثمرة الثانية للفقه الاجتماعي قد تكون أكبر من الأولى، بل قد تكون الأولى تابعة لها ومستنبطة منها في كثير من الأحيان، ألا وهي استكشاف النظرية الإسلامية في المواضيع المختلفة، هذه الخطوة التي حاز الصدر فيها وسام التأسيس، كما حاز وسام التطبيق الأول في أكثر من ميدان.

كان يدرك مبكراً أن على الفكر الإسلامي أن (يتخطى فقه الأحكام، إلى فقه النظريات)[24] وهذه هي المهمة الأساسية في فقه الدين، فليس من الصحيح أن ينحصر جهد الفقيه في استنباط أحكام جزئية متناثرة، بل لابد من إدراك حقيقة أن الأحكام الجزئية المتناثرة في موضوع واحد إنما ترتبط بنظرية أساسية يتبناها الإسلام حول هذا الموضوع، فلابد إذن من اتجاه موضوعي في الفقه يتخطى فقه الأحكام الجزئية إلى اكتشاف النظرية الإسلامية في الموضوع:

لابد أن يتوغل هذا الاتجاه الموضوعي في الفقه ليصل إلى النظريات الأساسية، لا أن يكتفي بالبناءات العلوية والتشريعات التفصيلية، بل ينفذ من خلال هذه البناءات العلوية إلى النظريات الأساسية والتصورات الرئيسة التي تمثل وجهة نظر الإسلام؛ لأننا نعلم أن كل مجموعة من التشريعات في كل باب من أبواب الحياة ترتبط بمثل تلك النظريات والتصورات[25].

والمنهج في الوصول إلى النظرية الإسلامية في كل موضوع من مواضيع الحياة واضح في معالمه وتفاصيله عند رائد هذا المشروع الكبير، يستغرق في توضيحه فقرات كثيرة في العديد من أعماله، لاسيما (اقتصادنا) حيث يمارسه الممارسة الأولى في اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام، وفي هذا المنهج ركيزتان أساسيتان تضعان الباحث على بوابة مشرووع الاكتشاف، خلاصتهما:

١. إن هناك فارقاً أساسياً بين عملية خلق وتكوين النظرية، وبين عملية اكتشاف نظرية، ففي الحالة الأولى يمارس المفكر دوره مباشرةً في وضع النظريات العامة، ثم يجعل منها أساساً لبحوث ثانوية وأبنية علوية من القوانين التي ترتكز عليها.. وأما في الحالة الثانية، والتي تنحصر فيها مهمة المفكر الإسلامي، فإن العملية تكون معكوسة، فتبدأ من البناء العلوي، من القوانين والأحكام، وصولاً إلى القاعدة النظرية، فتنطلق من جمع الآثار وتنسيقها، إلى الظفر بصورة محددة للنظرية).

٢. حين نتناول مجموعة من أحكام الإسلام المندرجة تحت موضوع معين، لنجتازها إلى ما هو أعمق، إلى القواعد الأساسية التي تشكل النظرية الإسلامية، يجب أن لا نكتفي بعرض أو فحص كل واحد من تلك الأحكام بصورة منعزلة ومستقلة من الأحكام الأخرى؛ لأن طريقة العزل هذه إنما تنسجم مع بحث على مستوى القانون لمدني في أحكام الشريعة، أما إذا كان الهدف هو عملية اكتشاف النظرية أو المذهب الإسلامي فلابد أن ننجز عملية تركيب بين تلك المفردات، أي ندرس كل واحد منها بوصفه جزءاً من كل، وجانباً من صيغة عامة مترابطة، لننتهي من ذلك إلى اكتشاف القاعدة العامة التي تشع من خلال الكل، أو من خلال المركب، وتصلح لتفسيره وتبريره)[26].

وفي مسار البحث الاستكشافي محطات أساسية لابد أن يواجهها الباحث برؤية واضحة، ولعل أهمها محطتان:

الأولى: منطقة الفراغ في الشريعة.

والثانية: صلاحيات الحاكم في ملء منطقة الفراغ.

والفكرة الأساسية لمنطقة الفراغ هذه تقوم على أساس أن الإسلام لا يقدم مبادئه التشريعية في جوانب الحياة المتغيرة بوصفها علاجاً مرحلياً سيجتازه التاريخ بعد زمن يطول أو يقصر، وإنما يقدمها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور، من هنا كان لابد أن ينعكس فيها تطور العصور ضمن عنصر متحرك، يمد الصورة بقدرة على التكليف وفقاً لظروف مختلفة.

فالإسلام يرى أن علاقات الإنسان بالطبيعة أو الثروة ۔ مثلاً ۔ تتطور عبر الزمن تبعاً للمشاكل المتجددة التي يواجهها الإنسان باستمرار خلال ممارسته للطبيعة؛ ولأجل ذلك يرى الإسلام أن الصورة التشريعة التي ينظّم بها تلك العلاقات، وفقاً لتصوراته للعدالة (روح الشريعة وأهدافها ومقاصدها) قابلة للبقاء والثبات من الناحية النظرية؛ لأنها تعالج مشاكل ثابتة، فالمبدأ التشريعي القائل: (إن الحق الخاص في المصادر الطبيعية يقوم على أساس العمل) يعالج مشكلة عامة يستوي فيها عصر المحراث البسيط وعصر الآلة المعقدة، لأن طريقة توزيع مصادر الطبيعة على الأفراد مسألة قائمة في كلا العصرين.

لكن هذا لا يعني جواز إهمال الجانب المتطور، وهو علاقة الإنسان بالطبيعة؛ فإن تطور قدرة الإنسان على الطبيعة وسيطرته على ثرواتها يطور وينمي باستمرار خطر الإنسان على الجماعة، ويضع بيده باستمرار إمكانات جديدة للتوسع ولتهديد الصورة المتبناة للعدالة الاجتماعية.

فالمبدأ التشريعي القائل، مثلاً: إن من عمل في أرض وأنفق عليها جهداً حتى أحياها، فهو أحق بها من غيره. يعتبر في نظر الإسلام عادلاً، لأن من الظلم التسوية بين من عمل في أرض بجهده حتى أحياها، وبين آخر لم يعمل فيها شيئاً.

ولكن بتطور ونمو قدرة الإنسان في السيطرة على الطبيعة يصبح من الممكن استغلال هذا المبدأ على نحوٍ يتعارض مع مبادئ الإسلام في التوازن الاجتماعي وتصوراته عن العدالة، ففي عصر كان يقوم إحياء الأرض فيه على الأساليب القديمة لم يكن يتاح للفرد أن يباشر عمليات الإحياء إلا في مساحات صغيرة، وأما بعد نمو قدرة الإنسان وتوفر الوسائل الحديثة في السيطرة على الطبيعة، فيصبح بإمكانه إحياء مساحات هائلة من الأرض، الأمر الذي يزعزع العدالة الاجتماعية ومصالح الجماعة.

إذن لابد للصورة التشريعية من منطقة الفراغ أن يكون إملاؤها متطوراً بحسب الظروف، وفي ضوء أهداف الشريعة ومقاصدها، فيسمح ۔ هنا ۔ بالإحياء سماحاً عاماً في العصر الأول، ويمنع منه في العصر الثاني منعاً تكليفياً، إلا في حدود تتناسب مع أهداف الاقتصاد الإسلامي وتصوراته عن العدالة[27].

والنبي(ص) قد مارس دوره في ملء منطقة الفراغ بما كانت تتطلبه أهداف الشريعة، وعلى ضوء الظروف التي كان المجتمع الإسلامي يعيشها؛ غير أنه(ص) حين مارس دوره ذلك لم يمارسه بوصفه نبياً مبلغاً للشريعة الإلهية الثابتة في كل مكان وزمان، لتكون ممارسته الخاصة في ملء ذلك الفراغ معبرة عن صيغة تشريعية ثابتة، وإنما مارسه بوصفه ولي الأمر المكلف من قبل الشريعة بملء منطقة الفراغ وفقاً للظروف، فالتشريعات التي ملأ بها النبي(ص) منطقة الفراغ بوصفه ولي الأمر، ليست أحكاماً دائمية بطبيعتها، وإنما تكمن أهميتها في أنها تلقي الضوء إلى حد كبير على عملية ملء الفراغ التي يجب أن تمارس في كل حين وفقاً للظروف، وتيسر فهم الأهداف الأساسية التي توخاها النبي(ص) في سياسته، الأمر الذي يساعد على ملء منطقة الفراغ دائماً في ضوء تلك الأهداف.

مثال آخر على أهداف الشريعة ومنطقة الفراغ: قوله تعالى: <مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ اِبْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاٰ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيٰاءِ مِنْكُمْ>[28].

يستظهر منه: (أن التوازن وانتشار المال بصورة تشبع كل الحاجات المشروعة في المجتمع، وعدم تركزه في عدد محدود من أفراده، هدف من أهداف التشريع الإسلامي.. .

وهذا الهدف يعتبر مؤشراً ثابتاً يتصل بالعناصر المتحركة.

وعلى هذا الأساس يضع ولي الأمر كل الصيغ التشريعية الممكنة التي تحافظ على التوازن الاجتماعي في توزيع المال، وتحول دون تركزه في أيدي أفراد محدودين، وتحارب الدولة الإسلامية التركيز الرأسمالي في الإنتاج والاحتكار بمختلف أشكاله.

ومثال آخر: إن نصوص الزكاة صرحت بأن الزكاة ليست لسد حاجة الفقير الضروية فحسب، بل لإعطائه المال بالقدر الذي يلحقه بالناس في مستواه المعيشي.. وهذا معناه أن توفير مستوى معيشي موحد أو متقارب لكل أفراد المجتمع هدف إسلامي لابد للحاكم الشرعي من السعي في سبيل تحقيقه[29].

من هنا نخلص إلى أن الإسلام قد ترك مهمة ملء منطقة الفراغ إلى الدولة، أو (ولي الأمر) يملؤها وفقاً لمتطلبات الأهداف العامة للشريعة ومقتضياتها في كل زمان[30].

ومن هنا نأتي إلى حل إشكالية ثنائية (الثابت والمتغير).

ففي الشريعة إلى جانب العناصر الثابتة ۔ المنصوصة في الكتاب والسنة ۔ هناك العناصر المتحركة وهي (تلك العناصر التي تستمد ۔ على ضوء طبيعة المرحلة في كل ظرف ۔ من المؤشرات الإسلامية العامة التي تدخل في نطاق العناصر الثابتة)[31].

فالعناصر المتحركة إذن تستنبط عن طريق الانتقال من واقع إلى العناصر الثابتة، وبالعكس ففي العناصر الثابتة ما يقوم بدون المؤشرات العامة التي تعتمد كأساس لتحديد العناصر المتحركة التي تتطلبها طبيعة المرحلة، وعملية استنباط كهذه تتطلب بالضرورة:

١. (منهجاً إسلامياً واعياً للعناصر الثابتة، وإدراكاً معمقاً لمؤشراتها ودلالاتها العامة) أي معرفة معمقة بروح الشريعة وأهدافها ومقاصدها.

٢. (استيعاباً شاملاً لطبيعة المرحلة وشروطها).

٣. (فهماً فقهياً قانونياً لحدود صلاحيات الحاكم الشرعي)[32] والمساحات التي يمكنه التحرك خلالها لملء منطقة الفراغ من خلال استنباط الأحكام التي تتطلبها طبيعة المرحلة على ضوء أهداف الشريعة ودلالاتها العامة.

يدرك الشهيد الصدر جيداً أن هذه المهمة لا يستطيع أن يقوم بها الفقيه التقليدي الذي اعتاد على المنهج الفردي والنظر إلى الأحكام على النحو التجزيئي، فهي مهمة تتطلب فهماً اجتماعياً معمقاً للشريعة وأحكامها من ناحية، ومن ناحية أخرى تتطلب استيعاباً شاملاً لطبيعة المرحلة وشروطها، وكلا الأمرين يعيش الفقه التقليدي التجزيئي بعيداً عنهما.

ومن جانب آخر فإنه يدرك جيداً أن الحق في فهم الشريعة وتطبيقاتها ليس حكراً على الفقيه المختص بالمعنى التقليدي، فهناك إلى جانب الفقه معارف أساسية في عملية كهذه قد يتوفر عليها آخرون من أصحاب التخصصات الأخرى.

لذا فهو لا يغادر هذا الموضوع حتى يثبت هذه الحقيقة كشرط أكيد لتحقق مثل هذه المهمة، فيقول، وهو في معرض الحديث عن النظام الاقتصادية:

ومن هنا كان التخطيط للحياة الاقتصادية في المجتمع الإسلامي مهمة يجب أن يتعاون فيها مفكرون إسلاميون واعون، ويكونون في نفس الوقت فقهاء مبدعون، وعلماء اقتصاديون محدثون[33].

على هذه الأسس، وأسس أخرى يبثها بين أبحاثه المختلفة، يتخطى الصدر بجدارة فقه الأحكام إلى فقه النظريات.

يبتدأ هذا المشروع الكبير في اكتشاف المذهب الاقتصادي في الإسلام والنظرية الإسلامية في جزئيات العمليات الاقتصادية، فيوحد الصياغة أولاً عن مجموعة الأفكار الأساسية لهذا الاقتصاد، ثم ينتقل إلى التفاصيل لاكتشاف نظام التوزيع ونظام الإنتاج في الإسلام، بما يشتمل عليه النظامان من تفاصيل عن تقسيم الثروات الطبيعية، وتحديدات الملكية الخاصة، ومبادئ التوازن والتكافل والضمان العام، والسياسة المالية، وصلاحيات الحكومة في الحياة الاقتصادية، ودور عناصر الإنتاج من العمل ورأس المال ووسائل الإنتاج، وحق كل واحد منها في الثروة المنتجة، وغير ذلك من الجوانب المختلفة التي تشترك بمجموعها في تقديم الصورة الكاملة المحدودة عن الاقتصاد الإسلامي[34].

وبدون شك كانت هي المحاولة الأولى على مستوى الفكر الإسلامي في ترسيم معالم المذهب الاقتصادي في الإسلام، والنظرية الإسلامية في مختلف العمليات الاقتصادية.

من هنا تراه مع علمه بما تحظى به هذه الدراسة المعمقة من أهمية فائقة؛ إذ يصفها بأنها مهمة تهدف إلى (الغوص إلى أعماق الفكرة الاقتصادية في الإسلام، وصبها في قالب فكري، ليقوم على أساسها صرح شامخ للاقتصاد الإسلامي، ثري بفلسفته وأفكاره الأساسية، واضح في طابعه ومعالمه واتجاهاته العامة، محدد في علاقته وموقفه من سائر المذاهب الاقتصادية الكبري، مرتبط بالتركيب العضوي الكامل للإسلام) ۔ مع هذا تراه يصفها بأنها (محاولة بدائية) لذا (يجب أن يدرس هذا الكتاب بوصفه بذرة بدائية لذلك الصرح الإسلامي)[35]!

وهذه هي معرفة العالم الحقيقي بطبيعة البحث العلمي وتطوره، لكنه لم يكن يدري أن ثلث قرن يمضي على هذا الإنجاز الكبير، وعشرون عاماً على رحيله هو، دون أن يتقدم فقهاء الإسلام خطوة واحدة إلى الأمام على هذا الصعيد، رغم التحديات الجادة والضرورة الملحة!!

أما الفقيه العاجز عن مثل هذه المهمة فهو بطبيعة الحال لا يرتضي أن يقر بعجزه، فيذهب إلى ما يبرر له هذا العجز في نقد سلبي محض لهذا المشروع من خلال التشكيك في حجية هذه الاستنباطات، ذاهلاً عن التفكير في مدى حجية استنباطاته الفردية التجزيئية التي غفلت تماماً عن البعد الاجتماعي للأحكام، وعن أهداف الشريعة الكامنة وراء أحكامها!

إن كل ما يثار من هذا النوع من الاعتراضات إنما هو نابع من تلك الذهنية الفقهية التي تركزت فيها الفردية، ومن قبل ناقشها السيد الشهيد بعمق وكشف عن جذورها وأبعادها وانعكاساتها على الفقه، هذه الذهنية التي تجد في مجرد الإشارة إلى تخطي فقه الأحكام إلى فقه النظرية استفزازاً كبيراً لها، يرمي بها وراء دائرة الفقه الحي المتحرك مع أهداف الشريعة ومتطلبات الحياة، وهم على أي حال موجودون على قيد الحياة، يحتلون مواقعهم من خلال ذلك النمط من الفقه وحده، فكيف يمكن لهم السكوت أمام خطر جديد يهمش وجودهم وأدوارهم في الحياة؟!

أما الآخرون الذين وجهوا انتقاداتهم لهذا المشروع بدوافع ذاتية وطائفية[36] فهم أكثر بعداً عن العلمية والموضوعية، وأجدر أن يعرفوا بحجم الخطأ الذي ارتكبوه جراء نقد ينطلق من تلك الدوافع، في حين يعد كتاب (اقتصادنا) الكتاب الأكثر تجوالاً في مصادر فريقي المسلمين، سنة وشيعة، في موضوعه، فقد أورد بكل احترام، واعتمد الكثير من استنباطات فقهاء السنة الكبار، كما طوف في كتب الحديث والأثر المعتمدة لديهم في تتبع واف لما أوردته من تطبيقات تشريعية نبوية في هذا المجال.

إنهم ألفوا أن ينظروا إلى الحياة والحقائق بعين واحدة، فسيغيب عنهم بالضرورة نصف الحقيقة الآخر، إذا كانت تلك العين الواحدة قادرة على أن تبصر بدقة وشمول نصف الحقيقة الأول!

إضافة إلى ذلك فإن ما أورده هؤلاء من نقد لاستنتاجات الشهيد الصدر، قد كشف عن سطحية مفرطة في التفكير، وذهنية محلقة في الفضاء، لم تمارس الحياة ولم تقترب منها، بل لم تمارس حتى الفقه التقليدي في إطاره المحدود.

فمثلاً عندما يقول الشهيد الصدر: (إن الاقتصاد الإسلامي جزء من كل، وأنه يجب أن يدرس ضمن الصيغة الإسلامية العامة التي تنظم شتى نواحي الحياة في المجتمع) يعلق هؤلاء بأن هذه الرؤية هي (تعطيل لأحكام الإسلام الاقتصادية في انتظار حاكم أسطوري!! يتمتع بصلاحيات النبي الحاكم، أو بتعبير أقرب إلى المعقول: في انتظار تمكين الإسلام من إدارة المجتمع وفقاً لشريعة الله، وهي مقولة تحمل في إهابها الدعوة إلى الإحباط وتثبيط همم الدعاة إلى إقامة شرع الله خطوة إثر خطوة أو حكماً وراء آخر، وهو الجهد الذي تكلل في مجال الاقتصاد، مثلاً، في إنشاء البنوك الإسلامية وانتشارها ونجاحها كبديل للبنوك الربوية)[37].

هذا الرد المتحامل أولاً، والذي يقر بتحامله وتهكمه حين يتراجع إلى تعبير أقرب إلى المعقول.

والسطحي ثانياً، حين يتحدث بلغة الدعاة الخطابية، جاهلاً أو متجاهلاً الفارق بين أصل الدعوة إلى تطبيق الاقتصاد الإسلامي وبين إمكان تطبيقه بشكل متكامل، الأمر الذي لا يمكن تحققه إلا في ظل نظام يتبنى الإسلام في جوانب الحياة الاجتماعية كافة.

وهو متعسف ثالثاً، إذ يحمّل السيد الشهيد خلاف ما يريد تماماً، ويغفل عن أن مثاله الوحيد الذي يظن أنه أسعفه هنا، في إيجاد البنك اللاربوي، إنما هو الأنموذج الذي كان الصدر سباقاً إليه على المستوى الفقهي والتنظيري الشامل!

۔ وتتجلى السطحية المفرطة لدى الناقد في نقده لفكرة (منطقة الفراغ في التشريع) إذ يواجهها بعقلية جوفاء، وبأسلوب خطابي عاجز تماماً عن النفاذ إلى أقرب أعماق الفكرة من سطحها، ذلك حين يقول:

ونحن لا نقدر أبداً على التسليم بوجود فراغ في التشريع، لأن الأمور المستحدثة التي لا نص فيها قد بلغنا أمر المشرع بالاجتهاد في معرفة أحكامها على ضوء مقاصد الشريعة العامة [38]!!

من حقك أن تقطع بأنه لم يفهم مما أراد الصدر شيئاً، لأنه مأسور بهالة خطابية طاغية على مجالات الخطابة الرنانة التي عجزت عن مواجهة أي مشكلة معاصرة بشكل جاد وفعال، وإلا كيف يعود ليستعين بمقاصد الشريعة على استنباط أحكام لا نص فيها؟! وهو الأمر نفسه الذي صرح به الصدر مراراً في كتابه هذا، وفي غيره!! وقد نقلنا منه أكثر من موضع آنفاً!

على هذا النحو تفعل الذاتية، كما يفعل الأفق الضيق، هاتان الآفتان اللتان وفاهما السيد الصدر حقهما في النقد، وهو يعلم أنهما آفتا الكفر والفقه والاجتهاد الإسلامي، وسوف لا يعترض طريق الفقه الاجتماعي وفقه النظرية المتحرك مع الحياة، لا يعترضه شيء إلا ما كان منطلقه واحدة من تينك الآفتين، أو كلاهما.

[1]. المدرسة القرآنية، ص 100 ۔ م13.

[2]. م. ن، ص 87.

[3]. م. ن، ص 89.

[4]. المدرسة الإسلامية، 94 ۔ م13.

[5]. الإسلام يقود الحياة، 35 ۔ 123.

[6]. م. ن، ص 43.

[7]. بتفصيل مناسب راجع الإمام الشهيد الصدر من فقه النص إلى فقه النظرية، عبدالسلام زين العابدين، مجلة قضايا إسلامية، العدد 1 ص 89 ۔ 98، ومنهج الشهيد الصدر في تجديد الفكر الإسلامي، عبد الجبار الرفاعي، ص 117 ۔ 137، سلسلة رواد الإصلاح، الكتاب الأول، مؤسسة التوحيد للنشر الثقافي ۔ ط1 ۔ 1418ق.

[8]. محمد باقر الصدر، الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد، من كتاب (الاجتهاد والحياة حوار على الورق)، محمد الحسيني، ص 154، والموضوع منشور ضمن سلسلة (اخترنا لك) الصادرة عن دار الأضواء، صدرت طبعته الرابعة سنة 1991م، وكان قد نشر لأول مرة في مجلة الأضواء.

[9]. م. ن، ص 157.

[10]. البنك اللاربوي في الإسلام، ص 9 ۔ 10، المجلد 12 ضمن المجموعة الكاملة.

[11]. اقتصادنا، محمد باقر الصدر، ص 382 ۔ 397، المجلد 10 من المجموعة الكاملة.

[12]. م. ن، ص 395 ۔ 396.

[13]. الفهم الاجتماعي للنص، ص 164.

[14]. اقتصادنا، ص 165.

[15]. الإسلام يقود الحياة، ص 45.

[16]. م. ن، ص 49.

[17]. الإسلام يقود الحياة، صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي، ص 51 ۔ 52، وانظر أيضاً الصفحات 64، 95، 97.

[18]. م. ن، ص 52.

[19]. حديث في كتاب الاجتهاد والحياة، محمد مهدي الآصفي، ص 141 ۔ 142.

[20]. الإسلام يقود الحياة، ص 37 ۔ 38.

[21]. م. ن، ص 46.

[22]. م. ن، ص 46.

[23]. الإسلام يقود الحياة، ص 46.

[24]. اقتصادنا، ص 398.

[25]. المدرسة القرآنية، ص 38 ۔ م13، ضمن المجموعة الكاملة، وانظر: اقتصادنا، ص 367-369.

[26]. اقتصادنا، ص 373 ۔ 374.

[27]. انظر: اقتصادنا، ص 681 – 683.

[28]. الحشر: 7.

[29]. الإسلام يقود الحياة، ص 48.

[30]. انظر المصدر نفسه، ص 378 ۔ 379 و 680، الإسلام يقود الحياة، ص 49 ۔ 55.

[31]. الإسلام يقود الحياة، ص 43.

[32]. م. ن، ص 44.

[33]. الإسلام يقود الحياة، ص 44.

[34]. اقتصادنا، ص 30 ۔ 31، مقدمة الطبعة الأولى. وقد شملت هذه الأبحاث، الصفحات 277 ۔ 729 من الكتاب.

[35]. م. ن، ص 32 ۔ 33.

[36]. الاقتصاد الإسلامي بين فقه الشيعة وفقه أهل السنة ۔ قراءة نقدية في كتاب اقتصادنا، أبو المجد حرك ويوسف كمال، دار الصحوة للنشر۔ القاهرة 1408 ۔ 1987.

[37]. م. ن.

[38]. م. ن. وانظر: اقتصادنا من وجهة نظر مختلفة، محمد الحسيني، ص 189 ۔ 224، مجلة المنهاج، العدد 17.